الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

غزوة دومة الجندل

إيضاحات

1 ـ دومة الجندل : مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال ، وتبعد عن المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة . وهي بقرب تبوك 1 .
وقيل : دومة الجندل : اسم حصن 2 .
2 ـ صاحب دومة الجندل هو أكيدر بن عبد الملك الكندي ، وهو يدين بالنصرانية ، وهو في طاعة هرقل ملك الروم 3 .
3 ـ هذه الغزوة أول غزوات النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الروم 4 .
4 ـ قال المقدسي عن سنة خمس من الهجرة : «وهي سنة الزلازل» 5 .

تاريخ هذه الغزوة

صرح البعض : بأن دومة الجندل كانت في أواخر السنة الرابعة 6 .
وقال بعض آخر : إنها كانت بعد غزوة ذات الرقاع بشهرين وأربعة أيام 7 .
وثالث يقول : إن الخندق كانت في السنة الرابعة ،ودومة الجندل بعدها في الخامسة 8 .


والأكثرون على أنها كانت في السنة الخامسة في شهر ربيع الأول منها 9 .
وعند ابن سعد : في شهر ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهراً من مهاجره 10 .

هذه الغزوة

قال البعض : «أراد رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يدنو إلى أدنى الشام ، وقيل له : إنها طرف من أفواه الشام ؛ فلو دنوت لها كان ذلك مما يفزع قيصر الخ . .» 11 .
وقال بعض آخر : إنهم كانوا يعترضون المسافرين إلى المدينة وتجارهم 5 .
غير أن جمعاً آخر من المؤرخين يقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» سمع أن جمعاً من قضاعة وغسان تجمعوا بكثرة في دومة الجندل . وكان بها سوق عظيم ، وتجار ، بلغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أنهم يظلمون من مر بهم . وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة .
فاستخلف «صلى الله عليه وآله» على المدينة سباع بن عُرفُطة الغفاري ـ وعند المسعودي : استخلف ابن أم مكتوم ـ وخرج لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأول في ألف من أصحابه .
فكان يسير الليل ويكمن النهار ، ومعه دليل من بني عُذْرة يقال له مذكور . وقد نكب عن طريقهم ، فلما كان بينه وبين دومة يوم قال الدليل : يا رسول الله ، إن سوائمهم ترعى عندك ؛ فأقم حتى أنظر .
وسار مذكور حتى وجد آثار النعم ؛ فرجع وقد عرف مواضعهم ؛ فهجم النبي «صلى الله عليه وآله» على ماشيتهم ؛ فأصاب من أصاب ، وهرب من هرب في كل وجه .
وجاء الخبر إلى دومة الجندل ، فتفرقوا ، ورجع النبي «صلى الله عليه وآله» .
وفي نص آخر : ونذر به القوم ، فتفرقـوا ؛ فلم يجد إلا النعم والشـاء ، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب ، وهرب من هرب في كل وجه ، وجاء الخبر أهل دومة ، فتفرقوا .
ونزل «صلى الله عليه وآله» بساحتهم ، فلم يلق بها أحداً ؛ فأقام بها أياماً ، وبث السرايا ، وفرقها ؛ فرجعوا ولم يصادفوا منهم أحداً ورجعت السرية بالقطعة من الإبل .
فرجع «صلى الله عليه وآله» ، ودخل المدينة في العشرين من ربيع الآخر ، فكانت غيبته خمساً وعشرين ليلة 12 .
وقال المقدسي : «إن التجار والسابلة شكوا أكيدر الكندي عامل هرقل عليها ، فسار إليها في ألف رجل ، يسير الليل ويكمن النهار ، وأحس بذلك أكيدر فهرب ، واحتمل الرحل ، وخلى السوق ، وتفرق أهلها ، فلم يجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» أحداً ، فرجع» 13 .
كانت تلك صورة عما يقوله المؤرخون عن هذه الغزوة قد جمعنا شتاتها ، وألفنا بين متفرقاتها ومختلفاتها ، فراجع المصادر التي في الهوامش .
وقبل أن نواصل الحديث نتوقف قليلاً لنسجل بعض الملاحظات والتحفظات فنقول :

مدة غيبته صلى الله عليه و آله عن المدينة

قولهم : إن مدة غيبته «صلى الله عليه وآله» عن المدينة في هذه الغزوة كانت خمساً وعشرين ليلة لا يصح .
لأنهم يقولون : إن دومة الجندل تبعد عن المدينة مسافة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة 14 ، فالذهاب والإياب منها وإليها لسوف يستغرق أكثر من شهر .
يضاف إلى ذلك : أنه كان يسير الليل ويكمن النهار ، فقد يحتاج المسير إليها والحالة هذه إلى أكثر من ذلك أيضاً .
هذا بالإضافة إلى أنهم يقولون : إنه أقام بها أياماً يبث السرايا ، فكيف تكون مدة غيبته عن المدينة خمساً وعشرين ليلة فقط ؟! .

رجوع النبي صلى الله عليه و آله قبل بلوغ دومة!!

قد ادَّعى البعض ، كابن هشام : أن النبي «صلى الله عليه وآله» رجع قبل أن يصل إلى دومة الجندل 15 .
وقد يكون لنا الحق في أن نشك في صحة هذا القول ، ما دام أنه يعطي انطباعاً سلبياً عن حالة المسلمين ، فإن الرجوع لا بد أن يكون لأحد سببين ، أو كليهما ، وكلاهما مرفوض .
وهما :
الأول : إنه خاف من التعرض لقيصر ، فإنه قد راجع حساباته في الطريق ؛ فأدرك أن هذا في غير صالحه ؛ فآثر الرجوع ، ولو تسبب ذلك بنوع من الشعور بالضعف لدى المسلمين ، وسوف يؤكد ذلك هيبة ملك الروم في نفوسهم ، وهذا مما لا يمكن قبوله في حق النبي «صلى الله عليه وآله» .
الثاني : إنه قد أحس بأن المدينة تتعرض لخطر من نوع ما في حال غيابه عنها ، سواء من داخلها ، من قبل المنافقين واليهود وغيرهم ممن لم يسلم حتى الآن ، أو من خارجها ، من قبل قريش ومن معها من المشركين المتربصين حول المدينة ، وفي سائر المناطق .
وهذه أيضاً نقطة ضعف أخرى ، كان من المفروض أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد حسب حسابها ، وأعد العدة لمواجهتها ، قبل أن يخرج من المدينة . فلا يمكن أيضاً قبول هذا السبب لما يتضمنه من نسبة القصور أو التقصير ـ والعياذ بالله ـ إلى ساحة قدس النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» .

التوجيه الأقرب

وإذا صح أنه رجع ولم يبلغها ، فالأظهر أنه قد بلغه أن أهلها قد عرفوا بمسيره إليهم ، فتنحوا عنها إلى جهة غير معلومة ، بحيث لم يعد ثمة فائدة من المسير إليهم .
لكن الذي يعترض طريق قبول ذلك هو تلك التفاصيل الكثيرة والدقيقة التي يذكرها المؤرخون مما كان قد حصل في غزوة دومة الجندل .
ولا سيما مع تصريحهم ، بأنه لما كان بينه وبين دومة الجندل يوم ، قال الدليل : يا رسول الله الخ . . وتصريحهم بـأنه أقـام أيامـاً يبث السرايـا في النواحي .
فالأقرب أن يقال : إن هؤلاء الذين ادَّعوا : أنه قد رجع قبل أن يبلغها قد غلطوا في ذلك وليس الغلط من مثل هؤلاء بعزيز .

ونسجل هنا ما يلي

ألف : إننا نلاحظ : أن النبي «صلى الله عليه وآله» يختار المسير ليلاً والكمون نهاراً ، ليمكن له مفاجأة العدو ، وأخذه على حين غرة ، فيحقق بذلك الغرض من دون أن يتكبد المسلمون خسائر كبيرة ، لو أن المشركين كانوا مستعدين للحرب ، عارفين بمسير المسلمين إليهم .
ويكون بذلك قد قدم لنا أيضاً مثلاً في التدبير الحربي السليم ، الذي يوفر مزيداً من الفرص لتسجيل النصر الحاسم ، من خلال الاستفادة من عنصر التخفي في التحرك نحو الهدف المطلوب .
ب : إن تحرك النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين ، كان بهدف الحفاظ على حرية حركة الناس ، وضرب مصدر المتاعب حينما أصبحت طرق المواصلات والإمدادات والتموين ، الذي يأتي عن طريق التجارة مع المناطق الشمالية كسورية وما والاها غير آمنة . إنه «صلى الله عليه وآله» قد تحرك ليصبح طريق الناس آمناً ، وليمكنهم من أن يتواصلوا وينفع بعضهم بعضاً من خلال نقل التجارب والمعارف ، ونقل المنتجات ، وغير ذلك . وهذا يشير إلى أن حق الحرية هذا مقدس ، ولا يمكن المساس به من أي كان ، وأنه لا يمكن للحاكم العادل أن يقف تجاه انعدام الأمن موقف اللامبالاة ، ويعتبر أن ذلك لا يعينه ، وإنما هو مسؤولية غيره ، بل عليه أن يبادر إلى تحمل مسؤولية حماية حرية الناس في تحركاتهم ، وترددهم بتجاراتهم وغيرها ، رغم أن ذلك يحمل في طياته خطر الاصطدام بعامل هرقل عظيم الروم ، ثم بهرقل ذاته من بعده .
ج : يضاف إلى ما تقدم : أن ما جرى في بدر الموعد ، قد أعطى المسلمين المزيد من النشاط ، وجعلهم يتحركون بصورة أكثر حيوية وفاعلية ، حينما توجهوا إلى شمال الجزيرة ، بعد أن توطدت هيبتهم في الجنوب بسبب ما جرى في غزوتي بدر الموعد ، وحمراء الأسد ، وغيرهما .
ومعنى ذلك هو : أنهم قد عطفوا نظرهم إلى منطقة يعتبر قيصر الروم فيها هو الأقوى ، والأعظم نفوذاً ، ولا يتوقع القيصر أن تنشأ في جزيرة العرب حركة تجترئ عليه ، أو تسمح لنفسها بالتفكير بالتطاول على هيبته وسلطانه .
د : والأكثر وقعاً وتأثيراً في هذه الغزوة : أن نجد النبي «صلى الله عليه وآله» حينما وصل إلى دومة الجندل ، وفر أولئك الأشرار منها ، قد بقي يبث السرايا والبعوث عدة أيام في مختلف الاتجاهات ، بحثاً عن أولئك الأشرار الهاربين .
ومعنى ذلك هو : أن هذا الهجوم قد كان مدروساً بعناية ، وهدوء ، ويراد له أن يترك آثاره في المنطقة كلها ، ولم يكن ثمة تسرع في اتخاذ القرار فيه ، ولا كان ناشئاً عن اندفاع عاطفي ، أو ما أشبه ذلك .
هـ : إن سرعة تحرك جيش بهذه الكثافة إلى بلد يبعد عنه مسيرة أيام كثيرة وثقته بنفسه ، واطمئنانه إلى عدم جرأة أحد على العبث بالأمن في بلده من بعده ، ليدل على مدى ثقة هذا الجيش بنفسه وبقدراته ، وعلى أنه قادر على تسديد ضربته لكل من تسول له نفسه أن يتآمر أو يشارك في التآمر ضده ، وعليه أن يحسب ألف حساب قبل أن يقدم على التحالف مع أعدائه ومناوئيه .
وإذا كان المسلمون أقوياء ، فلسوف تتشوف نفوس الكثيرين للتحالف معهم ، والوقوف إلى جانبهم ، والعيش في كنفهم .
ولا أقل من أنهم سوف يسعون لإقامة علاقات طبيعية معهم . أما التحالف مع الأعداء ، ومشاركتهم في مناوأة المسلمين ، فإنه يصبح أكثر صعوبة خصوصاً من القبائل التي لا تتوفر لديها أعداد ضخمة وكافية لحماية نفسها من قوة لها هذا النشاط ، وبهذا الحجم والمستوى .
وهذا من شأنه أن يضعف أمر قريش ، ويقلل من الفرص المتاحة لجمع الحشود ، وتحزيب الأحزاب لمواجهة المد الإسلامي العارم .
و : إن النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين وهم يحاولون أن يقللوا من الخسائر البشرية ما أمكنهم ، فإنهم يعتمدون طريقة الضغط السياسي والروحي ، على الخصم ، وكذلك إضعافه اقتصادياً بصورة رئيسية باستيلائهم على مواشيهم وأموالهم ، الأمر الذي يضعف مقاومتهم ، وقدرتهم على تنظيم المؤامرات ، وبذل الأموال لتجييش الجيوش لحرب المسلمين .
وليس ذلك لأجل حب السلب والنهب ، وجمع الأموال ، والشاهد على ذلك : أننا نجده «صلى الله عليه وآله» يجعل فداء أسير من أسرى المشركين تعليم عشرة أطفال من المسلمين القراءة والكتابة ، رغم شدة حاجة المسلمين لأقل شيء من المال . وقد تقدم ذلك في غزوة بدر .
كما أننا نراه «صلى الله عليه وآله» حين يرتكب خالد بن الوليد جريمة في حق بعض القبائل ـ وذلك حينما أرسل خالداً لدعوة بني جذيمة ، فآمنهم ، فلما وضعوا السلاح أمر بهم فكتفوا ، ثم عرضهم على السيف ـ نراه «صلى الله عليه وآله» لما بلغه ذلك تبرأ من فعل خالد ، ثم أرسل علياً «عليه السلام» فودى لهم الدماء ، وما أصيب لهم من الأموال ، حتى إنه ليدي ميلغة الكلب 16 .

دومة الجندل حقيقة أم خيال ؟!

قال العلامة الحسني : «إن أخبار هذه الغزوة أكثرها عن الواقدي ، وأخباره في الغالب من نوع المراسيل ، ومن البعيد أن يترك النبي «صلى الله عليه وآله» المدينة قرابة شهر كامل ، كما يدَّعي المؤلفون في السيرة ، إلى مكان بعيد مسافة تزيد عن خمسة عشر يوماً ، والأعراب من حولها لا يزالون على الشرك ، وهم يترقبون المسلمين ، ويستغلون الفرصة المناسبة للوقيعة بهم . ومن ذا يمنعهم من المدينة إذا غاب عنها النبي «صلى الله عليه وآله» مع ألف من أصحابه وفيها من المنافقين ما لا يقل عدداً عن المسلمين وكانوا على اتصال دائم بقريش وأحلافها من المشركين ؟
من البعيد أن يتركها ليغزو أطراف الجزيرة المتاخمة لحدود الشام في مثل هذه الظروف إلا أن يكون مأموراً بذلك من الله سبحانه» 17 .
ونقول :
1 ـ إننا لا نستطيع أن نوافق على ما ذكره العلامة الحسني «رحمه الله» ، لأن ذلك لو كان ، لكان مانعاً من التحرك نحو أي من المناطق الأخرى ، قريبة كانت أو بعيدة . فإن كثيراً من الغزوات كان النبي «صلى الله عليه وآله» يغيب فيها أياماً كثيرة . فقد غاب في غزوة بدر الموعد ست عشرة ليلة ، منها ثمانية أيام أقامها في بدر ، والباقي في الطريق ذهاباً وإياباً ، وكانت غيبته في ذات الرقاع خمس عشرة ليلة ، وكانت غيبته في غزوة بني المصطلق ثمانية وعشرين يوماً .
فقد كان بإمكان الأعداء أن يغتنموا فرصة غيابه للإغارة على المدينة ، بصورة سريعة وخاطفة ، أو احتلالها ، لا سيما مع وجود اليهود والمنافقين ، والمشركين فيها وحولها .
2 ـ ومن جهة ثانية ، فإن سير الأحداث يعطي : أن الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» كانت له أجهزة استخبارات قوية وفاعلة لا يفوتها رصد أية تحركات أو تجمعات مريبة ، بل وحتى المؤامرات والنوايا أحياناً . وقد كانت مبثوثة في مختلف الأنحاء والأرجاء قريبة كانت أو بعيدة كما ألمحنا إليه فيما سبق .
ومن الواضح : أن مهاجمة المدينة في غياب الرسول «صلى الله عليه وآله» يحتاج إلى جمع قوى كثيرة من مختلف القبائل ولن يخفى ذلك على عيون الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» .
3 ـ أضف إلى ذلك : أن النبي كان قد عقد تحالفات ومعاهدات كثيرة في المنطقة ، كما أنه قد عقد تحالفات مع سكان المدينة أنفسهم ، يلزمهم فيها الدفاع والنصر ، خصوصاً إذا هوجم ، فكيف إذا هوجموا ؟
4 ـ وحين يظعن النبي «صلى الله عليه وآله» عن المدينة ، فإنه لا يخليها نهائياً ، بحيث لا تبقى فيها أية قوة عسكرية قادرة على ضبط الوضع داخلياً ، والدفاع ضد العدو الخارجي قدر الإمكان لو دهمهم أمر ، وإلى أن يأتي الرسول «صلى الله عليه وآله» ، ويمسك هو بزمام المبادرة .
5 ـ مضافاً إلى أن ضرب المدينة في غياب النبي «صلى الله عليه وآله» لا يحسم الأمر ، بل هو سوف يعرض من تسول له نفسه ويقدم على ذلك إلى العقاب الصارم ، الذي لن يكون قادراً على دفعه عن نفسه . فإن الكل كانوا أصغر من أن يجرؤوا على ذلك ، بعد أن عجزت قريش وفشلت ذلك الفشل الذريع . ولم يكن لأي من القبائل ما كان لقريش من قوة وشوكة ، ونفوذ ومنعة في المنطقة بأسرها .

ذكريات أبي موسى الأشعري في دومة الجندل

ويذكر المؤرخون : أن تحكيم الحكمين قد كان بدومة الجندل 18 .
وفي كتاب الخوارج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : «مررت مع أبي موسى بدومة الجندل ، فقال : حدثني حبيبي «صلى الله عليه وآله» : أنه حكم في بني إسرائيل في هذا الموضع حكمان بالجور ، وأنه يحكم في أمتي حكمان بالجور في هذا الموضع .
قال : فما ذهبت الأيام حتى حكم هو وعمرو بن العاص فيما حكماه ، قال : فلقيته .
فقلت : يا أبا موسى قد حدثتني عن رسول الله .
فقال : والله المستعان . كذا أورده المجد» 19 .

موادعة عُيينة بن حصن الغادر

ويذكر المؤرخون : أنه لما رجع النبي «صلى الله عليه وآله» من دومة الجندل وادع عيينة بن حصن الذي كانت أرضه قد أجدبت : أن يرعى بتغلمين وما والاه إلى المراض ، وكان ما هناك قد أخصب ، وهو موضع بينه وبين المدينة ستة وثلاثون ميلاً على طريق الربذة 20 .
وسيأتي : أنه لما سمن حافره ، وانتقل إلى أرضه أغار على لقاح 21 رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالغابة . .

حكومة القيم ، أم حكومة المشاعر ؟!

وغني عن القول هنا : إن عيينة بن حصن كان لا يزال هو ومن معه على الشرك والكفر ، الذي كان يناوئ الدعوة الإسلامية بكل الوسائل .
ولم يكن النبي «صلى الله عليه وآله» حين سمح له بما سمح يطمع في الحصول على أي نفع من قبله ، فلم يكن يريد في مقابل ذلك مالاً ، ولا كان يريد منه أن ينصره على عدوه ، ويتقوى به على مناوئيه ، لا في مال ، ولا رجال .
كما أن عيينة لم يكن يملك قوة خارقة للعادة ، بحيث يخشاه النبي «صلى الله عليه وآله» وينصاع لما يطلبه منه .
كما أننا نلاحظ : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يحاول استغلال حاجة عيينة ومن معه ، ليفرض عليهم شروطاً ، ويحصل على امتيازات سياسية ، أو مادية ، أو غير ذلك . بل هو لم يطلب حتى السماح لدعاته بأن يطرحوا مع الناس هناك قضية الإسلام والإيمان ، فضلاً عما هو أبعد من ذلك .
بل تصرف النبي «صلى الله عليه وآله» على أساس ما لديه من مثل وقيم ، وقناعات ومنطلقات إيمانية وإنسانية ، ومن ثوابت أخلاقية ودينية .
فالنبي «صلى الله عليه وآله» يرى أن الحرب إنما تهدف إلى منع قوى الهيمنة والاستكبار من فرض إرادتها ، ومصادرة حرية الآخرين في الفكر وفي الإيمان . وإلى دفع غائلة العدو الذي يريد سحق قوى الخير ، ونسف قواعد الإيمان . وليس للحرب أي دور حين تجري الأمور بصورة طبيعية . فإن السلاح الذي يعتمد عليه الإسلام هو الدليل القاطع والبرهان الساطع ، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن . .
بل إن كل الجرائم التي ارتكبها مشركو قريش في حق الإسلام والمسلمين لم تمنع النبي «صلى الله عليه وآله» من إرسال الأموال إلى مكة ، حين علم أن أهلها يعانون من ضائقة كبيرة بسبب الجدب .
ولم يكن منطلقه في ذلك ، ولا في موقفه هنا من عواطف ثاثرة ، تتحرك باندفاع وبعنفوان بصورة غير واعية ولا متزنة في الحالات الطارئة . بل منطلقه «صلى الله عليه وآله» هو القيم والمثل العليا ، وكل المعاني الإنسانية الصافية والنبيلة ، فليس ثمة تناقض بين الأحاسيس والمشاعر ، وبين الموقف الرسالي والمبدئي .
بل إن مشاعره «صلى الله عليه وآله» وأحاسيسه قد نمت وتربت في ظل مبادئه وقيمه ومن خلالها ، فمنها تنطلق وإليها تنتهي ، وعلى أساسها تقوم وتدوم 22 .

  • 1. راجع : تاريخ الخميس ج1 ص469 عن ابن سعد ، والسيرة الحلبية ج2 ص277 وسيرة مغلطاي ص54 ونهاية الأرب ج17 ص163 والمواهب اللدنية ج1 ص108 وزاد المعاد ج2 ص112 وطبقات ابن سعد ج2 ص62 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص23 والتنبيه والإشراف ص214 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص266 .
  • 2. تاريخ الخميس ج1 ص469 .
  • 3. التنبيه والإشراف ص215 وحبيب السير ج1 ص357 .
  • 4. البدء والتاريخ ج4 ص214 .
  • 5. a. b. التنبيه والإشراف ص215 .
  • 6. راجع : السيرة الحلبية ج2 ص277 .
  • 7. نقله في تاريخ الخميس ج1 ص469 .
  • 8. تاريخ مختصر الدول ص95 .
  • 9. راجع ما يلي : السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص177 و 178 والبداية والنهاية ج4 ص92 ونقل عن الواقدي : أنها في ربيع الآخر . وتاريخ الخميس ج1 ص469 والسيرة الحلبية ج2 ص277 والجامع للقيرواني ص281 وسيرة مغلطاي ص54 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 قسم 2 ص29 وشذرات الذهب ج1 ص11 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص232 وأنساب الأشراف ج1 ص341 وحبيب السير ج1 ص357 وزاد المعاد ج2 ص112 والمغازي للواقدي ج1 ص402 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص266 .
  • 10. الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص62 ونهاية الإب ج17 ص163 والمواهب اللدنية ج1 ص108 .
  • 11. مغازي الواقدي ج1 ص403 وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص177 والبداية والنهاية ج4 ص92 ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص390 .
  • 12. راجع ما تقدم كله أو بعضه في المصادر التالية : تاريخ الخميس ج1 ص469 وطبقات ابن سعد ج2 ص62 والسيرة الحلبية ج2 ص277 وأنساب الأشراف ج1 ص341 وسيرة مغلطاي ص54 وحياة محمد لهيكل ص281 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 قسم 2 ص29 والوفاء ص691 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص232 والثقات ج1 ص260 والتنبيه والإشراف ص215 وحبيب السير ج1 ص357 وزاد المعاد ج2 ص112 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص212 والمغازي للواقدي ج1 ص403 ونهاية الأرب ج17 ص163 والمواهب اللدنية ج1 ص108 والبداية والنهاية ج4 ص92 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص177 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص266 ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص390 و 391 .
  • 13. البدء والتاريخ ج4 ص214 وأشار إليه الذهبي في تاريخ الإسلام (المغازي) ص212 (السابلة : عابرو السبيل) .
  • 14. تقدمت مصادر ذلك في أول هذا الفصل تحت عنوان : إيضاحات .
  • 15. راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص224 وتاريخ الخميس ج1 ص469 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص177 عن ابن إسحاق والبداية والنهاية ج4 ص92 ودلائل النبوة ج3 ص390 .
  • 16. راجع : الغدير ج7 ص169 عن سيرة ابن هشام ج4 ص53 ـ 57 وعن تاريخ أبي الفداء ج1 ص145 وعن أسد الغابة ج3 ص102 وعن الإصابة ج1 ص318 وج2 ص81 وعن البخاري كتاب المغازي .
  • 17. سيرة المصطفى ص457 .
  • 18. تاريخ الخميس ج1 ص469 وصفين ص535 و 538 و 540 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي ج2 ص248 وراجع : مروج الذهب ج2 ص352 ومصادر ذلك كثيرة جداً فلتراجع كتب التاريخ ، حين الحديث حول قضية صفين ، ثم التحكيم .
  • 19. تاريخ الخميس ج1 ص469 وذكر هذه القصة أيضاً وإن لم يصرح بأن التحكيم كان وسيكون في دومة الجندل كل من : المسعودي في مروج الذهب ج2 ص392 وشرح نهج البلاغة للمعنزلي ج13 ص315 وراجع ص316 وراجع : قاموس الرجال ج6 ص108 و 109 .
  • 20. السيرة الحلبية ج2 ص277 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص63 وراجع : نهاية الأرب ج17 ص163 وسيرة مغلطاي ص54 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 قسم 2 ص29 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص232 .
  • 21. اللقاح : النياق الحلوب الغزيرة اللبن .
  • 22. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، السنة 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء العاشر .