الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الاستهجان لا يصلح اساساً للرفض

بديهي أن مجرد استهجان أمرٍ من الأمور لا يصلح دائماً أساساً لردّه ، والحكم عليه بالبطلان ، إلا إذا نشأ هذا الاستهجان من آفة حقيقية يعاني منها النص في مدلوله ، توجب إثارة حالة من الشك والريب فيه .
أما إذا كان منشأ هذا الاستهجان هو عدم وجود تهيؤ نفسي وذهني لقبول أمر ما ، بسبب فقد الركائز والمنطلقات التي تساعد على توفر مناخ الوعي والاستيعاب للحقائق العالية ، والمعاني الدقيقة . . فان هذا الاستهجان لا يصلح أساساً لإيجاد ولو ذرّة من الشك ، والريب ، والتردد في صدقية النص ، أو في أي شيء مما يرتبط به .

ولنأخذ مثالاً على ذلك تلك الأمور التي ترتبط بمقامات الأولياء والأصفياء التي يحتاج وعيها وإدراك آثارها بعمق إلى سبق المعرفة اليقينية بمناشئها ومكوناتها .
وكذلك الحال فيما لو استند هذا الاستهجان الى افتراضات غير واقعية ، فيما يرتبط بالمؤثرات ، والبواعث والحوافز لنشوء حدث تاريخي مّا .
وفي كلتا هاتين الحالتين فان المطلوب هو الإعداد الصحيح ، والتشبث بالمعرفة اليقينية لكل العناصر المؤثرة في تكوين التصور السليم ، بعيداً عن أسر التصورات الارتجالية والخاطئة ، التي تدفع إلى الاستهجان غير المسؤول ، ثم إلى الرفض غير المنطقي ولا المقبول .
وإن الإعداد القوي والرصين لإنجاز عمل معرفي ، وتربية ايمانية ، وروحية ، وإعداد نفسي ، يهيّىء لتحقيق درجة من الانسجام بين المعارف الإيمانية ويقينياتها ، وبين ما ينشأ عنها من آثار وتجليات في حركة الواقع ، وفي الوعي الرسالي للأحداث نعم ، إن الإعداد لإنجاز هذا المهم يعتبر أمراً ضرورياً ولازماً ، وله مقام الأفضلية والتقدم بالقياس إلى ما عداه من مهام .
وبدون ذلك فإننا سنبقى نواجه حالة العجز عن التعبير الصادق والصريح عن تجليات الواقع ، واستجلاء آفاقه الرحبة .

الحقد و التآمر على عاشوراء

وإذا أردنا أن نقترب قليلاً من أحداث كربلاء الدامية . فإننا نشعر أنها مستهدفة من فئات شتى ، ولأهداف شريرة متنوعة ، بإثارتهم أجواء مسمومة حولها ، الأمر الذي يدعونا إلى المزيد من اليقظة والحذر ، ونحن نواجه هذه الموجة الحاقدة ، التي ترفع في أحيان كثيرة شعارات خادعة ، وعناوين طنّانة ورنّانة ، وتتخذ ـ أحياناَ ـ لبوس الإخلاص والغيرة ، للتستر على تآمرها القذر على هذا التراث الإيماني الزاخر بالعطاء الإلهي السني والمبارك .
ولكن . . ورغم كيد الخائنين ، ومكر أخدان الأبالسة والشياطين ، فان عاشوراء ستبقى الشوكة الجارحة التي تنغرس في أحداق عيونهم ، التي أعماها كيدهم اللئيم ، وطمسها حقدهم الخبيث الذميم .

لا بد من تحمّل المسؤولية

ونحن في نفس الوقت الذي نرفض فيه كل هذا المكر الشيطاني ، والحقد الإبليسي ، وكل هذا التجني على هذا الدين وأحكامه ، ورسومه وأعلامه ، فإننا نهيب بكل المخلصين من أبنائه أن يتحملوا مسؤولياتهم في الدفاع عنه بصدق وبوعي ، والعمل على قطع الطريق على كل أولئك الحاقدين والمتآمرين . وذلك عن طريق نشر المعارف الصحيحة ، وكشف زيف الشبهات التي يثيرونها ، بالأسلوب العلمي الهادئ والرصين ، وبالكلمة الرضيّة والمسؤولة .
وذلك يحتاج إلى التشمير عن ساعد الجدّ ، والعمل الدائب في مجالات البحث العلمي ، وتوفير وسائله وأدواته ، وإفساح المجال لأصحاب الأقلام الواعية والنزيهة ، والمخلصة للمشاركة في إنجاز هذا الواجب الذي هو في الحقيقة جهاد في سبيل الله سبحانه ، وما أشرفه وأجلّه من جهاد مبارك وميمون .

الحاقدون و هدم المنبر الحسيني

ولقد تفطّن أعداء عاشوراء في وقت مبكر جداً إلى أن أنجع الأساليب وأقواها فتكاً في محاربة عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام ، هو : هدم المنبر الحسيني المبارك ، لأنهم أدركوا أن المنبر الحسيني هو الذي يربي الناس أخلاقياً ، وإيمانياً ، وسلوكياً ، وعاطفياً وعقائدياً ، وهو الذي يمدهم بالثقافات المتنوعة ، ويثير فيهم درجات من الوعي الرسالي ، ويعمق مبادئ عاشوراء في وجدانهم ، ويعيدهم إلى رحاب الفطرة الصافية ، وينشر فيهم أحكام الله ، ويربي وجدانهم وضميرهم الإنساني ، ويصقل مشاعرهم ، وينميّها ، ويغذيها بالمشاعر الجياشة ، والصادقة .
فإذا ما تم لهم تدمير المنبر الحسيني؛ فإنهم يكونون قد حرموا الناس من ذلك كله وسواه ، وكذلك حرموهم من ثواب إقامة هذه الشعيرة الإلهية ، وما أعظمه من ثواب ، واجلها من كرامة إلهية سنيّة .
وكان التشكيك بهذا المنبر الشريف ، وبما يقال فيه من أبسط وسائل التدمير ، وأقلها مؤونةً أعظمها أثراً ، وأشدها فتكاً .
ولقد كان الأنكى من ذلك كله ، والأدهى هو أن بعض من يفترض فيهم ان يكونوا حماة هذا الدين ، والذابين عن حريمه ، والمدافعين عن حياضه ، من العلماء ، الذين محضهم الناس حبهم ، وثقتهم ، واخلصوا لهم ، لا لأجل خصوصية مميزة في أشخاصهم ، وإنما حباً وإخلاصاً منهم لدينهم ومعتقداتهم ، التي يرون أنهم الأمناء عليها ، والحريصون على حفظها ونشرها .
إن هذا البعض قد أسهم عن غير عمد ـ وبعضهم عن عمد وقصد ـ في صنع هذه الكارثة ، التي من شأنها ان تأتي على كل شيء ، كالنار في الهشيم . فعملوا على إثارة شكوك الناس بخطباء هذا المنبر المقدس ، وفيما يقدمونه من ثقافة عاشورائية ، واتهموهم بالكذب ، وبالتحريف ، وبالافتعال المتعمد للأحداث ، كل ذلك ملفّع بأحكام عامة ، وبمطلقات غائمة ، وشعارات رنّانة ، يغدقونها بلا حساب إسهاماً منهم في زعزعة ثقة الناس بهذه المجالس ، الأمر الذي لا يمكن أن يصب إلا في خانة الخيانة للدين ، والاعتداء على عاشوراء ، وعلى الإمام الحسين عليه السلام في رسالته ، وفي أهدافه الجهادية والإيمانية الكبرى .
إن الطريقة التي توجه فيها التهم إلى قراء العزاء توحي للناس بأنهم ـ وحدهم ـ تجسيد للأمية والجهل ، ولقلة الدين ، ومثال حي لأناس يعانون من الخواء من الأخلاق النبيلة ، ومن الدين ، ومن الفضيلة ، ومن كل المعاني الإنسانية ، وان كل همهم يتجه إلى تزييف الحقائق ، وتزيين الخرافات ، والأباطيل ، واجتراح الأساطير للناس ، بلا كلل ولا ملل . .
ولنفترض وجود بعض الهنات فيما يقرؤونه ، ويقولونه ولسنا نجد من ذلك ما يستحق الذكر ، فان ذلك لا يبرر لنا اتهامهم بأنهم وراء وضع الأساطير والأباطيل ، لأنهم إنما ينقلون لنا ما وجدوه ، ويتلون علينا ما قرأوه ، فان كان ثمة من ذنب فإنما يقع على غيرهم دونهم .

حجم التزوير

وفي حين أننا لا ننكر وجود شاذ نادر حاول أن يزور ، أو يحرف أو يختلق أمراً ، أو أن ينسج من خياله تصويراً لمشهد بعينه ، لكننا نقول : إن هذا النوع من الناس في ندرته ، وفي قلته ، وفي حجم محاولاته ، وفي تأثيره أشبه بالشعرة البيضاء في الثور الأسود؛ فلا يمكن أن يبرر ذلك إطلاق تلك الأحكام العامة والشاملة الهادفة إلى نسف الثقة بكل شيء .
نقول هذا ، وكلنا شموخ واعتزاز لإدراكنا أن عاشوراء حدث هائل ، بدأت إرهاصاته منذ ولد ، وحتى قبل أن يولد الإمام الحسين عليه السلام ، واستمرت الارتجاجات التي أحدثها تتوالى عبر القرون والأحقاب ، ولسوف تبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وقد اشتمل هذا الحدث نفسه بالإضافة إلى إرهاصاته ، وتردداته ، وآثاره ، على مئات الحوادث ، والتفصيلات ، والخصوصيات الصغيرة ، والكبيرة ، والمؤثرة على أكثر من صعيد ، وفي أكثر من مجال .
ولكن . . وبرغم هذا الاتساع والشمول ، فان أحداً لم يستطع ، ولن يستطيع ـ مهما بلغ به الجد ـ أن يثبت علمياً أياً من حالات التزوير أو الخرافة ، إلا الشاذ النادر الذي يكاد لا يشعر به أحد بالقياس إلى حجم ما هو صحيح وسليم ، رغم رغبة جهات مختلفة بالتلاعب بالحقيقة ، وبالتعتيم عليها ، وذلك لشدة حساسية هذا الحدث ، وتنوع مراميه ، وتشعب مجالاته ، واختلاف حالاته وتأثيراته .
وحتى ، الذين ينسب إليهم أنهم أسهموا في إثارة هذه الحملة الشعواء ، نجد أنهم يسجلون هذه الحقيقة بوضوح ، ويعتزون بها ، فيستشهد الكتاب المنسوب ( قد ألف هذا الكتاب بعد وفاته رحمه الله ، وجمع من كتابات ، ومتفرقات ، ومن أشرطة تسجيل كما سيأتي . . ) إلى الشهيد المطهري بكلام عن المرحوم الدكتور آيتي وهو : " إن تأريخ أبي عبد الله الحسين عليه السلام يعتبر نسبة إلى كثير من التواريخ الأخرى تاريخاً محفوظاً من التحريف ، ومصاناً منه " 1 .
وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن الله سبحانه قد حفظ هذا الدم الزاكي ليكون هو الحافظ لهذا الدين ، وأراد له أن يبقى مصوناً صافياً نقياً إلى درجة ملفتة وظاهرة .
ويتجلى هذا اللطف الإلهيّ ، والعناية الربانية ، حين تفاجئنا الحقيقة المذهلة ، وهي انه حتى تلك الموارد النادرة جداً التي يدعيها هذا البعض لم تدخل في تاريخ كربلاء؛ لأنها قد جاءت مفضوحة إلى درجة أنها تضحك الثكلى ، وتدعو إلى الاشمئزاز والقرف .
وذلك من قبيل قولهم ـ كما سيأتي : أن عدد جيش يزيد في عاشوراء كان مليوناً وست مئة ألف مقاتل . وان الإمام الحسين عليه السلام قد قتل منهم بيده ثلاث مئة .ألف . وان طول رمح سنان بن أنس ، الذي يقال : انه احتز رأس الحسين عليه السلام كان ستين ذراعاً . وان الله قد بعثه إليه من الجنة . .
وظهر بذلك مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وآله في الحسين عليه السلام : انه مصباح هدى ، وسفينة نجاة 2 .
فصدق الله ، وصدق رسوله ، وصدق أولياؤه الأبرار ، الطاهرون ، والأئمة المعصومون .

تمنيات

ويا ليت هذا الجهد الذي يصرفه ذلك البعض في سياق تشكيك الناس بالمنبر الحسيني قد صرفه و يصرفه باتجاه توطيد ثقة الناس بهذا المنبر ، ومضاعفة إقبالهم عليه ، ويا ليته يهتم أو يسهم ولو لمرة واحدة بعمل تحقيقي علمي ، يستند إلى الأرقام والدلائل والبراهين ، ويكف عن ممارسة النقد العشوائي ، والتجريح ، والقمع .
ويا ليته أيضاً ولو لمرة واحدة مارس عملياً تطوير أساليب المنبر الحسيني ، وعمل على رفع مستوى العطاء فيه ، وأسهم في تحاشيهم الوقوع في بعض السلبيات أو الأخطاء ، التي لم يزل يشنع بها على جميع أهل هذا المنبر ، والتي ربما تصدر عن قلّةٍ من خطبائه ، ممن لم تتوفر فيهم شروطه ولا بلغوا مستويات العطاء فيه . وإنما يلجأ الناس إليهم بسبب كثرة الحاجة ، وعدم توفر العدد الكافي لملء الفراغ في مئات المجالس ، خصوصا في أيام العشرة الأولى من شهر محرم .

لا يؤخذ البريء بالمسيء

وإن من أبده البديهيات أن المجرم هو الذي يعاقب ولا يؤخذ غيره بجرمه .
فلوا افترضنا أن أحداً من الخطباء قد أساء إلى هذا المنبر ، وارتكب من الأخطاء ما يفرض موقفاً بعينه ، فان المسؤولية الشرعية والإنسانية تقضي بحصر الأمر بخصوص ذلك الذي ارتكب هذا الأمر ، ولا يجوز بأي حال من الأحوال إطلاق الكلام بنحو يثير أية علامة استفهام على من عداه . .
فان كان ثمة من كَذَبَ وزوّر فليُذكَر لنا اسمه ، وان كان ثمة من اجترح الأساطير والخرافات فليُحدَّد للناس شخصه .

التهويل والإستنساب

وفي سياق آخر فقد نجد لدى أولئك الذين لا يمتلكون قدرة وجلداً على البحث ، والتحليل ، والتتبع ، والتمحيص توجهاً نحو أسلوب الاستنساب والمزاجية في اختيار النصوص ، ثم في عرض الأحداث وترصيفها ، وربط بعضها ببعض ، فضلاً عن تحديد مناشئها ، والتكهن بآثارها . .
يصاحب ذلك سعي للتحصن خلف الادعاءات العريضة والشعارات ، والتعميمات غير المسؤولة ، من خلال تنميق العبارات ، واختيار المصطلحات الباهرة والرنانة . .
وقد يستعملون إلى جانب ذلك أسلوب التهويل ، والتعظيم ، والتضخيم ، والتفخيم لأمور جزئية وصغيرة ، وربما تكون خارجة عن الموضوع الأساس .
ثم تكون النتيجة هي استبعاد كثير من النصوص الصريحة والصحيحة ، والتشكيك بأحداث أو بخصوصيات لم يكن من الأنصاف التشكيك فيها ، ثم استنساب نص بعينه هنا ، وعدم استنساب نص آخر هناك ، الأمر الذي ينتهي بجريمة ولا أعظم منها في حق دين الله ، وفي حق أصفيائه ، وأوليائه ، وبالتالي في حق عباده ، أياً كانوا ، وحيثما وجدوا . .
وبالنسبة لقضية كربلاء بالذات ، فان الجريمة ستكون اكثر فظاعة ، وهولاً ، حتى من جريمة يزيد ، لان يزيد لعنه الله إنما قتل الإمام الحسين عليه السلام ، وهؤلاء إنما يحاولون قتل إمامة الحسين عليه السلام ، والقضاء على كل نبضات الحياة في حركته الجهادية ، ليكونوا بذلك قد احرقوا سفينة النجاة ، وأطفأوا مصباح الهدى ، أو هكذا زيّن لهم .

علينا ان نخطط للبكاء في عاشوراء

أما بالنسبة للبكاء على الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام ، فما هو إلا للتعبير عن توفر حالة من الإثارة العاطفية ، التي تعني استجابة المشاعر والأحاسيس ليقظة وجدانية ، وحياة ضميرية ، أثارتها مأساة لا يجد أحد في فطرته ، ولا في عقله ، ولا في وجدانه أي مبرر لها .
إذن فحياة الوجدان ، ويقظة الضمير ، تجعل المنبر الحسيني قادراً على الإسهام الحقيقي في صنع المشاعر ، وفي صقلها ، وبلورتها ، باعتبارها الرافد الاساس للإيمان ، والحافظ له من ان يتأثر بالهزات ، أو أن ينهار أمام الكوارث والأزمات .
هذا الإيمان الذي يفترض فيه أن يكون مرتكزاً إلى الرؤية اليقينية ، والى الوضوح والواقعية؛ لان الفكر الذي لا يحتضنه القلب ، ولا ترفده المشاعر لن يتحول إلى إيمان راسخ ، ولن يكون قادراً على أن يفتح أمام هذا الإنسان آفاق التضحية والفداء ، والإيثار ، والجهاد ، وسائر المعاني والقيم الكبرى ، التي يريد الله للإنسان أن يقتحم آفاقها بقوة وعزيمة ، وبوعي وثبات .
وذلك يحتم علينا ـ إذا كنا نشعر بالمسؤولية أن نخطط لهذا البكاء الذي يحيي الضمير ويطلق الوجدان من أسر الهوى ، ومن عقال الغفلات ، ويبعده عن دائرة الهروب ، واللامبالاة . كما خطط الأئمة عليهم السلام لذلك حين أقاموا مجالس العزاء هذه ، بل لقد روي أن الإمام الرضا عليه السلام قد شارك دعبلاً ببيتين من الشعر يكون بهما تمام قصيدته ، بما لها من المضمون الحزين المثير للبكاء .
ولتكن قصة ذبح إبراهيم لإسماعيل ، وقصة حجر بن عدي الذي عمل على أن يقتل ولده قبله ، وكذلك الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته في كثير من مفردات كربلاء . ثم ما جرى على سيدة النساء ، وعلى أمير المؤمنين ، وعلى الإمام الحسن عليهم السلام وسائر مواقف الجهاد والتحدي ـ نعم ليكن ذلك كله وسواه هو تلك الوسائل والمفردات التي أراد الله لها أن تخدم ذلك الهدف السامي والنبيل .

الارتفاع إلى مستوى الخطاب الحسيني

وبعد . . فان علينا أن نرتفع بالناس إلى مستوى الخطاب الحسيني ، من خلال تبني مناهج تربوية وتثقيفية في مجالات العقيدة والإيمان ، تهتم بتعريف الناس على المعايير والضوابط المعرفية والإيمانية . وتقدم لهم ثقافة تجعلهم يطلون من خلالها على مختلف حقائق هذا الدين ، وعلى آفاقه الرحبة ، وليميزوا من خلال هذه الثقافة بالذات بين الأصيل والدخيل وبين الخالص والزائف في كل ما يعرض عليهم ، أو يواجههم ، في مختلف شؤون الدين والتاريخ والحياة .
وليخرجوا بذلك عن أسر هذا الذي ادخل في وعيهم عن طريق التلقين الذكي : إن الإسلام مجرد سياسة ، واقتصاد ، وعبادة ، وأخلاق ، وعلاقات اجتماعية . . فهو أشبه بالقانون منه بالدين الإلهي ، لان هذا الفهم يهيء لعملية فصل خطيرة للشريعة عن واقع المعارف الشاملة والمتنوعة ، التي ترفد ذلك كله وسواه ، وتشكل ـ بمجموعها ـ قاعدة إيمانية صلبة ، تفتح أمام هذا الإنسان آفاقاً يشتاق إلى اقتحامها ، وتعطيه مزيداً من الإحساس بالغيب ، والمزيد من الأهلية والقدرة على التعامل معه ، وإدخاله إلى الحياة ، ما دام أن الإنسان لن يسعد ولن يذوق طعم الحياة الحقيقية بدونه . .
وإن أبسط ما يفرضه علينا هذا الأمر ، هو أن لا نقدم الأئمة ( ع ) للناس على أنهم مجرد شخصيات تتميز بالذكاء الخارق ، والعبقرية النادرة . قد عاشت في التاريخ ، وكانت لها سياساتها ، وعباداتها ، وأخلاقها ، وعلاقاتها الاجتماعية . . ثم ما وراء عبادان قرية . .
بل علينا أن نعرفهم لهم بأنهم فوق ذلك كله ، إنهم أناس الهيون بكل ما لهذه الكلمة من معنى وأن نلخص لهم ـ وفق تلك البرامج التثقيفية والتربوية التي اشرنا إليها ـ كل المعارف التي وردت في كتاب الكافي الشريف ، وفي كتاب البحار على سبيل المثال ، ولو على سبيل الفهرسة الإجمالية للمضامين لتمر على مسامعهم أكثر من مرة ـ ، أن أمكن ، لان المعصومين عليهم السلام ما قالوا شيئاً ليبقى مغيباً في بطون الكتب والموسوعات ، بل أرادوا له أن يصل إلينا وان يدخل في حياتنا ويصبح جزءاً من وجودنا كله .
فلابد إذن من إعداد ذهنية الإنسان المسلم ، وروحه وعقله لتقبل هذه المعارف ، وللتعامل معها ، من خلال معاييرها ومنطلقاتها الإيمانية والعلمية الصحيحة .
كما أن ذلك يعطي الفرصة للإنسان المؤمن ليستمع أو يطلع على الكثير مما قاله قرآنه وأنبياؤه وأئمته المعصومون عن السماء والعالم ، وعن الخلق والتكوين ، وعن الآخرة والدنيا ، وعن كل شيء . نعم كل شيء .
ولسوف يجد في ذلك كله ما يحفزه للسؤال عن المزيد ، ويفتح أمام عينيه آفاقاً رحبة ، يجد نفسه ملزماً باستكناه كثير من جوانبها ، واكتشاف ما أمكنه اكتشافه من حقائقها .

أسلوب الانتقاء إدانة مبطنة

وغني عن القول : أن انتهاج أسلوب الانتقاء والاستنساب العشوائي ، الذي قد يكون خاضعاً لظرف سياسي ، أو نفسي ، أو لقصور في الوعي الديني ، أو لغير ذلك من أمور؛ إن انتهاج هذا الأسلوب من شأنه أن يعطي الانطباع السيء عن كثير من مفردات الثقافة الإيمانية الصحيحة ، من خلال ما يستبطنه من إدانة أو اتهام لكل نص لم يقع في دائرة الاستنساب هذه ، الأمر الذي ينتهي بحرمان الآخرين من فرصة التفكير المنطقي في شأن التراث ، بالاستناد إلى المبررات العلمية ، وإلتزام الضوابط والمعايير المقبولة والمعقولة ، بعيداً عن أي إيحاء يهيء لحالة نفرة غير منطقية من كثير من النصوص التي تواجهنا ونواجهها في سيرتنا الثقافية والإيمانية .
وكذلك بعيداً عن كل أساليب التهويل والتضخيم ، حتى ولو بالصوت الرنان ، والنبرات الحادة ، وعن تهويلات وإيحاءات اليد في إشاراتها وحركاتها ، والوجه في تقبضاته وتجهماته . . فضلاً عن اللسان ولذعاته ، وما إلى ذلك من أمور . فان ذلك لن يفيد شيئاً في تأكيد حقانية أمر ، وفرض الالتزام به ، ولا في استبعاد ما عداه ، والتنكر له . بل تبقى الكلمة الفصل للفكر الأصيل ، وللبحث الموضوعي ، وللدلائل والشواهد القوية والحاسمة 3 .

  • 1. الملحمة الحسينية ج 3 ص 236 عن كتاب : تحليل تاريخ عاشوراء ص 151 .
  • 2. فرائد السمطين ج 2 ص 155 و احقاق الحق ، قسم الملحقات ج 14 ص 62 و كمال الدين و تمام النعمة ج 1 ص 265 و عيون اخبار الرضا ج 1 ص 60 و البحار ج 36 ص 205 .
  • 3. كتاب : كربلاء فوق الشبهات للسيد جعفر مرتضى العاملي ، الفصل الأول ، الطبعة الثانية 1422 هـ . الموافق 2002 م .

تعليق واحد

صورة Shaddad

شكر واجب

الموضوع جزاكم الله خيرا، متماسك بدرجة جيد جدا، ويصلُح العمل به فى الحياة العامة وليس من المنظور الدينى أو الروحى فحسب، ولذلك النَّص يستحق بالفعل درجة أكثر من جيد جدا. ليس من السهل حقيقة أن يستوقفنى نَصّ إلا إذا كان مُحكما، صاحبه على درجة رفيعة من الحكمة وسلامة التفكير. فلا شأن لى كون هذا "سُنٌِّيٌّ" أو هذا "شِيعىٌّ"، لكل منا عقل، وحرية المعتقد، أو الإيمان بفكرة أو حكاية تاريخية هى مسؤولية منفردة لا يتحمل معها شيعىٌّ أخطاء سُني، ولا يتحمل معها سُنىٌّ أخطاء شيعىٌّ. والتقييم برجاحة العقل وسلامة التفكير يأتى دائما من رجاحة عقل مثله وليس من غافل إذا تفلسف وما أكثرهم بالمجتمع الإسلامى ولا أقول بالمجتمع السنى أو المجتمغ الشيعى.
النَّصُّ، نَصّ " الاستهجان" يستحق بالفعل درجة امتياز كونه ينفعنى أن أتعامل به حياتى العامة وليس على المستوى الروحى أو الدينى فحسب، ولذلك جاء تقييم نَصّ فضيلتكم بامتياز عن جدارة واستحقاق.
والسؤال دام فضلكم: هل لكم كتابات فى الشأن المجتمعى العام وليس الدينى أو الروحى فحسب؟
نرجو من فضيلتكم إذا أمكن تسمية كتابات لكم إن كانت بالفعل صدرت عنكم لنعرفها فإنا نراكم أهل لذلك.
شكرا لكم، دام فضلكم، ودمتم بألف خير.