ما وجه استبدال الفرس بالعرب في قول الله عز و جل ؟

قال الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ 1 .
و لقد جاء في تفسير و شرح هذه الآية المباركة ما رُوٍيَ عن النبي المصطفى صلى الله عليه و آله ما ذكره الترمذي ، قال : قالَ ناسٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يا رسولَ اللَّهِ مَن هؤلاءِ الَّذينَ ذَكرَ اللَّهُ إن تولَّينا استُبدِلوا بنا ثمَّ لا يَكونوا أمثالنا ؟
قالَ : وَ كانَ سلمانُ بجنبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله ، قالَ : فضربَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله فخِذَ سلمانَ و قالَ : "هذا و أصحابُهُ و الَّذي نفسي بيدِهِ ، لو كانَ الإيمانُ منوطًا بالثُّريَّا لتناولَهُ رجالٌ من فارسَ" 2 .
لمعرفة تفسير قول النبي المصطفى صلى الله عليه و آله بشكل أفضل لا بُدَّ من أخذ النقاط التالية بعين الاعتبار :
ملاك افضلية الافراد و الاقوام كما هو ثابت في النصوص الشرعية إنما هو التقوى لا غير ، فلا فضل للإنسان على غيره الا بالتقوى .
قال الشيخ المفيد في الاختصاص : بَلَغَنَا أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله ذَاتَ يَوْمٍ فَعَظَّمُوهُ وَ قَدَّمُوهُ وَ صَدَّرُوهُ 3 إِجْلَالًا لِحَقِّهِ وَ إِعْظَاماً لِشَيْبَتِهِ وَ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُصْطَفَى وَ آلِهِ ، فَدَخَلَ عُمَرُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا الْعَجَمِيُّ الْمُتَصَدِّرُ فِيمَا بَيْنَ الْعَرَبِ ؟!
فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ فَقَالَ : "إِنَّ النَّاسَ مِنْ عَهْدِ آدَمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مِثْلُ أَسْنَانِ الْمُشْطِ لَا فَضْلَ لِلْعَرَبِيِّ عَلَى الْعَجَمِيِّ وَ لَا لِلْأَحْمَرِ عَلَى الْأَسْوَدِ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، سَلْمَانُ‏ بَحْرٌ لَا يُنْزَفُ‏ وَ كَنْزٌ لَا يَنْفَدُ ، سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ سَلْسَلٌ 4 يَمْنَحُ الْحِكْمَةَ وَ يُؤْتِي الْبُرْهَان‏ " 5 .
عندما يتحدث النبي صلى الله عليه و آله عن سلمان الفارسي المحمدي و يمجده و يعتبره من أهل بيته إنما يفعل ذلك لأنه يجسد التقوى و الالتزام الديني و الطاعة إلى التامة لأوامر الله التي تأتي عبر النبي صلى الله عليه و آله و الانقياد التام لرسول الله صلى الله عليه و آله .
النبي صلى الله عليه و آله إنما يبرز سلمان و يمدحه و يرفع من مكانته و قدره لكي يجعله معياراً للحق و مؤشراً يهتدي به الناس لمعرفة طريق الحق ، لكن لا لكونه فارسياً بل لكونه متقياً و منقاداً للحق ، فالملاك هو تقواه لا فارسيته ، فسلمان المتقي هو الملاك سواءً كان فارسياً أو عربياً أو هندياً أو صينياً ، و عليه فليس كل فارسي ممدوح لفارسيته ، بل يكون ممدوحا إن كان متقياً كسلمان الفارسي ، فمدح سلمان إنما هو مدح للتقوى الذي يمثله سلمان و ليس مدحا لفارسية سلمان كما هو واضح .
المقصود من " فارس " ليس ما نعرفه اليوم أي " محافظة فارس " حسب الحدود الجغرافية لها في هذا الوقت في الجمهورية الإسلامية الايرانية ، بل المقصود به هو الأرض الكبرى لدولة فارس في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و يدل على ذلك أن سلمان الفارسي كان من منطقة اصفهان الحالية و ليس من محافظة فارس ، و كان الناس يطلقون على كل من ينتمي إلى الدولة الفارسية آنذاك فارسياً لا خصوص من ينتمي إلى منطقة فارس الحالية .
إن كلام الرسول صلى الله عليه و آله كلام تحفيزي و ينطوي على تنبأ و إخبار عن المستقبل حسب السنن الالهية ، و معناه أيها الناس إذا كنتم ملتزمين و متقين كنتم الفائزين في الدنيا و الآخرة ، و إن لم تكونوا كذلك فسيفوز من يكون ملتزما و متقياً و إن لم يكن عربياً لأن العاقبة للمتقين ، لا للعرب و لا لأي قوم آخر إذا لم يكونوا متقين و ملتزمين .
فمن كان يعيش في إيران في زمن تحقق ما تنبأ و أخبر به الرسول صلى الله عليه و آله من التفوق العلمي و الايماني و الجهادي يشمله هذا التنبأ إن كان ملتزماً و متقياً سواءً كان عربيا أو عجمياً كردياً أو تركياً أو بلوشياً أو سيستانياً أو خراسانياً أو كان من غيرهم .
معنى كلام رسول الله الصادق الأمين صلى الله عليه و آله هو : إن الالتزام الديني الحقيقي ( التقوى ) هو الذي يصنع من الإنسان جوهرة قيّمة لا يرقى لها شيء ، و إن ترك الالتزام الديني سينتج منه الدمار و السقوط الحتمي و إن حصل غير الملتزمين و الظالمين ــ لبعض الوقت ــ على بعض النتائج و التفوقات و الانتصارات التي لا تدوم لأن العاقبة للمتقين ، فمن أراد الفوز فليكون مثل سلمان المتقي ، و من كان متقياً مِثْلَه فهو كسلمان ايرانياً كان أو حجازياً أو فلسطينياً أو مصرياً أو غير ذلك .
و كملاحظة أخيرة فالأقوام المحترمين في الجمهورية الإسلامية كلهم المقصودون في كلام النبي المصطفى صلى الله عليه و آله ( إن كانوا متقين ) و يشملهم تنبأ المصطفى صلى الله عليه و آله و إخباره ، و ليس هذا التنبأ و المدح خاص بمنطقة فارس و غير محدود بالحدود الجغرافيائية .

  • 1. القران الكريم: سورة محمد (47)، الآية: 38، الصفحة: 510.
  • 2. صحيح الترمذي : 3261.
  • 3. أي أجلسوه في صدر المجلس.
  • 4. السلسل : النبع الصافي العذب الذي لا ينقطع عطاؤه.
  • 5. الاختصاص : 341 ، للشيخ محمد بن محمد النُعمان المُلقَّب بالشيخ المُفيد، المولود سنة: 336 هجرية ببغداد، و المتوفى بها سنة: 413 هجرية.