الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التسامح والتنوير

الاقتران الذي يجري بين التسامح والتنوير، هو اقتران صائب وفعال. فمتى ما وجد التنوير وجد التسامح، ومتى ما غاب التنوير غاب التسامح. وكلما انتشر التنوير انتشر التسامح، وكلما تراجع التنوير تراجع التسامح. لأن التنوير هو نقيض التعصب، ليس هذا فحسب، وإنما لأن التنوير لا يتيح مجالاً للتعصب، ويجعل من التعصب علامةً وسلوكاً منبوذاً ومكروهاً، يمقت صاحبه، ويؤنب على هذا الفعل من يقدم عليه.

ولأن التنوير لا يرى في الاختلاف مذمة، ولا يجعل منه مصيبة، ولا يحترز منه، أو يقاومه، بقدر ما يجعل منه مصدراً للثراء، ومنبعاً للرحمة والتسهيل، وسلوكاً لرفع الحرج ودفع العسر، ونهجا لتلاقح الأفكار.
ولأن التنوير يجعل من التعدد فضيلة، ومن التنوع مكسباً، ومن الأحادية تحجراً، ومن التماثل سبباً للرتابة والجمود. فالتعدد فضيلة لأن الأصل في الحياة هو التعدد، والتنوع مكسباً لأنه يفتح المجال أمام انبعاث الطاقات، والأحادية تنتهي إلى التحجر لأنها تغلق فرص الاستفادة من الطاقات المتعددة، والتماثل يكون سبباً للرتابة والجمود لأنه يفتقد إلى آفاق التجدد.
ولأن التنوير يرفع عن الناس رهبة التعبير عن الرأي، والخوف من قول الحق، أو كتمان العلم، كما ويضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، حتى لا يشعروا بالقصور في الفهم، ويعطلوا عقولهم لانعدام الشجاعة على ذلك.
ولأن التنوير فيه تعظيم لمنزلة العقل ومكانته، وفيه دفع وتحريض على إعمال العقل، والوصول إلى عقول الآخرين، على قاعدة أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، ومتى ما حضر العقل غاب التعصب، ومتى ما حضر التعصب انغلق باب العقل، لأن التعصب لا يرى الحقيقة إلا في عقل صاحبه، ويخرج عقول الآخرين من دائرة الحقيقة. وهذا أخطر ما يصاب به العقل، وأكثر ما تصطدم به الحقيقة، التي تأبى بأن تجتمع في عقل واحد، فهذه ليست هي الحقيقة في منطق الحقيقة ذاتها. فالحقيقة هي تلك التي يتوزع نورها وإشعاعها على عقول الناس، ومن يريد أن يصل إلى الحقيقة فعليه أن يصل إلى عقول الناس. وهذه هي الحكمة التي جعلت ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ومن يريد الحكمة فعليه أن يفتش عنها في عقول الناس، لا أن يبحث عنها في عقله فحسب. ومن يصل إلى عقول الناس يكون هو أقرب الناس إلى الحكمة، لأن الذين يستمعون القول هم الذين يتبعون أحسنه، وهؤلاء هم الذين هداهم الله، وهم أولوا الألباب.
هذه هي عظمة التنوير الذي يفكك ويحطم بنية التعصب ويهزمها، ويجعلها مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، ويجعل من التسامح سلوكا اجتماعيا عاما بين الناس، ومحببا لهم، وليس مجرد سلوك فردي وخاص، يصدر من بعض الناس، ومن فئة قليلة منهم. وهذا هو التسامح الذي يضفي على حياة الناس متعة العيش والتعايش، التسامح الذي يترسخ ويتعزز باتساع ممارسته، أي أن التسامح يترسخ بالتسامح ذاته1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 4 يناير 2006م، العدد 14375.