الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القرآن و الترجمة

 

﴿ ... قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 1.

من الله نور و كتاب مبين

بهذه الصيغة اللافتة ، وبهذا التوصيف المغري ، يقدم الله كتابه إلى الناس في هاتين الآيتين الكريمتين .
نورٌ يهدي من ظلام ، وإبانة تنقذ من حيرة ، وهداية تبلغ بالمرء سبيل السلامة ونهج الاستقامة .
من الله بارىء النور والظلام ، و ربّ الحرب والسلام . . . من الله ـ سبحانه ـ مصدر هذا النور الهادي ، ومنبع هذا الرواء الهانىء . . .
﴿ ... مِنَ اللَّهِ ... 2 ، وهذا هو الضمان الأول لبلوغ القصد ، وأي مدى وضع الله ـ جل وعلا ـ الخطة لتنيله فلم يُدرَك ولم يُستطَع ؟
﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ... 3 . . . وهذا هو الضمان الثاني للغاية .
ولو أنه أتى بضمير الفاعل في هذه الجملة لوفّى كذلك بالمقصود ، ولكنه يصرّح باسم الله تسجيلاً للضمان ، و تطميناً للقلوب . . . فالضامن هو الله ، و الهادي هو الله أيضاً ، ومن أحق من الله بأن يفي بما ضمن ؟ ، ومن أملك منه بأن يُوصِل إذا هدى ؟!
وهداية الله هذه التي يتكفل بها لخلقه لا مذلة بها على المهتدي ولا مهانة ، ولا جبر في معناها ولا اضطرار .
إنها ليست كدلالة الأعمى الذي لا يبصر ، ولا كقيادة البهيمة التي لا تعقل ، ولكنها هداية توجيه وتشريف ، سبيلها الاختيار ، ومنطقها التعقّل والموازنة ، وهدفها السلامة والكرامة .
﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ... 3 ، هؤلاء هم الذين حقت لهم الهداية ، الذين عرفوا ربهم ، وتبيّنوا مناهج رضاه . . عرفوا ذلك بملء شعورهم ، وبملء عقولهم ، ثم ساروا الى تلك الغاية لا يألون جهداً ، ولا يحيدون عن قصد .

سبل السلام

﴿ ... سُبُلَ السَّلَامِ ... 3 والسلام الذي يستهدفه الله في كتابه ، ويهدي إليه من اتبّع رضوانه هو هذا السلام المديد الشامل الذي يبدأ ـ أول ما يبدأ ـ بنفس المرء ، فيشمل كل آفاقها وكل اتجاهاتها ، ثم يرتقي الإنسان صعداً حتى يعمّ المجموعة الكونية التي تمدّ الإنسان بالحياة ، وترفده بكل شؤونها .
هذا السلام المستوعب ، المتراصف في مناهجه المتداخل في حلقاته الذي يتوجّه إلى عقل الإنسان قبل أية ناحية منه ، فيعمره بالعقيدة الصحيحة ، ويثبته بالبرهنة الناصعة ، ويملؤه بالسلام ، فلا ترددّ و لا حيرة ، ولا غموض ولا اضطراب .
ثم إلى الضمير . . إلى هذه القوة الغرزية المسيطرة على أفعال المرء وسلوكه ، والحاكمة على أخلاقه وصفاته . . .
ويمتدّ إلى غرائز النفس وقواها ، والى اتجاهاتها ومنازعها ، والى مبادىء الإرادة و مبادىء الخُلق .
يمتد إلى هذه الأطراف كلها فيوفّي حق كل ذي حق منها ، ويصدّ عدوان كلّ ذي عدوان ، ويرفع ألوية السلام ، ويشيع روح الطمأنينة ، فلا إثرة ولا بغي .
و إذا أقام السلام في نفس الفرد على هذه الأسس وبهذا الشمول ، فقد أقام السلام في المنزل ، والسلام في الأسرة ، والسلام بين الأفراد ، ثم السلام في المجتمع المسلم ، وفي المجتمع البشري ، وأخيراً في المجتمع الكوني ، وأي منحى من هذه المناحي لا يكون مجالاً للذبذبة والاضطراب إذا تدخلت في أمره أهواء الإنسان ، وتحكّمت فيه مشتهياته ؟ . . وأي منحى من هذه المناحي لا يفتقر في إصلاحه إلى تأسيس دعامة للسلام ؟ .
وهذا السلام يفتقر إليه البشري في شتى نواحيه ، ويضطّر إليه في جميع اتجاهاته ، يفتقر إليه أبداً مادام للشك منفذ يهدّد اليقين ، وللذبذبة مدخل يزلزل السكينة ، وللخوف مسربٌ يقلق الأمن ، وللهوى غشاوة تلبس الحق .
وهذا السلام لا يملك وضع مناهجه وتمهيد سبله إلا الله . . . لا يملكها إلا الله بارىء الإنسان ، و منشىء غرائزه ، ومدّبر قواه ، وعالم سرّه وعلانيته . . . الله وحده يملك أن يضع مناهج هذا السلام ، وهو وحده يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام .

يخرجهم من الظلمات الى النور

﴿ ... وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 3 .
وهذان ضمانان آخران يحتويهما هذا القول الكريم ، وهما نتيجتان طبيعيتان لصفة الكتاب التي قدّمها في أولى الآيتين .
﴿ ... قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ ... 2 والنور يخرج متبعيه من الظلمة . .
ونور الله هذا ليس محدود الأثر كالضوء ، فلا يكشف الا ظلمة الغسق بل ينير الظلمات كلها . . ظلمات العقيدة الباطلة ، وظلمات الهوى المضلّ وظلمات العمل السيّء والخلق الرديء ، وظلمات الإثرة الخائنة والجور الظالم ، وكل ظلمة تغشى العقل وترين على القلب ، وتعكّر صفو الحياة ، وتوحش سبيل السلام .
واذا كان القرآن نوراً يهدي من ظلمة ، مُبيناً ينقذ من حيرة ، فهو لا محالة مستقيم المسالك ، مأمون العثار .
بهذه الصيغة المغرية وبهذا التوصيف اللافت يقدّم الله للناس كتابه الكريم في هاتين الآيتين .
ولم لا يكون كذلك ؟ .
أليس هو البرهان الخالد للشريعة الخالدة ؟! .
أليس هو النصّ الكامل للنظام الكامل ؟! .
ثم ، أليس هو البقيّة الباقية من معاجز الأنبياء ، والحجة القائمة من كتب السماء ؟! .

المعجزة الخالدة

بلى ، فقد شاءت الحكمة أن تقرن أتمّ شريعة بأتمّ معجزة ، أتمهّا في الوجه ، وأجداها في الهداية ، وأشملها في العموم ، و أدومها في البقاء ، و إذا كان الإسلام دين الله لا يقبل من احدٍ ديناً سواه ، فلابد وأن تكون حجته بهذا الإشراق ، وبهذه الهداية ، وبهذا الشمول والخلود .
لابدّ وأن تكون كذلك ، و إلا لكانت حجة بتراء لا تفي بالحاجة ، ولا تتفق والحكمة .
وإعجاز القرآن ليس في بلاغته فقط ، ولو انحصر إعجازه بالبلاغة لما نهضت به حجة على غير أهل اللسان ، إلا أن ينتقل العرب معه إلى كل قطر والى كل بيئة ، يقرّون لهذا الكتاب بالإعجاز ويشهدون له بالتفوّق .
والقرآن كتاب معنى وهداية قبل أن يكون كتاب بلاغة وبيان ، ولو أننا حصرنا الإعجاز في بلاغته وحدها لكنا قد خصّصنا إعجاز القرآن في أدنى نواحيه ، وصرفناه عن أعلاها .
والقرآن كتاب يحوي نظام الله الذي وضعه لتدبير حياة هذا الكائن ، وشريعة الله التي جعلها لتعيين وتنظيم علائقه ، والظاهرة الأولى لأنظمة الله في جميع مصنوعاته ، إنها تُعجز البشري عن مجاراتها مهما أوتي من حول ، ومهما تقَدّمت به المعْرفة .
إعجاز القرآن ليس في بلاغته فقط ، ولكن البلاغة هي المدخل العام للقلوب التي كانت تحيط بدعوة القرآن حينذاك .
بلى : كانت بلاغة النفس شيء تشتاقه هذه القلوب ، فكان من الحكمة أن تدخل عليها دعوة الإسلام من هذا الباب .
أقول : إعجاز القرآن ليس في بلاغته فحسب ، ولكنه معجز في جوهر دعوته ، ومعجز في طرائق عرضها ، ومعجز في إقامة البرهنة عليها ، ومعجز في وجوه الحكمة منها ، ومعجز في أشياء كثيرة لا يحيط بها إحصاء ، وإذا فات غير العربي نوع واحد منها فلن تفوته الأنواع الأخرى ، أما تفاصيل هذا المجمل فلا يتّسع له نطاق كلمة وإن أطنب فيها صاحبها .

الآراء في ترجمة القرآن

وهذا الشموخ في بلاغة القرآن وهذه العظمة في أساليبه ، هما السبب في تعارض الآراء حول ترجمته .
إذا كانت دعوة الإسلام شاملة لجميع الناس ، وإذا كان القرآن هو لسان هذه الدعوة الناطق ، وبرهانها المنير ، ونظامها الجامع ، فكيف لا تسوغ ترجمته لمن لا يفقه لغته من الناس ؟ ، بل وكيف لا تجب ؟ .
و إذا كان هذا الكتاب الكريم وراء الحدود الممكنة للبلاغة ، وفوق الأساليب المقدورة في البيان ، فكيف تملك أن تمثّله ترجمة ؟ ، وكيف يستطيع أن يحدّه مترجم ؟ .
تعارضت الأقوال في ذلك ولكلٍ وجهةٌ هو مولّيها ، ولا يهمني هنا أن أستعرض الآراء وأناقش الحجج ، لا يهمني ذلك ما دامت هداية القرآن يمكن نقلها بالتفسير .
وإذا كانت الترجمة موضعاً للخلاف فإن التفسير غير العربي سائغ عند الجميع ، والمفسّر يحتفظ بنص الكتاب كاملاً من غير تصرّف ، ثم يدون ما يحيط به ذهنه من صنوف الهداية ، وما يبلغه تتبّعه من ضروب التفسير ، ووجوب الشرح .
وطبيعي أنّ المترجمين لا ينتظرون فصل هذه الخصومة بين الفقهاء .
فقد عكفوا على الترجمة غير آبهين ، وطبيعي كذلك أن تتنوع التراجم ، وأن يتنوع المترجمون في النفسيات ، وأن تتنوع الغايات التي يقصدونها من وراء هذا الجهد .
طبيعي أن يتصدّى لترجمة القرآن رجال مسلمون مختلفون في الإحاطة ، ومختلفون كذلك في الفَهم والآراء ، فيهتمّ فريق بشؤون اللّفظ ، ويفوته الكثير أو الأكثر من بدائع المعاني ، ويتجّه فريق إلى ناحية المعنى ، فيهمل الخصائص المهمة التي توحي بها الألفاظ ، والظلال الشفيفة التي ترسمها التراكيب والأساليب . . .
. . وأن يتصدى لترجمته رجال غير مسلمين ، فينصف بعضهم دعوة الإسلام فيتحرّى الصحة ، ويتوخّى الحقيقة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، ويكيد لها آخرون فيدسّون ويحرّفون ويقولون ويتقوّلون .
طبيعي أن يحدث كل هذا ما دامت للقرآن قدسيته عند هذه المجموعة الكبيرة من البشر ، وما دام له هذا الأثر البالغ في ثقافتهم ، وفي تلوين حياتهم ، بل وما دام القرآن هو الكتاب الذي غيّر وجه التأريخ ، وقلب أنظمة الحياة ، وعدّل سلوك البشرية .
نعم؛ كثرت التراجم ، وتنوّعت ، وكثر المترجمون ، وتنوّعوا ، وموقف الفقهاء ما يزال هو موقفهم الأول في الاختلاف والحجاج ، ونظراتهم لا تبرح هي نظراتهم الأولى في الإباحة والمنع . لم يضعوا للأمر الواقع علاجاً ، ولم يتخّذوا له أهبة ، ولئن كانت الترجمة محظورة لأن القاصرة منها محرمة ، والكاملة مستحيلة .
أقول : لئن كانت الترجمة محظورة ، فهلا نلجأ في نشر كتابنا إلى التفسير ، إلى تفسيره بأي لغة نودّ ترجمته إليها ؟ .
أليس في هذه الطريقة ما يغنينا عن الترجمة ؛ ويبعدنا عن الإشكال ؟!4 .