ما هي الطرق المؤدية إلى معرفة الله تعالى ؟

إن الطرق الموصلة إلى معرفة الله تبارك و تعالى كثيرة و متعددة و ليست محصورة في عدد معين ، ذلك لأننا إذا أمعنا النظر في هذا الكون الواسع الفسيح ، لوجدنا أن كل شيء فيه لهو دليلٌ واضح على وجود الله و طريق إلى معرفته سبحانه ، بشرط أن تتجاوز نظرتنا النظرة المادية الظاهرية للأشياء ، و تليها نظرة ثاقبة و فاحصة تصل إلى بواطن الأشياء ، إذ أن هناك فرقاً بين النظرة المادية السطحية التي تنظر إلى الطبيعة بما هي هي و لا تتخذها وسيلة إلى معرفة الله تعالى ، و بين النظرة الإلهية الثاقبة التي تتجاوز المعرفة الظاهرية للطبيعة و تصل إلى المعرفة الباطنية ـ أي معرفة المبدأ و الخالق ـ و لو بصورة إجمالية ، و ذلك عن طريق الإمعان في النُظم و السنن الموجودة في هذا الكون ، و الدالة على وجود خالق لها .

إذن فان طُرق معرفة الله تكون بعدد الظواهر الطبيعية ، ابتداءً من الذرة و انتهاءً بالمجرة ، لذا فإننا نجد رجال الوحي و دعاة التوحيد يركزون في إرشاد الناس الى معرفة الله عز و جل على دعوة الناس إلى النظر في الكون و الإمعان في النُظُم و السنن الموجودة فيه .
و الجدير بالذكر أن أسلوب القران الكريم في الدعوة إلى معرفة الله تعالى هو دعوة الناس الى النظر و التفكر في الظواهر المذكورة ، و في ما يلي نذكر بعض النماذج الواردة في القرآن الكريم :
1. ﴿ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ 1 .
2. ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 2 .
3. ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ... 3 .
4. ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ 4 .
5. ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ 5 .
6. ﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ 6 .
7. ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ 7 .
إلى غيرها من الآيات الكثيرة التي تدعو إلى التفكر و التدبر في الأشياء بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى .

أهم البراهين الدالة على معرفة الله

و هنا نُشير إلى أهم الطرق الموصلة إلى معرفة الله سبحانه و تعالى و نختار من الأدلة و البراهين الكثيرة ، أوضحها و أقربها إلى الحس و التجربة ، و هي :

البرهان الاول ، برهان النظم

إن من أهم الطرق الموصلة إلى معرفة الله تعالى ، هو التدقيق في حقيقة النَظم و التناسق السائد على أجزاء هذا الكون الفسيح من الذرة و حتى المجرة من دون استثناء و تتبع علته ، و هذا التدقيق و التأمل كفيل بإثبات وجود خالق لهذا الكون ، كما يثبت بان هذا الخالق لا يمكن إلا أن يكون عاقلا عالما قادرا و هادفا ، إذ أن حقيقة النظم تكمن في أمور ثلاثة و هي :
الأول : وجود ترابط تام بين أجزاء متنوعة و مختلفة من حيث الكمية و الكيفية .
الثاني : وجود ترتيب و تناسق دقيق بينها ، يجعل التعاون و التفاعل فيما بينها ممكنا .
الثالث : وجود الهدف و الغاية من إيجاد هذا العالَم المنظم .
ثم إن العقل المدُقّق في حقيقة النظم و المتتبع لعلته ، سيحكم فورا بان مصدر ذلك هو خالق عاقل حكيم عالم و هادف ، قد أوجد الأجزاء المختلفة كمّا و كيفا ، و رتبها و نسقها بحيث يمكن أن تتفاعل في ما بينها لتحقيق الهدف المطلوب و الغاية المقصودة من إيجادها .
و هذا الحكم الذي يصدُر عن العقل لا يستند إلى شيء سوى إلى ماهية النظام و طبيعته الرافضة للتحقق بلا فاعل عاقل و مدبر ، و لا يستند إلى التشابه ، و لا إلى التجربة كما تخيل ذلك " هيوم " 8 و أمثاله .
إن هذا البرهان مبتنٍ على قواعد لابد من أخذها بعين الاعتبار و هي :
القاعدة الأولى : إن هذا الكون و ما فيه من أشياء إنما هي موجودات حقيقية ، و إن ما نتصوره في أذهاننا إنما هو انعكاس للواقع الخارجي و ليست هذه الموجودات موجودات مثالية و خيالية بل هي حقائق موجودة ، ذلك لان كل إنسان ينظر بنظرة وجدانية و واقعية يعتقد ـ على حسب المثال ـ بان القمر و الشمس و الأرض و البحار إنما هي أجسام و موجودات واقعية ، و ليست خيالا أو مثالا ، كما زعم ذلك بعض الفلاسفة الخياليين .
القاعدة الثانية : إن عالم الطبيعة خاضع لمجموعة من النُظم و السنن المحددة و لا يشذُّ شيء مما في هذا الكون عن هذه القاعدة ، و إن العلوم الطبيعية قد تمكّنت من معرفة بعض هذه النظم و السنن ، و هي لا تزال في حالة اكتشاف دائم لمزيد من هذه السنن و النُظم كلما تقدمت خطوة في معرفة العلوم الطبيعية .
القاعدة الثالثة : إن الكون بما فيه من نُظم و قوانين و سنن و موجودات ، يخضع لقانون العليّة ، أي إن وجوده لا بد و إن يكون نتيجة لعلة أوجدته و كوّنته ، و احتمال وجوده بلا علة أمر محال لا يعترف به العقل و الفطرة .
القاعدة الرابعة : إن الأثر دليل على وجود المؤثر ، كدلالة المعلول على علته ، كما هو المعروف حتى في الأمثال الشائعة ، مثل مقولة الأعرابي : " البعرة تدل على البعير ، و أثر القدم يدُّل على المسير " و هذه الدلالة مما لا يختلف فيها المادّي و الإلهي .
ثم إن دلالة الأثر لا تقتصر على إثبات وجود المؤثر ، بل لها دلالة أخرى ، و هي الدلالة على خصوصيات المؤثر ، من عقله و علمه و شعوره ، أو خلاف هذه الخصوصيات إذا كان الأثر أثراً فوضويا بعيدا عن الترتيب و النظام و الفائدة .
و مثال ذلك : إننا لو اطلعنا على موسوعة علمية كبيرة قد اُلّفت في علم الطب و تعرضت لتعريف الأمراض و الأسقام و بيّنت طرق معالجتها و أشارت إلى الأدوية المناسبة لعلاجها بصورة دقيقة ، نعرف أن لهذا الكتاب مؤلِفا ، كما و نعرف من خلال هذا التأليف على خصوصيات مؤلفه القدير ، و نعلم بان مؤلفه عالم خبير بعلم الطب و له معرفة بأنواع الأمراض ، كما له معرفة بأنواع الأدوية و الأعشاب .
و كذلك إذا كان الكتاب الذي حصلنا عليه ديواناً شعرياً عرفنا بان المؤلف لا بد و إن يكون أديبا و شاعراً ذو معرفة باللغة و النحو و الصرف و ما إليها من العلوم التي يحتاج إليها الشعراء و الأدباء .
و هذا أمر واضح لا يحتاج إلى نقاش ، كما أن العكس صحيح أيضا ، فلو حصلنا على كتاب قد اُلِّفَ بصورة رديئة و مغلوطة و غير مترابطة ، علمنا بان مؤلف ذلك الكتاب إنسان غير محظوظ في دراسته و غير موفق لما تناوله من البحوث العلمية و إن مستواه العلمي و اطئ و بسيط .
ثم إن هذه القاعدة لا يدركها الإنسان عن طريق التجربة بل يتوصل اليها من خلال التفكر و التعقل ، و هذا هو روح برهان النظم الذي هو من أوضح براهين الإلهين في إثبات الصانع و الخالق و رفض إلالحاد و المادية .
هذا و إن العلم لا يزال يتقدم و يكشف عن الرموز و السنن الموجودة في عالم المادة و الطبيعية ، و هو في حالة اعتراف دائم بأن هذا العالم الذي نعيش فيه من ذرته و إلى مجرّته عالَم منسجم تسوده أدقّ الأنظمة و القوانين .
و أما أن تكون المادة الصماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة و لم تكن مسبوقة بالعدم ، هي التي قامت بنفسها بإجراء هذه القوانين الدقيقة ، و أضفت على نفسها السنن القويمة في ظل انفعالات غير متناهية حدثت في داخلها و انتهت على مرّ القرون و الأجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أدهش العقول و بَهَرَ العيون فهو باطل لا محالة ، ذلك لان الأثر كما أشرنا في القاعدة الرابعة يدلنا على خصوصيات المؤثر ، إضافة إلى دلالته على وجود و لزوم المؤثر نفسه ، فلو كان الأثر أثرا دقيقا و منتظما قد رُوعي فيه أدق القوانين العلمية ، فاللازم أن يكون المؤثر عالما قادرا عاقلا و جامعا لصفات الكمال .
إذن كيف يمكن أن نقول بان المادة العمياء الصماء البكماء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السنن و النظم الراقية الدقيقة التي يعجز العقل البشري عن استيعابها و معرفة حقيقتها ، خاصة و أن الانسان لا يعرف عنها سوى القليل القليل حتى الآن ؟
و كيف يمكن لنا أ، نقول أن المادة العمياء الفاقدة للشعور و العلم قد تمكنت من إضفاء هذه السنن على نفسها من دون محاسبة ، كل ذلك استنادا إلى نظرية خيالية يقولها الماركسيون ، و التي ترى أن انفعالات كثيرة حدثت في صميم المادة انتهت بها إلى هذا النظام المبهر بصورة عفوية و عن طريق المصادفة .
هذا و إن العلم يأبى قبول هذه النظرية المبتنية على التخيلات المتناقضة مع الأصول العلمية ، علما بان الاعتقاد بوجود خالق عالم قادر ، يتوافق مع العلم في جميع العصور و الأزمان .
يقول " كلودم هزاوي " ـ مصمم العقل الإلكتروني ـ : " طُلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية ، تستطيع أن تحل الفرضيات و المعادلات المعقدة ذات البعدين ، و استفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات و اللوازم الإلكتروميكانيكية ، و كان نتاج عملي و سعيي هذا هو " العقل الإلكتروني " .
و بعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل ، و تحمل شتى المصاعب و أنا أسعى لصنع جهاز صغير ، يصعب عليّ أن أتقبل هذه الفكرة و هي أن يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم .
إن عالمنا مليء بالأجهزة المستقلة لذاتها و المتعلقة بغيرها في الوقت ذاته ، و تعتبر كل و احدة منها اعقد بكثير من العقل الإلكتروني الذي صنعته ، و إذا استلزم أن يكون للعقل الإلكتروني هذا مصممٌ ، فكيف يمكننا إذن أن ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة و أعمال فيزيائية و تفاعلات كيميائية ، فلا بد من وجود مصمم حكيم خالق لهذا الكون و الذي أنا جزء حقير منه " 9 .
و يقول البروفيسور " ادوين كون كلين " ـ في حق هذه النظرية - : " إن هذا الافتراض لا يختلف عن قولنا – إن قاموساً لغويا ضخما أنتجته المطبعة اثر انفجار فيها " 9 .
إن نظام الكون الدقيق يجعل العلماء يتنبّؤن حركة السيارات و الأقمار الفلكية ، كما يُمكّنهم من التعبير عن الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية .
إن وجود هذا النظام في الكون بدلا من الفوضى ، لدليل واضح على أن هذه الحوادث تجري وفق قواعد و أسس معينة و أن هناك قوة عاقلة مهيمنة عليه ، و لا يستطيع كل من أُوتي حظاً من العقل أن يعتقد بان هذه المادة الجامدة الفاقدة للحس و الشعور- و في اثر الصدفة العمياء - قد مَنحَت نفسها النظام و بقيت و لا تزال محافظة عليه 10 .
و من هنا يتضح لنا أهمية دعوة القران الكريم الإنسانَ إلى التفكّر و التدبّر في سُنن هذا الكون و قوانينه الدقيقة ، و يدعو إلى التعمق في الأثر ، و التدبّر في خصوصياته حتى يهتدي إلى المؤثر و خصوصياته ، و كثيرا ما يشير إلى لفظة " الآية " أو " الآيات " ، و ها نحن نذكر في ما يلي نماذج منها على حسب المثال :
1. قول الله سبحانه و تعالى : ﴿ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 11 .
2. قوله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ 12 .
3. قوله عَزَّ مِنْ قائل : ﴿ وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ 13 .
4. قوله جَلَّ جَلالُه : ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 14 .
5. قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 15

البرهان الثاني ، برهان الامكان

إن الموجودات التي تقع في أفق الحس إما أن يكون وجودها ذاتياً أي أنها موجودة دائماً و أبداً بحيث لا تنفك عن الوجود ، و أما أنها لا تقتضي بذاتها الوجود و العدم بل هي تابعة للعلة فلو وجدت علة وجودها وُجِدت و إلا بقيت في دائرة العدم ، فإذا كانت من القسم الأول فهو لا ينطبق على الكون لأنه متغيِّر و متقلِّب بين الوجود و العدم .
فلا بُدَّ أن تكون من القسم الثاني ، أي تكون ذات علة ، فلابد و أن تكون علتها إما واجبة أو ممكنة .
و مثل ذلك في البطلان أيضا ما إذا قلنا بان علتها نفسها ، هذا مضافا إلى استلزامه " الدور " 16 و هو باطل .
و أما إذا قلنا بأنها موجودات لها علة ممكنة ، و هذه العلة الممكنة هي أيضا متحققة بهذه الموجودات الإمكانية ، لزم منه الدور أيضا لما عرفت .
أما لو قلنا بأنها متحققة بممكن ثان ، و الثاني بثالث و هكذا ، لزم من هذا القول " التسلسل " 17 و هو باطل أيضا .
لكن لو قلنا بان علتها واجبة ارتفع الإشكال و ثبت المطلوب .
فلم يبق إلا القول بانتهاء الممكنات إلى الواجب بالذات القائم بنفسه ، المفيض للوجود على غيره .

برهان الامكان في القران الكريم

يعتمد القران الكريم في بيان و عرض معارفه و أصوله ، على أسلوب العرض المستدل بالأدلة و البراهين الواضحة ، و نحن إذ نذكر هنا نماذج من الآيات البينات التي ذكر القران الكريم فيها شقوق برهان الإمكان ، إنما نريد أن نأخذ بتلك البراهين التي استدل القران بها ، و لا نريد بذكر هذه الآيات الاستدلال بنفس الآيات ، حتى يكون تقليدا في المسائل الإعتقادية ، و ها نذكر نماذج من تلك الآيات :
يشير القران الكريم إلى أن الممكن لا يملك لنفسه و لا لأي شيء آخر وجودا ، بل يفتقر إلى غيره ، و يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 18 ، و يقول أيضاً : ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى 19 .
و يشير القران إلى أن الممكن ـ الذي منه الإنسان ـ لا يتحقق من دون علة ، كما لا يمكن أن تكون علته نفسه ، و يقول : ﴿ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ 20 .
و يبين القران الكريم أن الممكن لا يصح أن يكون خالقا لممكن آخر بالأصالة و الاستقلال ، و من دون الاستناد إلى خالق واجب ، و يقول : ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ 21 .

البرهان الثالث ، برهان حدوث المادة

إن نفاد الطاقات و انتهائها دليل على أن وصف الوجود و التحقق ـ بالنسبة إلى المادة ـ ليس أمرا ذاتيا لها بل هو أمر عرضي ، ذلك لأنه لو كان الوجود بالنسبة إليها ذاتيا لزم أن لا يفارقها في أي وقت لا أزلاً و لا أبداً ، فنفادها و زوال هذا الوصف عنها ، خير دليل على أن الوجود أمر عرضي بالنسبة للمادة و غير نابع من صميم ذاتها ، و يلزم من ذلك أن يكون لوجودها بداية ، إذ عدم وجود البداية لها شأن " الذاتي " ، و لو كان الوجود ذاتيا لها لوجب أن لا تكون لها نهاية كما يجب أن لا تكون لها بداية .
و لقد اثبت العلم حدوث المادة و عدم كون وجودها ذاتياً ، و ذلك عندما اثبت أن هناك انتقالا حراريا مستمرا من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة ، و لا يمكن أن يَحْدُث العكس بقوة ذاتية ، بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة ، و معنى ما أثبته العلم هو أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام من حيث الحرارة و البرودة و ينضُبُ فيها معين الطاقة ، و عندها سوف لن تكون هناك عمليات كيميائية أو طبيعية ، و لن يكون هناك اثرٌ للحياة نفسها في هذا الكون .
و لما كانت الحياة لا تزال قائمة و لا تزال العمليات الكيميائية و الطبيعية تسير في طريقها ، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا ، و إلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد و توقف كل نشاط في الوجود ، و هكذا نجد أن العلوم قد توصلت ـ من دون قصد ـ إلى أن لهذا الكون بداية .
هذا و أننا لو أخذنا هذا البرهان ، أي برهان حدوث المادة و البراهين السابقة ، أي برهان الإمكان و برهان النظم بعين الاعتبار ، لتوصلنا إلى نتيجة قطعية و هي إن موجد هذا الكون لابد و إن يكون خالقا مدبرا حكيما عالما و قادرا ، قد أوجد الكون و خلق الأشياء بقدرته ، و هو واجب الوجود الذي لا يحتاج في وجوده إلى موجد كسائر الأشياء .
و هناك براهين أخرى ذكرها علماء الكلام بصورة مفصلة ، يجدها الباحث مدوّنة في الكتب الكلامية ، فمن شاء فليراجعها 22 .

  • 1. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 101 ، الصفحة : 220 .
  • 2. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 164 ، الصفحة : 25 .
  • 3. القران الكريم : سورة العنكبوت ( 29 ) ، الآية : 20 ، الصفحة : 398 .
  • 4. القران الكريم : سورة الروم ( 30 ) ، الآية : 22 ، الصفحة : 406 .
  • 5. القران الكريم : سورة الطارق ( 86 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 591 .
  • 6. القران الكريم : سورة الغاشية ( 88 ) ، الآيات : 17 - 20 ، الصفحة : 592 .
  • 7. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 190 ، الصفحة : 75 .
  • 8. ديفيد هيوم : فيلسوف إنكليزي يُعد من اكبر الفلاسفة المشككين ، و قد اعترض على برهان النظم بما حاصله : إن أساس برهان النظم قائم على أننا شاهدنا أن جميع المصنوعات البشرية المنظمة لا تخلو من صانع ماهر ، فالبيت لا ينشأ بلا بنّاء ، و السفينة لا توجد بلا عمّال ، فلا بد أن يكون للكون المنظَّم من صانع خالق أيضا ، لشباهته بتلك المصنوعات البشرية ، ثم انتقد هذا الاستدلال بأنه مبني على التشابه بين الكائنات الطبيعية و المصنوعات البشرية ، لكن هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب و تعْدِيَة حكم أحدهما إلى الآخر لاختلافهما ، فان مصنوعات البشر موجودات صناعية ، بينما الكون موجود طبيعي ، فهما صنفان لا تسانخ بينهما ، فكيف يمكن أن نستكشف من أحدهما حكم الآخر ؟
  • 9. a. b. العلم يدعو للإيمان : 156 ، لكريسي موريسن .
  • 10. العلم يدعو للإيمان : 159 ، لكريسي موريسن .
  • 11. القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 11 ، الصفحة : 268 .
  • 12. القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 268 .
  • 13. القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 65 ، الصفحة : 274 .
  • 14. القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 274 .
  • 15. القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 69 ، الصفحة : 274 .
  • 16. الدور : عبارة عن كون الشيء موجداً لشيء ثان و في الوقت نفسه يكون الشيء الثاني موجداً لذاك الشيء الأول ، و هذا باطل لان مقتضى كون الأول علة للثاني تقدُّمُه عليه و تأخُّرُ الثاني عنه ، و مقتضى كون الثاني علة للأول تقدم الثاني عليه ، فينتج كونُ الشيء الواحد في حالة واحدة و بالنسبة إلى شيء واحد ، متقدما و غير متقدم ، و متأخرا و غير متأخر ، و هذا هو الجمع بين النقيضين ، و بطلانه كارتفاعهما من الضروريات البديهية ، فينتج أن الدور و ما يستلزمه مُحال .
    و لتوضيح الحال نُمثِّل بمثال : إذا اتفق صديقان على إمضاء وثيقة و اشترط كل واحد منهما لإمضائها إمضاء الآخر ، فتكون النتيجة توقف إمضاء كلٍ على إمضاء الآخر ، و عند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاة إلى يوم القيامة ، لما ذكرنا من المحذور ، يراجع : الإلهيات على هدى الكتاب و السنة و العقل : 1 / 63 ، مُحاضرات العلامة المُحقق آية الله الشيخ جعفر السُبحاني ( حفظه الله ) ، طبعة مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، قم / إيران .
  • 17. التسلسل : عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل و المعاليل الممكنة ، مترتبة غير متناهية ، و يكون الكل مُتَّسِما بوصف الإمكان ، بان يتوقف ( أ ) على ( ب ) ، و الثاني على ( ج ) ، و الثالث على رابع ، و هكذا دواليك تتسلسل العلل و المعا ليل من دون أن تنتهي إلى نقطة .
    و باختصار : حقيقة التسلسل لا تخرج عن حدود تَرَتُّب علل و معاليل ، تكون متناهية من جانب ـ اعني آخرها ـ و غير متناهية من جانب آخر ـ اعني أولها ـ . و على كل ذلك ، يتسم الجزء الأخير بوصف المعلولية فقط بخلاف سائر الأجزاء ، فان كُلَّا منها مع كونه معلولا لما فوقه ، علة لما دونه ، فالمعلولية وصف مشترك بين الجميع ، سائدة على السلسلة و على أجزائها كلها بخلاف العليّة فهي غير صادقة على الجزء الأخير ، يراجع : الإلهيات على هدى الكتاب و السنة و العقل : 1 / 63 .
  • 18. القران الكريم : سورة فاطر ( 35 ) ، الآية : 15 ، الصفحة : 436 .
  • 19. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 48 ، الصفحة : 528 .
  • 20. القران الكريم : سورة الطور ( 52 ) ، الآية : 36 ، الصفحة : 525 .
  • 21. القران الكريم : سورة الطور ( 52 ) ، الآية : 35 ، الصفحة : 525 .
  • 22. راجع ، الإشارات : 3/ 18، و تجريد الاعتقاد : 67 ، و الأسفار: 6 / 36 و 37 ، و أيضا الأسفار : 2 / 165 و 166.

تعليق واحد