مجموع الأصوات: 137
نشر قبل 17 سنة
القراءات: 32408

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

العلم الالهي

دراسة علمية قيمة للإستاذ المحقق آية الله الشيخ محمد هادي معرفة ( رحمه الله ) يُجيب سماحته من خلالها على الأسئلة المطروحة في مسألة العلم الالهي ، و يرُدُّ على الشبهات المطروحة في هذا المجال بالاستناد الى القرآن الكريم و الحديث الشريف .

العلم الالهي

العلم في حقيقته هو انكشاف المعلوم لدى العالم ، و هو أمر إضافي ينتزعه العقل من تقابل المُدرِك و المدرَك مع عدم حائل بينهما ، فليس العلم سوى رفع الحجاب الحاجز بين المنكشف و المنكشف لديه ، فإذا لم يكن حجاب بين المُدرك ومُدرَكه ، حصل الادراك ، الذي هو عبارة عن انتقاش صورته في ذهن المُدرك على أثر هذا التقابل ، سواء أكان عيناً أم معنىً 1 .
فالعلم أمر اعتباري انتزاعي منشؤه ذلك التقابل الخاص .
أما علمه تعالى بالاشياء فهو عبارة عن حضور الاشياء بأسرها لديه تعالى ، و كل شيء هو رهن حضوره في محضر القدس تعالى ، ليس يعزب عنه شيء .
و كانت صفحة الوجود بأسرها هي صفحة اللوح المحفوظ ، المرشحة فيها صور الموجودات ، لا بنقوشها و اشكالها ، بل بذواتها و أعيانها .
و لم يكن هناك حجاب بينه تعالى و بين الاشياء ، و من ثَمَّ كان علمه تعالى حضورياً ، و كانت الاشياء بأسرها رهن حضورها في ساحة قدسه تعالى ، و حتى الزمان لا يصلح حاجزاً في هذا المجال .
إذن لا يختلف علمه بالاشياء ـ بالنسبة إليه تعالى ـ سواء قبل وجوداتها أم بعدها ، حيث صفحة الوجود ، في طولها و عرضها ، متساوية النسبة إلى ذاته المقدسة ، التي لا يحدّها زمان و لا مكان .
نعم ، جاء الاختلاف بالقياس إلى ذوات الموجودات ( المعلومات لديه تعالى أزلاً ) حيث مختلف التعلّقات و الاضافات ، فقد كان التعلق قبل وجوداتها ملحوظاً في وصف ، و بعد الموجود ملحوظاً في ذات ، فالعلم المتعلق بالذات ، إنما يتحقّق بعد الوجود ، و قد كان قبلاً متعلقاً بالوصف .
فهذا الاختلاف في العلم إنما هو بالنظر إلى المعلوم دون العالم ، فلم يحصل تغيير في علمه تعالى الملحوظ في ذاته المقدسة ، و لم يكن محلاً للحوادث ، تعالى اللّه عن ذلك .
و علمه تعالى ، كما يتعلّق بالحقائق و الماهيّات ، كذلك يتعلق بالاعيان و الاشخاص ، إذ لا فرق بين الكليات و الجزئيات في حضورها جميعاً بمحضر القدس تعالى ، كلٌّ في صقع ظهوره و في ظرف وجوده الخاص .
كما لا فرق في تعلق علمه تعالى بالاشياء قبل وجوداتها أزلاً تعلقاً بالوصف ، المسمّى عندهم بالعلم الذاتي ، أو بعد وجوداتها فيما لا يزال تعلقاً بالذات ، المسمى عندهم بالعلم الفعلي ، فلا يزال علمه تعالى بالاشياء ، سواء قبل الوجود أم بعد الوجود ، و إن كان قد تغيّر العنوان بتغيّر المتعلق لا غير .
و قد نُسب إلى أبي محمد هشام بن الحكم الشيباني 2 قوله بأن اللّه تعالى لا يعلم الجزئيات إلاّ عند وقوعها ، مستدلاً بقوله تعالى : ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ... 3 .
كما نُسب إلى أبي الحسين محمد بن علي الطيب البصري 4 قوله بتغيّر علمه تعالى المتعلق بالجزئيات حسب تغيّرها .
قال سعد الدين التفتازاني 5 : " ذهب أبو الحسين إلى أن علم البارئ بالجزئيات يتغيّر بتغيّرها ، و يحدث بعد وقوعها ، و لا يقدح ذلك في قدم الذات ، كما هو مذهب جهم بن صفوان السمرقندي 6 ، و هشام بن الحكم من القدماء . و هو ( أي البارئ تعالى ) في أنه في الازل إنما يعلم الماهيات و الحقائق ، و أما التصديقات ـ أعني الاحكام بأن هذا قد وُجد ، و ذلك قد عُدم ـ فإنما يحدث فيما لا يزال ( أي يتجدّد حسب تلاحق الزمان ) ، و كذا تصوّر الجزئيات الحادثة ( أي العلم بها ) . و بالجملة فذاته ( تعالى ) توجب العلم بالشيء بشرط وجوده ، فلا يحصل قبل وجوده ، و لا يبقى بعد فنائه .
قال : و لا امتناع في اتصاف الذات بعلوم حادثة ، هي تعلّقات و إضافات ، و لا في حدوثها مع كونها مستندة إلى القديم بطريق الايجاب دون الاختيار ، لكونها مشروطة بشروط حادثة " 7 .
و ذكر الامام الرازي استدلال أبي الحسين على مذهبه الذي خالف فيه مشايخ المعتزلة ، قال : " و زعم أن العلم بأنّ الشيء سيوجد يمتنع أن يكون نفس العلم بوجوده إن وجد ، و احتجّ عليه من وجوه :
أولها : أن من شرط المثلين أن يقوم كل واحد منهما مقام الاخر ، و العلم بأن الشيء سيوجد لا يقوم البتة مقام العلم بأنه موجود الان ، فإنّ قبل وقوع المعلوم لو اعتقد أنه سيقع بعده ذلك ، كان علماً ، و لو اعتقد أنه واقع الان كان جهلاً . و أما حال وقوعه ينعكس الامر ، فلو اعتقد أنه سيقع كان جهلاً ، و لو اعتقد أنه واقع كان علماً ، فثبت أن كل واحد منهما لا يقوم مقام الاخر ، و ذلك يقتضي كونهما مختلفين في الحقيقة ، و إذا وقع الاختلاف في الحقيقة لا يمكن دعوى الاتحاد .
و ثانيها : أنّ كونه علماً بأنه سيقع غير مشروط بوقوعه ، و كونه علماً بوقوعه مشروط ، و ما ليس مشروطاً بالشيء يمتنع أن يكون عين ما يكون مشروطاً بالشيء .
و ثالثها : أن مجرّد العلم بأنّ الشيء سيقع ، لا يكون علماً بوقوعه إذا وقع ، فإنّ من علم أنّ زيداً سيدخل البلد غداً ، ثم إنّه جلس في بيت مظلم لا يتميّز فيه بين الليل و النهار ، و بقي على هذه الحالة حتى جاء النهار و دخل زيد البلد ، فها هنا هذا الشخص بمجرّد علمه بأنّ زيداً سيدخل البلد غداً ، لا يصير عالماً بأنه دخل الان في البلد ، فثبت أنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد لا يكون علماً بوجوده إذا وُجد . بلى من علم أن زيداً سيدخل البلد غداً ، ثم علم حضور الغد ، فحينئذ يتولّد من هذين العلمين علم بأنّ زيداً دخل الان البلد .
و رابعها : أن العلم بالشيء صورة مطابقة للمعلوم ، و لا شك أنّ حقيقة أنّه سيقع مخالفة لحقيقة الوقوع في الحال ، فوجب أن يكون العلم بأحدهما مخالفاً للعلم بالاخر 8 .
هكذا استدل أبو الحسين البصري دعماً لمذهبه في علمه تعالى بالجزئيات ، و أنه متغاير حسب تعلقاته المتغايرة .
و أورد عليه مشايخ المعتزلة سؤالين :
الأول : كيف يزول له تعالى علم ليخلفه علم آخر ، تحقيقاً لمبدأ التغاير ، مع فرض قِدَم علمه تعالى في جملة أوصافه الذاتية القديمة ؟
الثاني : هل لا يستلزم التغيير في صفة ذاتية تغييراً في الذات ؟
و أجاب الامام الرازي على السؤالين بأنّ التغيّر الحاصل في علمه تعالى إنما هو في جانب تعلّقاته التي هي إضافات و نسب اعتبارية ، و هي لا تؤثر في ذات علمه تعالى 9 .
هذا ، و قد أنكر الشيخ المفيد صحة نسبة هذا القول إلى هشام بن الحكم ، و ذكر أنه تخرص عليه ، رماه به خصومه من المعتزلة الذين كان يجادلهم في ذات أقاويلهم ، و ربما تسلّم منهم بعض الاراء جدلاً لا عقيدة .
قال : إن اللّه تعالى عالم بكل ما يكون قبل كونه ... و هو مذهب جميع الامامية ، و لسنا نعرف ما حكاه المعتزلة عن هشام بن الحكم في خلافه ، و عندنا أنه تخرّص منهم عليه ، و غلط ممّن قلّدهم فيه ، فحكاه من الشيعة عنه 10 ، و لم نجد له كتاباً مصنفاً و لا مجلساً ثابتاً . و كلامه في أصول الامامة و مسائل الامتحان يدلّ على ضدّ ما حكاه الخصوم عنه 11 .
و هكذا ذكر السيد المرتضى أن نسبة هذا القول إليه اختلاق من المعتزلة ، قال : " فأمّا حدوث العلم ( أي إنّ اللّه تعالى لا يعلم الاشياء إلاّ بعد كونها ) فهو أيضاً من حكاياتهم ( المعتزلة ) المختلقة ، و ما نعرف للرجل فيه كتاباً ، و لا حكاه عنه ثقة " 12 .
كما أنكر سيدنا العلامة الطباطبائي ثبوتاً للماهيات في صقع الازل قبل و جوداتها في صقع لا يزال ، حسبما اصطلح عليه المعتزلة بالاعيان الثابتة 13 . قال : " إن فرض ثبوت ما للماهية في الازل و وجودها فيما لا يزال يقضي بتقدم الماهية على الوجود ، و أنّى للماهية هذه الاصالة و التقدم ؟ 14 .
نعم علمه تعالى الذاتي بالاشياء قبل وجوداتها كان أزلاً ، لا بذاك المعنى الذي فرضه أهل الاعتزال ، بل بمعنى علمه تعالى بذاته المقدسة المنطوية فيها جميع الحقائق بأسرها ، علماً إجمالياً في عين التفصيل ، و تفصيلياً في عين الاجمال ﴿ ... وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ... 15 .
أما علمه تعالى الفعلي بالاشياء فإنما هو بعد الوجود ، حيث الحضور الخاص تفصيلاً .
قال : " علمه تعالى الفعلي بالاشياء ، إنما نعني به أن كل شيء حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه " 16 .
و قد أوضح مقصوده من العلم الفعلي ، بأنه العلم الحاصل عند تحقق الاشياء خارجاً ، في مقابلة العلم الذاتي الكائن قبل وجوداتها .
قال : " و السمع و العلم و إن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية ، التي هي عين الذات المتعالية ، من غير أن يتفرع على امر غيرها ، لكن من العلم ، و كذا السمع و البصر ، ماهو صفة فعلية خارجة عن الذات ، و هي التي يتوقّف ثبوتها على تحقّق متعلق غير الذات المقدسة ، كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة ، المتوقفة على وجود مخلوق و مرزوق و حيّ و ميّت .
و الاشياء لما كانت بأنفسها و أعيانها مملوكة و محاطة له تعالى ... و الجميع كائنة ما كانت علم و معلومة له تعالى ، و هذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى ، لا قبل ذلك ، و لا يلزم من ثبوتها بعدما لم تكن تغيّرٌ في ذاته تعالى و تقدّس ، لانها لا تعدو مقام الفعل ، و لا تدخل في عالم الذات ... " ، و الاية ، أعني قوله تعالى : ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 17 ، إنما يعني هذا العلم الفعلي الذي هو نتيجة الملك و الاحاطة و الخلق و الايجاد ، إذ كيف يمكن الجهل بشيء هو مصنوعه و ناشئ في ملكه و بإذنه تعالى و تقدس ؟ 18 .
و بذلك نستطيع توجيه ما نسب إلى هشام من القول بأنّ اللّه تعالى إنما يعلم الجزئيات عند وقوعها ، و ذلك نظراً لان العلم في حقيقته هو خرق الحجب الحائلة بين العالِم و المعلوم ، و أن العلم بذات الشيء إنما يكون عند تحقّقه و ظهوره على صفحة الوجود ، و المقصود من الجزئيات هي التشخصات الحقيقية ، المحققة لفعليّة الوجود ، فقد تساوق علمه تعالى بالاشياء و ظهور الاشياء في عالم الوجود ، فصح القول بأن علمه تعالى الفعلي بالاشياء ليس سوى حضور الاشياء ذاتها لديه تعالى و كونها بمحضره الكريم ، الامر الذي عرفته من كلام سيدنا العلامة الطباطبائي ( قدَّس سره ) .

العلم الذاتي و العلم الفعلي 

قد عرفت في تعبير سيدنا العلامة تنويع علمه تعالى إلى الذاتي و الفعلي ، و أن الاول هو المستند إلى الذات المقدسة لا شيء سواها ، و هو العلم الازلي الكائن قبل وجود الاشياء . أما العلم الفعلي فهو الحاصل بحصول الاشياء و عند وجوداتها في عرصة الوجود ، كلٌّ في صقعه المتناسب .
و هذا الاصطلاح هو المعبّر عنه في مصطلح بعضهم بالعلم القديم ، و العلم الحادث ، فأثبت له تعالى علمين : علماً أزليّاً قديماً حسب قدم ذاته المقدسة ، و علماً حادثاً يحدث مع حدوث الاشياء . و لا مشاحّة في الاصطلاح بعد وضوح المقصود .
قال العلامة ـ بصدد بيان نوعي علمه تعالى ـ : " إن لكل مجرد علماً بذاته ، لحضور ذاته المجرّدة عن المادة لذاته ، و ليس العلم إلاّ حضور شيء لشيء ، فذاته تعالى معلومة لذاته .
كما أن ذاته المقدسة حقيقة الوجود الصرف ، البسيط الواحد بالوحدة الحقّة الذي لا يداخله نقص و لا عدم . فلا كمال وجوديّاً في تفاصيل الخلقة بنظامها الوجودي إلاّ و هي واجدة له تعالى بنحو أعلى و أشرف ، غير متميّز بعضها عن بعض ، لمكان الصرافة و البساطة .
فكل شيء سواه هو معلوم له تعالى في مرتبة ذاته المقدسة ، علماً تفصيلياً في عين الاجمال ، و إجمالياً في عين التفصيل .
و أيضاً فإن ما سواه من الموجودات منتهية في وجوداتها إليه تعالى ، قائمات الذوات به قيام الرابط بالمستقل ، حاضرات لديه بوجوداتها غير محجوبات عنه .
فالاشياء معلومة له تعالى في مرتبة وجوداتها ، علماً حضورياً ، أما المجرَّدة فبأنفسها ، و أما المادية فبصورها المجرَّدة .
فقد تبيّن بذلك :
أولاً : أن للواجب تعالى علماً بذاته في مرتبة ذاته ، و هو عين ذاته .
و ثانياً : أن له تعالى علماً بما سوى ذاته من الموجودات في مرتبة ذاته ، و هو المسمّى بالعلم قبل الايجاد ( و هو العلم الذاتي الازلي بالاشياء) .
و ثالثاً : أن هذا علم إجمالي في عين الكشف التفصيلي .
و رابعاً : أن له تعالى علماً تفصيلياً بما سوى ذاته من الموجودات في مرتبة ذواتها ، خارجاً عن الذات المتعالية ( أي وراء الذات ) ، و هو العلم بعد الايجاد ( و هو العلم الفعلي الحادث بحدوث الاشياء فيما لا يزال ) .
و خامساً : أن علمه تعالى حضوري كيفما صُوّر . ( سواء أكان علماً بذاته أم بسواها ، قبل الايجاد أو بعده ) .
قال ـ رحمه اللّه ـ : فهذه خمس مسائل ... 19 .

عينية الصفات

و إذ قد عرفت العلم الذاتي ، و أنه عين الذات المقدسة ، كسائر صفات الذات ، فلنتريّث قليلاً كي نعرف تفسير هذه العينية ، و ماذا يكون المقصود منها ؟
و حيث كانت الذات المقدسة هي منشأ كل كمال في عالم الوجود ، و إليها تنتهي كل صفة محمودة كان قد تحلّى بها جميع الموجودات ، فلابد أن تكون هي بالذات مستجمعة لجميع الصفات و الكمالات ، إذ إنها بأجمعها منحدرة عنها و مستفيضة منها ، فلولا تحلّيها في نفسها بمطلق الكمالات ، و واجديتها لاُسس معالي الصفات ، لما أمكن النشوء منها و الاستفاضة منها في مثل هذا الخضم من الخير و البركات : ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ 20 .
إنما الواجد للشيء الغني بالذات كان يمكن المنح و الاعطاء ، دون المعوز الفاقد المحتاج 21 .
فحيث وجدناه تعالى مبدأ كل كمال و منشأ كل جمال ، فقد عرفناه مجمع الكمالات و ملتقى معالي الصفات .
أما كيف تجمّعت هذه الكمالات في ذاته المقدسة ، فإن ما يهدينا إليه البرهان هو أن مقام الذات متعال عن عروض صفة أو الاقتران بحال ، فلا تركيب في ذاته تعالى ، و لا مصاحبة قرين لا في الازل و لا في ما لا يزال .
إذن ليست هناك سوى ذاته المقدسة التي هي منشأ الكمالات ، و منهل الفيوضات ، فلابد أنها واجدة لاشرفها ، و حاوية على أعلى مراتبها . أما كيف هذه الواجدية و الاحتواء ؟ فهذا ما لا يمكننا العلم به وإن وجدناه ضروري الثبوت .
و بعد ، فمعنى عينية صفات الذات هي أنها أجمع ناشئة من مقام الذات محضاً ، بلا دخول أمر آخر وراء الذات في هذا النشوء ، و قد هدانا إلى ذلك جليل آثاره ، و لطيف صنعه ، و عظيم قدرته .
قال العلامة الطباطبائي : " الصفات الذاتية هي عين الذات المتعالية ، من غير أن تتفرع على أمر غيرها " 22 ، أي من غير أن تنتزع من أمر وراء لحاظ الذات .
و إلى ذلك يشير كلام الامام امير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : " و كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه " أي نفي مبادئها ، و تنزيهه تعالى عن كل قرين في الازل .

حديث اللوحين

هناك اشتهر الحديث عن لوحين :
أحدهما : لوح المحو و الاثبات ، و فيه الزيادة و النقصان ، و التغيير و التبديل .
و الثاني : اللوح المحفوظ المكنون عند اللّه لا يعلمه أحد غيره تعالى ، و ليس ذلك سوى علمه تعالى بالامور ، إما علماً ذاتياً أزلياً لا يتغير مع الابد ، أو علماً فعلياً حادثاً مع حدوث الاشياء . و هذا اصطلاح في التعبير ، تشبيهاً لامر غير محسوس بأمر محسوس ، و لا ضير فيه بعد أن كان تقريباً للاذهان .
أخرج الطبري بعدة أسانيد إلى عكرمة عن ابن عباس في آية المحو و الاثبات قال : " الكتاب كتابان ، كتاب يمحو اللّه ما يشاء و يثبت ، و عنده أم الكتاب " 23 .
و روى ابن كثير و غيره بالاسناد إلى ابن عباس أنه سأل كعباً عن أم الكتاب ، فقال : " عَلم اللّه ماهو خالق و ما خلقُه عاملون ، ثم قال لعلمه : كن كتاباً ، فكان كتاباً " 24 .
و رووا عن كعب أنه قال لعمر بن الخطاب : " يا أمير المؤمنين ، لولا آية في كتاب اللّه لانبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة . قال : و ماهي ؟ قال: قول اللّه تعالى : ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء ... 25 " 26 .
و عن ابن زيد : " يمحو اللّه ما يشاء و يثبت ممّا ينزل على الانبياء ، و عنده أم الكتاب لا يغيَّر و لا يبدَّل " 27 .
و روى الكليني بإسناده الصحيح إلى أبي بصير عن أبي عبد اللّه الصادق ( عليه السَّلام ) قال : " إن للّه علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، و علم علّمه ملائكته و أنبياءه ، فنحن نعلمه " 28 .
و روى الطبرسي صاحب الاحتجاج عن امير المؤمنين ( عليه السَّلام ) قال : " لولا آية في كتاب اللّه لاخبرتكم بما كان و بما يكون و بما هو كائن إلى يوم القيامة ، و هي هذه الاية : ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ 29 " 30 .
و روى الحميري في قرب الاسناد عن طريق البزنطي عن مولانا الرضا ( عليه السَّلام ) قال : إن الائمة قبله ( الصادق و الباقر و السجاد و السبطين و أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) كلهم قالوا : " و اللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة : ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ 29 " 31 .
و البداء يحصل في لوح المحو و الاثبات ، و منشأه علم اللّه الازلي المثبت في اللوح المحفوظ .
و لشيخنا العلامة المجلسي هنا تحقيق أنيق حول مسألة اللوحين ، و توجيه مسألة البداء ، و بيان الحكمة في مثل هذه التعابير ، و هي تعابير كنائية لا غير . راجع بيانه 32 .
و أيضاً سيأتي أن القضاء المحتوم إنّما يقع علمه على الائمة في كل سنة في ليلة القدر ، و هو الذي لا تغيير فيه و لا تبديل . و بذلك ينحل ما أشكل على بعضهم من فهم تعابير الروايات بشأن البداء ، من أنه هل يحصل فيما وصل علمه إلى الانبياء و الائمة ، أو لا ؟ 33 فعلمهم العام هو الذي يحصل فيه البداء ، أما الذي يصل إليهم في ليلة القدر ، فلا بداء فيه .

في علمه تعالى و مشيئته في خلقه

و قد تلخّص مما مهّدناه هنا ـ بصدد معرفة ذات علمه تعالى ـ أن العلم ذو إضافة قائمة بمتضايفين ، يتقابلان ليس بينهما حجاب ، و هو أمر اعتباري انتزاعي ينتزعه العقل عند لحاظه هذا التضايف الخاص ، فإذا كان من احدهما الصلاحية لان يُدرِك ، و من الاخر أن يُدرَك ، حصل الادراك لا محالة .
و هذا التأثر و التأثير في غيره تعالى إنما يتحقق بارتسام صور الاشياء في صفحة الذهن ، سواء أكانت صور الاعيان أم صور المعاني .
أما فيه تعالى فالارتسام إنما يقع في عرصات صفحة الوجود ، و كان الارتسام بذوات الاعيان و المعاني ، لا بصورها و نقوشها ، و من ثم كان علمه تعالى بالاشياء هو نفس وجوداتها التي هي عين حضورها بمحضر القدس تعالى ، حيث العالم كله كان رهن الحضور لديه تعالى ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الارض و لا في السماء .
و كل ما يوجد فهو حاضر علمه تعالى ، و أصبح متعلق علمه الفعلي بهذا الوجود الخاص ، و قد كان متعلق علمه الذاتي الازلي بوصف أنه سيوجد .
و هذا الاختلاف في نوعية العلم إنما هو بالنظر إلى أحد طرفي المتضايفين ( المعلوم ) ، لا بالنظر إلى الطرف الاخر ( العالم ) ، و من ثم لم يحصل تغيير في ذات علمه تعالى ، و إنما حصل في تعلقاته و إضافاته .
و أما مشيئته تعالى فهي تابعة لعلمه الفعلي المتعلق بالمصالح المتجدّدة ، حسب اختلاف الشرائط و الاحوال ، فإذا ما تجدّدت مصلحة أي بدت على صفحة الوجود ، تحقق علمه تعالى الفعلي ، أي تعلق بها ، الامر الذي يوجب تغيير مشيئته في الخلق و الايجاد .
فالبداء إنما يحصل في المشيئة التابعة لعلمه الفعلي الحاصل فيما لا يزال ، و هو لوح المحو و الاثبات . أمّا علمه الذاتي الثابت في الازل ، المعبر عنه باللوح المحفوظ ، و بأم الكتاب ، فلا تجديد فيه و لا تغيير .
و هذا هو معنى قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ 34 .

  • 1. قال العلامة الطباطبائي : " و ليس العلم سوى حضور شيء لشيء " ( نهاية الحكمة : 289 .
  • 2. شيخ الامامية و متكلمهم المناظر ، توفي سنة :190 هجرية .
  • 3. القران الكريم : سورة الأنفال ( 8 ) ، الآية : 66 ، الصفحة : 185 .
  • 4. المتكلم على مذهب المعتزلة ، توفي سنة : 446 هجرية .
  • 5. المتوفى سنة : 793 هجرية .
  • 6. قتله نصر بن سيار سنة : 128 .
  • 7. شرح المقاصد : 4 / 126 – 127 .
  • 8. البراهين في علم الكلام : 1 / 116 ـ 119 .
  • 9. م . ن .
  • 10. روى سعد بن عبد اللّه عن أبي هاشم الجعفري قال : " سأل محمد بن صالح الارمني أبا محمد العسكري ( عليه السَّلام ) عن آية المحو و الاثبات، فقال أبو محمد : و هل يمحو إلاّ ما كان ، و يثبت إلاّ ما لم يكن ؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقول هشام بن الحكم أنه لا يعلم الشيء حتى يكون ، فنظر إليّ أبو محمد فقال : تعالى الجبّار العالم بالاشياء قبل كونها " ( بحار الانوار : 4 / 115 ) .
  • 11. أوائل المقالات للشيخ المفيد : 21 ـ 22 .
  • 12. الشافي في الامامة ، للشريف المرتضى : 1 / 86 .
  • 13. ذهبت عامة المعتزلة إلى أن للماهيات ثبوتاً عينياً في العدم ، و هو الذي تعلق به علمه تعالى بالاشياء قبل وجوداتها ، نهاية الحكمة : 292 .
  • 14. تفسير الميزان : 15 / 275 ، و راجع النهاية : 289.
  • 15. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 465 .
  • 16. الميزان : 8 / 169.
  • 17. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 129 .
  • 18. الميزان : 7 / 27 ـ 28 ، و راجع صفحة : 26 .
  • 19. راجع الفصل : 11( في علمه تعالى ) من نهاية الحكمة : 289 .
  • 20. القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 21 ، الصفحة : 263 .
  • 21. راجع الطباطبائي في نهاية الحكمة : 285. و لداروين ( العالم الطبيعي الانجليزي ) هنا كلام استدلالي لطيف ، في رسالة بعثها إلى أحد زملائه في المانيا جاءت الرسالة في مقدمة كتابه أصل الانواع الطبعة الاولى يقول فيها : " إنا نجد في هذا الكون صفات جليلة و آثار كريمة تنبؤك عن علم و عقل و تدبير، و كذا عن حكمة و حياة و قدرة ، فإذا كانت النقطة الاولى فاقدة للعقل و الشعور ، فمن اين جاءت هذه الاثار؟ " .
  • 22. الميزان : 7 / 27 .
  • 23. تفسير الطبري : 13 / 112 .
  • 24. تفسير ابن كثير : 2 / 520 ، و الطبري : 13 / 115 .
  • 25. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 39 ، الصفحة : 254 .
  • 26. ابن كثير : 2 / 519 ، و الالوسي : 13 / 153 ، و الطبري : 13 / 113 .
  • 27. الطبري : 13 / 113 ـ 114.
  • 28. الكافي : 1 / 147 ، حديث : 8 ، و البحار : 4 / 110 ، حديث : 27.
  • 29. a. b. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 39 ، الصفحة : 254 .
  • 30. البحار : 4 / 97 ، حديث : 4 و 5 .
  • 31. البحار : 4 / 97 ، حديث : 6 .
  • 32. البحار : 4 / 130 ـ 133 .
  • 33. بحث عن المجلسي في البحار : 4 / 133 .
  • 34. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 38 و 39 ، الصفحة : 254 .

تعليق واحد