الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الشريعة الاسلامية من معين السنة النبوية بين حماية العلماء و تزييف العلمانيين

الحمد لله و كفى و الصلاة على نبيّه المصطفى و على آله الحُنفاء و أصحابه الشرفاء و بعد ، فإنّ السنّة الشريفة ثاني مصادر الإسلام ، بعد القرآن الكريم ، و تكمن أهميّتها في إحتوائها على تفاصيل الشريعة و العقيدة ، بل تضمّ تراث المسلمين الرصين ، و قد اتّفقت كلمة المسلمين أجمع على إعتبارها و إعتمادها ، ولم يختلف في الإلتزام بها سوى شرذمة نادوا في صدر الإسلام بشعار « حسبنا كتاب الله » و منعوا من تدوين السنّة و نشرها ، و اُخرى في هذه العصور حين نادوا « الإسلام هو القرآن وحده » . و قد علماء الإسلام في وجه الدعوتين قديماً و حديثاً ، بكلّ شكل و قاموا عمليّاً بجمع السنّة الشريفة و تدوينها و تخليدها ، حتّى بقيت هذه القرون المتطاولة بكلّ شموخ وعظمة في الكتب والحمد لله . ولا شكّ سرّ قوّة المسلمين هو في وحدتهم و التفافهم حول نصوص القرآن الكريم هذا الكتاب الإلهي الخالد ، المصون من كلّ تعدٍّ و تحريف ، و الناطق بالحقِّ ، الذي لا يأتيه الريب و الباطل من بين يديه و لا من خلفه . و كذلك في التمسّك بالسنّة الشريفة التي هي الضياء اللامع و النور المتّقد الهادي إلى الحقّ . و ما دام المسلمون متمسّكين بهذين الأصلين و بإرشاد العلماء فهم في مأمن من الإنحراف و الضلال . و لذلك يسعى أعداء الإسلام بالكيد للمسلمين بفصلهم عن معين القرآن و السنّة ، بنسبة التحريف إلى الأوّل ، و محاولة تزييف الثاني . و لو لم يستطع أحدهم من التجاهر بهذه النسبة أو تلك فإنّما يُحاول أن ينسب إلى مذهب آخر أنّه يقول بالتحريف ، بينما اتّفقت كلمة المسلمين على وجه الأرض سواء من الشيعة أو من أهل السنّة أو من الإباضية على أنّ القرآن المتداول بين المسلمين هو كتاب الله المنزل على قلب الرسول محمّد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و الذي تلاه على المسلمين و كتبوه و هو المقدّس و المرجع لنا اليوم ؟ و ليس في نسبة التحريف إلى أحد من المسلمين اليوم إلاّ إفتراءً و تعديّاً على حرمة القرآن ، و كلّ محاولة من هذا المجال إنّما هي تهمة لمن يحاول ذلك بالإعلان عن إهانة هذا الكتاب العزيز ، و إثارة لما يطلبه أعداء الإسلام من اليهود و النصارى ؟ و أمّا السنّة ، فقد حاول بعض المغرضين أن يشكّكوا فيها بدعوى أنّهم يقومون بالبحث و التحقيق والدراسة ، و ما أشبه ذلك من عناوين جذّابة رنّانة ، بينما هم يدسّون ضمن عباراتهم المعسولة أنواعاً من السموم و نحن في هذا المبحث نتصدّى لنموذج من هذه المحاولات قام بها شخص من العلمانيين باسم فوزي إبراهيم في كتاب باسم ( تدوين السنّة ) 1 استهدف فيه السنّة الشريفة بالتزييف و النقد و التشكيك ، و قد حاولنا بكلّ حياد و بمنهجيّة علميّة كشف كلّ محاولات الزيف و الدجل ، و المغالطات التي إستخدمها في كتابه . نرجو أن نكون قد قدّمنا خدمة إلى العلم و السنّة النبويّة ، و أن نكون قد كشفنا عن أسرار هذه المحاولة ، ليتّقي المسلمون سوءها . والله ولي التوفيق

المؤلّف .

تقديم تجتاح البلاد الإسلامية موجة من الصحوة و الوعي و التحرّك ، تكوّنها الجماهير المسلمة ، المؤمنة بدينها ، المحبّة لأوطانها ، و التي تيقّظت من سباتها الطويل ، بعد غياب وذهول عن ما يملكه الإسلام من مقوّمات حضارية ، و بعد أن ثبت لها بالعيان و بالتجربة الحيّة ، و المعاناة الطويلة القاسية ، فشلّ كلّ النظم و القوانين و أساليب الحياة غير الإسلامية ـ سواء الشرقية منها أم الغربية ـ و إخفاق كلّ دعاة العلمنة و الهلوسة الغربية ، و التحضّر الأُوربّي ، من تقديم أيّة خدمة تنجد الاُمّة أو تقلّل من مآسيها .
و كانت عودة الجماهير إلى الحضارة الإسلامية ، عودة حميدة مجيدة ، تحتوي على قوّة العزيمة و التصميم و الجدّ و الوعي و المعرفة التامّة . و لقد ذهل الإستعمار بهذه العودة ، بعد أن دأب قرناً من الزمان في العمل على إبعاد الاُمّة الإسلامية عن دينها ، و تفريغها من كلّ ما يربطها به من ثقافة و فكر و مظاهر و موازين و أعراف ، و بثّ روح اللهو و اللعب و التفاخر و التكاسل بين جبل الشباب إلى حدّ الارتماء في أحضان الرذيلة و الفساد و العبثيّة . و قد أثارت هذه العودة إلى الإسلام سخط الإستعمار ـ شرقيّه و غربيّه ـ فجنّد أجهزته الظاهرية و السرّية ، و لجأ إلى القمع و الإتّهام ، و الضغط السياسي و الإقتصادي ، و من خلال عملائه الحاكمين على بلدان المنطقة ، و بأجهزة الأمن و الاستخبارات و المباحث في داخل البلاد و خارجها ، لإيقاف المدّ الإسلامي الظاهر ، و إخماد نور الصحوة الإسلامية المجيدة . و من الأساليب التي ينفّذها هو « بعث » شرا ذمة من أولاد البلاد الإسلامية و المنتمين إلى لغتها ، من الجيل المتعلّم في مدارس الغربيّين ، أو على مناهجهم الدراسية ، و المتربّين على الثقافة الغربية المادّية ، و الذين غسل المستشرقون أدمغتهم ، و فرّغوها عن كلّ ما هو إسلامي ، و لقّنوهم حبّ الغرب و الإنبهار بكلّ ما فيه ، فدفعوهم في هذه الفترة بالذات ليكونوا أدوات تحريف لأفكار الشباب المعاصر في البلاد الإسلامية ، لصدّهم عن اللحوق بهذه الصحوة ، و حذراً من أن ينتبهوا إلى ما يملكه الإسلام من قدرات خارقة و عظيمة في الفكر و التشريع و الأخلاق ، و الحضارة . فراح اُولئك العملاء الجُدد يشوّهون سمعة هذا الدين و يزيّفون ما يمتّ إليه من خلال كتابات تهريجيّة و مزوّرة ، ملؤها الكذب على الإسلام و أهله و القذف للجيل المتحرّك لإعلاء كلمته ، و لا تخلو صفحة من كتاباتهم من الإتّهام و الهراء ضدّ مقدّسات الاُمّة ، و التعدّي على اُصوله و فروعه ، و تراثه و تاريخه ، بعقليّة تزييفية ، و بصورة بشعة ، إلاّ أنّ أعمالهم تحمل عناوين غارّة من قبيل « التحقيق » و « البحث » و « الدراسة » و « النقد » و ما إلى ذلك من عناوين جذّابة و مغرية للشباب المشتاق للمعرفة و المحبّ للإطّلاع . و قد صدرت في هذه الفترة بالذات كتابات تستهدف السُنّة الشريفة لكونها من مصادر المعرفة في الإسلام ، بأقلام تستهدف تزييف السُنّة و تعطيل أثرها الهامّ في التعريف بالإسلام و تحديد قضاياه وأحكامه . و ممّا صدر أخيراً كتاب « تدوين السُنّة » لإبراهيم فوزي . و لِما في عنوان من الإثارة ، و ما يحتويه من تحريف و تزييف ، و ما قام به مؤلّفه من تخطٍّ و تعدٍّ على أعراف العلم و موازين الكتابة ، فقد عرضنا ما لاحظناه عليه خلال الفصول التالية : 1 ـ مع موازين الكتابة . 2 ـ مع مؤدّى العنوان . 3 ـ مع مؤشّرات الهدف .

الفصل الأوّل مع موازين الكتابة

1 ـ موازين الكتابة

إنّ من الاُمور المتّفق عليها ضمنيّاً في فنّ الكتابة العلمية هي تلك الموازين المقرّرة ، و الملتزم بها عمليّاً ، و المنادى بها و لو بالشفاه المطبقة ، و التي تعدّ « عُرفاً » للكتّاب ، و قد أملتها الحاجة إلى نظام في ما يقرأ ، قبل أن يكتب ، و إن كان الكاتب ـ في عصر الطغيان على الموازين ـ لا يرى نفسه ملزماً بكلّ ما هو « إجماعيّ » أو « عُرف » حتّى لو كان معلناً ، فكيف إذا لم يحاول أصحاب « المصلحة » ، يعلنوه ، أو يسجّلوه ؟! و لكنّ ضرورات من قبيل « تصنيف الكتاب » في المكتبة ، ليأخذ موضعه المناسب ، حتّى يتناول حين الحاجة بيسر و سرعة ، أمر لا يمكن تجاوزه ، لأيّ غرض كان ، لأنّه ـ فعلا ـ من الثوابت التي لا خلاف فيها ، إذا اُريد للكتاب أن يكون متداولا علميّاً ، و بالخصوص إذا تناول ظاهرةً بالدرس و التحليل ، خارجاً عن اُطر الإعلام و الخطابة ! و إذا أراد الكاتب أن يكون باحثاً منهجيّاً ، بعيداً عن وهدة « الإرهاب الفكري » و « العبث بالفكر » التي ابتليت بها التيّارات العلمانية في العالم العربي خاصّة ، إذ تسيطر هي على قطّاع كبير من قرّائه المثقّفين ، بهدف تزييف ما يمتّ إلى شعوب المتكلّمين بالعربية ، أو الذين يفكّرون على أساس مصادرها الثقافية و الفكرية ، و الذين يشكّل المسلمون غالبيتهم العظمى ! مع أنّ من أوضح ما يميّز الكتاب الذي يتناول موضوعاً فكرياً أو تراثياً ، و يراد له أن يكون خارجاً عن إطار « الإرهاب » أن يتّخذ اُسلوب « التوثيق المرجعيّ » و الإلتزام بالموضوعيّة ، على طول الخطّ ، من أوّل جرّة قلم ، و حتّى نهاية المطاف .

2 ـ بين الأهداف المعلنة ، و النيّات المبطّنة

ثمّ إنّ تحديد المؤلّف لغرضه الذي تعنّى من أجله للكتابة ، لا أنّه يدخل في تلك الموازين ، فحسب ، بل هو ضرورة للإسراع في تفاعل القارئ مع الكتاب ، ودرك الكلمة المكتوبة ، في سياق الموضعها من جملة المؤلّف ، و في سطور الصفحة ، و صفحات دفّتي الكتاب ، تفاعلا لابدّ أن يرغب المؤلّفون فيه ، فيقدّمونه أمام كتبهم . و ليست صفحات الكتاب الذي يُعالج مشكلةً مستفحلة علميّة أو تراثية ، مجالا للبهلوانيات ، حتّى تكون السرعة ـ و كذا الإقتحام ـ فيها مطلوبة ، إلاّ في صورتها الشائعة في الكتابات المعاصرة . و الكاتب الذي يقدّم « بكلّ حياد و تجرّد » لا يتخوّف من قرّائه ، تماماً كالطبيب الحاذق الذي لا يخاف من عدوى المرضى الذي يباشر علاجهم ، و هم يراجعونه ، ليجدوا الشفاء على يديه ، مهما كان نوع المرض ، ومهما كان خَطِراً . و إذا كان الطبيب يتوجّس خيفةً في نفسه ، من مرضاه ، فخير له أن يغلق « المطبّ » و لا يكلّف نفسه عناء الإعلانات الفضفاضة حول مهارته في العلاج ، خصوصاً إذا لم تكن عنده الخبرة الكافية ، و لا التخصّص ، بل و لا عارفاً بـ« جسّ النبض » ، بل جاهلا باُصول العلم ، و بمصطلحات الأطبّاء ، و أسماء الأدوية !! أمّا إذا كانت اللافتة التي ينصبها على باب « العيادة الطبّيّة » تحمل عنواناً ضخماً ، مغرياً للمرضى ، بينما هو يُعنى بتخصّص آخر ، و يبطن من إعلانه المزوّر هدفاً غير طبّي ، فإنّما يُعدّ في عرف المهن « دجّالا » و ليس عمله إلاّ « إبتزازاً » و « خيانة » !

3 ـ عناوين الكتب مفاتيح لتصنيفها

إنّ عناوين الكتب ـ سواء الكبيرة ، أم الثانوية التي توضّح أبعاداً أوسع إنّما هي الأبواب التي يدخل القرّاء من خلالها إلى أعماق المدينة المؤلّفة من الكلمات و السطور و الصفحات ، فيحدّد موقفه منها خلال نظره ، فمن « الابتزاز » أن يحاول المؤلّف الإيحاء بالعنوان إلى غير ما يحتويه الكتاب ، و إغراء القارئ بشرائه أو قراءته ، فهذه طريقة مقبوحة و مستهجنة ، تحتوي على إستهلاك الكلمة التي تشكّل العنوان ، و على حساب الفكر ، و توتّر القرّاء ، و هو نوع من « الدجل الفكري و الثقافي » . فلو قيس عنوان « تدوين السُنّة » الذي وضعه المؤلّف إبراهيم فوزي على كتابه ، إلى الغرض الذي تابعه من « المقدّمة » و حتّى آخر صفحة بعنوان « الخاتمة » والتي صرّح فيها بالغرض واضحاً ، يجد أنّه « لا يشي عنوانه بأهميّته » عند البعض ، وإن اعتبر ذلك « إحدى حسناته » إلاّ أنّه تجاوز لما ذكرنا من موازين الكتابة العلميّة ، مهما أحسنّا الظنّ به ! فإنّ العلوم الإسلامية ، و المعارف التي تتمحور حولها ، قد تضخّمت ، و توسّعت على مدى المدّة الفاصلة بيننا و بين المصادر الأساسيّة ، و « السُنّة » لكونها عند المسلمين واحداً من تلك المصادر ، بل أوسعها لم تخرج من دائرة هذه الحقيقة ، بل تكثّف الجهود حولها ، وشكّلت لمعالجة قضاياها و جمع خصوصيّاتها علوم عديدة هي : « علم الحديث » و « علم المصطلح » و « علم الرجال » مضافاً إلى ما يتفرّع عن كلّ من مباحث ، و تخصّصات ، إستغرقت جهوداً مبثوثة ، و اُخرى منتشرة بشكل إستطرادي في علوم اُخرى . و من أهمّ البحوث المصيرية المطروحة حول « السُنّة » هو البحث عن حجّيتها ، و مدى تأثيرها في إثبات المعارف الدينية ، و قد قام منذ القديم حول ذلك جدل كبير ، لما يترتّب على نتيجته من آثار علميّة مباشرة في حياة المسلمين و تحديد المعارف عقيدةً و تشريعاً و تاريخاً . وإذا كانت « حجّةً » فإنّ بحوثاً اُخرى تستتبع في الثقافة الإسلامية ، و استتبعت ـ و لا تزال ـ جهوداً كبيرة من قبيل : ما هي السنّه ؟ و تحديد مداها ؟ و تاريخها ، لتحديد نصّها ؟ و يدخل في هذه الناحية تاريخ « تدوين السنّه » . فمن هنا يمكن أن نرى عنوان « تدوين السنّه » بارزاً عندما تكون « حجّية السنّة » أمراً مفروغاً عنه ، و إلاّ فيكون البحث عن التدوين ، ترفاً فكرياً ، إذ لا يترتّب عليه أثر علميّ و لا عمليّ ، و لا يدعو إلى الاهتمام به في المأزق الثقافي الراهن . و لقد كان علماء المسلمين على قدر كاف من الدقّة إذ عنوانوا لحجيّة الحديث و السنّة في مجال « الحجج الشرعيّة » و وسائل إثبات الحكم الشرعي من بحوث علم اُصول الفقه ، وعنونوا لبحث « تدوين السنّة » في مجال تاريخ الحديث ، وفي بحوث علم مصطلح الحديث ، إلاّ أنّ سعة مباحثه ، وأهميّته ، لكون الأرضية الموطّدة لما يبنى عليها من عناوين وبحوث ، استدعت المؤلّفين إلى الاستقلال بالبحث عنه منذ القدم ، فأقدم ما في المتناول من المؤلّفات حول تدوين السنّة ، كتاب الخطيب البغدادي ( ت 463 ) باسم « تقييد العلم » المطبوع محقّقاً مع مقدّمة واسعة وافية من عمل الدكتور يوسف العُش ، السوري ، وأحدث عمل تكاملت فيه النظريات المطروحة على طاولة البحث هو كتاب « تدوين السنّة الشريفة » الصادر في قم سنة 1413 من تأليف كاتب هذه السطور . أمّا كتاب « تدوين السنّة » لإبراهيم فوزي ، الذي نقدّم قراءةً عنه ، فهو آخر ما صدر يحمل هذا العنون على الرغم من أنّه لا يعنيه مباشرةً ، إلاّ بصورة جزئية ، ممّا يثير إرباكاً لدى القارئ ، فإذا صدق قول أبي الفتح البُستي « و أوّل مقروء من الكتب عنوان » فإنّ عنوان كتاب فوزي يوحي أن يكون خاصاً بالبحث عن الموضوع ، بينما المهمّة الأساسية التي يتصدّى لها الكتاب هي غير ذلك ، بل هي : نفي الاعتماد على السنّة مصدراً للتشريع ، و أنّ اعتمادها سبّب ـ حسب اعتقاد المؤلّف ـ إرباكاً في الفقه الإسلامي ، أدّى إلى وجود المذاهب المتعدّدة ، والطوائف المتفرّقة . و مع قناعتنا بحرّية الكاتب في إتّخاذ هدف معيّن لعمله ، من دون أن يكون لأحد حقّ في تحديده ، إلاّ أنّ تقنّعه بقناع « تدوين السنّة » للوصول إلى هدف يبتعد عن هذا العنوان ، أمر لا يبتعد عن الريب والإثارة ، شاء الكاتب أم أبى! فمن ناحية حضارية ، فإنّ الإصدرارات التي تستعمل هذا الاُسلوب ، تؤدّي إلى فقدان الشخصيّة الثقافية ، بين المجتمع العلمي ، حيث إنّه إسقاط لقيم العناوين ، و تلاعب باستخدامها . في الوقت الذي تستدعي موضوعية البحث الذي يراد له أن يكون هادفاً وعلمياً ، كونه مجرّداً عن « الدجل » و بعيداً عن « العبثية » : فالمطلوب : الدقّة الكاملة في انتخاب العناوين ، و استخدامها ، بدلالات واضحة على المحتويات ، وإيصالها إلى الأهداف ، بصدق و أمانة ، و إلاّ كانت نماذج من « التضليل الثقافي » المنبوذ . أمّا من الناحية الأدبية ، فإنّ تفويت الفرص على القرّاء والمراجعين ، وجرّهم إلى قراءة ما يرغب فيه الكاتب ، وبطريقة الإغراء من خلال عنوان الكتاب ، أمر يعتبر استهتاراً مفضوحاً . إنّ ما يرتبط بعنوان « تدوين السنّة » إنّما هو القسم الأوّل من الكتاب ، ذي الأقسام الثلاثة ، بينما القسم الثاني يبحث عن « علوم الحديث » و الثالث يتركّز فيه البحث عن الأحكام الشرعية المعتمدة على السنّة ، بعنوان « السنّة بعد التدوين » . و مجموع ما يحتوي على القسم الأوّل هي الصفحات من 27 ـ 141 ، و فصوله ستّة ، و ما يرتبط منها بالتدوين ، الثاني ، ص37 ـ 48 ، بعنوان « النهي عن تدوين السنّة » و الثالث ، ص48 ـ 56 ، بعنوان « إمساك الصحابة عن تدوين السنّة » والرابع ، ص57 ـ 64 بعنوان « إباحة تدوين السنّة » و مجموع صفحات هذه الفصول 27 صفحة فقط!! أمّا الفصل الأوّل فهو بعنوان « تعريف السنّة » والخامس بعنوان « الكذب على النبي ( صلى الله عليه و آله ) و أسبابه » والسادس بعنوان « الاجتهاد في الفقه الإسلامي » وارتباط هذه الفصول ، بتدوين السنّة ، فهو برابط القسم الأوّل بالأقسام الاُخرى من الكتاب ، وهو وحدة الغرض الجامع بين الأقسم وفصوله ، والذين أشرنا إليه ، و سنتحدّث عنه بتفصيل . فالبحث عن « تدوين السنّة » الذي يشغل فقط 27 صفحة من أصل 384 صفحة هي عدد صفحات الكتاب ، لا يمثّل لوحده محتوى الكتاب ، إذ تبقّى 357 صفحة من الكتاب بعيدة عن العنوان! فهل يخلو مثل هذا العمل من محاسبة ؟! أو يتطابق مع عرف الكتابة العلمية ؟! أو يخدم القرّاء بصدق ؟! و هل روح « المنهج النقدي » الذي التزمه الكاتب تسمح بهذا التصرّف ؟!

4 ـ بين مؤدّى العنوان ، و مؤشّرات الهدف

و تعقيبنا هذا على كتاب « تدوين السنّة » يدور على طرفي : العنوان ، و الهدف ، في فصلين : 1 ـ فقد فصلنا بين الملاحظات التي تجمّعت حول الكتاب فيما يخصّ « تدوين السنّة » من بحوثه ، بما في ذلك منهج المؤلّف في التوثيق ، واستخدام المصادر ، وما أثاره في هذا المجال ، فذكرناها تحت عنوان : « مع مؤدّى العنوان » . 2 ـ وجمعنا الملاحظات حول ما أثاره في مجال غرضه من تأليف الكتاب والإشكاليات التي تابعها في مصدرية السنّة لأحكام الشريعة ، وتزييف ما اُخذ اعتماداً عليها ، فذكرناها تحت عنوان « مع مؤشّرات الهدف » .

الفصل الثاني

مع مؤدّى العنوان

1 ـ حيادٌ أو انحياز ؟

إنّ الكاتب ، و على الرغم من دعواه عرض البحث بكلّ حياد ، و تجرّد ، لم يكن حيادياً في عرضه ما يرتبط بمسألة « تدوين الحديث » بالذات . فمثلا ، نجد إنحيازه واضحاً عندما يعرض أدلّة الطرفين حول « تدوين السنّة » إثباتاً ونفياً ، فيذكر في ص42 بعض أدلّة إباحة التدوين ، ويحاول في الهامشين 14 و 15 إيراد تضعيفها أو إسقاط رواتها ، و لكنّه لمّا يذكر أدلّة المنع ـ وقد بادر بذكرها في الأسبق ـ في بداية الفصل الثاني الذي عقده للبحث عن « التدوين » فهو لا يشير إلى أيّة نقطة ضعف في أدلّة المنع ، و لا خدشة في رواتها ! و نفس عمله في عنوان الفصل الثاني ، المعقود لجمع أدلّة الطرفين ، لكنّه عنونه بـ« النهي عن تدوين السنّة » ينمّ عن روح الإنحياز والتطرّف إلى جهة المنع ، وكذلك عنوان الفصل الثالث الذي يليه و هو « إمساك الصحابة عن تدوين السنّة » و أمّا الفصل الرابع المعنون « إباحة تدوين السنّة » فهو يعنى بفترة ما بعد القرن الأوّل ، مع أنّه قد بدأه بقوله : « مضى القرن الأوّل للهجرة ولم يدوّن من السنّة شيء ، كما جمع القرآن ، ولم يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنّه دوّن صحيفة أو كتب كتاباً يحوي أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله )وسننه ، سوى ما روي عن بعضهم أنّهم كتبوا لأنفسهم أحاديث عن الرسول لكي يحفظوها ، ثمّ أتلفوها . . . » . إنّ هذه البداية تكشف بمنتهى الوضوح عن إنحياز الكاتب إلى ما يهواه من إثبات عدم التدوين .

2 ـ حديث النهي لا يُحتجّ به

إنّ عمدة ما استدلّ به القائلون بأنّ السنّة لم تدوّن في العصر الأوّل هو حديث أبي سعيد الخدري ، الذي ذكره مسلم في صحيحه ـ دون البخاري ـ و افتتح به المؤلّف الفصل الثاني ـ ص 37 ـ و ظلّت صورته عالقةً بقلمه إلى آخر البحث ، مستنداً موثوقاً ، بينما هو حديث « معلّل » حسب إصطلاح علماء الحديث ، لا يصحّ الاحتجاج به لإثبات شيء ، و هو ما يدور النصّ فيه بين أن يكون من كلام النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم )فيسمّى « المرفوع » ، و هو حينئذ حجّة ، و بين أن يكون من كلام أبي سعيد نفسه ، فيسمّى « الموقوف » فلا يكون حجّة ! لأنّه حينئذ يدخل كطرف في النزاع بين الصحابة المجوّزين والمانعين ، في أمر التدوين ، فلا يشكّل حجّة على الطرف المعارض للمنع . وتعليل الحديث ـ المسقِط له عن الإحتجاج ـ بدورانه بين الوقف والرفع مذكور في مصطلح الحديث وفي الكتب الخاصة بـ« علل الحديث » . و المؤلّف إبراهيم فوزي نفسه ، واقف على الفرق بين مصطلحي « المرفوع » و « الموقوف » وقد أيّد معارضة القول بأنّ « الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع » وأنّ ذلك ليس كلاماً يوجب الاغترار به ، كما في ص 176 هامش 6 . إذن ، فلماذا يغترّ هو بهذا الحديث ، ويغرّ قرّاءه ، فيكرّر الاستناد إليه ، و لا يشير إلى هذه العلّة القادحة في حجّيته ، لا من قريب و لا من بعيد؟! ثمّ إنّ موقفه من رأي أهل البيت ( عليهم السلام ) وموقفهم من مسألة تدوين الحديث لا يخلو من تقصير ، إذ لا نجد في كتابه إيعازاً إلى ذلك ، سوى ما رواه من خطبة الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، أنّه خطب مرّة فقال : « أعزم على كلّ من كان عنده كتابة عن رسول الله ، إلاّ رجع فمحاها ، فإنّما هلك الناس حيث اتّبعوا أحاديث علمائهم و تركوا كتاب ربّهم » ومصدره : سنن الدرامي ج 1 . ذكر ذلك في تدوين السنّة ، ص 53 ـ 54 ، و الهامش 16 . و قبل أن نناقش في سند الحديث و دلالته ، فإنّ ما نقله عن سنن الدارمي لم نعثر عليه ، وإنّما الموجود هو في مصنّف ابن أبي شيبة 9 / 52 ، ورواه القرطبي في جامع بيان العلم 1 / 63 و جاء بالنصّ الآتي : « أعزم على كلّ من كان عنده كتاب ، إلاّ رجع فمحاه ، . . . » إلى آخر الحديث ، فليس فيه « كتابة عن رسول الله » . فهل تعدّى الإنحياز عند الكاتب إلى الخيانة ؟! ولم ينحصر المنقول عن الإمام علي ( عليه السلام ) بهذا الحديث ، بل إنّ مجموعة كبيرة من الروايات الدالّة على تأكيده على الكتابة و حثّه عليها مشهورة ومنقولة في جميع المصادر ، و كلّها تدلّ على أنّه ( عليه السلام ) كان رائد المبيحين لتدوين الحديث ، ولم ينقل عنه خلاف ذلك سوى هذا الحديث ، فإهمال الكاتب لكلّ تلك المجموعة ، و ذكره هذا الحديث فقط ، يدلّ على ماذا ؟! أمّا هذا الحديث فقد ثبت بطلانه و فساده ، سنداً ودلالة من أوجه كثيرة أثبتناها في دراستنا عن الموضوع 2 .

3 ـ الإيحاءات المحرّفة

و يتبلور إنحياز المؤلّف إلى طرف المنع عن التدوين ، في تأكيده بشتّى العبارات على الإيحاء بأنّ النهي عن التدوين هي الحقيقة الثابتة ، وأنّ إباحة التدوين جاءت متأخّرةً ، فمثلا يفتتح الفصل الثالث المعنون « إمساك الصحابة عن تدوين السنّة » فيقول في ص49 : « تمسّك الصحابة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه و آله ) بحديثه الذي نهى فيه عن كتابة السنّة ، فأمسكوا عن تدوينها ، وتشدّدوا ضدّ الذين كانوا يكتبونها ، وكانوا يتلفون ما كتب منها ، ولم يرد على لسان أحد من الصحابة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) نسخ حديث النهي عن كتابتها » . . و المفارقات الواضحة في هذا الكلام نوجزها في ما يلي :
أوّلا : الذين كتبوا ما كتب من السنّة ، و كانوا يكتبونها ـ حسب تعبيره ـ لم يكونوا ـ قطعاً ـ إلاّ من الصحابة الذين اتّصلوا بالنبي مباشرةً ، ولم يكونوا غرباء خلقوا فجأةً في مجتمع الصحابة! ومع هذه الحقيقة الضمنيّة في كلامه ، فإنّ عنوان « إمساك الصحابة عن تدوين السنّة » متهافت لا يناسب هذه الحقيقة على الأقلّ ، لأنّ هؤلاء لم يمسكوا عن التدوين! وماذا كان يضرّ المؤلّف لو عنوان للفصل بـ« إمساك بعض الصحابة عن تدوين السنّة »؟! لكن ليس لهذا العنوان ، وقع قوي مثل ما للعنوان الأوّل ، على طريق ما بيّنه المؤلّف!!
وثانياً : قوله : « تمسّك الصحابة بالحديث الذي نهى فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن تدوين السنّة » يوحي أنّ « حديث النهي » ثابت لا ريب فيه ، وقد عرفت ـ قريباً ـ أنّه لم يثبت لتردّده بين أن يكون موقوفاً على أبي سعيد ومن كلامه هو ، لا من كلام النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، وبين أن يكون مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، فكيف يوحي خلاف ذلك؟! مع أنّه لم يثبت مورد واحد جاء فيه « تمسّك الصحابة » بما نسب إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من حديث النهي ، و قد تتبّعنا جميع ما ورد في الباب ، فلم نقف على مثل ذلك ثابتاً في حديث صحيح لا علّة فيه ، و قد اعترف الباحثون عن مسألة التدوين بنفي استناد الصحابة إلى حديث في النهي ، حتّى اُولئك الذين تشدّدوا من الصحابة في أمر التدوين ، لم يجسروا على نسبة المنع إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و لعلّهم لم يفعلوا ذلك لأنّهم لم يلتزموا منهجاً نقدياً يبتني على الجسارة والشجاعة المتوفّرة في كتابة عصرية ، كالتي في « تدوين السنّة » لإبراهيم فوزي . و أمّا نسبة التمسّك بحديث النهي إلى الصحابة ـ بلفظ العموم ـ فهو أمر ينافيه المنقول عن أكثرهم أنّهم كانوا يقولون بإباحة التدوين ، وقد أشاروا بذلك على عمر أيضاً ، لكنّ المؤلّف لم يُشر إلى ذلك ، بل يظهر من عبارته خلاف ذلك تماماً!
و ثالثاً : و كذلك قوله : « لم يرد على لسان أحد من الصحابة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) نسخ حديث النهي » . يوهم أنّ حديث النهي ثابت عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بصورة قطعيّة ، ولابدّ في رفعه من ناسخ يروى عنه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، وبما أنّه لم يرد عن الصحابة نقل النسخ ، فالنهي مستمرّ ، مع وضوح أنّ النسخ فرع ثبوت النهي ، ومع الشكّ في ثبوت النهي فلا حاجة إلى إثبات الناسخ ، لأنّ الشكّ في ثبوت النهي كاف في نفي العلم بوجوده ما لم يقم عليه دليل قاطع ، و لا معنى لنسخ ما لم يثبت . ويمكن أن يستند إلى عمله ، إذ كانوا يكتبون السنّة ، في إعلان النسخ ـ لو ثبت النهي ـ فإنّ العمل أقوى دلالة من مجرّد النقل في مثل هذا ، لأنّه غير قابل للتأويل ولا ترد فيه الإحتمالات الآتية في الكلام المنقول .
ورابعاً : لو سلّم ـ جدلا ثبوت نهي عن التدوين ، فلا أثر لتمسّك الصحابة ـ الذين منعوا عن التدوين ـ بمثل ذلك ، إذ مع وجود النهي الصريح من رسول الشريعة ، فليس عمل بعض دليلا آخر مستقلا ، وإنّما هو تطبيق منهم له مستند إلى مقدار ما أدركوه من مدلول النهي ، وقد يكونون مخطئين في ذلك ـ لعدم عصمتهم ـ كما قد اعترف المؤلّف بأنّ عملهم كان أشدّ ممّا قام به النبي نفسه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) حيث قال في ص55 : « إنّ الصحف التي كتبت في عهد رسول الله تدلّ على أنّ التشدّد ضدّ كتابة السنّة كان في عهد رسول الله أخفّ بكثير ممّا آل إليه الحال في عهد الصحابة » . فأيّة قيمة تبقى لعمل بعض الصحابة بزعم « التمسّك بنهي النبي »؟! هذا ، مع أنّ المجموعة الأكبر من الصحابة ، لم يأبهوا بحديث النهي المزعوم ، بل كانوا مع إباحة التدوين قولا وعملا .

4 ـ الدلالات الاُخرى

وظاهرة خطرة في تصرّف المؤلّف ، تؤكّد بُعده عن الحياد العلمي ، هي تعامله مع النصوص المنقولة بشكل مبتور ، فيحذف منها المقاطع التي تدلّ على خلاف هدفه ، أو يزيد عليها ما يفيده! مثلا : حديث رواه الأسود ، عن عبدالله بن مسعود ، قال : جاء علقمة بكتاب ، فيه أحاديث عن رسول الله ، فدخلنا على عبدالله بن مسعود ، ودفعنا إليه الصحيفة ، قال : فدعا بطست فيه ماء . . . » إلى آخر الحديث الذي نقله في ص 54 ، وخرّجه في الهامش 10 عن تقييد العلم ، ص 54 ، و جامع بيان العلم . لكنّ الموجود في تقييد العلم ص 54 ، وجامع بيان العلم . لكنّ الموجود في تقييد العلم ص 54 : « جاء علقمة بكتاب من مكّة أو اليمن ، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت ـ بيت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ـ فاستأذنّا على عبدالله ، فدخلنا عليه ، قال : فدفعنا إليه الصحيفة ، قال : فدعا الجارية ، ثمّ دعا بطست فيها ماء . . . » إلى آخر الحديث . فيلاحظ أنّه حذف بعد كلمة « أحاديث » جملة « في أهل البيت ، بيت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) » التي تعبّر بوضوح عن محتوى « أحاديث الصحيفة » لكنّه أضاف بعد كلمة « أحاديث » جملة « عن رسول الله » !! فعلى ماذا يدلّ ذلك الحذف ؟! و ماذا تعني هذه الإضافة ؟!
لا ريب أنّ الإضافة تؤدّي إلى قلب المعنى إلى الوجهة التي يرغب فيها المؤلّف ، و هي المنع من الحديث النبوي المكتوب . لكن ماذا يسمّى هذا التصرّف في قانون « الأمانة العلميّة »؟! وإذا كان محتوى الصحيفة حول أهل البيت النبوي ، و جاءت من مكّة أو اليمن ، و ليست ـ بالذات ـ من المدينة التي هي مركز الحديث ومعدنه ، فهل الاستناد إلى هذه الرواية يفيد الدلالة التي يبتغيها المؤلّف ؟! وإذا كان محتوى الصحيفة الحديث حول أهل البيت النبوي ، بالتأكيد الذي اعتمده الراوي للحديث ، فماذا تعني إماثة ابن مسعود لتلك الصحيفة و إتلافها ؟! وماذا يعني حذف إبراهيم فوزي لهذه الجملة؟! . إنّ ذلك يدلّ بلا ريب على أنّ ابن مسعود وفوزي يجريان في تيّار هوىً واحد ، و هو المنع من تدوين السنّة ، على حساب أهل البيت ! و مثل آخر من الدلالات التي أهملها الكاتب : في حديث استشارة عمر ابن الخطّاب للصحابة حول كتابة السنّة حيث جاء فيه : « فأشاروا عليه بكتابتها » كما نقله في ص 40 ، لكنّ المؤلّف لم يتحمّس لهذه الجملة التي تعبّر عن رأي الصحابة المستشارين ، عامّةً ، وهو إباحة التدوين ، وعدم التحرّج منه أبداً ، وليس « النهي عن التدوين » كما عنونه المؤلّف لهذا الفصل الثاني بالذات ، كما تدلّ هذه الجملة على ضدّ عنوان الفصل الثالث : « إمساك الصحابة عن تدوين السنّة » . وعلى الرغم من وضوح دلالة هذه الجملة على موقف الصحابة ـ عدا البعض ـ فإنّ المؤلّف أهمل هذه الدلالة ، فلا نجد في كلّ الكتاب أدنى إشارة إليها! ولا نظنّ أنّ هذا التصرّف يدلّ على الحياد في البحث!

5 ـ تناقضات !

و نجد في الكتاب نتائج يناور عليها المؤلّف بقوّة ، بينما يناقضها بنفسه في مواضع اُخرى من كتابه . مثلا يقول في ص 6 ـ 167 : « إنّ الحديث عن رسول الله لم يدوّن في عصر الصحابة ، و لا التابعين ، وإنّما دوّن في عصر متأخّر نقلا عن الذاكرة عن لسان الحفّاظ » . ومعنى هذا الكلام أنّ الحديث ـ في عصر غياب التدوين ـ كان يعتمد ضبطه على عنصر الذاكرة ، التي اعتمدت بدورها الأخذ عن لسان « الحفّاظ » . و المراد بالحفظ ، هو حفظ نصّ الحديث على الذاكرة ، و هو الطريقة البدائية ، و الطبيعيّة ، و المتعارفة للنصوص ما قبل مرحلة التدوين ، وإذا كان التدوين نقلا عن هذه الطريقة فإذن كان معتمداً على الذاكرة عن الحافظة ـ حسب ما قرّره المؤلّف ـ . و لكنّه يقول ـ بعد سطر ! ـ : « و من البديهيّ ـ بعد أن طال الزمن ـ من أن يدوّن الحديث بالمعنى ، بعد أُسدل النسيان على اللفظ » . فكيف كان التدوين هناك نقلا عن الذاكرة عن الحفّاظ؟! بينما هنا يدوّن بعد طول الزمن ، و بالمعنى ، وقد نسي اللفظ؟! فما الذي قلب الذاكرة عن الحافظة ، إلى ناسية وقلب اللفظ إلى المعنى؟! ويقول في ص 190 : « جرى تقويم الحديث لاعتبارات تتعلّق بأخلاق الراوي ، ولم يجر تقويم الفكر والعقل لدى رجال الإسناد ، فقد يكون الراوي ممّن يتمتّع بالشروط التي وصفوها . . لكنّه لا يتمتّع بمستوى فكريّ و عقليّ يؤهّله لتقويم الحديث من جهة المعنى » . فيرى أنّ المستوى العقلي غير معتبر في الراوي ، بينما هو يعترف في ص 191 بأنّهم : « اكتفوا بأن تتوافر في رواية الحديث الشروط التالية : أوّلا : أن يكون الراوي عاقلا و مميّزاً . . . » . فإذا اشترط في الراوي أن يكون عاقلا ، فما معنى قبول رواية من لا يتمتّع بمستوى عقلي ؟!

6 ـ دعاوى ، و إنفراد بالموقف !

و رغم أنّ المؤلّف يحاول ـ أو يدّعى له ـ اتّباع « منهج نقدي على درجة عالية من الجسارة والشجاعة » إلاّ أنّ وجود عدد غير قليل من الدعاوى الفارغة من كلّ دليل ، بل مستندة إلى مجرّد الظنّ والتخمين ، لا يناسب هذه الدعوى ولا تلك المحاولة .
1 ـ يقول في ص 38 عن مرحلة مكّة : « لم تكن كتابة ما يتحدّث به [النبي] في هذه المرحلة ، موضع تفكير أحد من المسلمين الذين كانوا قلّة وجلّهم من المستضعفين المضطهدين الذين كانوا يجهلون القراءة والكتابة ، فالنهي عن تدوين السنّة وقع في المدينة بعد الهجرة ، وليس في مكّة » . فهو يوهم ـ هنا أيضاً ـ أنّ هناك نهياً ـ محتوماً ـ قد وقع ، و أنّ البحث إنّما هو في وقوعه في مكّة أو المدينة! وبدعوى أنّ المسلمين كانوا يجهلون القراءة والكتابة ، ينفي أن يكون ذلك في مكّة ، مع أنّه يجد القرآن قد كتب في مكّة ، وعلى يد اُولئك القلّة من المستضعفين والمضطهدين؟! ومن أين عرف المؤلّف أنّ المضطهدين لابدّ أن يجهلوا القراءة والكتابة؟! مع أنّ نهي قريش لعبدالله بن عمرو ، عن كتابة كلّ شيء عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) يقتضي أن يكون ذلك في مكّة ، لأنّ قريشاً لم تكن لها تلك الجرأة لكي يتكلّموا بذلك الكلام الثقيل في المدينة ، مركز ثقل النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و حكومته !
2 ـ و في ص45 ، بعد نقل حديث عن أحمد ، نصّه : « أفضل الصوم صوم أخي داود . . . » يقول : « وما نظنّه إلاّ من وضع اُولئك الصالحين الذين كانوا يضعون الأحاديث » . وأيّ منهج نقدي يجيز له هذا التظنّي؟!
3 ـ و في ( ص44 ) عن صحيفة عبدالله بن عمرو ، يقول : « لم يأخذها أحمد بن حنبل في مسنده ، عن صحيفة مكتوبة ، إذ أنّ علماء الحديث كانوا لا يجيزون أخذ الحديث عن الصحف المكتوبة إلاّ إذا رويت بطريق السماع عن ثقة عن ثقة عن ثقات حتّى ينتهي إلى الصحابي الذي سمعها من النبي ، كانوا يطلقون على الأحاديث المكتوبة في صحيفة اسم ( الوجادة ) وقد احتجّ الفقهاء على عدم الأخذ بها ، ولو عُلم كاتبها ، إلاّ إذا اُخذت بالسماع والرواية » . فمع أنّ الكلام مؤلّف من دعاو متعدّدة ، وخال عن أيّ مصدر أو مرجع ، فهو مخالف للواقع في عدّة مواقع : فدعواه « أنّ أحمد لم يأخذ من صحيفة مكتوبة » لم يدلّ عليه الدليل ، فالحاجة إلى السماع لا تنافي كون الحديث مكتوباً ، فيسمعه أيضاً . مع أنّ حصر طرق الرواية بالسماع فقط ، مخالف لإجماع العلماء على أنّ طرق التحمّل والأداء عديدة .
على أنّ الوجادة المقرّرة كآخر الطرق الثمان لتحمّل الحديث وأدائه هي أن يعتمد الراوي على وجود الحديث في نسخة مكتوبة ، بشرط أن يكون خطّ الكاتب معروفاً ، وموثوقاً به من حيث الضبط والصحّة ، لكنّ الراوي الواجد لم يحصل على الكتاب بطريق السماع والقراءة أو غيرها من الطرق ، غير هذه الوجادة . وأمّا العثور على كتاب لا يعرف صاحبه ولا كاتبه ولم يوثق بصحّته وضبطه ، فلا يدخل في البحث عن « الوجادة » المصطلح عليها . والوجادة ـ مع شروطها المقرّرة ـ عدّها البعض كآخر الطرق لبلوغ الحديث إلى الواجد ، فيكون متحمّلا له لوصوله إليه ، وأنّه خير من التزام الرأي . إذن ، فالكتابة الموجودة بخطّ معروف ، ليس من المختلف فيه ، بل هو معتمد عليه عند الأكثر ، وبهذا يعرف وجه المهاترة في قوله : « حتّى لو علم كاتبها » إذ لو لم يكن لذلك أثر ، فما هو الذي دفعه إلى فرضه ؟!
4 ـ و في ص47 ـ 48 ، يقول : بعد نقل أحاديث إباحة التدوين ـ : « هذه تثبت أنّه ( صلى الله عليه وآله ) رخّص بكتابة أحاديثه لبعض أصحابه ، ممّن كانوا يعرفون القراءة والكتابة ، وهذا القول ـ و إن كان صحيحاً ـ فإنّه لا يشكّل دليلا يثبت أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أراد أن يجعل من أحاديثه كتاباً يقرؤه الناس ، كالقرآن ، وأنّ كلّ الأدلّة تشير إلى أنّه رخّص لبعض أصحابه ممّن كانوا يحسنون القراءة والكتابة ، بكتابة أحاديثه من أجل حفظها ، وكان الناس الذين يكتبونها يتلفونها إذا حفظوها ، ولو صحّ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أباح كتابة السنّة ليجعل منها كتاباً ككتاب الله يقرؤه الناس على نحو ما حدث في القرن الثالث الهجري ، لما بدر من جانب الصحابة هذا التشدّد في منع كتابتها ، والذي وصل درجة التحريم ، وقد قضت السنّة قرابة القرن من الزمن والمسلمون يحرّمون كتابتها ، أمّا الصحف فلم يصل شيء منها إلى الرجال الذين قاموا بتدوين الحديث في القرن الثالث ، ولم يقل أحد منهم أنّه اعتمد في جمع السنّة على صحيفة من هذه الصحف » . فالمصادرة ـ كما يقول أهل المنطق ـ واضحة في دعواه الاُولى ودليلها بفارق واحد ، وهو أنّ الدعوى هي كون الترخيص لبعض من يعرفون الكتابة والقراءة ، وأمّا الدليل فهو كون الترخيص لبعض من يحسنون ذلك؟! فهل يريد المؤلّف أن يفرّق بين من « يعرفون » وبين من « يُحسنون »؟! وأمّا تصحيحه للدعوى ، فهل يأمن أن يقول له المعارضون : إنّ النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إنّما منع بعض الصحابة ممّن لم يعرفوا ـ أو لم يحسنوا ـ الكتابة والقراءة؟! وإذا لم تشكّل أدلّة الإباحة دليلا على الجواز العامّ ، فلماذا شكّلت أدلّة النهي دليلا على المنع المطلق والعامّ؟! وأمّا دعواه « أنّ الناس كانوا يتلفون ما يكتبون » فهل وجد له مصدراً دلّ على ذلك ، ممّا اتّصل بعصر النبوّة ، حتّى يمكن نسبة ذلك إلى الشريعة؟! وإذا كان النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قد أجاز للبعض ـ ممّن يعرف أو يحسن ـ فلماذا لم يرد أن يكون كتاباً يقرأ؟! فهل الكتاب يسجّل إلاّ ليقرأ؟! وهل إتلاف الكتاب ـ بعد كتابته ـ يوافق المنطق والعقل السليم؟! فلماذا لا ينقد المؤلّف متن ما جاء بذلك من الأحاديث ـ لو وردت ـ وهو من دعاة النقد العقلي للحديث؟! وأمّا استناده إلى ما بدر من الصحابة من التشدّد في منع الكتابة ، فهو إستدلال باجتهاداتهم مقابل نصّ النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) وأمره بالكتابة . وهل عمل الخلفاء في القرن الأوّل ، يشكّل دليلا في مقابل نصّ النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) حتّى يستند إليه ، فيدّعي أنّ السنّة قضت قرناً من الزمن غير مكتوبة؟!
نعم ، إنّ الحديث طيلة القرن الأوّل قد حورب ومنع من كتابته ، ولكن ذلك لا يشكّل دليلا شرعياً على صحّة ما فعلوا ، ما دام الحديث حجّة بنصّ القرآن ، وتأكيد الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم )على المحافظة عليه ، ونشره وتبليغه . مع أنّ المتشدّدين ضدّ تدوين السنّة لم يكونوا إلاّ القلّة ـ من الحكّام ومؤيّديهم ـ ، و أمّا عامّة الصحابة فكانوا مع التدوين ، وقائمين به ، ومؤكّدين عليه ، من خلال أعماله ومؤلّفاتهم ، وأقوالهم وتصريحاتهم . وأمّا دعواه بالنسبة إلى من جمع الحديث في القرن الثالث ، فهي فارغة من كلّ دليل ، بل اعتمادهم على الصحف والكتب والكتابات ، فهو أمر معروف لا يحتاج إلى تصريح ، بعد كلّ حرصهم و تأكيدهم على التدوين والتأليف . والمؤلّف يعيد بعض هذه الدعاوى في ص57 ، ويقول في ص145 : « عندما أمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز بتدوين السنّة ، في بداية القرن الثاني للهجرة ، لم يكن في أيدي المسلمين أيّ كتاب ، أو صحيفة ، أو وثيقة تحوي شيئاً من أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) . . . أمّا ما قيل عن بعض الصحف التي كتبت في عهد رسول الله ، فهي قد إندرست ، ولم يعرف شيء منها ، ولذلك اعتمد رجال الحديث في جمعه على الرواية و الذاكرة ممّن كانوا يحفظونه » . وهل في اعتماد الرواية والذاكرة ممّن كانوا يحفظونه ما يقتضي إندراس الكتب السابقة ؟! أو في ذلك دلالة على عدم الحاجة إلى الكتابة ؟! وهل الكتابة تنافي الحفظ على الذاكرة؟! كيف ، وهو قد إفترض أنّ الكتب إنّما كتبت كي تحفظ ، فإذا حفظت أُتلفت ـ كما زعم ـ؟! و من أين كلّ هذه الدعاوى الطويلة العريضة ، على التاريخ وحوادثه ، وعلى الحديث ، وعلى المحدّثين ؟! هل « المنهج النقدي » يسمح بمثل هذه الدعاوى من دون دليل ؟! و البحث إنّما هو عن أمر يحتاج في معرفته إلى النقل والرواية ، إلاّ أن نترك المنهج إلى التزام الجسارة والتعدّي والتجاوز على التراث و ذخائره !
5 ـ و في ص 168 ، يقول : « بعد أن انتشرت الكتابة وكثر الذين يكتبون وظهرت الكتب وفيها الأحاديث المكتوبة ، صار يجوز الأخذ بها إذا أجازها قائلها ، وقد أطلقوا عليها اسم « الإجازة » وهذه المرحلة التي مرّ بها الحديث والمسمّاة بمرحلة الإجازه جاءت بعد مضيّ قرن من الزمن كانت كتابة الحديث فيه محرّمة » . فإن صحّ الربط بين وجود الكتب ، وبين ما يسمّى بالإجازة ، فإنّ ذلك ينسف دعواه تحريم كتابة الحديث في القرن الأوّل وعدم تحقّقها فيه ، لأنّا قد أثبتنا في بحث مفصّل وجود « إجازات » صادرة في بداية النصف الثاني من القرن الأوّل 3 ، فتكون الكتب متداولة منذ ذلك الحين ، وتكون مرحلة التدوين متقدّمة على ما فرضه . وأمّا قوله بعد ذلك في ص169 : « ثمّ تلت هذه المرحلة مرحلة جديدة وهي جواز نقل الحديث وتدوينه في الكتب من دون إجازة من أحد » . فيدلّ على ضحالة معرفته بتاريخ التراث الإسلامي ، ومناهج رجاله في ضبطه وتداوله ، فإنّ الرجوع إلى الكتب من دون سماع أو إجازة ، أو سائر طرق التحمّل سوى وجود الكتاب ، إنّما تسمّى « الوجادة » لكنّها لم تكن عنده معتبرة كما ذكر في ص44 أنّ الفقهاء احتجّوا على عدم الأخذ بها . أمّا « الإجازة » فقد ظلّت ضرورية ومتداولة حتّى عهد متأخّر ، ولا تزال مهمّة لأداء آثارها التراثية .
6 ـ و يقول في ص 167 : « و في كتب الحديث أحاديث ركيكة في تركيبها وبنائها ولا يتصوّر أن تصدر من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو أفصح الفصحاء ، وقد نزل القرآن على لسانه ، وكان في غاية الفصاحة » . وهذه نغمة سبق أن ضرب على وترها محمود أبو ريّة ، وهي دعوى خاوية على عروشها ، ولقد فنّدناها في دراستنا عن « تدوين السنّة الشريفة » .
7 ـ و يقول في ص 5 ـ 146 عن علوم الحديث : « هي مجموعة الأبحاث التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث الهجريّين لحلّ الإشكالات التي نجمت عن تدوين السنّة في العصر الإسلامي الأوّل » . فمع أنّ تأخّر ظهور علوم الحديث لا يدلّ على تأخّر تدوين الحديث فإنّ كلامه هذا يدلّ على عدم معرفته بالمعنى الصحيح لهذه العلوم ، إذ غالب أنواعها إنّما يرتبط بنفس الحديث بقطع النظر عن كونه مدوّناً أو غير مدوّن . مع أنّ ظهور العلم بشكل منظّم ومدوّن ، لا ينافي وجوده في الواقع ، و إن لم يدوّن ، و عدم تدوينه لا يدلّ على عدم وجوده ، فالمتأخّر هو جمع قواعده وإقتناصها وتنظيمها وتأليفها بشكل علم مستقلّ ، فالنحو ـ مثلا ـ و إن كان إبرازه و إظهاره كعلم مستقلّ له قواعده واُصوله ومؤلّفاته ، إلاّ أنّه موجود في صميم اللغة العربية يتداوله العرب في لغتهم ، ولا ينكره أحد منهم . فكيف يدّعي كون الإشكالات الناتجة من التدوين هي السبب في ظهور علوم الحديث؟!

7 ـ منهج التوثيق

إنّ الطريقة المعروفة في توثيق المعلومات ، هي الاعتماد على نقل النصوص بالرجوع إلى المصادر التي تشكّل موارد ثقة وإقناع ، والهدف قطع الطريق على المعارضين والتأكّد من المحتويات ، وإضفاء الاطمئنان بالنتائج . ويحاول أن تحدّد النصوص بشكل مضبوط ، وفي اُطر مميّزة بالأقواس ، مع الإشارة الواضحة إلى الكلمات الناقصة أو المبدّلة ، والإرجاع إلى المصادر المحدّدة كذلك ، وتعيين مواضع النصّ فيها بالجزء والصفحة غالباً ، والفصل والباب أحياناً . كلّ ذلك ، وصولا إلى الهدف والمذكور بدقّة وافية وسرعة أكثر . وتتأكّد هذه الطريقة لو كانت الدراسة تبحث عن موضوع علميّ أو تراثي ، لابدّ فيه من الاستشهاد بالمنقولات ومتابعتها . وهذا ما يفتقده الكتاب الذي يعالج القصص والروايات ، أو عرض الأفكار للتسلية ، أو لبث المعلومات و ليس بصدد المناقشة و البحث . وموضوع تاريخي تراثي مثل « تدوين السنّة » لابدّ وأن تكون طريقة التوثيق فيه هي الطريقة المتداولة عند العلماء والمحقّقين ، إذ يعتمد أساساً على النصوص والروايات التي هي بحاجة إلى توثيق وضبط ، ومصادر ومراجع . أمّا الدخول في هذا الموضوع ، وتجاوز أعراف الطريقة المتعارفة فهو مؤدٍّ إلى عدم الثقة بالعمل ، وسقوطه علميّاً . وهكذا اتّبع مؤلّف « تدوين السنّة » وهو على قدر كبير من الجسارة ، منهجاً ، يفتقد كثيراً من عناصر البحث العلمي الرصين ، فلا مصادر مميّزة ، ولا مواضع محدّدة ، ولا نصوص مضبوطة . أمّا ذكر المصادر بلا ذكر المؤلّفين ، وخاصّة في غير المصادر المعروفة ، وكذا نسبة بعض المنصادر إلى مؤلّفين آخرين ، وكذلك ذكر المؤلّف من دون اسم الكتاب ، وذكر اسم الكتاب بصورة مغلوطة ، فاُمور تجعل القارئ يدور في فراغات و متاهات . و نذكر فيما يلي مجموعة من المفارقات التي سجّلناها ، و ملاحظاتنا عليها :
1 ـ يقول في ص 272 : « رواه الدارقطني في كتاب نصب الراية » . ويلاحظ أنّ « نصب الراية » إنّما هو للزيلعي ، ولم يعرف للدارقطني كتاب بهذا الاسم . 2 ـ ينقل في ص 33 عن : « المناقب : المكّي » و في ص318 الهامش 27 : « المكّي » فقط وكذلك ص243 هامش2 وص244 هامش6 . أمّا في ص196 فنجد « المكّي : محمّد بن علي المكّي المتوفّى سنة 386هـ » ولم يذكر الكتاب لا متناً ولا هامشاً; كما ليس لهذا المكّي ذكر في فهرس الأعلام ـ المهزوز الذي وضعه في آخر الكتاب ـ حتّى يجمع موارد ذكره ويوحّدها!
3 ـ يذكر في ص232 هامش 83 مصدراً باسم « أعلام النبلاء » من دون مؤلّف ، وكذا في ص257 هامش 48 ، أمّا في هذه الصفحة هامش 49 فهو يقول : « سير أعلام النبلاء : الذهبي »!
4 ـ يقول في ص272 هامش 4 « الجصّاص ، الطحاوي » من دون ذكر كتبهم و في ص 272 الهامش 4 : « السيوطي » من دون ذكر كتاب له ، مع أنّ السيوطي له عشرات المؤلّفات .
5 ـ يقول في ص294 هامش55 : « المغني » من دون ذكر للمؤلّف .
6 ـ و إهمال ذكر الجزء ، أو الصفحة ، أو كلاهما ، فهو أمر لم تخل منه صفحة من صفحات الكتاب .
7 ـ ونسبة الكتب إلى غير مؤلّفيها ففي ص 59 هامش 2 : جامع بيان العلم ، لابن عبدالله ، بينما مؤلّفه : ابن عبدالبرّ . وفي ص203 هامش8 وقع في خلط غريب ، حيث حاول أن يترجم لابن عبدالبرّ صاحب « الاستيعاب » فقال : « ابن عبدالبرّ ، هو الإمام عبدالله بن عبدالكريم بن فرّوخ المتوفّي سنة 264هـ يقول عنه ابن حنبل : إنّه كان يحفظ سبعمائة الف حديث عن رسول الله » . بينما صاحب « الاستيعاب » هو يوسف القرطبي ، المتوفّى 463هـ . وفي ص229 هامش 72 يقول : « جاء في الإصابة لابن عبدالبرّ » وكذا الهامش 74 . بينما قد نقل عن « الإصابة ، لابن حجر » مكرّراً ، وليس لابن عبدالبرّ كتاب باسم « الإصابة » . 8 ـ وفي ص203 يقول ما نصّه : « يقول شارح مسلم : الثبوت ( ان . . . ) » . ويدلّ تنقيطه على أنّه يجهل أنّ مصدره هو شرح « مسلّم الثبوت » وهو كتاب في الاُصول ، معروف متداول! ولكن من أين وكيف نقل المؤلّف هذا النصّ ، وهو لا يعرف اسم المصدر؟! 9 ـ وفي ص43 يروي عن ابن الأثير في « اُسد الغابة » لكنّه في الهامش 20 يخرّج عن « المستدرك للحاكم ، وتقييد العلم ، وجامع بيان العلم » . ومؤلّفو كلّ هذه الكتب يسبقون ابن الأثير بقرون من الزمن! و مثل هذه التصرّفات توجب الريب لدى القارئ ، في صحّة ما ينقله المؤلّف ، ولو كان اتّخذ ذلك منهجاً خاصاً به لأنّه على قدر كبير من الجسارة ، فهو استهتار باُصول التوثيق العلمي في استخدام المصادر ، ذلك الأمر الذي عدّه حتّى الغربيّون ضرورياً في الدراسة عن موضوع هامّ مثل تدوين السنّة . ولا تدلّ هذه التصرّفات إلاّ على بُعد المؤلّف عن المصادر التي يدّعي النقل منها ، ولا تبقى ثقة بالآراء التي فرّعها على مثل هذه التصرّفات الضحلة ، الساقطة علميّاً . وهناك تصرّفات تعدّ جناية وخيانة! من قبيل : أنّه يحاول أن ينقل عن المذهب الإمامي الاثني عشري ، في مواضع عديدة من كتابه ، ويستشهد بفقههم ، ويبدو وكأنّه واقف على تراثهم ومتّصل بهم ، لكنّه لم يراجع من مصادرهم إلاّ ( 4 ) كتب هي :
ص 34 كتاب « أمالي المرتضى » حيث نقل عنه في ص 68 أمراً من أخبار الجاهلية ، و هو كتاب معروف في الأدب و المحاضرات . و كتاب « مروج الذهب ، للمسعودي » وهو كتاب تاريخ قديم لا يتّسم بصبغة مذهبية معيّنة . ويذكر في ص 160 هامش 4 ، و ص 129 ـ 130 كتاب « الكافي : للكليني » . وآخر ما ينقل عنه كتاب « الوصايا والمواريث ، للكرباسي » . فهل المصادر عن المذهب الإمامي تنحصر في هذه؟! وهل هذه هي أهمّ مصادر الفقه الإمامي؟! وهي تملأ المكتبات والأعين كثرةً وانتشاراً! والموقف عينه يلتزمه مع المذهب الزيدي ، فعلى الرغم من ذكره لكتاب « المجموع » للإمام زيد الشهيد ، لكنّه لم يعتمد شيئاً من مصادر الزيديّة في الفقه ، على كثرتها ، وأكثرها مطبوع متداول! إنّ موقف المؤلّف من المصادر والمؤلّفين ، وطريقة ذكرها ، يوحي بعدم وقوفه عليها مباشرة ، بل إنّما ينقل بواسطة مصادر اُخرى ، ولهذا وقع في هذه المجموعة من المفارقات الخاطئة ، فكيف يبقى وثوق بما ينقله ، حتّى النصوص المحدّدة؟! إمّا الأخطاء المطبعيّة ، فلا يحاسب عليها ، لأنّها ضرورية في الطباعة العربية ، من قبيل لزوم ما لا يلزم في القافية الشعرية ، لكن لا بأس بإيراد ما سجّلناه ، إسهاماً في التنبيه عليها ، وقد وضعنا التصحيح بين قوسين . ص42 : راجح ( رافع ) ص44 : عمر ( عمرو ) ص 53 : جبر ( جبير ) ص 63 : ميم ( نعيم ) ص 107 : يشوع ( يوشع ) ص 129 : نجران ( حرّان ) ص166 هامش 56 : الفاضل ( الفاصل ) . أمّا الأغلاط التي وقع فيها على أثر بعده عن الثقافة الإسلامية وتراثها ، فقد سجّلنا منها :
1 ـ ص 88 و 89 عند ذكر « آسية » امرأة فرعون التي ورد اسمها في قصّة موسى ، يحاول التنديد بالحديث ، فيقول : « أليست هي التي قال عنها القرآن أنّها راودت ( يوسف ) عن نفسه في الآيتين 23 و24 من سورة يوسف » . فيلاحظ أنّه قد اختلط عليه فرعون موسى ، وفرعون يوسف ، ولا يهتمّ المؤلّف لبعد العصرين ـ عصر موسى وعصر يوسف ـ ما دام يجد في تشابه الأسماء منفذاً يوصله إلى الطعن في الحديث ، إن لم يستهدف القرآن أيضاً!! 2 ـ في ص104 يقول : « قتل مع الحسين 72 رجلا من بني هاشم ، بينهم 17 رجلا من أولاد فاطمة » . وأعاد الكلام في ص75 فقال : « قتل فيها 72 رجلا من بني هاشم ـ اُسرة النبي ( صلى الله عليه وآله )ـ بينهم 16 رجلا من أولاد فاطمة » . والملاحظ : أنّ الشهداء في كربلاء 72 رجلا لم يكونوا من بني هاشم ، بل من سائر القبائل العربية ، والموالي ، أمّا من كان من بني هاشم فهم العدد الآخر 17 وفيهم عدد من أولاد فاطمة ( عليها السلام ) ، وليس كلّهم من أولادها!

الفصل الثالث مع مؤشّرات الهدف

1 ـ عقليّة تزييفيّة !

يحاول العلمانيّون أن يزيّفوا « حضارة الإسلام » وما يمتّ إليها من عقائد وشرائع ومصادر وتراث وتاريخ وماض وحاضر ، وأن يرسموا لها مستقبلا مظلماً موحشاً . لماذا كلّ هذا؟! إنّ المتعلّمين في جامعات « الغرب » 4 . وجدوا أنفسهم أمام حضارة مليئة بالمغريات وأسباب الرفاهيّة واللهو ، وجديدة في فكرها ، وخيالها وتقاليدها حتّى في المأكل والملبس . . . والحضارة الغربية ، مهما كانت قائمة على اُسس وقواعد ، أو لا قواعد ، ومهما كانت أهدافها شريفة أو مغرضة لئيمة ، وطرق تنفيذها صحيحة أو خاطئة ، فقد سار عليها الغربيّون ، وتربّوا عليها . وقد وجد الشرقيّون ـ والشباب المتعلّم في الغرب وعلى اُسسه وطريقته ـ لذّةً في هذا الجديد ، كما هي في كلّ جديد ، فاعتقدوا أنّ هذه الحضارة هي السبب في تقدّم الغرب علميّاً وتكنولوجيّاً ، وإزدهار العمارة والاقتصاد في الغرب ، وسرّ القوّة العسكرية الهائلة التي توصّل إليها ، ومن وراء ذلك كلّ التراتيب الإدارية والأمنية ، والنظام . . . و عاد الشرقيّون إلى أرض الشرق ـ وخاصّة الأوسط الذي تقطنه الغالبية المسلمة ـ ليروا كلّ المظاهر على خلاف ما في أرض الغرب ، و ليجدوا التخلّف و الغوغائية ، واللانظام في كلّ شيء ، فلم يشكّوا في أنّ سبب هذا التخلّف إنّما هو في « الحضارة الإسلامية » التي يلتزمها المسلمون و الديانة التي يعتقدون بها . و بدلا من أن يفكّروا في أسباب هذا الاختلاف بين الغرب والشرق ، بقراءة اُصول الفوارق بين الحضارتين « الشرقية و الغربية » و بهدوء العلماء ، و حياد المفكّرين ، و إرادة صادقة يلزم توفّرها في الحاكمين على قضايا هامّة تمسّ تاريخ الشعوب ، فإنّهم قرأوا كلّ شيء بنظّارات مصنوعة في « الغرب » و بموازين وزوايا وضعتها الجامعات الغربية التي تعلّموا فيها مناهج التفكير والدرس والتحقيق . و في قفزة نوعيّة أهملوا الموادّ الجاهزة للدراسة عن الحالة المتردّية في الاُمّة العربية بالذات ، والمسبّبة عن ما يجري اليوم وفي الأمس القريب في البلاد الإسلامية وعلى أيدي الغربيّين وعملائهم من إنتهاكات صارخة ضدّ الحضارة والفكر والتراث ، وضدّ « الإنسان » المفكّر أو ضدّ نواة كلّ إزدهار وتقدّم على أرض الشرق ، و عند أهل الشرق ! هذه المادّة التي نعيشها ، بمصادرها و ينابيعها و أسبابها و مسبّباتها و مكوّناتها و نتائجها ، بحيث يتيسّر لكلّ باحث ودارس أن يتوصّل بأيسر طريق و أسرعها ، إلى معرفة أسباب التردّي الحضاري الذي ابتليت به الاُمّة . فبدلا من هذا ، فإنّ العلمانيّين وجّهوا فوّهات دراساتهم وأسلحة تحقيقاتهم وجهودهم النقدية إلى « الإسلام » وتاريخه وتراثه ومصادر فكره ، واُصول عقيدته ، وفروع أحكامه وتشريعاته ، وأنظمة إدارته وقضائه وحكمه . زاعمين أنّهم يبحثون عن « سرّ تأخّر الاُمّة » في « وجود الإسلام » وتراثه ، وأنّه هو السبب في هذا التردّي الحضاري عند المسلمين ، وعند العرب خاصة ، والتدهور الخطر في عقلهم وعملهم وحياتهم وتاريخهم ، وأنّ السبب الأصلي في تأخّرهم عن ركب الحضارة الهادر ـ المتمثّل في الحضارة الغربية المعاصرة ـ هو التزامهم بهذا الدين ومصادره وطريقة تفكيره وتشريعاته! وفي بحوثهم ودراساتهم ، بدلا من أن يكون لهم وجدان العالم المحقّق والناقد الحيادي ، فإنّهم أسّسوها على إساءة الظنّ بكلّ ما هو شرقي أو يمتّ إلى هذا الدين بصلة ، فهم يقلبون كلّ ما فيه من حسنات إلى سيّئات ، أو ينسبون حسناته إلى جهات اُخرى ، بل يحاولون أن يتّهموه بما هو بريء منه ، من السيّئات والقبائح ، توصّلا إلى النتائج التي رسموها وقرّرها واتّفقوا عليها مسبقاً ، لتلك البحوث والدراسات . وفي انتهاج النقد ، بعقليّة تزييفيّة لكلّ شيء إسلامي ، تابعوا مواضع أقدام أساتذتهم في الجامعات الغربية ، من المستشرقين الذين بدأوا قبل أكثر من نصف قرن هذا المنهج ، حاملين عقليّة التزييف لكلّ ما هو إسلامي من فكر و شريعة ، حتّى التقاليد و الطباع . والفارق بين المؤسّسات الاستشراقية ، و التيّارات العلمانية ، أنّ الأُولى كان أفرادها يكتبون بلغات أجنبيّة بعيدة عن متناول الإدراك ، ومتناول الأيدي في الأرض الإسلامية ، إلاّ بعد ترجمة التلامذة لها إلى العربية . أمّا هؤلاء العلمانيّون فهم فخورون بأنّهم « عرب الألسن » يكتبون بلغة اُمّتهم! و يؤدّون الواجب بسهولة وسرعة ، و بكلّ صراحة ، و جسارة و شجاعة ! لأنّهم يعتبرون أنّ لهم الحقّ في التعبير والتدخّل في شؤون تمسّ حضارة اُمّتهم ، و إن كانوا يقومون مقام « البدلاء » عن المستشرقين والغربيّين ، و ينتهجون مناهجهم في التزييف لكلّ ما يمتّ إلى هذه الاُمّة من حضارة وتقاليد . وبينما كانت الاُمّة تنظر لما يصدره الغربيّون من دراسات متهجّمة على الإسلام وتراثه ، بعين الريبة والنقد ، فإنّ العلمانيّين يحاولون أن يعتبروا كلّ نقد موجّه إليهم « إرهاباً » ويتّهموا كلّ مفكّر يعارضهم بالاُصولية ، وامتلاك « العقلية التكفيرية » . و أمّا غوصهم في مستنقع « العقلية التزييفيّة » وقيامهم بعبادة الغرب ، وإنبهارهم بالحضارة الغربيّة ، و هجومهم على الاُمّة الإسلامية ودينها وحضارتها وتراثها وتقاليدها ، وبأساليب ساقطة و طرق تزويرية منحطّة ، فإنّ ذلك عندهم « حريّة فكريّة » و « منهج نقدي شجاع » و « حداثة » و « انفتاح »! ولسنا بصدد منعهم من انتهاج طريقة تفكير معيّنة ، حتّى لا نُتّهم بمصادرة حريّة التفكير ، و لا باحتكار المعرفة ، و لكنّا نتساءل : عن السبب في محاولتهم احتكار المعرفة ، وتزييفهم لكلّ قراءة لا تتّفق ورؤاهم ، حتّى لو كانت تمثّل الحقيقة المرّة في أذواقهم ؟! مع أنّ الغربيّين أنفسهم قد رسموا للبحث طرقاً ومناهج في التوثيق واستخدام المصادر ، وهي تعبر أوّليّة وضرورية لكلّ دراسة يراد لها القبول والرواج ، ويحاول فيها التوصّل إلى النتائج السليمة ، فلابدّ أن تساير الأساليب الوضعية المعترف بها ، و الأعراف المقبولة ، وليس من الشجاعة ، ولا الحرّية تقتضي أن يتجاوز الباحث هذه الطرق والمناهج ، ولو بدعوى القراءة للإسلام وتراثه ، وليس ذلك مدعاة للفخر و لا للزهو حتّى في مرأى الأسياد الغربيّين! إنّ تحكّم الروح الغربيّة وسيطرة العقليّة التزييفيّة على العلمانيّين ، سبّبا في أن يحاولوا دائماً إملاء النتائج المعيّنة ـ مسبقاً ـ على « الأدلّة » وتوجيه الأدلّة إلى النتائج المرسومة تلك ، وليس اتّباع الدليل حيثما يتوجّه ، وقبول ما يُرشد ، أو يتوصّل إليه . إنّ هذا الانقياد للمدلول على حساب الأدلّة ودلالتها القاطعة ، مرفوض عند كلّ من يفكّر بطريقة حياديّة و مجرّدة عن الأهواء . ولم تخل المؤلّفات التي تصدرها التيّارات العلمانية من الوقوع في وهدات من هذا القبيل ، ومن أمثلتها الحديثة كتاب « تدوين السنّة » لفوزي * الغرض : تزييف الشريعة! إنّ المحاولة الجادّة للدراسات العلمانية هي تطبيع الحضارة الإسلامية لأنماط الحادثة الغربية ، وليس هو العكس ، وهذا سبب الاعوجاج في المناهج التي تسير عليها محاولات العلمانية العربية بقناع البحث في الإسلام ، وقراءة مصادره ، وخطابه بصورة حديثة . وقد أعرب فوزي في مقدّمته عن غرضه : تزييف الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، باعتبارها غير قابلة للتطبيق ، وهذا الغرض رافقه على طول الكتاب ، وفي جميع أقسامه وفصوله حتّى الخاتمة في النهاية الأخيرة . وقد عدّه بعض النقّاد : « جسوراً و شجاعاً » و « ناقداً منهجيّاً » لأنّه لم يحاول أن يقدّم ما يبرّر هذا الغرض ، أو يحدّد أهدافه ، بل لأنّه « دخل بالقارئ مباشرةً في قلب المشكل الذي يتصدّى له » فهو يقول في أوّل صفحة من مقدّمته ، ص11 : « يعيش العالم الإسلامي في ضياع وقلق فكري ، وتمزّق إجتماعي ، وانقسام في صفوف الشعب الواحد ، بينما ينعم العالم الغربي ـ الذي سلك طريق العلم والحضارة والحرية الفكرية ، وتخلّص من رواسب الماضي ـ باستقرار فكري ، و ازدهار اقتصادي ، وتقدّم علمي ، في جميع مجالات الحياة » . إنّ افتخار العلمانية بما حقّقه الغرب من تقدّم ، وما يسمّونه « نعمة » على فرض صدق المقولة ، إنّما هو من قبيل افتخار العنّين بذَكَر أبيه ، أو العاقر بولد ضرّتها . وهنا نجد الخلط المتعمّد بين « العلم » و « الحريّة الفكرية » و « التقدّم العلمي » أمّا قوله : « في جميع مجالات الحياة » فهل يعلم أنّ الغربيّين أنفسهم يرفضون هذه الدعوى ، ويصرّحون بأنّ تقدّمهم العلمي والتكنولوجي إنّما كان على حساب الإنسانية والأخلاق والقيم! ثمّ ما المراد من « العالم الغربي »؟! هل هي النخبة الحاكمة في البلدان الغربية ـ سواء من بيدهم السلطان وأصحاب الكارتيلات ، ورؤوس الأموال والأسهم والبنوك والمصانع والشركات ، اُولئك المتمتّعون بكلّ مزايا الحياة المرفّهة؟! أو عامّة الشعوب الكادحة والأعداد المليونيّة العاطلة عن العمل ، أو الطبقة المحرومة من أبسط مستلزمات العيش ، كالمسكين؟! إنّ الحكم المطلق على الحياة في العالم الغربي بالحريّة والتقدّم . . . ، إنّما هو تمهيد لما يريده من الحكم على العالم الإسلامي بتزييف كلّ شيء! ومن دون أن يفرّق في حكمه على العالم الغربي بين الأغنياء والفقراء ، فإنّه في العالم الإسلامي ـ المنتمي إلى الإسلام كشريعة ـ يفرّق بين الاُصوليّين ، الذين ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وبين الجماهير الإسلامية ، فيعتبرهم « ليس لديها مفهوم واضح وجلي عن الشريعة الإسلامية » . فهل جماهير الشعوب الغربية لديها مفهوم واضح عن التشريعات الغربية ، أو المعطيات العلمية التي تقوم عليها؟! وبينما يوحي أنّ التشريعات الحديثة تقوم على « المعطيات العلمية » وعلى « المبادئ والاُسس » فهو يحاول أن يشوّه صورة الاُسس التي تبنى عليها الشريعة الإسلامية ، ويزيّفها ، ويجعلها مشتّةً ، وبعيدة عن أعين الجماهير المسلمة! فهل الاُسس والمبادئ ـ المدّعاة للتشريع الغربي أنّه يقوم عليها ـ معروضة أمام أعين الجماهير الغربية؟! وبينما هو يطلق عنان التمجيد والتخليد للشريعة الغربية ، يقول : « لقد وضعت الشريعة الإسلامية عن النطاق التاريخي للعصر الذي ظهرت فيه ، وهو عصر قبليّ ، ومن البديهيّ أن يحمل في طيّاتها كثيراً من سمات ذلك العصر ، لتتلاءم أحكامها مع حاجات الناس ـ القليلة والبدائية آنذاك ، ومع قدراتهم الفكرية والأخلاقية على إستيعابها و الأخذ بها » .
وهذا الكلام يوهم أنّ الشريعة الغربية خالدة ، ولم تنشأ في عصر معيّن ، ولا بيئة خاصّة ، ولم تسق في النطاق التأريخي للعصر الذي وضعت فيه! مع أنّا لو لاحظنا سرعة « التقدّم العلمي » الفائقة في هذا العصر ، لرأينا أنّ كلّ يوم يمضي على أهله فهو بمنزلة عقد ( 10 سنوات ) من الزمن الماضي ، فإذا كانت الإشكالية على الشريعة الإسلامية إنّما هي تقيّدها بنطاق تاريخي محدّد ، فكلّ ما يسنّه الغرب من شرائع فهو كذلك مقيّد بنطاقه الزمني ، ويصبح بعد فترة وجيزة تاريخيّاً بائداً ، بل إنّ التقدّم العلمي السريع يكشف عن أخطاء التشريعات ، بنفس الدرجة التي يتقدّم بها العلم والتكنولوجيا ، وبذلك لا تبقى الثقة مستمرّة بالتشريعات الغربية! فلماذا الدعوة الجادّة هذه إلى التزام التشريع الغربي ، على حساب الشريعة الإسلامية؟! أمّا إذا كانت ملاكات التشريع في الغرب ، هي « المصالح والمفاسد » البشرية ، فهي لابدّ أن تستقرّ ولا تكون عرضة للأهواء ، ولا تتأرجح بإرادات سلطوية ، تشرّع ما يحبّ أن يتغيّر ، لأنّ المصالح البشرية ثابتة ومستقرّة وهي عامّة لكلّ البشر لا تفرّق بين عنصر وعنصر ، ولا شعب وشعب ، ولا زمان وزمان ، ولا طائفة وطائفة ، وهذا هو ما ابتنيت الشريعة الإسلامية عليه ، لأنّها تتّبع إرادة السماء ، بعد الاعتقاد بوجود « الله » العالم بمصالح عباده وما يفسد وجودهم ، ولذلك فإنّ شريعة الإسلام ، هي « إلهيّة » قبل أن تكون « أرضيّة » و « دين الله لا يُقاس بالعقول » و « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » . هكذا يفكّر المسلمون ، ويلتزمون بشريعة الإسلام ، بعد أن وجدوا في هذا الدين الطريق الصالحة للحياة ، والشريعة الموافقة للعقل والعدل والوجدان ، والبعيدة عن الظلم والعدوان ، وبعد أن جرّبت الجماهير ـ طوال القرن الماضي وما سبقه ـ حضور الأنظمة المختلفة المستبدّة والقبلية والملكية والجمهورية الغربية ، وذاقت الأمّرين من النظم المدّعية للحريّة والتابعة للغرب ، ووضح لها فشل القوانين والدساتير المستلهمة من الغرب ، والتي طبّقت حرفيّاً في جميع الأرض الإسلامية ، فلم تجن الشعوب منها إلاّ البلاء والتخلّف الحضاري المشهود ، وقد وجدت الجماهير إلى الدعوة إلى تطبيق الإسلام الذي ميّزوا بكلّ وجودهم ما فيه من خير وبرّ وعدل . وإذا اعترف المؤلّف ( فوزي ) بأنّ الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في عصرنا تلقى الإستجابة من الطبقات الشعبية الإسلامية ، لأنّ هذه الدعوة قائمة على استغلال « المشاعر » ص25 . فهل فكّر : لماذا عادت هذه المشاعر المتروكة منذ مجيء الاستعمار إلى الأرض الإسلامية ، عادت إلى الحياة ، لتستغلّ من جديد؟! ولماذا يحاول العلمانيّون أن يفرّغوا الملايين من شعوب الاُمّة الإسلامية من « إرادتهم » و « رغبتهم » و « فكرهم » ويفرضونهم مستغلّين من قبل الآخرين ، والاُصوليين ـ مثلا ـ؟! ولِمَ لا يفرض مثل ذلك في الشعوب الأُوبيّة التي تتلاعب بعقولها ثلّة من ذوي الأطماع الفاسدة من اليهود والسياسيّين؟!

2 ـ تطبيق الشريعة يقظة حضارية

إنّ الملايين الشعبية التي صوّتت إلى جانب تطبيق الشريعة الإسلامية ليس هم الاُصوليّون ـ كما تحلو للعلمانية تسميتهم ـ وحدهم ، وإنّما هم الجماهير التي تسحق تحت أقدامها المعسكر العميل للغرب ، بل جنود الغرب ، وذيولهم يحملون أقلاماً مزيّفة يشوّهون صورة شعب كامل ، ويزيّفون عقله وإرادته . وإذا اعترف المؤلّف في ص14 بأنّ : « الحضارة الإسلامية قامت عندما كانت الشريعة قريبة من مفاهيم الناس ومداركهم ، وكافية لاستيعاب النموّ الاجتماعي » . فإنّ الناس هم اليوم ـ في كلّ الأرض الإسلامية والعربية ـ يقتربون من الإسلام ـ بعد فصل الاستعمار لهم عنه ـ ويعودون إليه ، لأنّهم وجدوه الأوفق بمداركهم ، والمؤمّن لحاجاتهم الإجتماعية ، ويطالبون الحكّام العملاء بتطبيق الشريعة الإسلامية ، بعد أن ذاقوا الأمّرين بالابتعاد عنها من القوانين والنظم المقرّرة في الغرب ، والتي فرضتها الدول الاستعمارية ، فلم تَجْنِ الشعوب والأرض الإسلامية منها إلاّ الخيبة والدمار والتخلّف في مجالات الحياة كلّها . ويوم دخل الاستعمار أرض الإسلام ، كان رتله الخامس المتخفّي هو الذي يدعو إلى رفض الإسلام وشريعته ، ويتّهمه بالتأخّر والجمود ويتبجّح بالتقدّم الغربي ، وقد تمكّن من ذلك بالقوّة العسكرية والتزوير من فرض إرادته وعملائه على الحكم في البلاد الإسلامية ، وإزواء الإسلام وتزييف عقيدة الناس به . و اليوم ، وبعد أن عرف الناس زيف ادّعاءات الغرب ، وزيف نظمه وتشريعاته ، جاء رتل العلمانيّين ، ليعيدوا الكرّة على الإسلام وتشريعاته ، باُسلوب « البحث والدراسة » وقد غفلوا من أنّ الناس ـ هذه المرّة ـ قد تسلّحوا بالتجربة المرّة من الغرب وتشريعاته ، ولن ينخدعوا بهذه الدعايات المغرضة ، وعمليات التزوير والتشويه لسمعة الدين والشريعة . إنّ الجماهير من الناس تعلم أنّ الحضارة الإسلامية ما انهارت إلاّ عندما تُرك العمل بشريعة الإسلام ، واتّهمت بالقِدم والتأريخيّة ، ولجأ المقنّنون العرب إلى الغرب يقتبسون من تشريعاته ، ليدسّوه في دساتير البلدان الإسلامية والعربية ، ويكفي إلقاء نظرة إلى قوانين البلدان العربية ليجد بُعدها عن الشريعة الإسلامية واعتمادها على القوانين الفرنسية والإنكليزية والأمريكية! فلماذا لم تفلح الدول العربية ، لو كان في النظم الغربية وتشريعاتها ، خير ، و علم ؟!
إنّ التخلّف والدمار اللذين باءت بهما المجتمعات الإسلامية ، إنّما هو من جرّاء الإلتزام بالنظم العميلة للغرب والقوانين الوضعيّة الغربية السارية المفعول في البلاد الإسلامية والعربية منذ أكثر من قرن . ولن تعود الاُمّة ثانية إلى تلك التجربة المرّة « فإنّ المؤمن لن يلدغ من جحر مرّتين » .

3 ـ شريعة الغرب ، و المبادئ و القيم !؟

لكنّ كلّ هذا ، ولا بعضه ، لا يحلو للعلمانيّين ، ومؤلّف كتاب « تدوين السنّة » يحاول هو أيضاً عرض « إشكاليات » عديدة على الشريعة الإسلامية ، فبعد ما نقلناه من مقدّمته ، يقول في خاتمته ص375 : « هذه هي الشريعة الإسلامية ، بسطناها بكلّ حياد و تجرّد [!!] فما الذي يصلح منها للتطبيق في عصرنا؟ » . ثمّ يدعو المسلمين الحريصين على التمسّك بالمبادئ الأساسيّة التي جاءت في القرآن الكريم إلى : « طرح المسائل الكشلية التي سقطت بتقدّم الإنسان في عصرنا ، و التقريب بينها و بين المبادئ التي نصّت على شريعة حقوق الإنسان ، والقائمة على المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل ، والتي تنبع جميعاً من قيم إنسانية وأخلاقية ، وليس في هذه المساواة ما يتنافى مع المبادئ الأساسيّة للشريعة الإسلامية » . وهذه الخاتمة الموجزة ( صفحة واحدة فقط! ) تجمع « كلّ الصيد في جوف الفرا » حيث أعطى غرضه بوضوح ، وهو الذي لم ينفكّ عنه في كلّ صفحات الكتاب ، ويتلخّص في : « إنّ التشريعات الغربية الحديثة ـ جميعاً ـ تعتمد القيم الإنسانية والأخلاقية ، فيجب إسقاط ما يتنافى من التشريعات الإسلامية مع التشريعات الحديثة »!
إنّه يفرّق بين التشريعات الغربيّة ـ فهي عنده تعتمد على القيم الإنسانية والأخلاقية ـ وبين التشريعات الإسلامية فيقول إنّها مقيّدة بالنطاق التاريخي في العصر الذي وضعت فيه! وقد عرفت زيف هذه التفرقة! أمّا عن « القيم » المزعومة ، التي يدّعي إعتماد التشريعات الغربية عليها : فهل يعترف الغرب ـ والعلمانيّون ـ بشيء اسمه « القيم »؟! فمن أمثلة ذلك ما ذكره المؤلّف في ص51 ، أنّ الحضارة الحديثة : « ألغت الرقّ في العالم ، واعتبرته جريمة إنسانية ، وأعلنت المساواة في الحقوق بين الناس ، وتتمثّل هذه المساواة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ألقى التمييز بين البشر ، وساوى في الحقوق بين المرأة والرجل » . نعم ، فإنّ هذا هو « الإعلان » لكن أين العمل والتطبيق؟! فلو أنّ الحضارة الغربية ألغت الرقّ في الإعلان ، فهل اُلغي الرقّ فعلا ، أم أنّ الأحرار أصبحوا هم رقيقاً للقوّة والثروة المكدّسة ، وعصابات المافيا ، وتجّار المخدّرات ، وهيمنة أجهزة الاستخبارات العالمية؟! وإذا اعتبروا الرقّ جريمة إنسانية ، يهابونها ، فلماذا لا يُقلعون عن الأكبر منها من الجرائم المروّعة ضدّ البشر في العالم ، بل ضدّ الموجودات الكونيّة الاُخرى؟! وإذا كان « الإعلان العالمي لحقوق الإنسان » ـ مجرّد « إعلان » فقط طبعاً ـ قد ألغى التمييز بين البشر ، فلماذا التمييز العنصري بين السود و البيض في كلّ العالم الغربي ، و خاصّة أمريكا ؟! و في مقرّ الاُمم المتّحدة بالذات!!؟ وما هو موقف العلمانيّين ، لو علموا أنّ « البشر » في مصطلح أهل الإعلان العالمي ، هو الاُوربيّون ، فقط ؟!
و ماذا لو قال الغربيّون إنّ « حقوق الإنسان » تعمّ « الحيوان » الاُوربّي ، ولا تشمل الشرقيّين لأنّهم « وحوش » ؟! و أمّا المساواة بين الرجل والمرأة ، فهل كان في صالح الرجل ؟! أو في صالح المرأة ؟! أو في صالح الشهوات الاُوربيّة التي أرادت تعرية ( المرأة ) من كلّ الحقوق ، حتّى اللباس والحجاب؟! وألف سؤال وسؤال ، تظلّ بلا جواب ، عن تلك الحقوق المزيّفة! إنّ العلمانيّين يتغافلون عن كلّ هذه الحقائق التي تعيشها البشرية ، وبالإمكان الإجابة عنها بوضوح وبسهولة ، ووجدان الأجوبة في ما تسير إليه البشرية من الوحشية والفقر والظلم ، في ظلّ « الإعلان العالمي لحقوق الإنسان » الذي يستغلّه الغرب لصالحه ، وضدّ كلّ من يريد التخلّص من هيمنته وسطوته وجبروته . إنّ العلمانيّين ، يتعامون عمّا يجري في العالم ـ في هذا العصر ـ ويحاولون أن يبحثوا عن « إشكاليات الشريعة الإسلامية » بغرض تزييفها في أنظار الجماهير الإسلامية ، ودعوتهم إلى « التشريعات الغربية » لكنّ الجماهير المسلمة أبصر بالحياة من هؤلاء المنبهرين بتعاليم الغرب . وأمّا دعاواهم باعتماد الشريعة الغربية على القيم الإنسانية والأخلاقية ، فلا نريد الدخول في مناقشته تفصيلا ، ولا يخفى زيفها على أيّ إنسان في هذا العالم المفتوح على الجميع ، فإلقاء نظرة على الحياة العابثة التي تجري في شواطئ أُوروبّا وأمريكا ، والعواصم السائرة في ركب حضارة الغرب ، وفي نواديه ، وباراته ، وحتّى في حدائقه العامّة ، وأمام أعين الناس جميعاً ، من انتهاك لأدنى المبادئ الإنسانيّة ، والكرامة البشريّة ، وتجاوز لأوّليّات القيم الأخلاقية ، كاف لإثبات ذلك . ومصادقة أُسقف كنتربري ـ في إنكلترا ـ على قانون « اللواط » وزواج الذكور من الذكور ، حتّى أصبح قانوناً وشريعة في الغرب ، في الستّينات ، ولا يزال يروّج ويتّسع نطاق العمل به بصورة بشعة ومقرفة في الغرب المتحضّر ، هو واحد من مآسي التشريعات الغربية ، المبتنية على القيم! وهذا في صالح المرأة ، طبعاً! ولقد عرضت الأقمار الصناعية ـ هذه الأيّام ـ صورة الزنجي الأمريكي الذي أمر الحاكم في محكمة أمريكيّة ، بتكميم فمّه في المحكمة بشريط لاصق! وهذا أيضاً يمثّل واحداً آخر من حقوق الإنسان ، والمساواة بين الأبيض الحاكم ، والأسود المحكوم ، وواحد من القيم التي يبتني عليها التشريع الغربي! وأمّا قصف هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرّية ، وفجائع حروب فيتنام ، وتدمير العراب في حرب النفط ، ودعم الصرب المسيحيّين في البوسنة ضدّ المسلمين ـ على الرغم من كونهم اُوربيّين أيضاً ـ وحماية إسرائيل المعتدية على العرب والسكوت عن جرائمها البشعة ، فهي صور اُخرى من « قيم الغرب الأخلاقية ومبادئه الإنسانية » وتطبيقه لحقوق الإنسان ، والمساواة بين البشر! إنّ الجماهير الإسلامية والشعوب الشرقية أعرف بأخلاق الغرب وأهدافه وتشريعاته ، التي جرّت الويلات على العالم ، وقد ذاقوا الأمّرين من هذا الغرب المتحضّر وأسلحته وجنوده وعملائه ، هم أعرف من هؤلاء المستأجرين الذين يحملون الأقلام الغربية ، وينظرون إلى الاُمور بالنظّارات الغربية ، ويحاولون الخداع والمكر بالاُمّة ، بعنوان « الدراسات المعاصرة » و « النقد الحرّ » وما إلى ذلك من العناوين المزيّفة ، والمليئة بالدجل . إنّ محاولات العلمانيّين العابثة إنّما تغرّ اُولئك الذين يبتعدون عن الشارع وعن السوق وعن ميادين إجتماع الجماهير ، بل يحصرون حضورهم في نوادي اللهو ، و مؤتمرات الخيانة ، واللقاءات السياسيّة العامّة والخاصّة ، والتي تفصلها عن الجماهير الحِراب والأسنّة ، وأشكال تسريحاتهم ، وملابسهم ، ومآكلهم ومشاربهم ، و سيرتهم و أخلاقهم ! و هم ما داموا يلبسون على أعينهم النظّارات التي صنعتها لهم الجامعات الغربية ، التي تعلّموا فيها أساليب البحث والدرس على المنهج الغربي ، والتي تريهم الجماهير والشعوب بالمنظار والفكر الغربي ، فلا يمكنهم الحضور في ساحات عمل هذه الجماهير ، وما داموا لم يحضروا فإنّهم بعيدون عن كلّ حقيقة وواقع ، فلا يقتربون بدراساتهم وبحوثهم ونقدهم خطوة منها ، لأنّها ليست أمراً يدرك إلاّ بالحضور في ساحة المجتمع ، وهم لا يقرأون ولا يكتبون إلاّ نتاجات تُملى عليهم من أساتذتهم من خيالات وأوهام وتزييفات غربية ، مليئة بالحقد والدجل ، والعلمانيّون يعيدون كتابة تلك باللغة العربية ، فهم ليسوا إلاّ أبواقاً مصطنعة لنداءات الغرب ، ينعقون بنهيقه وضمن محاولاته السياسيّة لصدّ الصحوة الإسلامية المتنامية .

4 ـ إشكاليّات الشريعة الإسلامية

و بينما كان الغربيّون يذكرون ما يتصوّرونه « إشكالات » في الإسلام شريعةً وعقيدةً ومصادر وتراثاً وتاريخاً ، ولا يبتّون بشيء ، بل يدافع بعضهم آراء بعض في متاهات تناقض مفضوح ، فإنّ « البدلاء » العلمانيّين ، الذين يزعمون أنّهم « عرب » التزموا بتلك الاحتمالات والفرضيات ، كنظريات قطعيّة يروّجون لها ، ويؤكّدون عليها . وقد جمعنا فيما يلي ما جاء منها في كتاب « تدوين السنّة » لنجد مفارقاتها وملاحظاتنا عليها .

5 ـ موقف العلمانية من السنّة النبويّة

يعترف المؤلّف في ص24 : « أنّ هذه الشريعة تستمدّ معظم أحكامها من السنّة » .
لكنّه يقول : « إنّ الملابسات التي تعرّضت لها في العصر الإسلامي الأوّل ، والخلافات التي قامت حول تدوينها ، و حول ما دوّن منها ، أضعفت من قيمتها التشريعيّة ، و قدرتها على جمع كلمة المسلمين حول شريعة واحدة غير مختلف عليها مضافاً إلى السلبيات الاُخرى التي ذكرناها ، والتي تجعلها واهية عن الوفاء بالحاجات الإجتماعية لعصرنا » . إذا كانت « السنّة » حجّة معترفاً بها على الأحكام ، في مجملها ، فلن تكون الخلافات في الخصوصيات موجبة لرفع اليد عن حجّيتها بقول مطلق ، ومحاولة إسقاطها وحذف مهمّتها الأساسيّة ، بل إنّ وجود الخلافات يدعو إلى اتّخاذ أدوات وقائيّة بدقّة أكبر لتحديد ما يجب توافره للتأكّد من « السنّة » . فليس وجود الخلافات مؤدّياً إلى تضعيف قيمة السنّة; بل مؤدٍّ إلى التثبّت والتأكّد من وجودها . وأمّا الجمع بين كلمة المسلمين ، فلم تتخلّف إلاّ من فعل المسلمين وتركهم للعمل بالشريعة ، وبعدهم من مصادر الإسلام وفكره ، وكذا العوامل الخارجية التي عرضت في تاريخهم ، وفعل الاستعمار البغيض والغرب الحاقد ، ببثّ بذور الفُرقة والخلاف بينهم ، وليس من فعل هذا المصدر أو ذاك حتّى يشكّك في حجّيته ، وهذا القرآن ـ وهو لا ريب فيه ـ ولا يمكن حتّى للمؤلّف التشكيك في حجّيته وقيمته التشريعيّة ، فهل يقال في حقّه إنّه لم يكن قادراً على جمع كلمة المسلمين على شريعة واحدة ، فالعجز ليس في السنّة كما ليس هو في القرآن ، وإنّما في المسلمين الذين يدّعون الإنتماء إلى هذا الدين . إنّ تخلّف اُمّة ما عن العمل بالقانون ، أو التكاسل عن تطبيقه ، أو القصور في فهمه ، أو التقصير في العمل به ، ليس من عيب القانون نفسه ، كما أنّ عدم معرفة سياقة السيارة المجهّزة ، ليس من عيب السيارة ، بل من جهل السائق .
إنّ عرض مثل هذه الإشكالات يدلّ على مرض في قلب المؤلّف يريد أن يبثّه بأيّ شكل !

6 ـ بين القرآن و السنّة

يحاول المؤلّف أن يكون « قرآنياً » يحافظ على اتّباع القرآن في تشريعاته ، ولكنّه يؤكّد على ضرب السنّة بسيف القرآن ، تلك المحاولة التي بدأها أوّل القرآنيّين بمقولة « حسبنا كتاب الله » و استمرّت عليها سياسة الخلافة الاُمويّة ، وأبرزتها في « صفّين » برفع المصاحف على رؤوس الرماح ، وروّجها روّاد الرتل الخامس للإستعمار الغربي ، في الهند ، وباكستان ، وفي مصر بدعوة : « الإسلام هو القرآن وحده » . فيقول فيى ص20 عن أحاديث الآحاد : « ولم يأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكتابتها مثلما كتب القرآن من قبل كتّاب الوحي ، ولم يعلن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذا القسم من الشريعة على عامّة المسلمين مثلما كانت تعلن آيات القرآن . فالقرآن عندما كانت تنزل آياته كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتلوها في المسجد أو في مكان عام على ملأ من المسلمين ، فكان الصحابة يتلقّونها ويكتبونها ويحفظونها ويتلونها في صلواتهم ، أمّا السنّة فإنّها لم تلق مثل هذه العناية وذلك الإهتمام » . لكن هل ترضى العلمانية عن ( إبراهيم فوزي ) ما لم يتّبع ملّتهم في نفي كلّ المقدّسات ، سواءاً كانت قرآناً أم سنّة؟ وهل يقنعون منه أن ينفي صفة « الوحي » عن السنّة فقط وتبقى الصفة للقرآن؟ إذن كيف يفعلون مع قول القرآن عن النبي ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ 5 ؟! فلذلك لا يرضون إلاّ بنفي وجود « الوحي » . إنّ الإلتفاف على السنّة ، ولو بسلاح « القرآن » لا يرضي « العقليّة التزييفية » المسيطرة على التيّارات العلمانية أبداً . فهذا حامد نصر أبو زيد ، على الرغم من تثمينه لكتاب فوزي ، ونفخه في جلده ، إلاّ أنّه يعارض تقديسه لتشريعات القرآن ، فيقول ( مجلّة الناقد ، العدد 73 ، ص11 ) : « ماذا عن النصوص التشريعيّة في النصّ القرآني ، هل هي نصوص تاريخية قابلة للإنفتاح ، أم أنّها نصوص قطعيّة الدلالة أبدية لا يجوز الخروج عن منطوقها الحرفي؟ هذا المفهوم الأخير غائب تماماً في تحليل المؤلّف ، ومن ثمّ غابت عنه مسألة : الإشكاليات الكامنة في النصوص التشريعيّة القرآنية »!!

7 ـ السنّة الفعليّة و حجيّتها على حساب القوليّة

اُطلقت « السنّة » في المصطلح الإسلامي على ما جاء عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) خارج النصّ القرآني ، وقد عبّر عن كلّ تشريع كان مصدره الرسول بالسنّة ، وعمّم هذا المصطلح على ما قاله الرسول ، وما فلعه ، وما قرّر عليه الآخرين بسكوته الكاشف عن رضاه ، وأجمع المسلمون أنّ ما قاله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) هو سنّة ، وعارض بعض في كون ما فعله كذلك ، باعتبار أنّه بشر تصدر منه الأفعال العادية من دون أن تكون لها صفة التشريع! لكن ذلك غير صحيح ، فمضافاً إلى أنّ اسم « السنّة » يطلق على الطريقة التي وضع للاقتداء والاتّباع ، وما أتى به الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من فعل لا يكون إلاّ حسناً قابلا لذلك ، فإنّ الفعل والعمل أقوى دلالة على الإرادة من مجرّد القول ، فإذا فعل شيئاً فإنّه قد أحبّه لنفسه ، ونسبته إليه أوضح من مجرّد القول من دون العمل ، فالسنّة الفعليّة أيضاً حجّة ، يجب اتّباعها والاستنان بها . أمّا المؤلّف فقد أبدى رأياً غريباً حين جعل السنّة الفعليّة حجّة قطعيّة ، وشكّك في القولية ، حيث قال في ص20 : « أمّا العبادات فقد تعلّمها الناس من النبي ( صلى الله عليه وآله )حال حياته وتناقلوها عنه بالتواتر جيلا بعد جيل ، ولم يتعلّموها من الكتب ، ولم يكن في بداية الإسلام ثمّة حاجة لتدوينها ، فقد كانت الممارسة الفعليّة تقوم مقام كتابتها ، ولذلك لم يقع الكذب فيها ، ولم يقع خلاف على صحّتها إلاّ ما ندر » . وأضاف : « أمّا المعاملات فقد جاءت على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشكل أحاديث أفاردية أطلقوا عليها اسم ( أحاديث الآحاد ) » . وهكذا حاول فوزي التأكيد على السنّة الفعليّة وحجيّتها على حساب السنّة القوليّة .

8 ـ أخبار الآحاد

ويؤكّد المؤلّف على أنّ التشريعات المعاملاتية تبتني على « أحاديث الآحاد » وهي غير قابلة لإثبات التشريع بها فيقول في ص23 : « إنّ أحاديث الآحاد . . لا تشكّل من وجهة القواعد التشريعيّة تشريعاً عامّاً لجميع المسلمين ، لأنّ من أبسط الشروط في كلّ تشريع ـ قديماً وحديثاً ـ هو إعلانه على الناس لكي يلتزموا به ويعملوا بأحكامه ، وإنّ الإسرار به إلى شخص أو شخصين على انفراد لا يعطيه صفة التشريع العامّ الملزم لجميع الناس ، ولذلك كانت أحاديث الآحاد ، وحول جواز الأخذ بها منذ عهد الصحابة موضع خلاف بين الفقهاء ، وتعتبر أحاديث ( الآحاد ) عند أغلب الفقهاء أحاديث ظنّية ، وهي لا ترقى إلى مرتبة اليقين بصحّتها » . إنّ البحث عن حجيّة أحاديث الآحاد قد وقع في علم اُصول الفقه ـ المعدّ للبحث عن مصادر التشريع ـ بشكل واسع ومستوعب لكلّ جوانبه ، وليس في ما أورده جديد يذكر ، وقد التزم الشيعة منذ القدم بعدم حجيّة الخبر الواحد ، وأنّه لا يفيد علماً ولا يوجب عملا ، والمحقّقون من أعلام الشيعة الاُصوليون إنّما يلتزمون بالأخبار المتواترة ، ثمّ المعتضدة بالشهرة العمليّة على طبقها ، وبهذا تخرج أخبار الآحاد إلى مرحلة الإعلان العامّ الذي هو ضروري في كلّ تشريع . وأمّا الأخبار الواردة حول التشريعات ـ سواء في العبادات أو المعاملات ـ فلم تخرج عن هذا الأصل إلاّ نادراً ، فلم يدوّن في المصادر الحديثيّة إلاّ ما كان عليه العمل العاضد لكونه مصدراً للتشريع ، بعكس ما يريد أن يصوّره المؤلّف تماماً .

9 ـ نقد المتن

وممّا ذكره المؤلّف من السلبيّات على السنّة هو « نقد الحديث من جهة المتن » ففي ص241 أورد ما أثاره أحمد أمين المصري في « فجر الإسلام » من : « أنّ العلماء اعتنوا بنقد الإسناد أكثر ممّا عنوا بنقد المتن ، فقلّ [حسب تعبيره] أن تظفر بنقد من ناحية ما نسب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . . . ولم نظفر منهم في هذا الباب بعشر معشار ما عنوا به في جرح الرجال وتعديلهم » . وعلى الرغم من إشارة أحمد أمين إلى وجود نقد المتن عند علماء الحديث ـ ولو أنّه قلّل من شأنه ـ إلاّ أنّ المؤلّف لم يحاول أن يبحث عن قواعد ذلك ، بل ركّز على تشويه صورة السنّة باعتبار توجّه هذا النقد إليها ، وسرد أمثلة للنقد العقلي لمتون أحاديث ، وليس هو منفرداً في ذكرها ونقدها ، بل قد نقد العلماء هذه المجموعة واُخرى أكبر منها عند بحثهم عن نقد المتن ، ولكنّ هذه المجموعة لا تشكّل عقبة أمام الحديث ، ولا تؤدّي إلى تضعيف موقع السنّة في الحجيّة والمصدرية للتشريع كما يحاول أن يوحي المؤلّف . وأمّا نقد المتن فقد تعرّض له العلماء في علوم عديدة وتحت عناوين منها علم الدراية ومصطلح الحديث بعنوان ( الحديث المعلّل ) وفي ( علم الحديث ) بعنوان ( إختلاف الحديث ) وفي علم اُصول الفقه بعنوان ( تعارض الأدلّة والحديثين المتعارضين ) . ويبذل الفقهاء جهوداً واسعة في الجمع بين الأخبار المختلفة الدلالة ، للتخلّص من التنافي بينها ، أو الترجيح حسب الطرق المقرّرة في اُصول الفقه ، ومن خلال هذه البحوث يمكن إستخلاص القواعد المضبوطة لنقد المتن ، والتوثيق الداخلي للأحاديث ، بعد الفراغ من البحوث السندية . فأيّن أحمد أمين ومن لفّ لفّه من هذه الذخيرة العلمية ، وهذه الجهود الجبّارة المبذولة من أجل صيانة السنّة ممّا يشينها؟! حتّى يخوضوا في تيّارها الزاخر ، ويحاولوا بدراساتهم الضحلة ، القدح فيها؟!!

10 ـ بين العبادات و المعاملات

وممّا أثاره السلبيّات التي ذكرها للشريعة ، وكرّره في مناسبات عديدة قوله في ص16 : « إنّ رجال الفقه الإسلامي جمعوا بين العبادات و المعاملات ، و كوّنوا منهما شريعة واحدة ، هي الشريعة الإسلامية ، وصبغوها بصبغة دينيّة ضيّقة ، ذات أبعاد محدودة ، غير قابلة للتغيير والتبديل حسب مقتضى تطوّر المجتمع و نموّه » . وجعل السبب في إختلاف التشريع بين المذاهب : « إنّ السنّة شملت العبادات والمعاملات على حدّ سواء » . وأضاف : « أمّا العبادات فقد تعلّمها الناس من النبي ( صلى الله عليه وآله ) حال حياته ، وتناقلوها عنه بالتواتر ، جيلا بعد جيل ، ولم يتعلّموها من الكتب ، ولم تكن في بداية الإسلام ثمّة حاجة لتدوينها ، فقد كانت الممارسة الفعليّة تقوم مقام كتابتها ، ولذلك لم يقع الكذب فيها ، ولم يقع خلاف على صحّتها إلاّ ما ندر » . وأضاف : « أمّا المعاملات فقد جاءت على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشكل أحاديث أفرادية أطلقوا عليها أحاديث الآحاد ، وهي التي رواها صحابي واحد ، قال إنّه سمعها من النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على انفراد ، ولم يرو على لسان صحابي آخر إلاّ القليل منها ، ولم يأمر النبي ( صلى الله عليه وآله )بكتابتها مثلما كتب القرآن من قبل كُتّاب الوحي ، ولم يعلن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذا القسم من الشريعة على عامّة المسلمين مثلما كانت تعلين آيات القرآن » . و يقول في ص21 : « ولم تنشر هذه الأحاديث بين الناس في حياته ، فقد رويت معظم أحكام المعاملات بعد وفاته ، وبعضها روي بعد وفاة الصحابي الذي سمعها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) » . و يقول في ص124 : « المعاملات هي الأحكام أو التشريعات التي تنظّم العلاقات بين الناس وهي علاقات متغيّرة ومتبدّلة تبعاً لتغيّر المجتمع وتبدّل المصالح » . ومع وضوح خطئه في أصل دعواه بالنسبة إلى العبادات ، وعدم وقوع الخلاف في صحّة أحكامها ، وعدم وقوع الكذب في أخبارها ، فإنّ وقوع الخلاف في العبادات بين المذاهب ، بل بين المذهب الواحد أمر لا ينكر ، فهذه « البسملة » قد وقع النزاع في قرآنيّتها ، وجزئيّتها للسور كلّها ، أو للحمد فقط ، وجواز قراءتها في الصلاة أو وجوبها ، وفي جهريّتها أو أخفاتها ، مع وضوح كتابتها في المصحف وإجماع المسلمين على تلاوتها .
وهذا الوضوء ، مع أنّه عمل يقام به في اليوم أكثر من مرّة ، فقد اختلفوا في كيفيّته ، و في المسح للأرجل أو غسلها ، وفي مقدار مسح الرأس ، وللأحاديث المختلقة والمختلفة دور كبير في وقوع ذلك . فإنّ مجمل ما ذكره المؤلّف في التفرقة بين العبادة والمعاملة ، وما ذكره من أمثلة الأحكام المعاملية والإشكاليات التي تصوّرها فيها ، يدلّ على أنّه بعيد كلّ البعد عن مصادر الفقه الإسلامي ، وبالأخصّ الفقه الشيعي ، فليس من الفقهاء المسلمين من لم يفرّق بين العبادات والمعاملات ، فالشهيد الأوّل من علماء الشيعة الاثني عشرية ، فرّق بينهما بأنّ الغرض من العبادة هي الآخرة ، بينما الغرض من المعاملة هي الدنيا . لكنّ الشرع قد حدّد لكلّ منهما اُصولا وقواعد وتراتيب وشروطاً ، ومعرفة كلّ ذلك متوقّف على البلوغ بالطرق الشرعيّة المعتمدة المقرّرة كأدلّة في اُصول الفقه ، ولا فرق بين العبادة والمعاملة في ذلك ، إلاّ أنّ الأحكام والاُمور المتعلّقة بالعبادة كلّها تعبّدية محضة ، لكن ما يرتبط بالمعاملات فقد علّقها الشارع على مصالح العباد ومفاسدهم ، و لكن تدخّل في تحديد بعض المصالح والمفاسد بالتعبّديات ، فما كان حلالا شرعاً فلابدّ أن يكون للخلق فيه مصلحة ، وما كان حراماً ففيه مفسدة ، وإن لم يدرك الناس ذلك . أمّا ما سوى ذلك ممّا لم يرد من الشرع الكريم فيه حكم بالحرمة ، فهو على أصالة الحلّية شرعاً ، فيبقى شرط أن يكون فيه منفعة مقصودة للعقلاء وممّا يبذلون بإزائه مالا ، وإلاّ فأكل المال بين الناس بالطرق الملتوية ، سواء كانت بعقود مزيّفة أو عهود ظالمة ، أو بدفع ما لا قيمة له ولا مالية ، فهو منهيّ عنه شرعاً ، فتداول الثروة وإنتقالها لابدّ أن يبتني على هذه الاُسس الشرعية ، وهذا لا يتنافي أن تكون المصالح والمفاسد تتغيّر ، وتتبعها الأحكام فعندما لم يتقدّم الطبّ ، لم يكن للدم النجس أيّة منفعة متصوّرة ، وبما أنّ تناوله وشربه حرام ، فإنّ الفقهاء حرّموا بيعه ، وأمّا في العصر الحديث فبما أنّ الانتفاع به أصبح شيئاً متعارفاً بل وضرورياً للحياة أحياناً ، فبيعه حلال وليس دفع الثمن عليه بطريقة الباطل ، وإن كانت الإستفادة في الأكل منه لا تزال حراماً . وهكذا يدخل « القصد العقلائي » في شرعيّة المعاملة في الإسلام ، فأين المؤلّف من هذه الحقائق التي هي أوّلية في الفقه الإسلامي ، حتّى راح يهرّج ويناور بما ذكره من الأمثلة التي قد أنهكها فقهاء الإسلام في كتبهم المفصّلة وموسوعاتهم الفقهيّة بحثاً وتنقيباً ، إلاّ أنّه تتبّع بعض المذاهب الشاذّة والأقوال النادرة وجمع منها مجموعة ضئيلة ، وراح يهرّج ويزمّر ، زاعماً أنّه قد توصّل إلى شيء جديد ، مع أنّه قد ترك الآراء السديدة ، والمناهج القيّمة في نفس هذه المسائل التي ذكرها ، وليس ذلك إلاّ قصوراً منه لتناول الفقه ، أو تعمّداً منه للتوصّل إلى غرضه في « تزييف الشريعة »! ولذلك ، فإنّنا أعرضنا عن متابعة ما جاء في القسم الثالث من كتابه والذي شحنه بمثل هذه التّرهات حول بعض المسائل الفقهيّة ، إعتماداً على ما جاء في المصادر الأساسيّة ، مع أنّ أكثر ما ذكره من الإشكالات إنّما تعتمد على آرائه التي عدّها إنتقاداً للسنّة ، وقد أفصحنا عن وجوه تناقضها ، فلا تبقى لما أورده أهميّة تحتاج إلى صرف الجهد في تفنيدها .

11 ـ نظام الحكم في الإسلام

يؤكّد المؤلّف على أنّ الدين الإسلامي خال من أيّ تشريع يحدّد النظام لإدارة البلاد وحكم العباد ، ويحاول أن يوحي بأنّ الحكم الذي كان في البلاد الإسلامية طيلة القرون ، إنّما هو حكم إسلامي . فهو يقول في ص14 : « لقد كان الحكم في الإسلام ـ على توالي العصور ـ يقوم على الحكم الفردي الاستبدادي المطلق ، القائم على إدارة فرد واحد هو الخليفة ، أو الإمام ، أو السلطان ، والذي لا يعلو عليه إمام ولا سلطان ، ولا تقوم إلى جانبه هيئة أو جماعة لها صفة شرعية تقاسمه الحكم أو تسدي إليه المشورة والنصح في إدارة شؤون الدولة ، ولم يعرف المسلمون الحكم الشعبي . وقد خلت الشريعة الإسلامية من أي تشريع يتعلّق بنظام الحكم في الإسلام سوى آية الشورى ، وقد تجنّب رجال الفقه الإسلامي البحث في هذه الشورى ، وفي أيّ بحث يتعلّق بنظام الحكم في الإسلام ، لما له من مساس بسلطة الخليفة المطلقة » . إنّ هذه الإشكالية تعتمد على ثلاثة اُسس : الأوّل : الخلط بين الحكم في الإسلام كدين وشريعة ، والحكم في تاريخ المسلمين كواقع . الثاني : التغاضي عن وجود معارضة مستمرّة لأنظمة الحكم التي كانت سائدة في البلاد الإسلامية ، منذ وفاة الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) وحتّى عصرنا الحاضر ، على طول التاريخ . الثالث : الجهل بالتراث الإسلامي الضخم الذي خصّ بالبحث والدراسات موضوع « نظام الحكم والإدارة في الإسلام » . أمّا في الناحية الاُولى : فإنّ الاعتماد على مجريات تاريخ المسلمين ، وما حدث في القرون التالية ، وحمل كلّ ذلك على دين الإسلام وشريعته فهذا من أبشع أنواع التحريف المتعمّد في الدراسات التي تكتبها العلمانية ، ويشيعها الغرب ، بحيث تحمّل مسؤولية ما في هذه الأدوار كلّها على الإسلام ، ويحاسب بذلك المسلمون المتديّنون به . بينما التفريق بين السلطة التي تفرضها الشريعة الإسلامية ، وبين السلطة التي سيطرت باسم الدين ، أمر لا يخفى على أيّ دارس في الحضارة الإسلامية ، وعارف بالتاريخ الإسلامي ، فإذا كان للدين سلطة عليا يجب على المسلمين طاعتها ، فهذا شيء ، أمّا أن تكون هذه السلطة بيد الحكّام الذين حكموا ـ فعلا ـ البلاد الإسلامية ، فهذا شيء آخر ، والتاريخ الماثل لا يقوم إلاّ على أساس ضبط ما هو الحادث من تسلّط مجموعة من الناس باسم الدين ، وأمّا السلطة التي يفرضها الدين ، وقرّرت لها الشريعة اُصولا ، وطرقاً وأحكاماً ، فلها واقع آخر غير ما حدث وكان . و يحاول العلمانيون أن يوحوا بأنّ الموجود والمقروء من التأريخ هو الذي يمثّل حقيقة سلطة الدين ، إذ بعد تفريغهم للدين من أيّ نظام صالح للإدارة والحكم ، تبقى هذه السلطة بيد المسيطرين على دفّة الحكم فهم المستفيد الوحيد من كلّ صلاحيات سلطة الدين ، والأنظمة الحاكمة هي تقلّب الاُمور إلى « دين وتشريع » و تستفيد منها ، بدعة لتفرضها فتكون حقّاً ثابتاً في الشريعة ، وحتّى لو فرض وجود سلطة للدين ، فإنّها في هذا الإطار لا يمكن تحقّقها ، بل تفقد حيويّتها ومصداقيّتها للنظام الصحيح ، عند الجماهير . وهذا الإيحاء فيه تعمّد إلى إلغاء وعي الجماهير ، وفصلها عن كلّ من الدين وفهمه ، و من السلطة والإدارة . و لكن لو كان للدين سلطة ، ولو في بطون الكتب ، وواقع المعرفة الدينيّة ، وما دام وعي الجماهير كافياً للوقوف أمام كلّ سبل التأطير للدين وإستغلال سلطته ، وتوظيف اسمه وأفكاره في سبيل الأطماع السلطوية ، فهذا واقع ودليل حيّ على إمكان إحياء سلطة الدين ؟! فلماذا يحاول العلمانيّون ، أن يغمضوا أعينهم عن ذلك الأمر الواقع ، ويحاولون إنكاره وتزييفه؟! ولماذا يريدون أن يفرّغوا الجماهير من كلّ وعي ومعرفة وإدراك للإسلام ، ويفرضوا عليه حتميّات دبّرت بليل من قبل الغرب وعملائه؟! ولماذا يصطفّون اليوم إلى جانب النظم السياسيّة الراهنة ، في مواجهة المدّ الإسلامي ، والصحوة الدينيّة لدى الجماهير المنادية بتطبيق الشريعة الإسلامية؟! ووصفها بـ« الاُصولية » كاتّهام وقذف؟! مع أنّ الجماهير المقذوفة ـ من قبل العلمانية ـ بالجهل والقصور عن درك مفهوم السلطة في الإسلام ، هم يعلمون بأنّ النظم الحاكمة في بلاد الإسلام لا تعترف بأيّة خطوة اُصولية ، بل هي في محاربة مستمرّة لها بكلّ أشكال القمع والإرهاب ، بدعم من الحضارة الغربية ، ومساعدة من العلمانية وتزييفها وعبثها بالتراث واُصوله ومصادره . وأمّا الناحية الثانية : فإنّ المؤلّف أغفل المعارضة التي قامت ضدّ أنظمة الحكم في التاريخ الإسلامي منذ البداية وحتّى اليوم ، فإنّ المعارضة السياسية لكلّ حاكم أو خليفة أو سلطان أو ملك أو رئيس أو أمير ، لم تزل تشكّل جزءاً مهمّاً من تاريخ المسلمين ، ولها آراؤها ، وتراثها ، وثوراتها ، وحتّى الدول التي أقاموها على أساس من نظام الحكم فيها ، فكيف يتغاضى المؤلّف عن الثورات العلوية العديدة ، ووجهات نظرها التي بسطوها في عهودهم إلى المسلمين ، والتي تُعدّ كلّ واحدة منها نظاماً جاهزاً متكاملا لأشكال الحكومة في الإسلام؟! وهل يتجاهل المؤلّف « عهد الإمام علي ( عليه السلام ) لمالك الأشتر » الذي يعدّ وثيقة غنيّة وقيّمة لهذا النوع من الإدارة؟! وهو النصّ الموجود أمام المؤلّف فوزي ، لأنّه يراجع « نهج البلاغة » في كتابه مكرّراً ، فهو من مصادره؟! إنّ حركات المعارضة التي عاصرت الحكومات الإسلامية ، أثبتت وجود نظام للإسلام في الحكم والإدارة ، غير الذي جرى ويجري على أرض الإسلام ، وقد أعلنوها ثورات دموية لم تجفّ دماؤها ، وأوضحوا أُطروحاتهم في عهودهم التي نشروها وأظهروها للمسلمين . ولئن تمكّنت السلطات من القضاء عليها ، وإخماد ثوراتهم في زمنها وخنق أصواتهم ، وإبادة تراثهم ، فإنّهم لم يتمكّنوا من محو آثارهم وذكرهم ، بل بقيت دلالات في صفحات التاريخ تدلّ على عظمة الأعمال التي قاموا بها والنظرية التي بنوا عليها جهادهم . كما إنّ العلمانية اليوم ، ورغم تناسيها وتغافلها عن كلّ تلك الجهود ، فإنّا لا تتمكّن من طمس آثارها ، وتجاهلها . وأمّا موقفه من التراث ، فيكفي لإثبات ذلك كلامه السابق ، حيث نفى فيه وجود ما يدلّ على أنّ للإسلام نظاماً في الحكم والإدارة ، بينما مئات المؤلّفات والبحوث والدراسات ، قد كتبت واُلّفت حول هذا الموضوع ، وقد احتوت على عشرات الأدلّة الشرعية الخاصة به ، كما استوعبت هذه المادّة صفحات عديدة من كتب الفقه الإسلامي قديماً وحديثاً ، وقد رصد صديقنا الاُستاذ الشيخ عبدالجبّار الرفاعي قائمة لهذا الموضوع الهامّ في موسوعة « مصادر النظام الإسلامي » وقد طبع باسم : مصادر الدراسة عن الدولة والسياسة في الإسلام ، يحتوي على أكثر من 3000 عنوان بحث ودراسة وكتاب حول الموضوع . فهل يعقل جهل المؤلّف فوزي بكلّ هذا؟! مع أنّه يتظاهر بالمعرفة لأنّه دخل في معمعة بحث « تدوين السنّة » الحسّاس؟!

12 ـ السلطة التشريعيّة في الإسلام

ويؤكّد المؤلّف في عرض سلبيّات الحضارة الإسلامية ، على : « أنّ المجتمع الإسلامي كان ـ على توالي العصور ـ خالياً عن السلطة التشريعيّة اللازمة » . فيكرّر التأكيد في ص12 على : « غياب السلطة التشريعيّة في المجتمع الإسلامي » . وعلى الرغم من التفاته إلى وجود عنصر تشريعي هامّ في الحضارة الإسلامية ، وهو « الاجتهاد » فإنّه يحاول الإلتفات على هذا العنصر فيقول في ص15 : « لقد نشأ عن غياب السلطة التشريعيّة في المجتمع الإسلامي أن حلّ الإجتهاد محلّ هذه السلطة ، لاستنباط أحكام للمسائل التي لم تنصّ عليها الشريعة » . وحاول تزييف الاجتهاد بدعواه أنّ : « رجال الفقه الاسلامي لم يحصروا حقّ الإجتهاد بفرد أو جماعة ، وإنّما أعطوا لكلّ مسلم حقّ الإجتهاد ، دون أن يكون لإجتهاد أحد صفة الإلزام لأحد آخر » . وجعل الإجتهاد سبباً للإختلاف في قوله : « قد إختلفت الإجتهادات وتشرذم الناس حولها بسبب الصفة الدينيّة التي اُعطيت لها ، ونشأ من إختلافها قيام المذاهب الفقهيّة التي تحوّلت إلى مذاهب دينيّة طائفيّة » . إنّ هذا الإشكال يعتمد على : 1 ـ عدم تحديد « الإجتهاد » فإذا كان هو « بذل الجهد وإستفراغه للوصول إلى الحجّة على ما يجب على المسلم فعله ، من خلال الأدلّة والمثبتات الشرعيّة » فمعنى ذلك أنّ « المجتهدين » هم يشكّلون هيئة المشرّعين ، الذين يحدّدون القوانين التي تعتبر تشريعاً في المجتمع الإسلامي . فالإجتهاد إنّما هو طريقة عمل السلطة التشريعيّة ، لا أنّه ينشأ من غياب السلطة التشريعيّة كما يوحيه . . أليست السلطة التشريعيّة في بلاد الغرب لا تتكوّن إلاّ من مجموعة من العارفين بالقانون والدستور ، يتداولون الاُمور ، ويقرّرون التشريع النهائي اللازم العمل به؟! إنّ « العقليّة التزييفيّة » المسيطرة على « التيّارات العلمانية » تمنعها من رؤية الحقيقة ، كما هي ، وتبعثها على تشويه ما يمتّ إلى الإسلام حتّى لو كان « جيّداً » فالإجتهاد في الحضارة الإسلامية يُعدّ من أرقى المناهج المتّبعة في التشريع ومبنيّ على أقوى اُسس المنطق السليم ، لكن يأبى المؤلّف إلاّ أن يجعل منه أمراً سيّئاً ، فيحاول أن يجعل « عدم حصر الإجتهاد بفرد أو أفراد » نقطة ضعف ، بينما هي أكبر نقطة قوّة في نظام التشريع الإسلامي ، إذ تعني أنّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع الإمكانية في التطلّع إلى هذا المقام ، إذا أمكن أن يحقّق لنفسه قابلية الإجتهاد وتمكّن من أن يتوصّل بالجدّ والدراسة إلى مرتبة علمية تؤهّله لذلك ، فليس الإجتهاد « تمراً » أو « سندويجاً » يأكله الفرد ، وإنّما هو بحاجة إلى متابعة ومثابرة حتّى تحصل ملَكته في عقله ونفسه . فهل القانون الغربي يمنع أيّ فرد أن يدرس القانون ويترقّى في مدارج المدارس القانونية ، حتّى يترشح إلى المجلس التشريعي ويصير مشرّعاً؟! أو أنّ السلطة التشريعية ـ مثل أيّة سلطة اُخرى ـ محصورة في الغرب على أفراد معيّنين من طبقة معيّنة موصوفة لا تتعدّاها؟! نعم ، الإسلام لم يحصر الإجتهاد في شخص أو جماعة ، وهذه مفخرة في النظام الإسلامي ، فلا تتكوّن سلطته التشريعيّة من ثلّة من المتحزّبين في إطار وضعي معيّن ، ولا يتّبعون أهواءاً خاصّة ، بل جعل صفة « الإجتهاد » ومعرفة الأحكام من أدلّتها ملاكاً لقابلية الدخول ضمن السلطة التشريعيّة ، فهل هذا نقص حتّى يعرضه المؤلّف ضمن ما يتصوّره على الحضارة الإسلامية من « سلبيّات »؟! وأمّا أنّ الإجتهاد ليست له صفة الإلزام ، فهذا جهل ببحوث هذا الموضوع الهامّ في علم التشريع الإسلامي ، فالإجتهاد المتوصّل إليه ملزم لنفس المجتهد بلا نزاع ، ولمن يرى ذلك المجتهد أعلم من المجتهدين الآخرين ، وبالنسبة إلى الموضوعات العامّة التي ترتبط بإدارة الشؤون الحكومية ، فإنّ الإلزام حتميّ فيما إذا كان المجتهد الحاكم قائماً بالأمر ، بعد موافقة أهل الخبرة من المجتهدين ـ أصحاب السلطة التشريعيّة ـ وتعيّنه « وليّاً للأمر » ويكون حكمه نافذاً ، بعد ثبوت اجتهاده ، وموافقته للاُصول المقرّرة وعدم مخالفته للدستور الأساسي للشريعة ، ولا يجوز الردّ عليه حتّى من مجتهد آخر .
إنّ إغضاء المؤلّف عن كلّ هذه الحقائق ، وطرحه للإجتهاد كأنّه تمرّ يؤكل ، ليس إلاّ مبتنياً على غرضه في تزييفه وتهوين أمره . وأمّا أنّ الإجتهادت اختلفت ، وتشرذم الناس ، فهل أنّ البرلمانات في البلدان الغربية ـ ذات الحضارة الواحدة ـ لم تختلف ، ولم تختلف شعوبها ، في كلّ بلد حول برلمانه ، ولم تختلف تشريعاتها حسب تعدّد برلماناتها؟! وهل لهم « تشريع » واحد؟! ثمّ إنّ الإختلاف في المذهب الفقهي ، إنّما هو ناشئ من إختلاف وجهة النظر والفهم للمصادر ، وهو يتّبع إختلاف المنهج المذهبي في تحديد تلك المصادر ومدى حجّيتها ، وليس العكس كما يريده المؤلّف . فلو اتّحدت الكلمة ، واتّفقت الرؤية إلى اُصول الدين ، واُصول الفقه ، لما تعدّدت المذاهب الفقهيّة أصلا ، إلاّ بصورة ضئيلة . فليس الإجتهاد سبباً في وجود المذاهب الطائفية ، بل المذاهب الطائفية والرؤى الفكرية المتعدّدة هي السبب في إختلاف المذاهب الفقهيّة حسب مصادر الإجتهاد عندها .

13 ـ البديل الثقافي

ليست أيّة حضارة معصومةً من الأخطاء والعقبات التي تعترض طريقها مهما كانت الاُسس والنظريات المبنية عليها رصينة ومحكمة ، وحتّى تلك المستلهمة من السنن والشرائع الإلهيّة ، لما هو واضح من عدم عصمة الناس القائمين على عملية التطبيق ، وما يدخل في خلال ذلك من أهواء ورغبات ، أو أخطاء وتصرّفات تستند إلى السهو ، لكنّ الهجوم على حضارة ما ـ مهما كانت ـ وتخطئتها بالجملة ، وبصورة مطلقة ، والتركيز على سلبيّاتها ، والتغاضي عن إيجابيّاتها أمر مخالف لأبسط قواعد العدل والحكمة ، ومناف للنظرة الحياديّة التي يجب أن يتمتّع بهما الباحث الحيادي .
لكنّ الذين استهدفوا الإسلام في عصرنا لم ينصفوه في أيّ جانب ، لا في ماضيه ولا حاضره ، ولا في عقيدته ولا شريعته ، ولا في تاريخه ولا ثقافته ولا تراثه ، بل تراهم يشنّون الغارة تلو الاُخرى على كلّ ما يمتّ إليه ، وهذا هو دليل واضح على « العقليّة التزييفيّة » التي تسيطر عليهم ، وقد جعلت غشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم ، وفي قلوبهم مرضاً هو التشكيك في كلّ شيء إسلامي! ومع أنّ المؤرّخين الغربيّين يشهدون بأنّ الإسلام إنّما جاء في عصر الظلم والظلمات الجاهلية ، ليهب للأرض العدل والنور ، وينقذ البشرية من ورطات الوحشية والجهل والرذيلة ، فوهب لها الرحمة والعلم والفضيلة ، حتّى أصبح الشعب المسلم يحمل مشاعل الهدى ولخير والعلم ولقرون عديدة ، ومع هذا فإنّ العلمانيّين الجدد يتجاوزون هذه الحقيقة ، وبكلّ جسارة ووقاحة ، ويركّزون على السلبيات التي ابتليت بها الاُمّة الإسلامية وعلى يد شراذم ممّن دخلوا التاريخ بالتزوير ، فلا يمثّلون الإسلام في أيّ عنصر من إيجابيّاته ، ولكنّ العلمانية تركّز على هذه الأمثلة المشوّهة لتشويه صورة الإسلام والاُمّة الإسلامية ، وتسكت عن الأمثلة الرائعة التي تزخر بها الحضارة الإسلامية في الحكم والعلم والأخلاق . ومن أطوار تزييفهم مقارنتهم بين « التقدّم التكنولوجي » و « الثقافة الإسلامية » مع أنّهما من مقولتين ، لا يمكن المقارنة بينهما ، فالثقافة الإسلامية لابدّ أن تقاس بالثقافة الغربية المعاصرة ، حتّى يتبيّن ما بينهما من التفاوت ، أمّا التقدّم العلمي والتكنولوجي فلا يكون دليلا على التفوّق الثقافي والفكري ، بقدر ما هو دليل على المثابرة على العمل وإستغلال الظروف والإمكانات ، بينما ظلّت الاُمّة الإسلامية ، وبفعل الغربيّين المستعمرين وعملائهم الحكّام في المنطقة ، بعيدة عن كلّ إمكانات العمل الجادّ ، بل سدّ أبواب الإبداع والإختراع على الشعب المسلم ، ومواجهة المبتكرين بالإستهانة ، وحتّى التحقير والقتل والتشريد ، ممّا اضطرّ العقول الشرقية إلى الهجرة إلى الغرب لتوفّر الإمكانات هناك ، وتقديرهم لكلّ عقل متتبّع مبدع ، واحتضانه إلى حدّ قطع ولائه عن أهله ووطنه وإنتمائه إلى شعبه ودينه! أمّا بعد الحرّية النسبيّة التي حصلت عليها البلدان الإسلامية ، فإنّ التقدّم العلمي والتكنولوجي يتحقّق بسرعة فائقة على أيدي أبناء المسلمين ، وإنّ إبداعاتهم تزهو ، وصناعتهم تزدهر بشكل فائق ، ولكن هل تسمح الدول الإستعمارية لها بمثل ذلك ، كلاّ ، فإنّها تحاول بشتّى الصور والإتّهامات صدّها وإيقاف كلّ محاولة من هذا القبيل ، ولو بشنّ الحرب ، وقصف المعامل والمصانع بأطنان القنابل ، كما حدث بالنسبة إلى العراق ، أو تسعى لفرض الحصار الإقتصادي أو العزلة السياسيّة لقطع السبل عن وصول البلدان الإسلامية إلى هذا الهدف ، كما تقوم بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية في ايران . إنّ محاولة المؤلّف تعتمد أساساً تضحيل الثقافة الإسلامية والإستهانة بها ، وتشويه صورة التاريخ الإسلامي ، مقدّمة للطعن في السنّة ، التي هي عماد التشريع الإسلامي ، فسرد مجموعة ممّا تصوّره « سلبيات » و « إشكاليات » لكنّها ضحلة لا تعتمد على المنطق السليم ، ولا النقل الصحيح ، ولا الإستنتاج الصائب ، ومع ذلك فقد حشّد في كتابه ـ بمناسبة ولا مناسبة ـ قضايا ووقائع تاريخيّة ، وتحدّث عنها بشكل يبدو « صائباً » فيها . إنّ وجود فجوات عميقة في التاريخ الإسلامي ، تخدش في الموروث الإسلامي اعزيز ، وتنجرّ سلبياته على سمعة الدين والعقيدة والشريعة ، ممّا لا يمكن إنكاره ، ولكن على ماذا تدلّ؟! وبماذا تعالج؟! وكيف تعرض؟! ولماذا تعرض؟! إنّ المسلمين ـ عامّة ـ يعتقدون بالدين الإسلامي واُصوله الأساسيّة وهي التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، على أساس الإستلهام من القرآن والنبي ، ولهم مشتركات تجمعهم هي الكعبة ، وصوم شهر رمضان ، والصلاة اليومية ، والزكاة ، ولم يختلف إثنان من المسلمين في شيء من هذه « الثوابت » المسلّمة وقد اختلفوا في معرفة أشياء اُخرى من الإسلام ومعارفه ممّا يشكّل الفروع العمليّة ، وإنّ ذلك نشأ من إختلافهم في طرق الإثبات ـ كمّاً وكيفاً ـ بما لا يشكّل أبداً عقبة في وحدتهم وإنتمائهم الديني ، ولا في اُخوّتهم الإسلامية . فطائفة كبيرة من المسلمين التزمت بأهل بيت النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) مرشدين لهم ، و أئمّة يعرّفونهم أحكام الدين ، ويهتدون بهديهم في السيرة والخُلُق والعمل ، لأنّهم خلفاء الرسول الذين نصبهم أئمّة للاُمّة ، وأمر بالتمسّك بهم للنجاة من الضلال ، و التخلّص من الإنحراف عن الإسلام . وطائفة اُخرى تمسّكت بسنّة الصحابة لفرضهم مرشدين اُمناء على هذا الدين ، وقد كانت هذه الطائفة الأكثر عدداً ، والأقوى يداً ، وقد كانت السلطة على طول التاريخ بأيديهم وأيدي من وقف معهم في هذا الطريق . ومع أنّ الصحابة ، لم يقل أحد بعصمتهم من الأخطاء والإنحرافات ، لا عقيديّاً ولا فكرياً ولا عملياً ، فإنّهم أصبحوا في نظر الطائفة المتمسّكة بهم طرقاً إلى الدين ، من خلالهم تصل أحكامه وتفسّر آياته وتعرف سيرته ، فلابدّ أن يوثّقوا و يلتزم برأيهم ـ أيّاً كانوا ومهما كان فعلهم ـ ولأنّهم يمثّلون المسلمين الأوّلين القائمين بأمر الإسلام ، فلابدّ أن نلتزم بهم ، فإنّ التشكيك في هؤلاء يعني التشكيك في نفس الإسلام ومسلّماته ، وإنّ رفض الصحابة ، والتجاسر عليهم ، والاعتراض على سيرة أحدهم يساوي رفض الدين كلّه ، والكفر بالإسلام من أصله والمساس بالمعتقدات الأساسية الثابتة كلّها . ومهما كانت أسباب هذه الفكرة و دوافعها ، و منشأ وجودها في أنظار هذه الطائفة ، و لماذا يساوون بين الصحابة والإسلام ، فإنّ ثمارها واضحة ، فإنّ الحكّام الذين حكموا التاريخ الإسلامي قد استغلّوا هذه الفكرة لتبرير كلّ ما يصدر منهم من مخالفات ، و حصّنوا أنفسهم ضدّ كلّ خارج أو معترض ، وضدّ كلّ محاسبة أو مساءلة ، فلذلك بقيت الطبقة الحاكمة آمنة مطمئنّة من أن يثور عليهم عامّة المسلمين . أمّا الشيعة ، الذين لم يلتزموا بهذه الفكرة ، ولم يلتزموا بما فرّعوا عليها ، فإنّهم التزموا بالاُصول الإسلامية الثابتة ، واعتمدوا على أهل البيت النبويّ طريقاً إلى معرفة أحكام الإسلام ، ولم يسكتوا عن التصرّفات التي كان الحكّام والاُمراء والولاة يقومون بها متجاوزين أحكاماً ثابتة في الدين ، ولم يعترفوا لهم بحقّ في التعدّي على حقوق الله وحقوق الناس ، وكان في مقدّمة هؤلاء أئمّة أهل البيت أنفسهم الذين تولّوا أمر الدين ، وهم : فاطمة الزهراء ، وعلي أمير المؤمنين والحسن والحسين سبطا رسول الله ، والأئمّة الآخرون ، وكذلك العلويّون الذين نذروا أنفسهم للتصدّي للمخالفات والخروج عن أحكام الدين . بينما عامّة الناس من الطائفة الاُخرى تحافظ على عقائدهم الأساسيّة بالإسلام ، وإنّما يجدون هم في الإلتزام بسنّة الصحابة طريقاً لتلك المحافظة ، ويعدّون تصرّفات الخلفاء ـ الذين يمثّلون الحكومة الإسلامية ـ اُموراً وقتية ، وتصرّفات خاصّة ، تزول وتفنى ، ولا يبقى سوى الإسلام باُصوله وشموخه وعظمته ، وقد دأب المنظّرون التابعون للسلطات في توجيه تلك التصرّفات بغرز أفكار إنحرافية مثل : الإرجاء ، والجبر ، والتذرّع بالإجتهاد والرأي ، وغير ذلك من الأفكار الإنحرافية التي تقنع الناس ، وتمنعهم من التحرّك للإصلاح ، ومن أخطر ما بثّوه : كفر المعارضة ، وخروجها عن الدين ووجوب التصدّي لها باسم الإسلام . وفي نفس الوقت كان المؤمنون بالإسلام في اُصوله الثابتة ومسلّماته الأساسيّة يعارضون كلّ التصرّفات ويفنّدون الأفكار الموجّهة لها ، لكنّهم يعرضون البديل الحقّ والمتين والصادق ، وهم أئمّة أهل البيت وتوجيهاتهم الرائدة وفقههم الناصع العادل ، وسيرتهم المجيدة وبذلك كانت تتبخّر جهود المضلّلين بتكفير المعارضة ، وكيف تكفّر طائفة يقودها أئمّة أهل البيت النبويّ؟! وتسوقها إرشاداتهم القيّمة العادلة؟! إنّ الشيعة لمّا عارضوا ما لم يوافق الحقّ من التصرّفات المريبة والخارجة عن حدود الشريعة ومسلّماتها ، والسيرة الفاسدة التي قام اُناس باسم الخلافة والحكومة الإسلامية ، لم يزيّفوا إلاّ أعمال هؤلاء ، وكانت معارضتهم من أجل المحافظة على الإسلام واُصوله ، وجاؤا ببديل أوثق وأتقى وهم أهل البيت ( عليهم السلام ) . فإذا عرضوا إشكالات التاريخ الإسلامي ، ومخالفات الخلفاء والاُمراء ، فإنّما هو بهدف توجيه العامّة من الناس إلى الحقّ الصحيح ممّا جاء به الإسلام في أحكامه وفروعه وسيرته وتشريعه ، وتنبيههم إلى أنّ الصحبة للنبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إنّما تكون فضيلة ـ وما أعظمها ـ إذا لم تقترن بمخالفته فيما جاء به من اُصول وفروع وسيرة ، وأنّ الصحابة الطيّبين الذين لم يخالفوا النبي في شيء من ذلك وبقوا إلى آخر الخطّ على هديه وسيرته كثيرون ، لكن من خرج منهم عن السيرة الإسلامية والنبوية فلا أبقى لنفسه كرامة ، وليس له عند الله ورسوله والمؤمنين حرمة . ولا يجوز لأحد أن يعتدي على أحد منهم ما لم يثبت تعدّيه هو على الإسلام . فالمهمّ لكلّ مسلم الحفاظ على الإسلام واُصوله وهديه ، وليس لأحد حقّ على حساب كرامة الإسلام مهما كان ، خليفة أو صحابياً أو سلطاناً أو أميراً . وأمّا العلمانيّون ـ ومنهم المؤلّف ـ فإنّهم يستغلّون السلبيّات التي وقعت في التاريخ الإسلامي وعلى أيدي رجال من الصحابة وغيرهم ، لضرب أصل الإسلام وتشويه صورته وتزييف تشريعاته ، ووسيلة إلى ضرب السنّة التي هي مصدرها . وإستخدامهم لهذا إنّما هو من قبيل « كلمة حقّ يراد بها باطل » فوقوع تلك المخالفات أمر ثابت ، لكنّ المسؤول عنها إنّما هو القائمون بها ، لا الإسلام ولا السنّة ولا التشريعات المعتمدة عليها . فليست المخالفات سبباً للهجوم على الدين بقدر ما هي وسيلة لتوجيه عامّة المسلمين وتصحيح مسارهم ، وهديهم إلى الإسلام الحقّ والصحيح . إنّ محاولة ضرب الدين بتصرّفات السلاطين ، إنّما هو الهدف الذي أراده السلاطين الفاسدون أنفسهم ، أمثال معاوية والحجّاج وخلفاء بني اُميّة وبني العبّاس وآل عثمان ، و من تلاهم من قوّاد وملوك ورؤساء الدول الإسلامية في هذا العصر . ثمّ إنّ العلمانية التي تستهدف ضرب الإسلام بعرض هذه القضايا ، فإنّما تفرّغ ساحة العالم الإسلامي من أيّة ثقافة أو حضارة ، لتدعو إلى إستبدالها بالحضارة الغربية الحديثة ، فإذا زيّفت الشريعة الإسلامية ، فلابدّ من تبنّي الشريعة الغربية ، وبذلك تتحقّق مآرب عملاء الغرب في تضحيل الحضارة الإسلامية ، وتعظيم حضارة الغرب المادّية محلّها . وفي نفس الوقت فإنّ العلمانية تكون ـ بعملها اللئيم هذا ـ قد أسقطت الأوراق التاريخيّة من أيدي الباحثين الذين يعرضون مآسي التاريخ الإسلامي ، لدعوة الناس إلى الإسلام ، فإنّ عملهم ـ وهو يحاولون تزييف الإسلام به ـ يجعلهم في نظر عامّة الناس ، من المعارضين للإسلام . ويجرّون معهم ، كلّ من يحاول فهم التاريخ بصورة صحيحة إلى قفص الإتّهام بالمعارضة للإسلام وتزييف شريعته! وهذا في نفسه مكسب للعلمانية ، أن تبدّد مساعي الإصلاح في العالم الإسلامي ، إن لم تحظ بمأربها الأوّل على الأقلّ .
ولكن إذا كانت العلمانية فاشلة في أساليبها لتزييف الشريعة ، فهي في هذه المحاولة أكثر فضلا .

كلمة الختام

فكتاب « تدوين السنّة » لإبراهيم فوزي ، في « عنوانه » ومؤدّاه ، وفي « غرضه » ومؤشّراته ، قد بسطنا ما عليه من الملاحظات ، إذ لم يلتزم باستخدام العنوان بشكل صحيح ، ولا أدّى حقّ العنوان بصورة علمية حياديّة مجرّدة ، بل عرض له منحازاً وبصورة غير موضوعيّة ، ممّا يثير التساؤل حول صحّة النتائج التي توصّل إليها ، كما إنّه لم يتّبع منهج التوثيق المعترف به علميّاً ، فكانت معاملته مع المصادر بشكل قلق يثير الريبة في صحّة منقولاته وتماميّتها . وأمّا هدفه فقد تلخّص في « تزييف الشريعة الإسلامية » و السعي في إيحاء عدم إمكان تطبيقها ، وقد إستولت هذه الروح التزييفيّة على عقل المؤلّف وقلمه ، في كلّ صفحات الكتاب ، فراح يتابع الإشكاليّات على السنّة التي تعتمد عليها الشريعة الإسلامية ، وبينما نجده يعمّم بعض هذه الإشكاليات على السنّة ، لكنّه يخصّ قسم المعاملات من الشريعة بالإستهداف ، فجعلها مركزاً للإشكاليات ، وتبلورت عندها النتيجة التي طلبها من كتابه كلّه ، وهي تزييف الشريعة وإبعادها عن حيّز التطبيق ، وداعياً إلى إستبدالها بالشريعة الغربية الحديثة ، حيث راح يمجّد بها ويزمّر لها بأنّها تتّفق والمبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية . ونحن في القسم الآخر من قراءتنا هذه تصدّينا لإشكاليّاته على السنّة ، ففنّدناها و أثبتنا خلوّها من الصحّة والدقّة ، وعدم مطابقتها لواقع الحال في ما تصوّره عن السنّة المعتمدة في الفقه ، وإنّما خلطه في الهجوم على الإسلام بين اُصوله وأحكامه و بين ما توصّل إليه الناس وجعلوه إسلاماً أو تصوّروه أصلا أو حكماً ، وأنّ المفارقات التي قرأها وعدّدها لا تحمل إلاّ على تاريخ المسلمين وليس هو يمسّ الإسلام بشيء ، و إنّما هو صورة خاطئة في أذهان اُولئك الناس كما هو في ذهن المؤلّف ومن لفّ لفّه من العلمانيّين .
ثمّ إنّ البدين الثقافي الذي اقترحه المؤلّف لا يمكن أن يكون هو الشريعة الجارية في الحضارة الغربية المعاصرة ، لفراغها و تنافيها مع أبسط القيم والمبادئ البشرية وسقوطها و خروجها عن أبسط قواعد المنطق والعدل ، وإنّ تظاهر الغربيّين بدعوى حقوق الإنسان ، والحرّية ، و المساواة بين البشر ، وبين المرأة والرجل ، ليس إلاّ إعلاناً يستخدمونه ضدّ الأديان والشعوب الشرقية ، لتضحيل ثقافاتهم ، و تفريغهم من شرائعهم و اُصول حضاراتهم المبتنية على التقاليد والأعراف الخاصّة بهم ، ودفعهم إلى التبعية الحضارية للغرب المستهتر بالقيم والمبادئ ، و حقوق الإنسان والرجل والمرأة ، والمعتمد على القوّة و الإكراه و السطو و القهر . إنّ العلمانيّين ـ بمثل ما قام به المؤلّف ـ ليسوا إلاّ أبواقاً مزيّفة مأجورة للدعاية الغربية ، و أيد عميلة للحضارة الغربية في تزييف الإسلام و عقيدته وشريعته ، يقومون بما قام به المستشرقون من قبل باسم الدراسات العلمية والجامعية ، و ما قام به الرتل الخامس من أعمال تخريبية ضدّ الشعوب الاُخرى ، و لكن بلسان عربي ، و بأقلام عربية ، بدعوى صلتهم بالإسلام من خلال دراسة مصادره وتراثه و فكره و شريعته ، و ما هم إلاّ أجانب بُعداء عن هذا الشعب وهذا الدين وهذا التراث . إنّ قراءتنا هذه أثبتت زيف كلّ هذه الدعاوى الباطلة ، بالحياد والتجرّد و معرفة التراث الإسلامي ، بهدف تزييفه و نقده و دراسته! وبعد ، فكيف تمنح جائزة المعرض الدولي للكتاب في مدينة أبي ظبيّ في الأمارات العربية ، لهذا الكتاب الذي يحتوي على هذه الأهداف ويتيح في ضرب السنّة النبويّة وتزييفها بهذه الأساليب؟ ألم يقرأ المشرفون على المعرض الدولي للكتاب في ابو ظبي؟ وكذلك الذين انتخبوا هذا الكتاب للفوز بجائزتها ، هذا الكتاب؟ أو لم يقفوا على أهدافه؟ أو أنّهم عرفوا كلّ ذلك لكنّهم قصدوا أن يضربوا به السنّة النبويّة التي هي أساس الإسلام؟ انّ صدور مثل هذا الكتاب في أوساط المسلمين ، وقيام اللا مسؤليين بترويجه ونشره وتشجيع كاتبه بهذا الاُسلوب ممّا يؤكّد على المسلمين لزوم التمسّك بالسنّة الشريفة الثابتة والعَضّ عليها بالنواجذ ، وليعلموا أنّ ما استهدفه الكفّار وعملاؤهم العلمانيون والحكّام السائرون في ركب الغرب وما تهجّموا عليه من تراث أو عقيدة أو عمل أو تاريخ أو رأي ، أو من هاجموه من شخصيّة أو علم أو أثر أو عادة ، فإنّما يهاجمونه لكونه حقّاً وصدقاً ولا يريدون من نفيه إلاّ أن يُحرمونا من خيره وصلاحه وبرّه ، كما يهاجمون قرآننا و سنننا و رسولنا و أئمّتنا وعلمائنا و مجاهدينا فلابدّ أن نحذر دعواهم .
﴿ ... وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ 6 .

  • 1. كتاب « تدوين السنّة » تأليف « إبراهيم فوزي » نشر : رياض الريّس للكتب و النشر ـ الطبعة الاُولى ـ كانون الثاني / يناير 1994 ـ لندن .
  • 2. تدوين السنّة الشريفة : 190 ـ 195 .
  • 3. في كتابنا « إجازة الحديث » الذي نعدّه للنشر بعون الله تعالى .
  • 4. لا نخصّ بهذه الكلمة المؤسّسات في العالم الغربي ، بل تعمّ الجامعات في البلدان الإسلاميّة ، والعربية خاصّة ـ في مجملها ـ لكون مناهج دراساتها و مفردات فصولها موافقة للغرب ، حتّى لو اختلفت في السبل والأدوات ، كاللغة ـ مثلا ـ .
  • 5. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 3 و 4 ، الصفحة : 526 .
  • 6. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 237 .