الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التكلم

لا خلاف بين المسلمين في أن اللّه تعالى متكلم .
و قد دل على ذلك أيضاً من القرآن الكريم قوله تعالى :﴿ ... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا 1و قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ... 2، و أمثال هاتين الآيتين .

و لكن اختلفوا في ماهية و حقيقة كلامه تعالى :

فذهبت الأشاعرة إلى أن كلامه تعالى : « وصف قائم بذاته ليس بصوت و لا حرف ، بل لا يشبه كلامه كلام غيره ، كما لا يشبه وجوده وجود غيره » 3 .
« و الكلام بالحقيقة كلام النفس ، و انما الاصوات قطعت حروفاً للدلالات ، كما يدل عليها تارة بالحركات و الاشارات » 4 .
و قال الرازي في ( المحصل ) : « اما اصحابنا فقد اتفقوا على أن اللّه تعالى ليس بمتكلم بالكلام الذي هو الحروف و الأصوات ، بل زعموا أنه متكلم بكلام النفس » 5 .
و عبّروا عنه بـ ( الكلام النفسي ) و ( الكلام الازلي ) و قالوا عنه : إنه معنى قائم في ذات المتكلم به .
و الألفاظ ـ في الحقيقة ـ ليست كلاماً ، و انما هي دوال على ذلك المعنى القائم في النفس ( أو الكلام النفسي ) الذي هو الكلام حقيقة .
و استشهدوا لذلك بقول الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد و إنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فان الشاعر هنا اعتبر ما في النفس هو الكلام ، و الألفاظ اللسانية دوال عليه .
و ذهبت الفرق الاسلامية الأخرى أمثال : الأمامية و المعتزلة و الزيدية و الاباضية و السلفية إلى أن الكلام هو هذا الذي نعرفه ، و هو الكلمات المؤلفة من الأصوات و الحروف . و يمكننا أن نسميه ( الكلام اللفظي ) في مقابل ( الكلام النفسي ) .

و خلاصة ما استدل به الاشاعرة :

1 ـ أننا ندرك وجداناً أن المتكلم عندما يتكلم بلغة الألفاظ انما يعبر بها عن فكرة عنده أو إحساس لديه .

أي انه يعبر بالكلام اللفظي عما يحمل و يعتمل في نفسه من أفكار و أحاسيس ، و هذا من الأمور الواضحة .
2 ـ ان الكلام اللفظي مركب من الأصوات و الحروف ، و من البديهي ان كل مركب حادث ، فيكون من المستحيل أن تتصف به الذات الالهية لاستحالة اتصاف القديم بالصفة الحادثة ، فلا مناص إذاً من الالتزام بالكلام النفسي لأنه قديم ، ليصح اطلاق المتكلم على اللّه سبحانه باعتبار اتصافه به .
و استدل للقول الآخر ـ و هو أن الكلام هو المركب اللفظي ـ بما يلي :
1 ـ التبادر :
و ذلك ان المتبادر إلى الذهن عند اطلاق عبارة ( كلام ) هو هذا المركب اللفظي .
و التبادر دليل أن الكلمة حقيقة في المعنى المتبادر .
كما أننا نرى ابناء اللغة لا يقولون للساكت و كذلك للأخرس إنه متكلم ، مع أن المعاني قائمة في نفسه .
و ما هذا الا لأنه لا يستخدم الألفاظ وسيلة لابرازها ، و إنما يتوسل إلى ذلك بالاشارة و أمثالها مما لا يعد كلاماً .
2 ـ عدم التعقل :
و هو أن الكلام النفسي الذي يقول به الأشعريون مما لا يمكن تصوره و تعقله في الذهن .
و ذلك لأن المتصور عقلاً من الصفات الالهية التي يمكن أن يرتبط بها الكلام و يكون أثراً من آثارها إما القدرة التي يمكن أن تصدر عنها الحروف و الأصوات ، أو العلم .
و الأشعرية نصوا على أن ما لا يمكن تصوره لا يمكن إثباته ، لأن الاثبات تصديق ، و التصديق لا بد أن يُسبق بالتصور . و حيث لا تصور لا تصديق ، أي لا اثبات ، و حينئذ يبطل القول بالكلام النفسي لأنه لا يمكن تعقله ليمكن اثباته .
و عندما يبطل القول بالكلام النفسي يتعين القول الآخر ، و هو المطلوب .
غير أن السلفيين تفردوا من بين الفرق الاسلامية المذكورة بالقول بان الكلام اللفظي قديم قائم بذاته تعالى .

و الموازنة بين الرأيين تنهينا إلى التالي :

1 ـ ان المتكلم عند الاشاعرة و السلفية هو : من قام به الكلام . و عند الآخرين هو : من فعل الكلام .
2 ـ ان المعنى النفسي الذي يؤكد عليه الأشاعرة لا يخلو ان يكون واحداً من الأمور التالية :
أ ـ أن يكون هو الوجود الذهني .
و يفهم هذا من قولهم ( ان الالفاظ دوال على المعاني النفسية ) ، ذلك أن الألفاظ ـ كما هو معلوم ـ تعبّر وتدل على المعنى الذهني أي الموجود في الذهن .
و كل ما في الأمر أنهم عبّروا عن الذهن بـ ( النفس ) .
و عليه يعود الخلاف بين الطرفين لفظياً .
و لكن قد يلاحظ : انه لو كان هو المراد لما وقع الخلاف ـ و بعنف ـ في المسألة .
ب ـ ان يكون شيئاً آخر غير الوجود الذهني ، له سمته و طابعه الخاص به .
و يفهم هذا من قولهم : ( لا يشبه كلامه كلام غيره كما لا يشبه وجوده وجود غيره ) .
و هذا مما لا يتعقل و لا يتصور ، كما تقدم في الدليل الثاني للقول الثاني .
و ما لا يتصور لا يمكن الحكم عليه بالوصفية أو غيرها .
و من هنا لا إخال أنه المقصود لهم .
ح ـ ان يكون مقصودهم من الكلام : التكلم .
و يفهم هذا من قولهم بانه ( وصف ) .
و اقول هذا ، لأن الكلام بما هو أثر لا يمكن الاتصاف به ، أي لا يمكن أن يكون صفة للذات الا اذا قلنا إن المراد به هو ( التكلم ) .
و لذا يقال : ( اللّه متكلم ) ، و لا يقال : ( اللّه كلام ) . و هذا هو الأقرب في تحليل و بيان مرادهم من الكلام النفسي .
و لكن على اساس هذا يشكل عليهم :
بان التكلم من الصفات الفعلية لا الذاتية .
و الفرق بين الصفة الفعلية و الصفة الذاتية هو : أن الصفة الذاتية ( مثل القدرة و العلم و الحياة ) يستحيل اتصاف الذات الالهية بنقيضها ، فلا يقال : ( اللّه عالم بكذا ) و ( ليس عالماً بكذا ) .
أما الصفات الفعلية ( مثل الخلق و الرزق ) فيمكن اتصاف الذات الالهية بها في حال و بنقيضها في حال آخر ، فيقال : ( ان اللّه خلق كذا ولم يخلق كذا ) و يقال : ( ان اللّه رزق فلاناً ولداً ذكراً ولم يرزقه بنتاً ) .
و التكلم مثل الخلق و الرزق ، فانه يصح أنه يقال : ( كلم اللّه موسى ولم يكلم فرعون ) و يقال : ( كلم اللّه موسى في جبل طور ولم يكلمه في بحر النيل ) .
و هذه التفرقة بين الصفات الذاتية و الصفات الفعلية لم تتضح في الدرس العقائدي الا بعد نضج الفكر الاعتزالي و انتشار الفكر الامامي .
و ممن أشار إلى أن المتقدمين من العقائديين لم يفرقوا بينهما التفرقة المذكورة ابو الفتح الشهرستاني ، قال في كتابه ( الملل والنحل ) 6 : « إعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون للّه تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة و الحياة و الارادة و السمع و البصر و الكلام و الجلال و الاكرام و الجود و الانعام و العزة و العظمة ، و لا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل ، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً » .
و بثبوت ان التكلم صفة فعلية يترتب عليه أننا نستطيع أن نتصور هنا ثلاثة امور هي :
متكلم و تكلم و كلام
كما نتصور : خالقاً و خلقاً و مخلوقاً ، و رازقاً و رِزْقاً و مرزوقاً . و الأول يعبّر عن الموصوف ، و الثاني عن الصفة ، و الثالث عن الأثر .
و هذا يعني أن هناك فرقاً بين ( التكلم ) و ( الكلام ) هو الفرق بين الصفة و أثرها .
و الذي يبدو لي أن الذي ألجأ الأشاعرة إلى التعبير عن هذه الصفة بـ ( الكلام ) ولم يعبروا عنها بـ ( التكلم ) هو اصرارهم على ان القرآن الكريم غير مخلوق ، و هو ( كلام اللّه ) ، كما عبّر عنه تعالى في مثل قوله :﴿ ... وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 7 ، و قوله :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ... 8 ، و كما هو الحق .
لأنهم اذا فسروا الكلام بالكلام اللفظي لا مناص لهم من القول بحدوث القرآن و أنه مخلوق ، لأن القول بقدم الكلام اللفظي يستلزم ان يكون اللّه تعالى محلاً للحوادث ، لأن الحروف و الأصوات من المركبات ، و المركبات حوادث بالضرورة .
و هم لا يريدون ذلك ، و بخاصة انهم يقولون بحدوث الكلام اللفظي ، و انما الذي يريدونه ـ و باصرار ـ تأييد فكرة أو معتقد أن القرآن أزلي فقط .
تلك الفكرة التي قال بها قبلهم الحنابلة ، و جرّت عليهم من الويل والعذاب من قبل السلطة الحاكمة آنذاك الشيء الكثير .
من هنا أصرّوا على أزلية كلام اللّه تعالى الا انهم أرادوا أن يبتعدوا بالفكرة عما قد تنقد به من لزوم : الوقوع في محذور أن يكون اللّه تعالى محلاً للحوادث فجاؤوا بفكرة الكلام النفسي ، و قالوا بأزليته وقدمه ، ليحافظوا على فكرة أزلية القرآن الكريم التي أصبحت بعد معركة خلق القرآن معلمة مذهبية من معالم العقيدة عند السنة .

و نخلص من هذا إلى :

أ ـ ان التكلم هو الصفة .
ب ـ أما الكلام فهو فعل من أفعاله تعالى يحدثه و يخلقه في الأجسام اذا أراد مخاطبة المخلوقين بالأمر و النهي و الوعد و الوعيد و الزجر و الترغيب ـ كما يقول القاضي المعتزلي عبد الجبار الهمداني 9 .
و يقول الشيخ المفيد المتكلم الأمامي : « متكلم لا بجارحة ، بمعنى أنه يوجد حروفاً و أصواتاً في جسم من الأجسام تدل على المعاني المطلوبة ، كما فعل في الشجرة حين خاطبه موسى ـ عليه السلام ـ » 10 .
و يقول القاسم الرسي الزيدي : « و معنى كلامه جل ثناؤه لموسى ـ صلوات اللّه عليه ـ عند أهل الايمان و العلم : أنه أنشأ كلاماً خلقه كما شاء فسمعه موسى ـ صلى اللّه عليه ـ و فهمه .
و كل مسموع من اللّه فهو مخلوق لأنه غير الخالق له .
و إنما ناداه اللّه جل ثناؤه فقال :﴿ ... إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ 11 ، و النداء غير المنادي ، و المنادي بذلك هو اللّه جل ثناؤه ، و النداء غيره .
و ما كان غير اللّه مما يعجز عنه الخلائق فمخلوق لأنه لم يكن ثم كان باللّه وحده لا شريك له » 12 .
ح ـ ان المعتزلة و الامامية و الزيدية و الاباضية يذهبون إلى أن الكلام قائم بغير الذات المقدسة .
ع ـ ان الأشعرية و السلفية يذهبون إلى أن الكلام قائم بذاته تعالى ، مع فارق :
أن القائم بالذات عند الاشاعرة هو المعني الأزلي ( الكلام النفسي ) ، و عند السلفية الحروف و الأصوات ( الكلام اللفظي ) .

خلق القرآن

ترتبط هذه المسألة بالمسألة التي قبلها ارتباطاً وثيقاً و عريقاً ، فمن قال بأزلية كلام اللّه تعالى قال هنا بقدم القرآن و إنه غير مخلوق ، و من قال بحدوث كلام اللّه تعالى قال بحدوث القرآن و خلقه .
و الأقوال في المسألة مع خلاصات أدلتها هي :

1 ـ الحنابلة ( السلفية )

قالوا : القرآن هو هذه الألفاظ المقروءة بالالسنة و المحفوظة في الصدور و المكتوبة في الصحف و المطبوعة على الورق و المسجلة على الأشرطة .
فالذي نقرأه هو كلام اللّه تعالى الأزلي القديم القائم بذاته تعالى ، إلا أن قراءتنا تكون له بأصواتنا .
و قراءتنا له بأصواتنا لا تخرجه عن كونه كلام اللّه الذي تكلم به بحروفه ومعانيه ، ليست الألفاظ دون المعاني ، و لا المعاني دون الألفاظ 13 .
و دليلهم على هذا :
اجماع السلف على أن القرآن الكريم أزلي غير مخلوق ، و أنه هو هذا الذي بين أظهرنا نبصره و نسمعه و نقرأه و نكتبه .
و قالوا : « و نحن لا نزيد من أنفسنا شيئاً ، و لا نتدارك بعقولنا أمراً لم يتعرض له السلف .
قال السلف : ما بين الدفتين كلام اللّه .
قلنا : هو كذلك .
و استشهدوا بقوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ... 8 .
إذ من المعلوم أنه لم يسمع الا هذا الذي نقرأه 14 .
و تعقبهم الفخر الرازي بالرد ، فقال : « أطبق العقلاء على أن الذي قالوه جحد للضروريات ، ثم الذي يدل على بطلانه وجهان :
الوجه الأول أنه إما ان يقال إنه تكلم بهذه الحروف دفعة واحدة أو على التعاقب .
فان كان الأول لم يحصل منها هذه الكلمات التي نسمعها ، لأن التي نسمعها حروف متعاقبة ، فحينئذ لا يكون هذا القرآن المسموع قديماً .
و ان كان الثاني فالاول لما انقضى كان محدثاً لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه ، و الثاني لما حصل بعد عدمه كان حادثاً .
و الوجه الثاني : ان هذه الحروف و الأصوات قائمة بألسنتنا و حلوقنا ، فلو كانت هذه الحروف و الأصوات نفس صفة اللّه تعالى لزم أن تكون صفة اللّه و كلمته حالّة في ذات كل أحد من الناس .
و احتجوا على قولهم بان كلام اللّه تعالى مسموع بدليل قوله تعالى ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ... 8، و هذا يدل على أن كلام اللّه مسموع .
فلما دل الدليل على أن كلام اللّه قديم وجب أن تكون هذه الحروف المسموعة قديمة .
و الجواب :
ان المسموع هو هذه الحروف المتعاقبة ، و كونها متعاقبة يقتضي أنها حدثت بعد انقضاء غيرها .
و متى كان الأمر كذلك كان العلم الضروري حاصلاً بامتناع كونها قديمة » 15 .
و خلاصة ما قرره الرازي : ان قول السلفية بقدم القرآن ( و هو الذي بين الدفتين ) يلزمه امران ممتنعان على الذات الالهية هما :
أ ـ ان يكون القديم محلاً للحوادث .
ب ـ ان يحل القديم في الحادث .

2 ـ الأشاعرة

قالوا : « القرآن كلام اللّه تعالى غير مخلوق ، و هو مكتوب في مصاحفنا ، محفوظ في قلوبنا ، مقروء بألسنتنا ، مسموع بآذاننا ، غير حالّ فيها » 16 .
و معنى غير حالّ فيها : ان الكلام الدال غير الكلام المدلول عليه ، لأنهم ـ كما تقدم ـ يذهبون إلى أن « العبارات و الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء ( عليهم السلام ) دلالات على الكلام الأزلي ، و الدلالة مخلوقة محدثة ، و المدلول قديم أزلي .
و الفرق بين القراءة و المقروء ، و التلاوة و المتلو ، كالفرق بين الذكر و المذكور ، فالذكر محدث و المذكور قديم » 17 .
و خلاصة ما استدلوا به على ذلك ما يلي :
أ ـ من العقل :
1 ـ « ان الكلام من صفات الكمال ، فلو كان محدثاً لكانت ( الذات الالهية ) خالية عن صفات الكمال قبل حدوثه .
و الخالي عن الكمال ناقص .
و ذلك على اللّه محال » .
2 ـ « ان الكلام لو كان حادثاً لكان :
إما أن يقوم بذات اللّه
أو بغيره .
أو لا يقوم بمحل .
فلو قام بذات اللّه تعالى لزم كونه محلاً للحوادث ، و هو محال . و ان قام بغيره فهو أيضاً محال ، لأنه لو جاز ان يكون متكلماً بكلام قائم بغيره لجاز ان يكون متحركاً بحركة قائمة بغيره ، و ساكناً بسكون قائم بغيره ، و هو محال .
و ان وجد ذلك الكلام لا في محل فهو باطل بالاتفاق » 18 .
ب ـ من القرآن :
1 ـ قوله تعالى :﴿ ... لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ... 19 . قال ابو الحسن الأشعري : « يعني من قبل أن يخلق الخلق ، و من بعد ذلك ، و هذا يوجب أن الأمر غير مخلوق » 20 .
و قال الفخر الرازي : « فأثبت الأمر للّه من قبل جميع الأشياء ، فلو كان أمر اللّه مخلوقاً لزم حصول الأمر قبل نفسه ، و هو محال » 21 .
2 ـ قوله تعالى :﴿ ... أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ... 22  بتقرير أن اللّه تعالى « ميّز بين الخلق و بين الأمر ، فوجب أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق » 23 .
أو كما أفاد الأشعري بانه تعالى « لما قال :﴿ ... أَلَا لَهُ الْخَلْقُ ... 22كان هذا في جميع الخلق ، و لما قال﴿ ... وَالْأَمْرُ ... 22  ذكر أمراً غير جميع الخلق فدل ما وصفنا على أن أمر اللّه غير مخلوق » 24

3 ـ قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ 25 .
قال الأشعري : « و مما يدل من كتاب اللّه على أن كلامه غير مخلوق قوله عز و جل :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ 25 ، فلو كان القرآن مخلوقاً لوجب ان يكون مقولاً له : كن فيكون .
و لو كان اللّه عز و جل قائلاً للقول : كن ، كان للقول قول .
و هذا يوجب أحد أمرين :
1 ـ إمّا أن يؤول الأمر إلى أن قول اللّه غير مخلوق .
2 ـ أو يكون كل قول واقعاً بقول لا إلى غاية ( نهاية ) . و ذلك محال .
و اذا استحال ذلك صح و ثبت أن للّه عز و جل قولاً غير مخلوق » 20 .
و يُرد استدلالهم بما حاصله :
1 ـ ان الصفة هي التكلم لا الكلام ، و الكل متفقون على أن التكلم أزلي .
أما القرآن الكريم أو كلام اللّه عامة فهو أثر تلك الصفة لا هو نفسه الصفة .
و على هذا فما يقال في الأثر من الحدوث و أمثاله من الأحكام ، لا يقال في الصفة و ذلك للفرق بينهما .
فانه مما لا شك فيه ان الانسان مخلوق للّه تعالى .
و مما لا شك فيه أيضاً أن هناك فرقاً بينه و بين صفة الخلْق لانه أثرها .
و في ضوئه : تقول : فكما يصح أن نحكم على الانسان بانه حادث و على صفة الخلق بانها قديمة . . يصح هنا أن نحكم على الكلام بانه حادث ، و على صفة التكلم بانها قديمة .
2 ـ ان القائلين بحدوث القرآن عندما يقولون : إن اللّه تعالى أحدثه و خلقه قائماً بغيره ، ينفون اتصافه تعالى بالحركة و السكون عندما يحدثه لأنه سبحانه لم يحدثه بجارحة ، تعالى عن ذلك .
فالقياس بنا في إحداثنا للكلام قياس مع الفارق .
والى هذا أشار امير المؤمنين ( عليه السلام ) بقوله : « و لا يدرك بالحواس ، و لا يقاس بالناس ، الذي كلّم موسى تكليماً ، و أراه من آياته عظيماً ، بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات » .
3 ـ ان كلمتي ( قبل ) و ( بعد ) من الأسماء الملازمة للاضافة ، و هذا متفق عليه في علم العربية و الاستعمال لهما قديماً و حديثاً .
و يُحدَّد و يُعيَّن ما تضافان اليه في ضوء ما تقترنان به من قرائن .
و الآية الكريمة وردت في السياق التالي :﴿ ... الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ 26.
فقرينة السياق هنا تنهي إلى أن المضاف اليه هو ( الغلب ) أي ( للّه الأمر من قبل غلب الروم و من بعد غلبهم ) .
و بهذا فسرت الآية ، و تفسر .
فتقدير المضاف اليه ( من قبل ان يخلق الخلق و من بعد ذلك ) كما يقول الاشعري ، أو ( من قبل جميع الاشياء ) كما يقول الرازي ، يتطلب لأجل ان يتم الاستدلال به و يصح ، أمرين :
أ ـ إبطال قرينة السياق .
ب ـ اقامة الدليل على أن المضاف اليه هو ما ذكراه . و هما لم يقوما بشيء من هذا ، و انما أفتيا فتيا لم يذكرا دليلها .
ثم إن ( الامر ) في الآية الكريمة ، اريد به ( التصرف و القدرة ) ، و به فسرت الكلمة و تفسر .
فلم يُرد به القول أو الكلام .
و قرينة السياق تدل على ذلك .
فالمعنى : « له الامر حين غُلبوا و حين يغلبون ، ليس شيء منهما الا بقضائه » كما يقول البيضاوي 27 .
و هنا نقول ايضاً لا يتم الاستدلال و يصح الا اذا ثبت بالدليل القاطع أن المراد بالامر القول و الكلام .
و لا أقل من احتمال أن المضاف اليه ما ذكرنا ، و أن الأمر هنا بمعنى القدرة .
و متى تطرق الاحتمال بطل الاستدلال .
4 ـ قوله تعالى ﴿ ... أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ... 22هو من الآية الكريمة ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ 22.
و سياق الآية الكريمة يدل على أن قوله ( و الأمر ) مراد به نفس المراد من قوله ( بأمره ) .
و معنى ( بأمره ) كما تدل عليه قرينته السياقية ( التصريف و التدبير ) ، أي أن الشمس و القمر و النجوم مسخرات بتصريفه و تدبيره .
يقول الشيخ الجمل : « قوله : ﴿ ... أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ... 22الخلق بمعنى المخلوقات ، و الأمر معناه التصرف في الكائنات .

و في هذه الآية رد على من يقول ان للشمس و القمر و الكواكب تأثيرات في هذا العالم » 28 .
و يقول الزمخشري : « بأمره : بمشيئته و تصريفه . . . سمي ذلك أمراً على التشبيه ، كأنهن مأمورات بذلك .
﴿ ... أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ... 22: أي و هو الذي خلق الاشياء كلها ، و هو الذي صرّفها على حسب ارادته » 29 .
أما مسألة الفصل بين كلمتي ( الخلق ) و ( الأمر ) التي هي موضع الشاهد ، و بها الاستشهاد ، فيقول فيها الشيخ الطوسي: « انما فصل الخلق من الأمر ، لأن فائدتهما مختلفة ، لان ( له الخلق ) يفيد أن له الاختراع ، و ( له الأمر ) معناه : له أن يأمر فيه بما أحب ، فأفاد الثاني ما لم يفده الاول .
فمن استدل بذلك على أن كلام اللّه قديم ، فقد تجاهل ما بينّا » 30 فالآية الكريمة ليس فيها دلالة على ما ذهبوا اليه لأن الأمر في الآية بمعنى التصريف و التدبير ، كما يفيده السياق .
5 ـ لأهمية ما قيل في قوله تعالى : ( كن فيكون ) ، و ما يترتب من آثار على ما يفسر به النص ، لا بد هنا من عرض يوفي به الموضوع توفية كافية .
و قد رأيت فيما بين يدي من تفاسير أن أفضل من وفّى الموضوع هذا و أوفاه بما لا يحتاج بعده إلى مزيد بيان أو تبسيط عرض . هو تفسير ( الميزان ) فكان من المناسب ان اقتصر على ان انقل منه ما يرتبط بالاحتجاج بالآية الكريمة و الرد عليه :
قال مؤلفه السيد الطباطبائي : « قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ 31، الآية من غرر الآيات القرآنية ( التي ) تصف كلمة الايجاد ، و تبين أنه تعالى لا يحتاج في ايجاد شيء مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في ايجاده أو يدفع عنه مانعاً يمنعه .

و قد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه ، فقال : ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ 25و قال :﴿ ... وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 32.

فقوله ( انما أمره ) . الظاهر ان المراد بالأمر الشأن ، و قوله في آية النحل المنقولة آنفاً ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ 25، و ان كان يؤيد كون الأمر بمعنى القول ، و هو الامر اللفظي بلفظة ( كن ) ، الا أن التدبّر في الآيات يعطي ان الغرض فيها وصف الشأن الالهي عند إرادة خلق شيء من الاشياء .

لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شيء من الاشياء هذا القول دون غيره .
فالوجه حمل القول على الأمر بمعنى الشأن ، بمعنى أنه جيء به لكونه مصداقاً للشأن ، لا حمل الأمر على القول بمعنى ما يقابل النهي .
و قوله : ( اذا أراد شيئاً ) أي اذا أراد إيجاد شيء ، كما يعطيه سياق الآية .
و قد ورد في عدة من الآيات ( القضاء ) مكان ( الارادة ) كقوله :﴿ ... إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 33.

و لا ضير فالقضاء هو الحكم ، و القضاء و الحكم و الارادة من اللّه شيء واحد ، و هو كون الشيء الموجود بحيث ليس له من اللّه سبحانه الا أن يوجد .
فمعنى ( اذا أردناه ) اذا أوقفناه موقف تعلق الارادة . و قوله : ( ان يقول له كن ) خبره ( انما امره ) أي يخاطبه بكلمة ( كن ) .
و من المعلوم انه ليس هناك لفظ يتلفظ به ، و الا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر ، و هلم جرا . فيتسلسل .
و لا ان هناك مخاطباً ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به ، لادائه إلى الخلف .
فالكلام تمثيل لافاضته تعالى وجود الشيء من غير حاجة إلى شيء آخر وراء ذاته المتعالية ، و من غير تخلف و لا مهل .
و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال : الظاهر أن هناك قولاً لفظياً هو لفظ ( كن ) ، و اليه ذهب معظم السلف ، و شؤون اللّه تعالى وراء ما تصل اليه الافهام ، فدع عنك الكلام و الخصام ، انتهى .
و ذلك ان ما ذكره من كون شؤونه تعالى وراء طور الافهام ، لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها ، فصحة الكتاب ، مثلاً ، بما يفيده من المعارف الحقيقية انما تثبت بالحجة العقلية ، فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب ـ او سنة أو شيء آخر ، مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلاً لنفسه اولاً ، فلا تزل قدم بعد ثبوتها .
و من المعلوم أن ليس هناك الا اللّه عز اسمه ، و الشيء الذي يوجد لا ثالث بينهما .
و اسناد العلّية والسببية إلى ارادته دونه تعالى ، و الارادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل ـ يستلزم انقطاع حاجة الاشياء اليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الاشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى و تقدس .
و من المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى ايجاداً أو وجوداً ، ثم يتصل بالشيء فيصير به موجوداً ، و هو ظاهر ، فليس بعده تعالى الا وجود الشيء فحسب .
و من هنا يظهر ان كلمة الايجاد و هي كلمة ( كن ) هي وجود الشيء الذي أوجده ، لكن بما أنه منتسب اليه قائم به ، و أما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا ايجاد ، و مخلوق لا خلق .
و يظهر أيضاً ان الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة و لا نظرة ، و لا يتحمل تبدلاً و لا تغيراً ، و لا يتلبس بتدريج .
و ما يترآى في الخلق من هذه الأمور انما يتأتى في الاشياء من ناحية نفسها ، لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه ، و هذا باب ينفتح منه ألف باب .
و في الآيات للتلويح إلى هذه الحقائق اشارات لطيفة كقوله تعالى :﴿ ... كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 34 ، و قوله تعالى :﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ 35، و قوله تعالى : ﴿ ... وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا 36، إلى غير ذلك .

و قوله في آخر الآية : ( فيكون ) بيان لطاعة الشيء المراد له تعالى ، و امتثاله لأمر ( كن ) و لبسه الوجود » 37 .
و في كلام الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) ما يلخص الموضوع وافياً و يدل عليه كافياً ، قال ( عليه السلام ) : « يقول لمن أراد كونه :﴿ ... كُنْ فَيَكُونُ 32 ، لا بصوت يقرع ، و لا بنداء يسمع ، و انما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثّله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، و لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً » .

و في حديث صفوان بن يحيى عن الامام الرضا ( عليه السلام ) ، قال يحيى : « قلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) عن الارادة من اللّه و من المخلوق .
قال : فقال : الارادة من المخلوق الضمير و ما يبدو له بعد ذلك من الفعل .
و أما من اللّه عز و جل فارادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يروي و لا يهم و لا يتفكر ، و هذه الصفات منفية عنه ، و هي من صفات الخلق .
فارادة اللّه هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له : كن ، فيكون ، بلا لفظ و لا نطق بلسان ، و لا همة ، و لا تفكر ، و لا كيف لذلك ، كما أنه بلا كيف » 38 .

3 ـ الامامية و الزيدية و الاباضية و المعتزلة

ذهبوا إلى القول بخلق القرآن و حدوثه .
واستدلوا على هذا بما خلاصته :
أ ـ من العقل :
1 ـ ان القرآن الكريم مؤلف من كلمات مركبة من حروف و اصوات متتابعة يتلو بعضها بعضاً ، فيعدم السابق منها بوجود لاحقه . و القديم لا يجوز عليه العدم ، و اذا انتفى قدمه ثبت حدوثه . و هو المطلوب .
و قرره القاضي المعتزلي بطريق آخر ، قال : « ان الكلام لا يعقل و لا يفيد الا بأن يتولى حدوث حروفه على نظم مخصوص .
و ما هذا حاله محال ان يكون قديماً .
كما ان المشي لا يعقل الا بتوالي حدوث الحركات فمحال قدمها مع ذلك » 39 .
2 ـ ان القرآن الكريم لو كان قديماً لزم من ذلك الكذب عليه تعالى . و لأن الكذب باطل في حقه تعالى يكون قدم القرآن مثله باطلاً .
و تقرير هذا :
أنه تعالى أخبر بارسال نوح ( عليه السلام ) بقوله :﴿ ... إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ... 40، فلو كان القرآن أزلياً يكون هذا الاخبار أزلياً أيضاً ، و يكون المخبر به ـ و هو ارسال نوح ـ قبل الأزل .

و هو معنى قولنا يلزم منه الكذب . تعالى اللّه عن ذلك .
و لئلا نقع في مثل هذا المحذور الباطل لا مناص من القول بحدوث القرآن .
3 ـ أن القرآن الكريم لو كان قديماً لزم منه العبث الممتنع في حقه تعالى .
و تقريره :
أن في القرآن أوامر أمثال قوله تعالى : ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ... 41.

فلو كان القرآن أزلياً كانت أوامره مثله أزلية .
و معنى هذا حصول الأمر و النهي من دون وجود مكلف يخاطب بهما اذ لا مكلف في الأزل .
فيكون هذا من العبث ، و العبث قبيح ، فيمتنع في حقه . . فيبطل كون القرآن قديماً ، و اذا بطل كونه قديماً ثبت حدوثه و خلقه .
4 ـ ان النسخ في أوامر القرآن الكريم و نواهيه ـ و هو رفع حكم شرعي سابق بنص لاحق ـ جائز و واقع .
« و ما ثبت زواله امتنع قدمه » ، فيثبت ان القرآن حادث و هو المطلوب .
5 ـ « انه تعالى اذا أمر زيداً ـ مثلاً ـ بالصلاة ، فاذا أداها لم يبق ذلك الأمر ، و ما ثبت عدمه امتنع قدمه » .
ب ـ من القرآن .
1 ـ قوله تعالى : ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ 42.

و قوله تعالى : ﴿ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴾ 43.

و وجه الاستدلال :
أن المراد بـ ( الذكر ) هنا ( القرآن ) بدليل قوله تعالى : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ 44، و قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ 45.

و قد وصفه اللّه تعالى بالحدوث نصاً و صراحة ، فلو كان قديماً لما جاز وصفه بالحدوث .
6 ـ قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ ... 46.

بتقريب أن ( إذ ) ظرف زمان ، و المختص بزمانٍ معينٍ محدث . و ما كان بعضه محدثاً كان كله محدثاً .
7 ـ و أخيراً : أوجز استدلالهم ببقية آي الذكر الحكيم بما قرره ملخصاً القاضي المعتزلي ، قال :
« و القرآن يدل على ذلك ( يعني الحدوث ) لانه تعالى قال :﴿ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ ... 47.

و هذا يوجب أنه بعد غيره ، و هذا من علامات الحدوث .
و قال تعالى : ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ... 48.

و من حق الحديث ان يكون محدثاً .
و قال تعالى : ﴿ ... وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا 49.

و المفعول لا يكون الا محدثاً .
و وصفه تعالى القرآن بأنه :
ينتسخ و ينسى .
و يبتدأ به و منه .
و بأنه ذكر محدث .
و بأنه مفصل محكم موصل .
و بأنه عربي .
و بأنه سور كثيرة .
يدل على أنه فعله ، لأن كل ذلك من علامات الحوادث و الافعال » 50 .
و ردهم العضد الايجي بقوله :
« و الجواب : انها تدل على حدوث اللفظ ، و هو غير المتنازع فيه » 51 .
أقول : ان الايجي بهذا يقر بان ما ذكروه من أدلة ناهض باثبات مدعاهم ، و هو المطلوب .
و ذلك لانهم لا يريدون اكثر من اثبات حدوث هذا القرآن المتداول حفظاً و كتابة ، لانهم لا يؤمنون بقرآن آخر وراء هذا القرآن ، اذ لم يقولوا بان للّه كلاماً آخر غير هذا القرآن ، دل عليه هذا القرآن . و فكرة الكلام النفسي ناقشوها مسبقاً و انتهوا إلى بطلانها ، و هم الآن بصدد اثبات حدوث هذا القرآن المتداول .
و نخلص من هذا إلى :
1 ـ ان اعتبار القرآن الكريم بألفاظه و المداد الذي كتب به و الورق الذي دوّن عليه صفة التكلم الالهية الازلية القائمة بذاته تعالى ، فكرة غير مقبولة ، لانها انكار لضرورة العقل و بداهة الوجدان .
2 ـ ان القول بأن القرآن حقيقة هو الكلام النفسي ، و هذا المصحف الذي بين أيدينا دال عليه ، هي الأخرى فكرة غير مقبولة ، لان ما لا يتعقل لا يقبل ، و لانه لم يبرهن عليها بما يفيد اليقين بها .
3 ـ و عليه : ان القرآن حقيقة هو هذا الذي بين ايدينا ، و انه محدث ، خلقه اللّه تعالى ، و أنزله عن طريق الوحي على رسوله الكريم محمد بن عبد اللّه ( صلى الله عليه و آله ) ، و قرأه الرسول ( صلى الله عليه و آله ) بلسانه الشريف ، و بلّغه للناس كما أمره ربه تعالى ، و تلقاه المسلمون المعاصرون له ، ثم الذين من بعدهم جيلاً بعد جيل ، كما نزل عليه ، و كما قرأه عليهم .
و أضيف إلى ما يقدم :
1 ـ اننا لم نجد في القرآن الكريم ما يشير به اللّه تعالى من قريب أو من بعيد ، إلى القرآن الازلي ( الكلام النفسي ) .
2 ـ و الذي وجدناه في اكثر من آية هو ان اللّه تعالى يشير إلى هذا القرآن الذي بين ايدينا ، و هذا نص منه تعالى على أنه هو القرآن . لا ما يدّعى أو يتوهم من أن هناك آخر غيره قديماً .
و قد جاء هذا في اثنتي عشرة آية هي :
1 ـ ﴿ ... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ ... 52.

2 ـ﴿ وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ ... 53.

3 ـ ﴿ ... بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ ... 54.

4 ـ ﴿ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... 55.

5 ـ ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ... 56.

6 ـ ﴿ ... هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ... 57.

7 ـ ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... 58.

8 ـ ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ 59 .

9 ـ ﴿ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ ... 60.

10 ـ ﴿ ... فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... 61.

11 ـ ﴿ ... لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... 62.

12 ـ ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ ... 6364 .

3 تعليقات

صورة محمد الفضلاني

خلق القرآن

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، قرأت مقالتكم هذه قبل فترة وهي حول خلق القرآن عندكم وعند المعتزلة القدرية ولكن تبادر لي ثلاثة أسئلة أتمنى إجابتها:
١-ما هو تعريف القرآن عندكم وعند المعتزلة؟ هل هو الوحي الذي نزل على سيدنا محمد المبتدئ بسورة كذا المنتهي بسورة كذا، أم هو تعريف آخر؟ هل تقصدون به معنى الكلمات أم الكلمات؟ وما دليلكم على أن هذا هو تعريفه الصحيح فلماذا لا يكون القرآن هو المعنى؟
٢-كلنا نقر أن القرآن كلام الله، لكن ماهو دليلكم على أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت مثل كلام الناس؟ ولو وجدنا رجلاً يحفظ القرآن ولا يستطيع الكلام فإن هذا الذي بقلبه يسمى قرآن، ألا يدل دلك على أن القرآن كلام في النفس؟
٣-القرآن من حيث هو كلام فله معنى يدل عليه هذا الكلام، والله تعالى عالم بكل شيء فيكون عالماً بهذا المعنى منذ القدم، فإن قلتم القرآن مخلوق فيكون علم الله تعالى مخلوقاً لأن الله منذ القدم يعلم أن القرآن يشتمل على آيات كـ"قل هو الله أحد" ويعلم نصوص القرآن كلها وإلا رميتموه بالجهالة، فالقرآن علم الله والله يعلمه من قبل أن ينزل فيكون القرآن قديماً وإن قلتم القرآن مخلوق قلتم علم الله مخلوق، وهذه حجة قوية صحيحة لم يستطع أحد من المتكلمين أن يبطلها أو يدحضها أو يرد عليها، فما تقولون؟

صورة العلاقات العامة (PR Islam4u)

القران كلام الله

عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أولا : القرآن هو كلام الله العزيز و النص الإلهي المنَّزل بواسطة الوحي على رسول الإسلام و خاتم النبيين محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه و آله ) بلغة العرب و لهجة قريش . وهو المشتمل على مئة و أربع عشرة سورة ، أولها سورة الحمد و آخرها سورة الناس . و كلمات القران هي ذاتها التي أنزلها الله على قلب الرسول صلى الله عليه وآله و ليست معانيها . كما عبّر عنه تعالى في مثل قوله :﴿ ... وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ و قوله :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ..﴾

ثانيا: ثمة فرق بين " التكلم " و " الكلام "  و الفرق بينهما هو الفرق بين بين الصفة و أثرها فالتكلُّم هي من صفات الذات الإلهية ، و ليس معناها أن الله يكلم دائما ومع الجميع . فالتكلم مثل الخلق و الرزق ، كأن تقول: (ألله يرزق زيدا ولم يرزق عمرا) أو يصح أن يقال : ( كلم اللّه موسى و لم يكلم فرعون ) و يقال : ( كلم اللّه موسى في جبل طور و لم يكلمه في بحر النيل ) .
ثالثا : لمزيد من الإيضاحات ندعوكم لمراجعة الرابط  التالي :

هل القرآن مخلوق أم قديم ؟

صورة محمد الفضلاني

خلق القرآن

كذلك لا يصح الاستدلال بأن إرسال نوح لقومه كذب، وسبب هذا أنه حتى ولو لم يخلق الله نوحاً وقومه بعد، إلا أنه في علم الله فإن نوحاً قد خُلق وقومه موجودون وفي علم الله قد وقع بعث نوح إلهيم، فلا يقال عن هذا كذب إذ أنه وقع ولكن في علم الله، والله تعالى أعلى وأعلم.