ما هي ضرورة الاجتهاد في العصر الحاضر ؟

تميَّزت المدرسة الفقهية لدى الشيعة الإمامية الإثنا عشرية عن غيرها من المدارس الفقهية للمذاهب الإسلامية بترك باب الاجتهاد و استنباط الأحكام الشرعية مفتوحاً أمام علمائها و فقهائها على مرِّ العصور ، مما جعل الفقه الإمامي موافقاً لحاجة العصر و متماشياً مع متطلبات الحياة ، و قادراً على حل المعضلات و المشاكل ، و تقديم الحلول الناجعة لها .
أما المدارس الفقهية التابعة للمذاهب الإسلامية الاخرى ـ و مع الأسف ـ فقد أغلقت باب الاجتهاد المطلق في وجه علمائها و فقهائها 1 ، و أنحصر اجتهادهم في إطار المذاهب الأربعة 2 خاصة ، و هو بلا شك تقييد لعملية الاجتهاد ، و تضييق لدائرته 3 .
يقول العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين ( رضوان الله تعالى عليه ) و هو ينتقد سدّ باب الاجتهاد و الاقتصار على رأي أئمة المذاهب الأربعة :
" و ما الذي أرتج باب الاجتهاد في وجوه المسلمين بعد أن كان في القرون الثلاثة مفتوحاً على مصراعيه ؟ لولا الخلود إلى العجز و الاطمئنان إلى الكسل و الرضا بالحرمان ، و القناعة بالجهل ، و من ذا الذي يرضى لنفسه أن يكون ـ من حيث يشعر أو لا يشعر ـ قائلاً بأن الله عَزَّ و جَلَّ لم يبعث أفضل أنبيائه و رسله بأفضل أديانه و شرائعه ، و لم ينزّل عليه أفضل كتبه و صحفه ، بأفضل حكمه و نواميسه ، و لم يكمل له الدين ، و لم يتم عليه نعمته ، و لم يعلّمه علم ما كان و علم ما بقي ، إلا لينتهي الأمر في ذلك إلى أئمة تلك المذاهب فيحتكروه لأنفسهم ، و يمنعوا من الوصول إلى شيء منه عن طريق غيرهم ، حتى كأن الدين الإسلامي بكتابه و سنته ، و سائر بيّناته و أدلته من أملاكهم الخاصة و أنهم لم يبيحوا التصرف به على من على غير رأيهم ، فهل كانوا ورثة الأنبياء ، أم هل خَتم الله بهم الأوصياء و الأئمة ، و علّمهم علم ما كان و علم ما بقي ، و آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، كلا بل كانوا كغيرهم من أعلام العلم و رعاته ، و سدنته و دعاته ، و حاشا دعاة العلم أن يُوصدوا بابه ، أو يصدُّوا عن سبيله ، و ما كانوا ليعتقلوا العقول و الأفهام و لا ليسلموا أنظار الأنام ، و لا ليجعلوا على القلوب أكنة ، و على الأسماع وقراً ، و على الأبصار غشاوة ، و على الأفواه كمامات ، و في الأيدي و الأعناق أغلالاً ، و في الأرجل قيوداً ، لا ينسب ذلك إليهم إلا من إفترى عليهم ، و تلك أقوالهم تشهد بما نقول " 4 .
أما الشيعة الإمامية الإثنا عشرية أتباع مدرسة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) فهم طبعاً لا يريدون بالاجتهاد التوسع على حساب الحكم الشرعي بما يلائم مستجدات العصر و تطور الزمن ، أو إرضاءً لعامة الناس ، أو للملوك و الحكام و غيرهم من أهل النفوذ أو لغير ذلك .
بل السبب في فتح باب الاجتهاد عندهم يعود إلى أن الشيعة الإمامية ترى أن الشريعة الإسلامية حيث أنها شريعة سماوية كاملة ، و إذ لا شريعة بعدها قَط ، و جب أن تُلبِّي كلّ الحاجات البشرية في مختلف مجالات حياتها الفردية و الاجتماعية ، هذا من جانب .
و من جانب آخر حيث أن الحوادث و الوقائع لا تنحصر فيما كانت في زمن الرسول ( صلَّى الله عليه و آله ) فالتطورات المتلاحقة في الحياة تطرح احتياجات و حالات جديدة ، تحتاج كل و احدة منها طبعا إلى حكم شرعي خاص ، انطلاقاً من أن لله حكم في كل واقعة .
و بالنظر إلى ما تقدم يكون فتح باب الاجتهاد في وجه الفقهاء على طول التاريخ أمراً ضرورياً ، إذ هل يمكن أن يكون الإسلام الذي هو شريعة إلهية كاملة و دين جامع أن لا يكون له رأي في الحوادث الجديدة ، و هل يمكن أن يترك البشرية حائرةً في منعطفات التاريخ و الحياة ، أمام هذه الحوادث الجديدة .
يقول الدكتور حامد حفني داود منتقداً سد باب الاجتهاد لدى المدارس الفقهية السنية ، و ممتدحاً المدرسة الفقهية الشيعية بتركها باب الاجتهاد مفتوحاً :
" أما علماء الشيعة الإمامية فإنهم يُبيحون لأنفسهم الإجتهاد في جميع صوره ، و يصرّون عليه كل إصرار ، و لا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا .
و أكثر من ذلك نراهم يفترضون بل يشترطون وجود " المجتهد المعاصر " بين ظهرانيهم و يوجبون على الشيعة إتباعه رأساً دون من مات من المجتهدين ، مادام هذا المجتهد المعاصر استمد مقومات إجتهاده ـ أصولها و فروعها ـ ممن سلفه من المجتهدين و ورثها عن الأئمة كابراً عن كابر .
و ليس هذا غاية ما يلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالإجتهاد ، و إنما الجميل و الجديد في هذه المسألة أن الاجتهاد على هذا النحو الذي نقرأه عنهم يساير سُنن الحياة و تطورها ، و يجعل النصوص الشرعية حيّة متحركة ، نامية متطورة ، تتمشى مع نواميس الزمان و المكان ، فلا تجمد ذلك الجمود الممضد الذي يباعد بين الدين و الدنيا ، أو بين العقيدة و التطور العلمي ، و هو الأمر الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم .
و لعل ما نلاحظه من كثرة عارمة في مؤلفات الإمامية و تضخّم مطرد في مكتبة التشيع راجع ـ في نظرنا ـ إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه " 5 .
و من هنا فإن إجتهاد علماء الشيعة الإمامية الإثنا عشرية إجتهاد حيٌ متحرك ، و قد أنتج هذا الاجتهاد فقهاً جامعاً منسجماً مع الاحتياجات البشرية المختلفة المتنوعة المتطورة و المتزايدة باستمرار ، و خلّف كنزاً علمياً عظيماً .
ثم أن ما ساعد على إثراء الفقه الشيعي العميق المتحرك هو المنع من تقليد الميت ، و الحكم بتقليد المجتهد الحي ، العارف بالزمان و متطلباته و بالمجتمع و احتياجاته و مستجداته .
إذن فحق لهذه الطائفة أن ترفع رأسها فخراً و اعتزازاً بمحافظتها على أحكام الله تعالى ، و اهتمامها بأخذ هذه الأحكام من منابع التشريع الأصيلة ، و صمودها في ذلك متحدية أعاصير الزمن ، و ظلمات الفتن ، على طول المدة و شدة المحنة .
كل ذلك بفضل علمائها المخلصين الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم ، و أتباعهم المؤمنين الذين لا يأخذون دينهم إلا ممن هو أهل للأمانة في دينه و ورعه و قدسيته ، رافضين غيرهم ممن لا يتحلى بالأمانة و الورع ، و لا يبالي في أي وادٍ سلك ، قد تورط في الشبهة ، و وضع نفسه في مواضع التهمة .

  • 1. الاجتهاد في اللغة مأخوذ من " الجُهد " بمعنى الطاقة ، و من " الجَهد " بمعنى المشقة ، إذن فالمعنى اللغوي للاجتهاد هو بذل الوسع و الطاقة و القيام بعمل ما مع المشقة .
    أما معنى الاجتهاد المصطلح في الحال الحاضر عند علماء الفقه و الأصول ، فهو بذل الجهد الوافر لتحصيل الظن الشرعي بالأحكام الشرعية الفرعية من منابعها الأصيلة .
    و الاجتهاد درجة رفيعة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم ، و هو بحاجة إلى كثير من المعارف و العلوم التي لا تتهيأ إلا لمن جدّ و اجتهد و بذل وسعه لتحصيلها .
    و الاجتهاد واجب كفائي على جميع المسلمين في زمن غيبة الإمام ( عليه السلام ) بمعنى أنه لو لم يوجد مجتهداً في زمان ما يجب على الجميع السعي وراء تحصيل رتبة الاجتهاد ، حتى يحصل من يحقق بجهوده و توفيق الله تعالى الوصول إلى هذه الرتبة عندها يرتفع الوجوب و يسقط التكليف .
  • 2. المذاهب الأربعة هي كالتالي :
    1. المذهب الحنفي ، المنسوب لأبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي ، المولود سنة : 80 هجرية ، و المتوفى سنة : 150 هجرية .
    2. المذهب المالكي ، المنسوب لمالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ، المتولد سنة : 95 هجرية ، و المتوفى سنة : 179 هجرية .
    3. المذهب الشافعي ، المنسوب لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، المولود سنة : 150 هجرية ، و المتوفى سنة : 204 هجرية .
    4. المذهب الحنبلي ، المنسوب لأحمد بن حنبل بن هلال بن أسد ، المولود سنة : 164 هجرية ، والمتوفى سنة : 241 هجرية .
    أما حصر المذاهب الإسلامية بصورة رسمية في أربعة رغم وجود غيرها من المذاهب ، فسببه يعود إلى زمن العباسيين حيث اختلفت الآراء و تفرقت الأهواء ، بحيث لم يمكن ضبطها حتى لجأوا إلى تقليلها ، فاتفقت كلمة رؤسائهم على حصر المذاهب في أربعة ، و كان ذلك في زمن القادر بالله العباسي ، فأخذ من كل من الطوائف الأربعة مالاً خطيراً ، و أبدى رسمية تلك المذاهب ، هذا و أن السيد المرتضى ( رحمه الله ) عندما أقدم على أخذ رسمية المذهب الجعفري من الخليفة ، طالبه الخليفة بمائة ألف دينار من الذهب ، و لأن الشيعة لم تقدر على الوفاء ، أو لم يريدوا أخذ رسمية مذهبهم بالمال انحصرت المذاهب الرسمية على المذهب الحنفي و المالكي و الشافعي و الحنبلي ، و حذا حذو القادر بالله العباسي ، الملك الظاهر بيبرس البندقداري أمير مصر سنة : 665 هجرية فلم يكن يقبل قضاء غير قضاة المذاهب الأربعة المذكورة ، و كان المتمذهب بغيرها يعادى و ينكر و لا تقبل شهادته ، و لا يقدم للخطابة و الإمامة و التدريس . لمزيد من التفصيل يراجع : الخطط للمقريزي : 4 / 161 ، و الإبداع : 308 ، و تتمة المنتهى : حوادث سنة 436 هجرية ، و كتاب الإمام الصادق و المذاهب الأربعة .
  • 3. الخطط للمقريزي : 2 / 344 .
  • 4. المراجعات : 14 ، طبعة دار المرتضى .
  • 5. الدكتور حامد حفني داود ، أستاذ الأدب العربي سابقاً بكلية الألسن بالقاهرة و المُشرف على الدراسات الإسلامية بجامعة ( عليكرة ) في الهند ، مقدمة كتاب عقائد الإمامية : 18 .