الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الانسان سر الخليقة

الإنسان ـ كما وصفه القرآن ـ صفوة الخليقة و فلذتها و سرّها الكامن في السلسلة الوجود .
لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتية التي جَبَله الله عليها ـ في جميع مناحيها و أبعادها المترامية ـ في سوى القرآن . يصفه بأجمل صفات و أفضل نعوت لم يُنْعَم بِها أيّ مخلوق سواه ، و من ثَمَّ فَقد حظى بعناية الله الخاصّة و حُبي بكرامته منذ بدء الوجود .
و لنشر إلى فهرسة تلكم الصفات و الميزات التي أهّلته لمثل هذه العناية و الحباء :
1 ـ خلقه الله بيديه : ﴿ ... مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... 1 .
2 ـ نفخ فيه من روحه : ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ 2 3 .
3 ـ أودعه أمانته : ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ... 4 .
4 ـ علمه الأسماء كلّها : ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ... 5 .
5 ـ أسجد له ملائكته : ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ... 6 .
6 ـ منحه الخلافة في الأرض : ﴿ ... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... 7 .
7 ـ سخر له ما في السماوات و ما في الارض جميعاً : ﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... 8 .
و من ثَمَّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز : ﴿ ... ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ 9 .
ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده ، فكان المخلوق المفضّل الكريم . و إليك بعض التوضيح :

ميزات الإنسان الفطرية

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظ بها غيره من سائر الخلق :
فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه : ﴿ ... مَا مَنَعَكَ ... 1 ( خطاباً لإبليس ) ﴿ ... أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... 1 . و الله خالق كلّ شيء . فلا بدّ أن تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحق هذا التنويه . هي خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن ، و إيداعُه نفخةً من روح الله دلالةً على هذه العناية !
قال العلاّمة الطباطبائي : نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال : ﴿ ... وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ... 10 . و تثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه و صنعه ، ذلك أنّ الإنسان إذا اهتّم بصنع شيء استعمل يديه معاً عناية به 11 .
و هكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان ـ في أصل فطرته ـ بالملأ الأعلى حتّى و لو كان متّخذاً ـ في جانب جسده ـ من عناصر تربطه بالأرض ، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً .
و لقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض ثُمَّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه و بين سائر الأحياء . و منحته خصائصه الإنسانية الكبرى . و أوّلها القدرة على الارتقاء في سلّم المدارك العليا الخاصّة بعالم الإنسان .
هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى ، و تجعله أهلاً للاتصال بالله ، و للتلقّي عنه و لتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات و الحواسّ ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب و العقول . و التي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان و المكان ، و وراء طاقة العضلات و الحواسّ ، إلى ألوان من المدركات و ألوان من التصوّرات غيرالمحدودة في بعض الأحيان 12 .
و بذالك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتية رفيعة أودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق . و تتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأولى و التي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود و تسخيرها حيث يشاء .
إنّها القدرة على الإرادة و التصميم ، القدرة على التفكير و التدبير ، القدرة على الإبداع و التكوين . القدرة على الاكتشاف و التسخير . إنها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير . قال سيّد قطب : إنّها الإرادة و الإدراك و المحاولة و حمل التعبة ، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . و هي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى و هو يُسجِد الملائكة لآدم . و أعلنه في قرآنه الباقي و هو يقول : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... 13 . فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله ، و لينهض بالأمانة التي اختارها . و التي عرضت على السماوات و الأرض و الجبال ، فأبين أن يحملنها و أشفقن منها 14 .
إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم الكبير القُوى القويّ العزم . و من ثَمَّ كان ظلوماً لنفسه حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها ، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده و هو بَعْدُ لا يعرفها .
و هكذا علّمه الأسماء : القدرة على معرفة الأشياء بذواتها و خاصّيّاتها و آثارها الطبيعية العاملة في تطوير الحياة ، و التي وقعت رهن إرادة الإنسان ليسخّرها في مآربه حيث يشاء ، و بذلك يتقدّم العالم بحشده و جموعه في سبيل عمارة الأرض و ازدهار معالمها ، حيث أراده الله من هذا الإنسان ﴿ ... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ... 15 .
و بذلك أصبح هذا الإنسان ـ بهذه الميزات ـ خليفة الله في الأرض 16 ، حيث يتصرّف فيها وفق إرادته و طاقاته المودعة فيه ، و يعمل في عمارة الأرض و تطوير الحياة .
و إسجاد الملائكة له في عرصة الوجود ، كناية عن إخضاع القوى النورانية برمّتها للإنسان ، تعمل وفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف ، في مقابلة القوى الظلمانية ( إبليس و جنوده ) تعمل في معاكسة مصالحه إلاّ من عصمهُ الله من شرور الشياطين ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً 17 .
كما و أنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً 18 ، كناية عن إخضاع القوي الطبيعية المودعة في أجواء السماوات و الأرض ـ لهذا الإنسان ، تعمل فور إرادته بلا فتور و لا قصور. و معنى تسخيرها له : أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها .
فسبحانه من خالقٍ عظيم ، إذ خلق خلقاً بهذه العظمة و الاقتدار الفائق على كلّ مخلوق !
هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مشرفة من القرآن الكريم ، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة و التبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير و في طاقاته كبير ، كبرياءاً ملأ الآفاق!
أتزعم أنك جسمٌ صغيرٌ *** و فيك انطوى العالم الأكبر
فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين !

خلقتُ الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي !

حديث قدسيّ معروف 19 خطاباً مع بني آدم ، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقه الإنسان ! فكما و أنّ الأشياء برمّتها ـ علواً و سفلاً ـ سخّرها الله لهذا الإنسان و لتكون في قبضته فتجلّى فيها مقدرته الهائلة ، كذلك خلق الإنسان ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق و الإبداع .
ما من مخلوق ـ صغيرٍ أو كبير ـ إلاّ و هو مظهر لتجلّي جانب من سمات الصانع الحكيم « وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد ». أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال و الجلال .
فإذا سئلت : ما هي الغاية من خلق ما في السماوات و ما في الأرض جميعاً ؟ قُلتَ ـ حسب وصف القرآن ـ : هو الإنسان ذاته مستودع أمانات الله و ليكون خليفته في الأرض !
و إذا سئلت : ماهي الغاية من خلقة الإنسان ذاته ؟ قُلتَ : هُوَ اللهُ الصانعُ الحكيم : حيث الإنسان بقدرته على الخلق و الإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء و الصفات ، فكان وجه الله الأكمل و عين الله الأتمّ !
فكان الإنسان غاية الخليفة ، و كان الله الغاية من خلق الإنسان ، فالله هو غاية الغايات و بذلك ورد : « كنت كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن اُعرَف ، فخلقتُ الخلق لكي اُعرَف » 20 . حيث الإفاضة ـ و هي تجلّي الذات المقدّسة ـ كانت بالخلق و الإبداع و مظهره الأتمّ هو الإنسان 21 .