الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الاحتكار بين الفقه الإسلامي وتصوّرات النظام الرأسمالي

الاحتكار بين الفقه الإسلامي وتصوّرات النظام الرأسمالي (الحكرة: نظام السوق والحقوق الحصريّة)

يمكن أن يطلق الاحتكار في الاصطلاح الجديد على قصر إنتاج سلعةٍ ما على شركةٍ أو مؤسّسة خاصة أو متعدّدة، وفي هذه الحال ـ أي حقوق حصر الإنتاج أو التوزيع أو التسويق أو غير ذلك ـ هل يمكن اعتبار هذا المعنى للاحتكار، وهو معنى متداول اليوم في الاستخدام القانوني، مشمولاً لأدلّة حرمة الاحتكار أم أنه لا علاقة له به؟

إنّ هذا المدلول الجديد للاحتكار (monopoly) وهو المدلول السائد في النظام الرأسمالي يحتاج إلى دراسة مركزّة؛ لأنّ الخلط المصطلحي والمفاهيمي أوجب تداخلاً كبيراً هنا، فهل الاحتكار الذي منعت عنه الشريعة الإسلامية يستوعب هذا المعنى للاحتكار أم أنه لا علاقة له به ولا يرتبط به أساساً؟

ولم نجد معالجةً جادّة لهذا الموضوع، ولو على مستوى العرض والتحليل والمقارنة في كلمات اللفقهاء حتى في القرن الأخير إلا قليلاً هنا أو هناك، مع أنّ الموضوع يحتاج إلى متابعة.

ولكي تنجلي الصورة، نقوم في البداية بشرح طبيعة المفهوم في النظام الرأسمالي الحديث، ثم نقوم بإجراء مقارنة لمعرفة هل هناك حكم واحد للحالين أم لا؟

أ ـ مفهوم الاحتكار في النظام الرأسمالي

لفهم سوق الاحتكار في النظام الرأسمالي، لابدّ من فهم نقيضه، وهو سوق المنافسة الحرّة التامّة، وهي سوق تتوفر على الخصائص التالية:

1 ـ كثرة البائعين والمشترين، فهذه الكثرة تحول دون تأثير أحد البائعين أو المشترين بمواقفه أو قراراته أو دخوله أو خروجه، على القيم والأسعار، كما تصيّر الشركات ذات أحجام صغيرة.

2 ـ حرية دخول السوق والخروج منه وعدم وجود اتفاق بين أطرافه، الأمر الذي يحول دون إمساك جهة ما بمفاصل الإنتاج والتوزيع.

3 ـ التجانس بين السلع المنتجة، بمعنى أنّ المستهلك يرى السلع المعروضة التي تشكّل بدائل وافيةً بأن تحلّ محلّ بعضها وإلا كانت كلّ سلعة لوحدها.

4 ـ معرفة البائع والمشتري بظروف السوق وأسعاره وغير ذلك.

وتحقق هذه الشروط والخصائص قليلٌ في الواقع العملي، لكنه يشكّل المثال /الأنموذج الذي يتجه النظام الرأسمالي ـ نظرياً ـ لتبنّيه، حيث يرى أنه كفيل بتحقيق التوازن الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

وتتعدّد أشكال الاحتكار في النظام الرأسمالي، ويمكن اختصارها على الشكل التالي:

1 ـ الاحتكار التام

ويسمّى بالاحتكار الكامل أو الخالص أو البحت، ويراد منه سوق معيّنة تنعدم فيها المنافسة وتتوفر فيها الشروط التالية:

أ ـأن يكون هناك منتج واحد للسلعة أو مؤسّسة واحدة تكون هي المسؤولة عن الإنتاج أو عن خدمة معينة، وتكون هذه السلعة أو السلع هي الصناعة الكاملة في هذا البلد.

ب ـأن لا يكون هناك بديل تام لهذه السلعة أو الخدمة المنتَجَة.

ج ـأن تكون هناك عوائق جادّة تحول دون دخول مؤسّسات جديدة إلى هذه السوق، وذلك مثل العوائق القانونية التي تشكّل ـ مثلاً ـ امتيازات حكومية، أو العوائق الاقتصادية كسيطرة المؤسّسة المحتكرة على الموادّ الخام الرئيسة التي يحتاجها إنتاج هذه السلعة.

د ـأن يكون المستهلكون لهذه السلعة متوفّرون بأعداد كبيرة، مما يعني أنه لا يتمكّن مستهلك واحد أن يؤثر على قيمة تلك السلعة في السوق.

هـ ـوصول المحتكر إلى أقصى ربح ممكن عبر تحكّمه بالكميات المعروضة من السلعة.

هذا النوع من الاحتكار يعدّه الاقتصاديون صعب التحقّق، وإن كان متصوّراً نظرياً، فهو على النقيض تماماً من سوق المنافسة الحرّة؛ لأنّ الشروط المذكورة له ـ لاسيما عدم وجود بدائل للسلعة ـ تغدو بعيدة التحقيق في الحياة العامة، إلا في حالات نادرة.

2 ـ المنافسة الاحتكارية

وهي سوق تختلف شروطها عن السوق الأولى، وتقوم على:

أ ـوجود عدد كبير من المؤسّسات المنتجة وكل واحدة منها لها سلوكها المستقلّ عن نشاط الثانية، إلا أنّ عددها لا يصل إلى عدد الشركات والمؤسّسات التي يعرفها سوق المنافسة التامّة.

ب ـأن تكون القوّة الاحتكارية لكلّ مؤسسة منها ضعيفة، والسبب في ذلك هو عدم وجود تجانس بين المنتوجات، بل يكون هناك اختلاف ولو بسيط بينها، إلا أنّ السلع تعدّ بدائل قريبة من بعضها، وهذا ما يفرض على كلّ مؤسسة أن تأخذ في تسعيرها لبضائعها اهتمام الزبائن بالبديل الخاص الذي تنتجه، كما يفرض عليها تقديم أسعار تكون في الغالب قريبةً من أسعار منتوجات الشركات المنافسة لها.

ج ـتتوفر في هذه السوق حرية الدخول إلى المجال الصناعي ورفع العوائق دون ذلك، وهذا هو الذي يعطي هذه السوق صفة التنافس التي يتّسم بها.

3 ـ احتكار القلّة (oligopoly)

وهي سوق تمثل أضيق أنواع المنافسة الاحتكارية، ويكون عدد المنتجين فيها قليلاً، مما يفرض تأثير كل مؤسّسة في مواقفها على سائر المؤسّسات، فلو خفضت واحدة منها سعر منتوجاتها فرض ذلك على سائر المؤسّسات والشركات تخفيض السعر دون العكس.

وتختلف الحال مع السلع المنتجة في هذه السوق، فقد تكون متجانسة بشكل تام وقد تكون مختلفة لكنها تمثل بدائل لبعضها، والذي يحصل أحياناً أن تتفق هذه المؤسّسات والشركات فيما بينها فتكوّن «كارتل» اقتصادي للتنسيق وتوحيد الرأي، الأمر الذي يقارب هذه السوق من الاحتكار التام. ومثال ذلك على صعيد الاقتصاد العالمي منظمة «أوبك».

إلا أن ّ وجود اختلاف بين المنتجين في حجم الكمّيات المعروضة والأسعار وحصص الإنتاج وغير ذلك يفضي إلى تضعضع هذا الكارتل الاقتصادي، كما حصل تماماً مع منظمة أوبك.

يشار إلى أنّ أسواق المنافسة الاحتكارية واحتكار القلّة تمثل العديد من الأسواق الحالية في العالم، مثل صناعة السيارات والسجائر وشبكات البث المرئي، والمطاعم، والصناعة، والخدمات المصرفية.

4 ـ الاحتكار البسيط

وهو السوق التي ينفرد فيها المنتج أو العارض بسلعته التي يكون لها بديل قريب، لكنّ المعارضة والمنافسة لا تكون شديدة.

هذه هي أشكال الاحتكار في السوق الرأسمالي، وهي تعبّر عن أنماط متعدّدة من السوق، ويطلق الاقتصاد الوضعي عنوان الاحتكار على هذه السوق نظراً إلى:

1ـقيمة السلع فيه تكون أعلى منها في سوق المنافسة التامّة.

2ـكميات السلع المعروضة والمنتجة تكون أقلّ في العادة مما لو توافرت شركات كثيرة.

3 ـتوفر إمكانية سوء الاستغلال الاقتصادي، انطلاقاً مما تقدّم، الأمر الذي لا يوفر لنا الأنموذج المنشود للرفاه الاقتصادي.

4ـتراجع مستوى الإبداع والتجديد في الإنتاج وفنونه؛ لأنّ المؤسّسة أو الشركة تجد نفسها قد توفرت على أرباح طائلة من خلال طبيعة هذه السوق، وحيث إنه لا يوجد لها منافس خطر فإنها لا تسعى لتطوير الإنتاج وتحسين الجودة.

لكن مع هذا كلّه، ثمّة نوع من الاحتكار ينظر إليه بنظرة إيجابية في تحسينه للكفاءة الاقتصادية، لهذا يتم تشجيع الاحتكار في بعض الحالات، ويطلقون على هذا النوع من الاحتكار عنوان «الاحتكار الطبيعي» أو natural monopoly، ويتميّز بانخفاض تكلفة الإنتاج عندما يتم إسناد الإنتاج إلى مؤسّسة واحدة ويمثلون لذلك بشركات الكهرباء.

وإلى جانب ذلك، هناك في ثقافة النظام الرأسمالي فكرة الحقوق الحصريّة التي تستوعب بعض ما تقدّم إلى جانب حقوق الابتكار والنشر والتوزيع والاختراع وغير ذلك.

ب ـ مفهوم الاحتكار في النظام الإسلامي

تبيّن مما سبق من أبحاث أنّ الاحتكار في التصوّر الفقهي الإسلامي هو حبس الطعام أو مطلق ما يحتاج إليه الناس يتربّص به الغلاء، وأنّ الامتناع عن البيع مع عدم توفر السلعة في السوق عند أطراف آخرين يعدّ جريمة في الإسلام.

وقد شرط الفقه الإسلامي ـ على مستوى بعض مدارسه ـ مدداً زمنية في الاحتكار، وسبقه بالشراء لا الحصول على السلعة التي يمتنع عن بيعها بغير طريق الشراء.. وغير ذلك من القيود التي تعرّضنا لها وناقشنا في كثير منها.

ج ـ مقارنة بين الاحتكار بمفهومه الوضعي والإسلامي

إنّ المقارنة بين مفهومي الاحتكار في الاقتصاد الوضعي والفقه الإسلامي تعطي نتيجة واضحة عن وجود اختلاف جوهري بينهما، وأنّ الخلط الذي وقع فيه بعض المشتغلين في الفقه الإسلامي لم يكن صحيحاً إطلاقاً. ويتضح التغاير المدّعى هنا عبر النقاط التالية:

أولاً: إنّ الاحتكار في التشريع الإسلامي يعني حبس السلع والحيلولة دون وصول الناس إليها، فيما في الاقتصاد الوضعي لا يستبطن الاحتكار أيّ عنصر من عناصر حبس السلع، وإنما هو تركيبة أو هيكلية معيّنة للسوق تسمح لشركة واحدة أو متعامل واحد فيه بإنتاج سلعة أو خدمة ما وحمايته من منافسة الآخرين له، فالاحتكار عند القانونيين إنما يجعل إنتاج السلع أو توزيعها وعرضها بيد جهة خاصّة لا تمتنع عن الإنتاج بل تتفرّد به مع التصدّي التام له، وإنما جعل ذلك احتكاراً من باب وجود القدرة على التحكّم في الإنتاج تارةً والقيم أخرى، فيما لا يعبّر الاحتكار في الفقه الإسلامي عن مطلق القدرة التحكّمية في السوق، بل عن التحكّم به عن طريق المنع عن تداول السلعة فيه خاصّة.

ثانياً: إنّ الاحتكار في الاقتصاد الوضعي إنما يواجه مشكلة التحكّم في الأسعار بوصفه غرضاً نهائياً للشركات الاحتكارية، وهذا معناه أنّ الاحتكار بمفهومه الوضعي مرتبطٌ فقهياً بمسألة التسعير وحجم الربح، وليس مرتبطاً بالاحتكار بمفهومه الإسلامي، والمعروف في الفقه الإسلامي أنه لا يوجد تسعير إلا في إطار العناوين الثانوية وتدخّل الدولة بما تراه من مصالح زمنية تضبط الأسعار، فمن يقول بجواز أن يسعّر المالك سلعته ويربح دون ضابط للربح لا يرى الاحتكار الوضعي حراماً من هذه الزاوية.

وهذا يعني أن دراسة الاحتكار بمفهومه الوضعي يجب أن لا ترتبط فقط بمفهومه في الفقه الإسلامي، وإنما بمجموعة مفاهيم أخرى كحجم الربح والتسعير وغير ذلك، فإذا استدلّ الفقيه على حرمة الاحتكار بقانون تحريم الضرر فلا يمكن أن يحكم من خلاله بحرمة الاحتكار بمفهومه الوضعي، لاسيما في نوع المنافسة الاحتكارية؛ لأنه من الصعب إثبات الضرر في هذه الحال، وكذلك الحال في دليل الحقّ العام حيث يصعب على الفقيه أن يمنع عن سوق المنافسة الحرّة أو احتكار القلّة مثلاً بدليل الحقّ العام، هذا فضلاً عمّا إذا جعلنا النصوص الخاصّة هي المرجع في الاستدلال الفقهي، فإنّها غير مرتبطة أساساً بهذا الموضوع كما صار واضحاً.

ثالثاً: إنّ متعلّق الاحتكار في الفقه الإسلامي هو بعض الأطعمة أو مطلق الطعام والقوت أو مطلق ما يحتاجه الناس من أساسيات الاستهلاك على أبعد تقدير، في حين نحن نجد أنّ الاحتكار بمفهومه الوضعي لا يقف عند هذا الحدّ، فقد يطال السلع الكمالية أيضاً، إذاً فهناك اختلاف في دائرة الموادّ المحتكرة بين المفهومين الوضعي والإسلامي.

رابعاً: إنّ غير نظرية من نظريات الفقه الإسلامي تقدّم الاقتصاد الإسلامي احتكارياً بالمفهوم الوضعي، حيث تذهب إلى جعل الأراضي بأجمعها أو الصناعات الكبرى أو المعادن العظيمة كالنفط تحت تصرّف الدولة مباشرةً، وقد طرح أمثال السيد محمد باقر الصدر اتجاهاً قريباً من هذا في أطروحة (اقتصادنا) التي قدّمها، ومن ثم لا يصحّ القول بأنّ الفقه الإسلامي يحرّم الاحتكار بمفهومه الوضعي مطلقاً، بل قد نجده ميّالاً لبعض أشكاله على بعض النظريات.

خامساً: قد أشرنا سابقاً إلى أنّ هناك أشكالاً من الاحتكار بمفهومه الوضعي تعدّ مطلوبةً ومفيدةً للاقتصاد، ومن الواضح في هذه الحال أنه لا يصحّ القول على إطلاقه بأنّ الاحتكار بهذا المعنى حرام في الإسلام.

هذا كلّه، مع غض النظر عن بعض الشروط الأخرى التي أخذتها بعض المدارس الفقهية في الاحتكار ولم نوافق عليها، وعلى تقدير أخذها تزداد الهوّة بين مفهوم الاحتكار الإسلامي والوضعي، مثل سبق الشراء أو المدّة الزمنية المعينة في حبس السلع أو غير ذلك.

ونتيجة القول: إنّ الاحتكار بمفهومه الوضعي لا يمكن أخذ أحكامه من الاحتكار بمفهومه الإسلامي، وإنما من مجمل النظرية الاقتصادية العامّة المتصلة بمجمل عناصر السوق ونحو ذلك.

وتجدر الإشارة أخيراً إلى أنّ ابن القيم قد طرح كلاماً حول ما سمّي في الفقه السنّي باحتكار الصنف، وفسّره بأن يحتكر بيعَ سلعةٍ ما أشخاصٌ معروفون معينون، لا تُباع إلا لهم من قبل المنتجين ولا يبيعها في السوق غيرهم، ومن ثم فإنّ لهم بيعها كما يريدون، وقد اعتبر ابن القيم هذا النوع من الاحتكار بغياً في الأرض وفساداً، نافياً التردّد في ذلك عند أحدٍ من العلماء 1.

وهذا الموقف يقترب من مسألة الاحتكار بمفهومه الوضعي، إلا أنّ إطلاق اعتباره بغياً في الأرض غير واضح؛ وذلك أنّ الاحتكار بمفهومه الوضعي لا يلازم منع أحد عن التدخل في المنافسة، لكنه يجعل السوق بحيث لا يقوم طرف ثالث مثلاً بالمنافسة، فالاحتكار وصف لحال السوق في مفهومه الوضعي، وقد ترافقه في بعض الأحيان ـ كما أشرنا من قبل ـ بعض الامتيازات القانونية التي تمنحها الدولة لهذه الشركة أو تلك، نعم الحقوق الحصرية بالمعنى المعاصر يطابق ما يريده ابن القيم.

كما أنّ جعله مفسداً مطلقاً غير واضحٍ بدوره، فإنّ المسألة تحتاج لرصد لحال السوق لتحديد الحالات، وقد أشرنا إلى أنّ بعض حالات الاحتكار بمفهومه الوضعي أمرٌ مطلوب ومنشود ويجرّ منافع على الاقتصاد عموماً، وبعض حالاته الاخرى قد يكون ضاراً فيجب تتبّع ذلك من قبل خبراء الاقتصاد أنفسهم 2 3.

 

  • 1. انظر: الطرق الحكمية: 245؛ والموسوعة الفقهية (الكويتية) 2: 94.
  • 2. مقتبس من بحث "فقه الاحتكار في الشريعة الاسلامية".
  • 3. المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ حيدر حب الله حفظه الله.