الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الغفلة

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ 1، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ 2، والمراد بالغفلة بمعناها الشرعي هي الحالة التي يكون عليها الإنسان من عدم الالتفات إلى خالقه وما يريده منه، ونسيان الآخرة من خلال الانهماك في التمتع بشهوات الدنيا وملذاتها، والركون إليها وكأنها دار خلود وقرار، ولا شك أن أكبر سبب لحصول الغفلة عن الله سبحانه وتعالى والآخرة هو الانغماس في حب الدّنيا، فإنّ حب الدّنيا واتباع الشهوات يجعل الإنسان يعيش حالة الحجب عن الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الذي تكون الدنيا أكبر همّه لا يفكر إلا فيها، ولا يستطيع أن يحرر فكره من أسرها، فيغفل عن الله سبحانه وتعالى وطاعته وعمّا أعدّه سبحانه وتعالى لعباده الصالحين من جزاء حسن وثواب عظيم ونعيم دائم في الآخرة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 3، فعندما يستهوي الإنسان الدنيا ويألفها ويطمئن إليها تمام الاطمئنان ولا يفكر إلاّ فيها ولا يستطيع أن يتحرر من عبوديته لها فإنه حينئذ يعيش حالة الغفلة فلا يرجو لقاء الله سبحانه وتعالى.
إن حب الإنسان للدنيا وتعلقه بها يجب أن يكون بمقدار محدود جداً، باعتبار أنها مزرعة للآخرة .. باعتبار أنها معبر وممر وقنطرة للآخرة .. فيها يتزود من التقوى التي تجعله يعيش السعادة الأبدية في عالم الآخرة وتكسبه المنازل والمراتب الرفيعة عند الله في يوم القيامة .. أما الحب للدنيا والتعلق بها الذي يجعل الإنسان يغفل عن الله سبحانه وتعالى وعن الآخرة فهو مذموم ومحرّم في نظر الشريعة الإسلامية ..
إن من أسباب غفلة الإنسان عن الله سبحانه وتعالى وعن الآخرة هي الذنوب التي تؤثر على نفس الإنسان تأثيراً كبيراً وخطيراً وتصيبها بالظلمة والتكدر والرين، فعن النبي المصطفى "صلى الله عليه وآله" أنه قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 4)، وعن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: (ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا اذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عز وجل: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 4). 
فالذنوب إذا ما مارسها الإنسان بشكل واسع وكبير فإنّها قد تصل به إلى مرحلة الغفلة الشديدة جدّاً والتي إذا وصل إليها الإنسان فإن نفسه لا تحدثه أبداً وبتاتاً بالرجوع إلى خط الاستقامة وإنما يعيش الغفلة إلى آخر رمق في حياته .. بل قد تصل به الذنوب إلى مرحلة الكفر - والعياذ بالله - فيخرج من الدنياً فاقداً للإيمان يقول تعالى: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ 5.
كذلك من أسباب الغفلة مصاحبة أهل المعاصي لأنهم يزينون للإنسان سوء عمله، فالإنسان العاصي لا يرتاح حتى يشرك غيره في معاصيه، فمصاحبة الغافلين موجبة للغفلة ولذلك نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى يحذّر الإنسان المؤمن وينبّهه إلى خطر مصاحبة الغافلين وطاعتهم، يقول تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ 6، فالإنسان عندما يصاحب أمثال هؤلاء فإنه ولا شك سوف يعيش حالة الندم في يوم القيامة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا 7، فهذه الآية الكريمة المباركة توضح حقيقة غاية في الأهمية وهي أن أحد أسباب الغفلة عن الله سبحانه وتعالى والضلال عن الذكر بعد بيانه هو مصاحبة الأشرار الذين يشعر الإنسان بالندم لمصاحبتهم ويتمنى لو أنه لم يصاحبهم ولات حين مندم.
إن علاج الغفلة إنما يتحقق بالمعرفة الحقيقية للدنيا من أنها دار فناء وزوال وأن كل ما فيها من متع وشهوات ولذات إنما هو محدود وزائل وأن الآخرة هي دار الخلود والبقاء وأن كل ما فيها من خيرات ونعيم وملذات فهو باق لا يعتريه التحول والزوال .. ويتحقق أيضاً بالابتعاد عن الذنوب والكف عنها والتوبة مما صدر عنه منها، وبمصاحبة الأخيار، السالكين طريق الله وخط الاستقامة في هذه الحياة8.