الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

أبعاد الصلح و أسراره

لم يدرك المعاصرون للإمام الحسن ، حتى أصحابه ، الأبعاد الحقيقية للصلح فاعترضوا على الإمام بل جابهه بعضهم بكلمات قاسية زادت من محنته و عمقت حزنه فهذا حجر بن عدي الذي يعد من أخلص الأصحاب يقول : لوددت أنك كنت متّ قبل هذا اليوم ولم يكن ما كان ، إنا رجعنا راغمين بما كرهنا و رجعوا مسرورين بما أحبوا . فتغير وجه الحسن و غمز الحسين حجراً ، فسكت . فقال الحسن ( عليه السلام ) : « يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب و لا رأيه كرأيك و ما فعلت إلا إبقاء عليك و الله كل يوم في شأن 1 .

هذا الغموض الذي اكتنف الصلح و سربله في حجب كثيفة استعصى على العقول معها إدراك أبعاده ، امتد إلى يومنا الحاضر . فانبرى عدد من المؤرخين المعاصرين يفسرون صلح الحسن ( عليه السلام ) تفسيرات خاطئة فبعضهم يطعن في قدرات الإمام و صلاحيته للقيادة و بعضهم يعزو الصلح إلى حالة جبن و خوف على النفس و آخر يرجعه إلى ميولات عثمانية عميقة في نفس الحسن حجبها وجود أبيه أو هو اندفاع من الإمام لتحقيق نبوة لرسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) .
هذه الاجتهادات في تفسير الحدث لم تكن لتدرك حقيقة المعاهدة و واقع أمرها لأنها أولاً : اعتمدت على رؤية تجزيئية انتخابية تستند إلى مفردة واحدة في سياق حدث معقد تتداخل فيه العوامل و تتضارب معه النصوص التاريخية فمثلا بعضهم يستند إلى حديث الرسول ( صلّى الله عليه و آله ) « إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين » ليعلل الصلح بأنه رغبة من الحسن في تحقيق هذه النبوة .
و لأنها ثانياً : لم تعرف شخصية الحسن حقاً ، و تعاملت معه كأي قائد سياسي بمعزل عن مشروعيته الدينية و موقعه الرسالي المتقدم و التسديد الإلهي الذي يلازمه ، فإن إلغاء جانب الإمامة الإلهية في شخصية الحسن و عدم الاعتراف بها يجعل هؤلاء الباحثين يتيهون في تفاصيل الحدث بل يضيعون في ركام كبير من الروايات الضعيفة و الأقاصيص المفتعلة و يجعلهم يعتقدون أنه قادر على التصرف كيفما شاء دون ضوابط و مرجعية شرعية . و لكن قصد الوصول إلى القراءة الموضوعية لأبعاد الصلح و سره الدفين ، نبدأ أولاً باستعراض كل الافتراضات المطروحة في سياق البحث التاريخي لنعقب أخيراً بالرؤية التي نعتقد أنها الأقرب إلى الواقع :

الفرضية الأولى

الحسن صالح خوفا على نفسه : و هي قديمة قدم الصلح حيث جابه عبد الله بن الزبير الإمام الحسن بهذه التهمة و عاب عليه تسليم الأمر و صلحه مع معاوية ، ولم يخف على الإمام ما يستبطنه ابن الزبير من عداء لآل الرسول فردعه قائلاً : « و تزعم أني سلمت الأمر و كيف يكون ذلك ، ويحك و أنا ابن أشجع العرب و قد ولدتني سيدة نساء العالمين لم أفعل ذلك ويحك جبناً و لا ضعفاً و لكنه بايعني مثلك و هو يطلبني البترة و يداجيني المودة ولم أثق بنصرته » 2 .
و لا يخفى أن الشواهد التاريخية و الوقائع التي سردنا بعضها في الفصل الأول تنفي بقوة هذه الفرضية الباطلة فأين الحسن ( عليه السلام ) من الجبن و متى كان الحسن بن علي الرعديد الجبان حتى يخاف القتل فيتقيه بالتنازل عن ملكه و من أين تَمُت إلى الحسن بن علي الجبانة يا ترى ؟ من أبيه أسد الله و أسد رسوله أم من جدّيه رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) و شيخ البطحاء أم من عميّه سيدي الشهداء العظيمين حمزة و جعفر أم من أخيه أبي الشهداء أم من مواقفه المشهورة في مختلف الميادين يوم الدار و يوم البصرة و في مظلم ساباط 3 .

الفرضية الثانية

إن الحسن ( عليه السلام ) باع الخلافة بالمال لأنه رجل يعيش ترفاً و بذخاً ، و هو بحاجة إلى أموال كثيرة تغطي نفقاته .
فبعض أصحاب هذه الفرضية يقول : « و لكن الحسن الذي كان يميل إلى الترف و البذخ لا إلى الحكم و الإدارة لم يكن رجل الموقف فانزوى من الخلافة مكتفياً بهبة سنوية منحه إياها » 4 .
و هذه تهمة أغرب من سابقتها فالحسن الذي عاش في بيت العطاء و التضحية و الزهد في هذه الدنيا و إيثار الآخرة حتى بقي أهل البيت بدون طعام ثلاث و قدموا إلى رسول الله يرتعشون من الجوع كالفراخ ، فنزل القرآن يخلّد الموقف و يعدهم بجنان و ملك لا يبلي : ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا 5 .
هل يطمع الحسن في المال و هو الذي قاسم الله ماله مرتين و خرج من ماله ثلاث مرات ؟ هل به طمع هذا الذي تملأ كتب السير قصص في جوده و عطاءه و بذله و صون كرامة سائليه!!
و كيف يتنازل عن السلطان من به طمع للمال و ميل للبذخ و الترف أو ليس السلطان باب إلى كل تلك المطامع الدنيوية ؟ أليست الخلافة خير سبيل للثراء و الرفاه و الترف ؟
كلا إن الحسن ( عليه السلام ) فوق الأطماع و قد ضحى بسلطان ملكه و ترك كل الدنيا و زخرفها وراء ظهره في سبيل المبدأ و الرسالة . .
و لعلّ الذي سبب تصديق البعض بهذه الفرضية ما أشيع عن الحسن ( عليه السلام ) من كثرة زوجاته و كثرة إنفاقه في مهور هذه الزوجات و في تسريحه ، فمن الأخبار الواردة في هذا المعنى أن الحسن ( عليه السلام ) تزوج امرأة فبعث لها صداقا مائة جارية مع كل جارية ألف درهم 6 . فزوج بهذه العطاء و هذه التوسعة حينما يتزوج سبعين أو تسعين أو مائتين و خمسين أو ثلاثمائة لابد أن يكون صاحب ثروة طائلة ينفقها و قد رُوي أن الحسن تزوج سبعين زوجة و روى ذلك ابن أبي الحديد و آخرون أخذوها عن المدائني ( ت 225 هـ ) و هو من الضعفاء الذين لا يعول على أحاديثهم يميل إلى الأمويين و يشيد بهم فهو مولى لسمرة بن حبيب الأموي و قد امتنع مسلم من الرواية عنه في صحيحه 7 .
أما الرواية الثانية التي مفادها أن الحسن تزوج تسعين امرأة فقد اقتصر على روايتها الشبلنجي في نور الأبصار و قد رواها مرسلة فلا يعول عليها .
أما الرواية الثالثة و التي مفادها أنه تزوج مائتين و خمسين زوجة و إن وردت في بعض المجاميع الحديثية كالبحار للمجلسي و المناقب لابن شهرآشوب إلا أنها أخذت عن قوت القلوب لأبي طالب المكي ( ت 380 هـ ) و هو لا يعول عليه في الرواية حيث يذكر أحاديث لا أصل لها .
و أما الرواية الرابعة و التي مفادها أنه تزوج ثلاثمائة امرأة فمصدرها كتاب ( قوت القلوب ) أيضاً و قد عرفنا حاله .
و استطراداً لابد أن نقول أن هذه الشبهة واهية تنهار أمام حقائق التاريخ فأين الحسن و انشغاله طوال حياته بشؤون الرسالة و الدين خاصة منذ تولّي أبيه علي ( عليه السلام ) ، من هذا للهو و العبث بين النساء ؟ و أين أولاده لو كان حقاً قد تزوج كل هذا العدد في الوقت الذي لا يتجاوز عدد أبناءه في أقصى الحالات : اثنين و عشرين ولداً ؟‍!

الفرضية الثالثة

الحسن صالح معاوية لأنه ليس أهلا للقيادة و الزعامة .
يفسر الكثيرون التحولات السياسية الحاصلة بعد استشهاد علي ( عليه السلام ) و انتقال الخلافة إلى معاوية بالقصور القيادي عند الحسن فهو كما يدعي البعض لا يمكن أن يقوم مقام علي : « فإنه عندما غاب علي لم يكن أحد على المسرح جديراً بأن يقوم مقامه » 8 .
و يعقب « لقد صمم على عقد السلام مع معاوية لأنه وهن و ضعف و تاه فقد كانت أية مجابهة حربية فوق إمكاناته و وسائله النفسية و ربما كانت المسؤولية الخليفية تفوقها أيضا فلم يكن لديه قوة داخلية كافية لمعاودة صفين » 8 .
و مدّعٍ آخر يقول : « فإن الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية و القابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح » 9 . و يدعم هذا الرأي ثالث فيقول : « إن الحسن كان قديراً على أن يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستثارة و الحماس و بث روح العزم و الإرادة كما رأينا في القادة الحديديين أمثال نابليون الذي تولى شعبا أنهكته الثورة الطويلة . . و لكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس 10 .
ولكن بالتأمل في مثل هذه التقييمات و بقطع النظر عن الدوافع السيئة و النوايا الخبيثة لدى البعض في قراءة أحداث التاريخ و الطعن في رموز الإسلام كما هو ديدن المستشرقين فإن هذه التحاليل تبتني على أساس فهم وضعي للسياسة و القيادة في ظل المنظومة الوضعية للسياسة التي هي ( فن الممكن ) و التوسل بكل الوسائط لتحقيق الهدف « لأن الغاية تبرر الوسيلة » فيكون الحسن قائداً فاشلاً لأنه بحساب الموازين المادية قد فرط في الملك و تمكن خصمه ( السياسي البارع ) و ( القائد اللامع ) من الاستحواذ على الحكم و هذا أقصى آمال السياسي الناجح!
نعم في ضوء هذه التصورات المنحرفة للسياسة يكون الأمر كذلك و لكن غاب عن هؤلاء أن الحسن ( عليه السلام ) إمام ، له القيادة الدينية أولا و بالذات فهو حافظ الشرع و مجسد القيم الإسلامية و أسمى أهدافه أن يقيم حياة الناس على أساس الحق و العدل و موازين الشرع . و يستحيل أن يتوسل بالظلم و الجور في سبيل أهدافه و لن يكون كالديكتاتوريين الذين يملكون الاستعداد لتعبيد الطريق إلى التاج بجماجم الجماهير و على تلال من الأكاذيب و الحيل .
هذه السياسة الملوثة كانت سبيل معاوية و ليس معاوية بأدهى من علي ( عليه السلام ) و الحسن ( عليه السلام ) و لكنه يغدر و يفجر . و لعلي و للحسن ( عليهما السلام ) رادع من تقوى و ورع .
و سيتضح من هذا الفصل و الذي يليه كيف يعبر الصلح عن حنكة سياسة بالغة .

الفرضية الرابعة

الصلح من أجل تحقيق نبوة النبي ( صلّى الله عليه و آله ) .
يرى أصحاب هذه الفرضية أن الصلح كان هدف الحسن منذ البداية و إن الذي يحركه هي تلك النبوة عن رسول الله من أن الله سيصلح به فئتين من المسلمين و ممّن آمن بهذه الفرضية طه حسين في كتاب ( الفتنة ) و من الغريب أن يقف الدكتور طه حسين من هذا الحديث موقفاً سطحياً بعيداً عن منطق الأحداث و الظروف التي ترجح أن الحديث من الموضوعات التي لا واقع لها فبعد أن رجح صحة الحديث قال لقد وقع هذا الحديث موقعا من نفس الصبي أي موقع و كأنه ذكره حين ثارت الفتنة ( يقصد فتنة عثمان ) و حاول بمشورته على أبيه في مواطنه تلك ( حيث يرى طه حسين أن الحسن عثماني الهوى ) أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين فيحقق نبوءة جده و كأن بكاءه حين بكى لم يكن رفقاً بأبيه و إشفاقاً فحسب و إنما كان إلى ذلك حزناً لأنه لم يحقق ما توسم به جده فيه و مضى يقول إن الحسن خرج في عدد ضخم من أهل العراق و كأنه خرج ليظهر لهم الحرب و يدير أمر الصلح فيما بينه و بين معاوية ليحقق نبوة 11 .
و تناقل الرواة الحديث المشار إليه كمنقبة من مناقب الحسن كما اعتبر الشيعة أو أغلبهم ذلك كرامة لأبي محمد الحسن بن علي لأن النبي ( صلّى الله عليه و آله ) خصه بهذه الإشارة و جعل على يديه الصلح بين المسلمين !! حتى أن الشيخ راضي آل ياسين يذكر ذلك في كتابه القيم ( صلح الحسن ) و يعتبر الرواية بشارة أن الحسن رسول السلام في الإسلام 12 .

لكننا نناقش هذه الفرضية من وجهين

أولاً

من جهة الرواية ؛ فهذا الحديث لم يروه سوى أبو بكرة شقيق زياد بن عبيد لأمه سمية و رواه البخاري و أحمد في مسنده عنه و روي الحديث في كتب أخرى بصيغ متقاربة لكن الظاهر أن أصل الحديث هو أبو بكرة شقيق زياد ادّعى أنه رأى رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) على المنبر و هو مرة يقبل على الناس و مرة يقبل على الحسن بجانبه و يقول : « إن ابني هذا سيد… » إلى آخر الحديث .
فلو تم هذا المشهد حقاً أمام جموع المصلين و تحت ناظر المسلمين لماذا لم يروه سوى أبو بكر هذا . . الذي أسلم في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة و معركة حنين أي بعد أن تجاوز الحسن خمس سنوات في الوقت الذي تشير الروايات « إن ابني هذا سيد » أن الحسن له من العمر ثلاث سنوات .
و هو معروف ( أي أبو بكرة ) بانحرافه عن علي و آل البيت ( عليهم السلام ) ولم يشترك مع علي ( عليه السلام ) في حروبه بل كان يثبط الناس عن المشاركة في حربه في الجمل و صفين حيث كان يروي عن الرسول ( صلّى الله عليه و آله ) « أنها ستكون فتنة القاعد خير فيها من القائم » ، ليخذل الناس عن الانضمام لعلي ( عليه السلام ) في قتال الناكثين و القاسطين .
و بالنتيجة فلا شك أن الرواية من موضوعات أبي بكرة أو أنها وضعت و نسبت إليه لإثبات أن معاوية من المسلمين لا من البغاة بعد أن وصمه القرآن بهذه الصفة و أكدها النبي ( صلّى الله عليه و آله ) في حديثه مع عمار الذي رواه عن النبي أكثر الصحابة و كان من أكثر الأحاديث شيوعا و انتشاراً 13 .

ثانياً

أما الوجه الثاني في مناقشة هذه الفرضية أن هذه الأخيرة تفسر حركة الحسن ( عليه السلام ) محكومة بالرغبة في تحقيق نبوة الرسول ( صلّى الله عليه و آله ) في الوقت أن النبوة هي إخبار من النبي عن الغيب بحدث سيحصل بقطع النظر عن أسبابه و مفاعيله و ليست أمراً من الرسول للحسن بان يخضع للمصالحة!
و هكذا يتضح بطلان كل هذه الفرضيات في تفسير و تعليل الصلح و يبقى السؤال معلقاً : لماذا صالح الحسن ؟ و تتوالد أسئلة أخرى ما هي دوافع معاوية ؟ لماذا لم يقدم الحسن على عمل فدائي مع من تبقى من جنده ؟
هل حقق كل منهما أهدافه من الصلح ؟ و ما هي نتائج الصلح و هل جسد بالفعل قاعدة للوحدة بين المسلمين و عنوانا للجماعة 14 .
لنقرأ من جديد الوضع قبيل عقد الصلح و ما الممكنات المتاحة للحسن ؟
وهل كانت له خيارات عديدة أم انحصر الخيار لديه بالصلح ؟
لقد استشهد أمير المؤمنين و هو يهم بغزو الشام و معاودة الحرب على معاوية فلقد دعا واليه على أذربيجان ، قيس بن سعد الذي أنشأ قوة الخميس التي تضم أربعين ألف مقاتل منهم شرطة الخميس و هي فرقة منتخبة تتألف من اثني عشر رجلاً . . .
لكن يبدو أن قطاعات كبيرة من هذا الجيش كان قد أنهكته الحروب المتتالية ضد الناكثين و القاسطين و المارقين و التاريخ ينقل لنا تذمر علي منهم و شكواه من قلة طاعتهم و ركونهم و تخاذلهم عن حقهم . حتى أن معاوية ينسب إليه قوله : « كان علي في أخبث جيش و أشدهم خلاف و كنت في أطوع جند و أقلهم خلاف » .
لقد اندفع هؤلاء المقاتلون لبيعة الحسن ( عليه السلام ) إثر استشهاد الإمام علي بفعل الصدمة الذي خلفتها جريمة قتل علي ( عليه السلام ) في المحراب و عاهدوه أن يسالموا من سالم و يحاربوا من حارب . و لكنها حالة انفعال و غليان عاطفي سرعان ما خبت لتعود النفوس إلى طبيعتها و يغلب عليها الحرص و حب البقاء و كره القتال و خاصة بالنسبة لأهل الكوفة « لأن التجربة أثبتت أن الكوفيين كانوا يرهبون القتال » 15 .
و كان الحسن يعلم أن قلة منهم يملكون استعداداً حقيقياً للتضحية إلى نهاية الشوط ، و لذا قال لحجر عندما تذمر من الصلح : « يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب و لا رأيه كرأيك و ما فعلت إلا إبقاء عليك و الله كل يوم في شأن » 16 .
و من المفيد أن نحلل أكثر تركيبة الكوفة و جيشها لنرى سرّ هذا التفكك و عدم الاستعداد العالي للقتال و الفداء و القابلية للتمرد و العصيان :
يصنف صاحب صلح الحسن 17 عناصر الكوفة إلى القوى التالية :

أ ) الحزب الأموي

بعضهم من أعيان القوم من ذوي الأتباع و النفوذ لعبوا دوراً كبيراً في التآمر على الحسن و شق صفوفه من المنتسبين إلى هذا الحزب : عمرو بن حريث ، عمارة بن الوليد بن عقبة ، حجر بن عمرة . و عمر بن سعد بن أبي وقاص ، و أبو بردة بن أبي موسى الأشعري .
و هم الذين كتبوا إلى معاوية بالسمع و الطاعة في السر و استحثوه على المسير نحوهم و ضمنوا له تسليم الحسن إليه عند دنوهم في عسكره أو الفتك به .
و قد وعد معاوية بعض أفراد هذه الحزب أنك إن فتكت بالحسن فلك مائة ألف درهم و جند من أجناد الشام و بنت من بناتي ، « و دسَّ معاوية إلى عمرو بن حديث و الأشعث بن قيس و حجار بن أبجر و شبث بن ربعي دسيسة و آثر كل واحد منهم بعين من عيونه أنك إذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم و جند من أجناد الشام و بنت من بناتي فبلغ الحسن ( عليه السلام ) ذلك فاستلأم ( أي لبس اللاّمة ) و لبس درعاً و كفرها و كان يحترز و لا يتقدم للصلاة بهم إلا كذلك فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة » 18 .

ب ) الخوارج

حسب بعض مصادر التاريخ يتراوح عددهم في الكوفة بين 4000 إلى 7000 خارجي ، انضم بعضهم إلى جيش الحسن لأنه لم يكن في نظرهم مشتركا في كفر أبيه و لأنهم أيضا ً كانوا حريصين على قتال معاوية و بغاة الشام .
و ربما كانت خطتهم الماكرة في التسلل إلى جيش الحسن و تأجيج الحرب بين فئتين من أعدائهم و انتظار فرصة قتل الحسن بلحاظ أن أهم أغراضهم هو اغتيال الرؤوس الكبيرة في الإسلام .
ولم يكن دور الخوارج التخريبي بأقل من دور الحزب الأموي حيث انتهزوا فرصة ، استشارة الحسن جنده ، فيما عرضه عليه معاوية من مصالحة ليكفروا الحسن و ادعاء أنه كفر مثل أبيه و تحتم قتله و هجموا على معسكره فسلبوه و نهبوا كل شيء في خيمة الحسن و توج هؤلاء مؤامرتهم بالطعنة النجلاء التي وجهها خارجي كان يتربص به في مظلم ساباط طعنة بمنجل أصابت فخذه فانشقت حتى العظم .

ج ) الشكاكون

القسم الثالث في تركيبة الكوفة : هم الشكاكون و هم المتأثرون بدعوة الخوارج دون أن يكونوا منهم فهم « كانوا طائفة من سكان الكوفة و من رعاعها المهزومين الذين لا نية لهم في خير و لا قدرة لهم على شر و لكن وجودهم لنفسه كان شراً مستطيراً و عوناً على الفساد و آلة مسخرة في أيدي المفسدين » 19 .

د ) الحمراء

ليسوا عرباً هم المهجنون من موال و عبيد و لعلّ أكثرهم من أبناء السبايا الفارسيات اللائي أخذن في ( عين التمر ) و ( جلولا ) سنة 12 إلى 17 هـ فهم حملة السلاح سنة 41 ه‍ و 61 ه‍ في أزمات الحسن و الحسين ( عليهما السلام ) في الكوفة .
و الحمراء شرطة زياد الذين فعلوا الأفاعيل بالشيعة سنة 51 هـ فهم أيدي الطواغيت و يحسنون الخدمة حين تشترى ذمهم و هم أجناد المتغلبين .

هـ ) أنصار الحسن

و هم شيعة الحسن و علي ( عليهما السلام ) و هم الأكثر عدداً في عاصمة التشيع الكوفة . و من بينهم مجموعة من بقايا المهاجرين و الأنصار لحقوا علياً بالكوفة و كان لهم مكانة لائقة لصحبتهم لرسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) منهم حملة القرآن و قادة الحروب و زهاد الكوفة و هم الجناح القوي في جبهة الحسن ( عليه السلام ) و منهم قيس بن سعد بن عبادة و حجر بن عدي و عمرو بن الحمق ، و سعيد بن قيس الهمداني و حبيب بن مظاهر . . الخ .
و انعكست هذه التركيبة على جيش الحسن ( عليه السلام ) فكانت طليعة من المخلصين و الأنصار الصادقين محاطين بذيول من المتآمرين و الحاقدين كان جيشاً له القابلية للتفكك بسبب هذا التنوع في الولاء و المصالح إضافة إلى مؤامرات معاوية التي تدفع قوى من داخل الجيش لنشر الإشاعات الكاذبة و ترويج نزعات الاستسلام و الصلح .
كان لمعاوية الفرصة السانحة لشراء ذمم الكثير من هؤلاء ، كما كانت له الفرصة سانحة لنشر الانقسام و الفرقة بينهم ، و هكذا كان . بل بلغ به الأمر أن استمال أحد قادة الحسن ( عليه السلام ) و ابن عمه عبيد الله بن العباس كما مرّ بنا في الفصل الأول و ضرب بذلك جيش الحسن ( عليه السلام ) ضربة في الصميم . .
بالمقابل فإن جبهة معاوية تتصف بالقوة في الكم حيث استطاع معاوية أن يجند مائة ألف مقاتل سيوفهم معه و قلوبهم أيضا معه .
و السرّ في ذلك يرجع إلى سياسة معاوية في التضليل الإعلامي و الديني فقد روج طوال حكمه الشام و منذ أن كان والياً للخلفاء أنه أقرب الناس للنبي ( صلّى الله عليه و آله ) و أن بني أمية هم الورثة الشرعيون للرسول ( صلّى الله عليه و آله ) حتى أن العباسيين لما فتحوا الشام اعتذر أهل الشام بأنهم ما علموا لرسول الله من قرابة و لا أهل بيت يرثونه سوى بني أمية .
و ليس ذلك بصعب على من يحول رمز الإسلام الخالد علي ( عليه السلام ) و عنوان الإنسان الكامل ، في ذهن الشاميين إلى باغ أو خارجي يستحق اللعن و يلعن طيلة أربعين سنة!!
و ساعد معاوية في تعليب وعي الجماهير البساطة و السذاجة التي اتسم بها هؤلاء حتى أن معاوية يقول : أبلغ علياً أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة و الجمل .
و مقابل التفكك و الانحلال في جيش الكوفة و تنوع الميول و الاتجاهات ، كان جيش معاوية منقادا موحدا في إطار نظرة واحدة فرضها معاوية بدهاء و مكر و ارتشاء للضمائر و لواضعي الأحاديث المزيفة في تمجيده و تمجيد بني أمية و سب علي ( عليه السلام ) و آل بيته .
ولم تصب الشام بأفكار معادية للحكم القائم و كلنا يعرف ماذا فعل معاوية حين نفي عثمان أبا ذر إلى الشام ، و الثورة التي أحدثها أبو ذر في الشام مندداً بمعاوية و سياسته حينذاك ألح معاوية على عثمان أن يبعد أبا ذر عن الشام بعد أن فشلت كل محاولات استمالته و كان ما أراد معاوية و أُبعِدَ أبو ذر للربذة . .
لقد كان معاوية حريصاً على بقاء الشام قاعدة موحدة لبني أمية لا تلهج إلا برؤية واحدة ، و لا تدين بالولاء إلا لمعاوية و آل سفيان . فلا نجد في جيش معاوية لا خوارج و لا عملاء و لا عيون للجبهة الأخرى و استعان معاوية في تحقيق هذا الإنجاز بحاشية من الدهاة و المكرة الذين لا يتورعون أن يقوموا بأي عمل في سبيل التقرب إليه و تحقيق مآربه أمثال عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و بالأموال الطائلة التي جمعها من الضرائب التي فرضها على البلاد تحت سيطرته ولم يوزع هذه الأموال في خدمة المسلمين بل لتوطيد سلطانه و شراء الضمائر و الولاءات .
و لما عزم على قتال الحسن و درءاً لخطر الروم عقد معاوية هدنة مع ملك الروم و دفع له أموالا طائلة سدا لباب الحرب ، حتى يتفرغ لقتال الحسن بجيشه الذي لا يزال يتمتع بقوته و نشاطه حيث لم يدخل في حرب سوى حرب صفين .
و المتأمل في موازين القوى بين الطرفين يلمح بوضوح الاختلال الخطير لصالح معاوية و جيشه .
و لكن الأمر لن يقف عند هذا الحد بل إن اختلاف الأساليب بين القائدين الحسن ( عليه السلام ) من جهة و معاوية من جهة أخرى ، يعزز هذا الاختلال في موازين القوى و إمكانية التأثير سلبا على قوة الطرف الآخر . .
فأساليب الإمام الحسن ( عليه السلام ) تضبطها القيود الشرعية و أحكام الإسلام و تقوى الرجل و ورعه فهو إمام حق حافظ الدين و وصي رسوله الكريم . و هو على درب علي ( عليه السلام ) الذي ابتلي بهذا الإسلام التحريفي الذي يدعيه البعض فكانت مسؤوليته تجسيد الإسلام الواقعي في القيادة حتى يعطى للأمة النموذج الصحيح للقيادة و الحكومة الإسلامية في أجواء عصفت بقيم الدين و أحكام الرسالة .
و باستقراء مواقف الحسن ( عليه السلام ) و كتاباته لمعاوية و خطاباته لجنوده نرى أن الدين و حمل أمانة الرسالة و هاجس النجاة في الآخرة و ابتغاء مرضاة الله هي الدوافع الأساسية التي تحدد أساليبه في المعركة . و في ضوء هذا الالتزام الخلقي الصارم نفسر جملة من مواقف الإمام الحسن ( عليه السلام ) :
أولاً :
عدم مبادرته بالقتال و عدم الخروج بالجيش إلا مع علمه بتوجه معاوية نحو العراق بجيشه الجرار و هو بذلك يلتزم بسيرة أبيه و خلقه بعدم المبادرة لقتال أحد حتى يكون هو البادي .
ثانياً :
التزام الحسن بالمعاهدة و عدم نقضها رغم كل الخروقات التي قام بها معاوية حتى أنه كلما جاءه وفود من الكوفة يطلبون منه نقض المعاهدة كما نقضها معاوية و الرجوع إلى القتال رفض ذلك و بقي ملتزما بالعهد إلى استشهاده ( عليه السلام ) .
ثالثاً :
عدم نهج أساليب معاوية في شق صفوف الجيش الآخر أو توظيف بعض عناصر العدو من أجل مؤامرة اغتيال رمز أو بث دعاية مع توفر إمكانيات لذلك . فعلى سبيل المثال تذكر كتب التاريخ أنه جاء ذات مرة رسول معاوية للحسن ( عليه السلام ) و كان فيما قاله « أسأل الله أن يحفظك و يهلك هؤلاء القوم فقال له الحسن رفقا لا تخن من ائتمنك و حسبك أن تحبني لحب رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) و لأبي و أمي و من الخيانة أن يثق بك قوم و أنت عدو لهم و تدعو عليهم » 20 .
أين هذه الأخلاق العالية من تهتك معاوية و صلفه فالحسن لا ينصف العدو من نفسه فحسب! بل يعلمه قيم الأمانة و الوفاء و ان كان ذلك على حسابه إنه يجعل قيم الدين و أخلاق الإسلام فوق كل اعتبار .
أين هذا القائد الإمام من ذلك القائد الشيطان معاوية الذي لم يترك سبيل غي أو شر يستخدمه للوصول إلى مبتغاه ، فهو تارة يرغب الحسن و يمنيه بالمال و مشاركته الأمر ، و تارة أخرى يهدده ؛ فقد جاء في كتاب معاوية للحسن :
« فادخل في طاعتي و لك الأمر من بعدي و لك ما في بيت مال العراق بالغاً ما بلغ تحمله إلى حيث أحببت و لك خراج أيّ كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك و يحملها إليك في كل سنة و لك إلا نستولي عليك بالإساءة و لا نقضى دونك الأمور » 21 .
و في كتاب آخر يقول :
« فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس و ايئس أن تجد فينا غميزة ، و إن أنت أعرضت عما أنت فيه و بايعتني وفيت لك بما وعدت » 22 .
و هو الذي رشا القتلة لاغتيال الحسن ( عليه السلام ) كما مرّ بنا سابقاً و نشر الدعايات الكاذبة ولم يتورع في تلفيق الافتراءات من أجل شق صف الخصم بشراء أصحاب النفوس الضعيفة .
و أساليب معاوية هذه تعكس حقيقة موقفه من الدين .
فلا دين و لا وحي إنما هي ملك و سلطان يريد اغتصابه لإعادة مجد بني أمية ؛ الشجرة الملعونة في القرآن . و هذا يفسر لنا محاولته الجادة في علمنة السلطة حيث يخاطب الحسن في إحدى رسائله :
« و الحال فيما بيني و بينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم و أبو بكر بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه و آله ) فلو علمت انك أضبط مني للرعية و أحوط على هذه الأمة و أحسن سياسة و أقوى على جمع المال و أكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه و رأيتك لذلك أهلا و لكن قد علمت أني أطول منك ولاية و أقدم منك بهذه الأمة تجربة و اكبر منك سناً فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني » 23 .
إن معاوية يريد عزل الدين جانباً فالصراع سياسي و الموازين لابد أن تكون بمعزل عن مفاهيم الدين و الشرعية و التقوى و الورع ، أنها الخبرة و السن و الكيد للعدو! فمعاوية « دشن طريقه في إضفاء العلمنة على مفهوم السلطة لأنه برهن ، أن السلطة تكون لمن يحسن أخذها و تعهدها و الحفاظ عليها » 24 .
و هذا الحرص من معاوية على علمنة السلطة و إلغاء العنصر الديني ، إنما ينبع من عقدة معاوية خاصة و آل أبي سفيان من الألقاب التي منحها الإسلام لهم فهم بميزان ديني كفار ابتداء في أول عهد لهم و حتى بعد إسلامهم هم طلقاء ثم بعد ذلك منحه الإسلام لقب الباغي فلابد من عزل الدين من ساحة المعركة خاصة إذا كان الطرف الآخر إمام حق و حفيد رسول الله و صاحب الشرعية الدينية و التاريخية ، فلن يرجح كفة معاوية سوى المكر و الانقلاب و الخديعة .
و بالنتيجة فالحسن ( عليه السلام ) يقف على ممكنات مضطربة ؛ جيش مهزوز أرهقته الحروب المتتالية و لا حافز لديه للقتال . خاصة بعد يأسهم من الغنائم فهم لم يكسبوا من حرب الجمل و صفين و النهروان شيئاً من العتاد و الأموال لأن الإمام أمير المؤمنين لم يعاملهم معاملة الكفار ولم يقسم الغنائم على المقاتلين و إنما أمر بإرجاع الأموال التي اغتنمها الجيش إلى أصحابها و قد علم المقاتلون أن الحسن لن يحيد عن سيرة أبيه فلم يثقوا بالأموال و الغنائم لو قاتلوا معاوية لذلك تنادوا بصوت واحد حينما عرض عليهم الحسن ( عليه السلام ) مشروع معاوية للصلاح : البُقية !! البُقية !!
و تقيده فوق ذلك التزاماته الأخلاقية و سيرته كمثل أعلى للقائد الإسلامي .
أما معاوية فله القوة و العتاد و الجيش موحد الصف و الولاء و من جهة أخرى هو طليق في أفعاله و تصرفاته .
في مثل هذه المواجهة لن تكون الحرب رابحة البتة ، فإقدام الحسن في هذه الحالة على القتال يعني منح معاوية فرصة لاستئصال أهل البيت و أنصارهم من على وجه الأرض .
فاختيار الصلح كان يعبر بعمق عن نضج سياسي و بعد نظر خاصة إذا لاحظنا إستراتيجية حركة الإمامة ككل ( و سيأتي الحديث في الفصل الرابع ) . و لكن بعد المقارنة بين الممكنات و الأساليب عند كل من الإمام الحسن ( عليه السلام ) و معاوية بقي أن نسأل عن الأهداف : فما هي أهداف معاوية من الصلح و ماذا حقق ؟ و ما هي أهداف الحسن ؟ و الى أي مدى حقق تلك المرامي ؟!
أما بالنسبة لمعاوية فهدفه المركزي واضح ؛ و هو الوصول إلى المنصب و تكريس سلطته على رقاب المسلمين و هو يعلم أنه لن يصل إلى المنصب إلا بتنحي الحسن بطريقة أو بأخرى فمع وجود الحسن لن تدين له كل الأمة بالطاعة .
و هو إن حاول اغتيال الحسن ( عليه السلام ) لنفس الغاية إلا أنه قطعاً يرغب في تحقيق الهدف بالصلح لأنه أقل كلفة ، و من هنا ما كان ليرغب في قتال إن أمكن بلوغ مطامعه بدون سفك دماء .
و الهدف الثاني : إرجاع مجد الأمويين الذي اندثر مع الإسلام لتعلو كلمة الله و كلمة رسوله و أهل بيته ( عليهم السلام ) و هذا ما كان يغيظ معاوية و يزيده حنقاً و سخطاً على علي و بني هاشم عموماً ، فلم يكتف بغصب الخلافة من أصحابها الشرعيين بل سعى لجعلها وراثة في عقبه بأخذه ولاية العهد لابنه يزيد!
و الهدف الثالث : الثأر من بني هاشم ؛ فها هو معاوية يكتب لعماله بعد أن علم إصرار الحسن على القتال يستحثهم على القدوم إليه و حشد الجند فهنأهم بإصابة الثأر بقتل علي ( عليه السلام ) فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم و جندكم و حسن عدتكم فقد أصبتم بحمد الله الثأر و بلغتم الأمل و أهلك الله أهل البغي و العدوان و السلام عليكم 25 .
أما الإمام الحسن فكان يستهدف أساساً من الصلح أربعة غايات أساسية :
أولاً :
حفظ شيعته و الخلّص من أنصاره و قد ردد هذا الهدف في كثير من كلماته منها : قوله لحجر بن عدي « ليس كل الناس يحب ما تحب و لا رأيه كرأيك و ما فعلت إلا إبقاء عليك و الله كل يوم في شأن » 26 .
و قوله : « ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل » 27 .
و قوله : « ما تدرون ما عملت والله الذي عملت خير لشيعتي من ما طلعت عليه الشمس » 28 .
و قوله : « إني خشيت أن يجتث المسلمون من وجه الأرض فأردت أن يكون للدين داعي » .
و قوله : « أيها الناس إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا و معاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة و حقن دمائها » 29 .
و قوله : « لولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل » 30 .
ثانياً :
فضح معاوية و كشف زيفه و عدم أهليته لإمامة المسلمين « انه لبّى طلب معاوية للصلح و لكنه لم يلبه إلا ليركسه في شروط لا يسع رجلاً كمعاوية إلا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً ثم لا يسع الناس إذا فعل هو ذلك إلا أن يجاهروه السخط و الإنكار فإذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الأجيال و إذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ » 31 .
ثالثاً :
تحقيق هدنة تمكن الإمام من إعادة ترتيب قواعده . في انتظار الفرصة الملائمة للنهوض و الثورة ، لقد شخص الحسن ( عليه السلام ) أن الظرف غير مناسب لعمل مثالي استشهادي من هنا آثر السلم و الصلح و دعا شيعته أن يبقوا جلس بيوتهم في انتظار تغير الظروف .
لم تكن حركة الحسن التصالحية حالة معزولة بل هي حلقة في إطار إستراتيجية الأئمة في العمل ( كما سيتضح من خلال الفصل القادم ) .
و لقد التفت بعض الباحثين لأهمية هذه النقطة فتحدث عن خطة جديدة في العمل رسمها الحسن ( عليه السلام ) مع الوفد الذي جاءه من الكوفة يطلب منه نقض العهد و الرجوع للحرب ولكن الإمام أرجعهم بخطة تقوم على الركون مؤقتاً في انتظار الظرف الملائم ، و اعتبر طه حسين هذا اللقاء هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسي المنظم لشيعة علي و بنيه!!
هذه أهداف الحسن ( عليه السلام ) وتلك أهداف معاوية و شتان بين هذه و تلك و التاريخ يعترف أن معاوية انتصر إلى حين و لكن أهداف الحسن ( عليه السلام ) هي التي بقيت خالدة لا لشيء إلا أن الحسن ما كان ليؤثر الدنيا و السلطان الزائل على الرسالة و المبادئ الخالدة .
و كما يقول ( عليه السلام ) : « لو كنت بالحزم في أمر الدنيا و للدنيا أعمل و أنصب ما كان معاوية بأبأس مني و أشد شكيمة و لكني أرى غير ما رأيتم و ما أردت فيما فعلت إلا حقن الدماء فارضوا بقضاء الله و سلموا الأمر و الزموا بيوتكم و امسكوا و كفوا أيديكم حتى يستريح بر و يستراح من فاجر » 32 .

  • 1. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 16 / 214 .
  • 2. باقر القرشي : حياة الإمام الحسن : 2 / 273 .
  • 3. راضي آل يس : صلح الحسن : 209 .
  • 4. فيليب حتى : العرب : 78 نقلاً عن باقر القرشي حياة الإمام الحسن : 112 .
  • 5. القران الكريم : سورة الإنسان ( 76 ) ، الآيات : 8 - 12 ، الصفحة : 579 .
  • 6. انظر حياة الحسن باقر القرشي : 451 .
  • 7. م س ص 446 .
  • 8. a. b. هشام جعيط : الفتنة : 313 ـ 316 .
  • 9. نقلاً عن حياة الإمام الحسن : المستشرق روايت رونلدس : 113 .
  • 10. العلائي نقلاً عن القرشي في حياة الحسن ( عليه السلام ) : 13 .
  • 11. هاشم معروف الحسني : سيرة الأئمة الاثني عشرة : 1 / 589 .
  • 12. انظر صلح الحسن : 174 ـ 175 .
  • 13. هاشم معروف الحسني : سيرة الأئمة الاثني عشر : 1 / 587 .
  • 14. يشير صاحب كتاب الفتنة إلى أن المحدثين نشروا فكرة أن سنة ( 41 هـ ) عام الصلح تدعى سنة الجماعة أو الوحدة و هذا لم يرد في أي مصدر قديم .
  • 15. هشام جعيط : الفتنة : 315 .
  • 16. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 16 / 214 .
  • 17. انظر ص 68 .
  • 18. علل الشرائع : نقلاً عن صلح الحسن : 69 .
  • 19. راضي آل يس : صلح الحسن : 72 .
  • 20. الملاحم و الفتن : نقلاً عن صلح الحسن : 231 .
  • 21. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 16 / 228 .
  • 22. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 16 / 228 .
  • 23. م . س ص 228 .
  • 24. هشام جعيط : الفتنة : 324 .
  • 25. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 16 / 225 .
  • 26. م س ص 214 .
  • 27. الدينوري نقلاً عن صلح الحسن : 238 .
  • 28. صلح الحسن : 233 .
  • 29. أعيان الشيعة .
  • 30. البحار نقلاً عن صلح الحسن : 200 .
  • 31. صلح الحسن : 250 .
  • 32. كتاب صلح الامام حسن من منظور آخر لكاتبه الأسعد بن علي : الفصل الثالث .