الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

النص الشرعي مفهومه و فهمه

يستقي البحث مادته العلمية من دراسات أصول الفقه و محتويات تاريخ التشريع الإسلامي و تطبيقات الفقه الاستدلالي و مواد الفقه الفتوائي .
و قد اعتمدت في الرجوع إلى ذلك على مؤلفاتي الثلاثة في أصول الفقه و هي :
" مبادئ أصول الفقه " و " دروس في أصول فقه الإمامية " و " الوسيط في الاجتهاد و قواعد دراسة النصوص الشرعية " .
يحاول الباحث قدر الإمكان أن يلتزم المنهج العلمي العام و المنهج الأصولي الخاص مبتعداً ما وسعه الابتعاد عن تأثيرات المنهج الكلامي المألوف و المتبع في الدرس الأصولي و ذلك بغية أن يأتي البحث من حيث الإعداد و التعبير و العرض بمستوى متطلبات المعاصرة مع المحافظة على أصالة الفكر الأصولي و معطياته .

مفهوم النص الشرعي

تستعمل كلمة " نص " في لغتنا العربية العلمية المعاصرة في المعنيين التاليين مما يلتقي و موضوع بحثنا هذا :
1 ـ ‏اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً . بمعنى أنه لا يدل إلا على معنى واحد ، و من حيث الدلالة مقصور على هذا المعنى المعين ، ‏و أن يكون إقتصاره على هذا المعنى المعين نافياً لاحتمال إرادة معنى آخر منه .
و سمي مثل هذا اللفظ الدال على معنى واحد نصاً لأن النص في إحدى دلالاته الموروثة من قديم لغتنا هو التعيين و التحديد ، يقال : ( نص على الشيء نصاً : عيّنه و حدّده ) .
و هذا المعنى لكلمة ( نص )‏ ـ و أعني به الدلالة على معنى واحد ـ معنى مولد أفادته اللغة العربية في العصر العباسي إبّان ازدهار الحركة العلمية عن طريق ترجمة علم المنطق .
2 ـ اللفظ مطلقاً ، أي بما يحمل من معنى واحداً‏ أو أكثر من واحد كلمة أو كلاماً .
و هو من الجديد المعاصر الذي أفادته لغتنا العربية نتيجة تقارضها مع اللغة الإنجليزية ، ففي الإنجليزية يقال enunciation ، و هي تعني المعنى المذكور ، و ترجمت إلى العربية بـ ( اللفظ ) و ( النطق ) و ( البيان ) و ( التعبير ) ، و كلها تعطي المعنى المذكور .
و قد شاع استعمال كلمة ( النص ) في ( اللفظ ) شيوعاً ملحوظاً لاسيما في الأدبيات ، فأصبحنا نقول : ( نص أدبي ) و نعني به كلاماً ‏أدبياً ‏كجملة أو بيت شعر أو قطعة من نثر و إلخ ، و نقول ( نص علمي ) و نريد به كلاماً علمياً ، و ( نص فلسفي ) و هكذا . و منه أن أصبحنا نقول أيضاً : ( نص شرعي ) و ( نصوص شرعية ) فنطلق كلمة " نص " على الآية و على الرواية .
و نلمس كثرة هذا الإطلاق و الاستعمال في كتبنا الفقهية المعاصرة في أمثال كتاب ( مستمسك العروة الوثقى ) لأستاذنا الفقيه السيد محسن الحكيم انظر على سبيل المثال : الجزء الأول من الطبعة الرابعة ـ سنة 1391 هـ : الصفحات التالية : 111 ففيها يقول بياناً لطهارة و مطهرية الماء المطلق :‏ " ثم أنه لا تخلو النصوص الشريفة من الدلالة على طهارته و مطهريته " ، و 163 و 354 ففيها يقول مستدلاً على طهارة الدم المتخلف في الذبيحة : " كأنه لإطلاق بعض النصوص الواردة في بعض الموارد الخاصة " و 375 ، و غيرها . فالمراد من النص ـ هنا ـ الألفاظ الشرعية ، كلمة كانت أو كلاماً .
و وصفت بـ ( الشرعية ) لتختص بما تلقيناه عن المشروع الإسلامي ، و يتمثل هذا في آيات القرآن الكريم و روايات السنة الشريفة ، و لا يتعدى منها إلى سواهما من أقوال و فتاوى الفقهاء إلا بشيء من التسامح في التعبير أو الاتساع في الكلام ، ذلك أن ما عدا الآيات و الروايات ما هو موجود في لغة و كتابة الفقهاء يوصف بالفقهي أو الفقهية ، فيقال ( نص فقهي ) و ( نصوص فقهية ) .
و نخلص من هذا إلى أن المراد بالنص الشرعي : الكلام الصادر من المشرع الإسلامي لبيان التشريع .
و ينحصر هذا في المصدرين الأساسيين للتشريع الإسلامي و هما : الكتاب و السنة .
و مما تقدم تبين ـ‏ و بوضوح ـ أن مواد النص الشرعي ، هي :
ـ آيات الأحكام من القرآن الكريم .
ـ روايات الأحكام من السنة الشريفة .
فهي التي يتناولها الفقيه بالدراسة لاستفادة الحكم الشرعي منها .

مدونات النص الشرعي

و قد ألف الفقهاء المسلمون في آيات الأحكام و روايات الأحكام جمعاً‏ و دراسة الكثير من الكتب و الرسائل .
و منها في آيات الأحكام :
1ـ أحكام القرآن ، الإمام الشافعي ( ت 204 هـ ) جمع الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي النيسابوري الشافعي ( ت 458 هـ ) .
2ـ أحكام القرآن ، أحمد بن علي الرازي الجصاص ( ت 370 هـ ) .
3ـ أحكام القرآن ، ابن العربي ( ت 453 هـ ) .
4ـ أحكام القرآن ، الكياالهراسي ( ت 504 هـ ) .
5ـ فقه القرآن ، سعيد بن عبد الله الراوندي ( ت 573 هـ ) .
6ـ كنز العرفان في فقه القرآن ، المقداد بن عبد الله السيوري ( ت 826 هـ ) .
7ـ زبدة البيان في شرح آيات أحكام القرآن ، أحمد بن محمد الأردبيلي ( ت 993 هـ ) .
8ـ آيات الأحكام ، محمد بن علي الاستر آبادي ( ت 1028 هـ ) .
9ـ قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر ، أحمد بن إسماعيل الجزائري ( ت حدود 1150 هـ ) .
و في روايات الأحكام :
1ـ‏الكافي ( الفروع ) ، محمد بن يعقوب الكليني ( ت 329 هـ ) .
2ـ من لا يحضره الفقيه ، محمد بن علي بن بابويه الصدوق ( ت 381 هـ ) .
3ـ السنن الكبرى ، أحمد بن الحسين البيهقي ( ت 458 هـ ) .
4ـ تهذيب الأحكام ، محمد بن الحسن الطوسي ( ت 460 هـ ) .
5ـ عمدة الأحكام ، عبد الغني المقدسي ( ت 600 هـ ) .
6ـ منتقى الأخبار في الأحكام ، ‏عبد السلام الحراني ( ت 652 هـ ) .
7ـ الإلمام في أحاديث الأحكام ، ابن دقيق العيد ( ت 702 هـ ) .
8ـ بلوغ المرام من أدلة الأحكام ، ابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ ) .
9ـ الوافي ، محمد محسن الفيض الكاشاني ( ت 1091 هـ ) .
10ـ وسائل الشيعة في أحكام الشريعة ، محمد بن الحسن الحر العاملي ( ت 1104 هـ ) .
11ـ مستدرك الوسائل ، حسين بن محمد تقي النوري ( ت 1320 هـ ) .
12ـ جامع أحاديث الشيعة ، ‏لجنة من العلماء المعاصرين .

عوامل الاجتهاد في دراسة النص الشرعي

اصطلح العلماء المسلمون على تسمية دراسة النصوص الشرعية بغية استنباط الأحكام الشرعية منها باسم ( الاجتهاد ) ، و هو أن يبذل الفقيه قصارى طاقته الفكرية في دراسة النص الشرعي بحثاً‏ عن الحكم الذي يحمله النص في طياته وفق القواعد العلمية المشروعة و ما يمتلكه من خلفيات ثقافية تساعده على ذلك . و طبيعة النصوص الشرعية هو الذي فرض الاجتهاد ، و أهم العوامل التي دفعت لذلك هي :
1ـ إن القرآن الكريم انتهج في أسلوب بيانه ظاهرة الكتاب الإلهي المقدس ، ‏تلك الظاهرة التي امتدت مع الإنسان منذ صحف إبراهيم ( عليه السلام ) حتى قرآن محمد ( صلى الله عليه و آله ) ، و التي تمثلت في الأسلوب الخطابي المتوافر على عناصر الدعوة إلى الله تعالى .
و ذلك لأن الهدف الأساسي للكتب الإلهية المقدسة هو الدعوة إلى الله تعالى ، و الأسلوب المناسب للدعوة هو الأسلوب الخطابي لأنه الأسلوب الذي يقتدر بما يمتلك من إثارة مؤثرة و شحن عاطفي مثير على مخاطبة العقل عن طريق القلب .
و جميع ما يذكر من شؤون أخرى إنما تذكر لأن لها علاقة بالدعوة إلى الله تعالى .
و من هنا لم تذكر الأحكام الشرعية إلا في سياق السور أو سياق الآيات ، أي أنها لم تجمع في سورة واحدة أو موضع واحد .
و أكثر من هذا : لم تجمع الآيات للموضوع الواحد في موضع واحد ، و ذلك التزاماً بظاهرة الكتاب الإلهي المقدس .
فقد تنزل الآية لبيان الحكم بشكل مباشر كما في آية الصوم : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 1 ، و قد تنزل إنكاراً‏ لمنكر قائم فيفهم منها الحكم بمعونة القرينة كما في آية الربا المضاعف ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ... 2 ، و آية المؤودة ﴿ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ 3 ، و قد يأتي الحكم متدرجا ً‏و لا يفهم تدرجه إلا بعد تجميع ما نزل فيه من آيات و دراستها دراسة مقارنة في هدي ما أحاط بها من قرائن أفادت التدرج كما في عقوبة الزنا فقد كانت في البدء الإيذاء عن طريق التوبيخ و التحقير ﴿ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا 4 ‏ثم صارت ـ ‏بعد هذا‏ ـ الإمساك في البيوت ﴿ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً 5 ، و أخيراً‏ استقرت العقوبة على الجلد أو الرجم ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ... 6 .
و قد يحرّم الفعل بأسلوب الجملة ذات الدلالتين المنطوقية و المفهومية كما في قوله تعالى ﴿ ... فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ... 7 المستفاد منها حرمة التأفيف منطوقاً‏ و حرمة ما هو أشد منه مفهوماً .
و قد تختلف القراءة فيختلف الحكم باختلافها كما في قوله تعالى ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ... 8 حيث قرئت عبارة ( يطهرن ) بالتخفيف الذي يعطي ظهورها في معنى النقاء من دم الحيض ، و بالتشديد الذي يعطي ظهورها في معنى الاغتسال من الحيض .
و هذا الاختلاف بين القراءتين يكون مدعاة بطبيعة الاختلاف بين الظهورين المذكورين إلى الاختلاف في استفادة حكم وطئ المرأة بعد النقاء من دم الحيض و قبل اغتسالها .
فعلى قراءة التخفيف يستفاد جواز الوطء قبل الغسل ، و على قراءة التشديد يستفاد المنع من الوطء قبل الغسل .
كل هذا يجعل الاجتهاد أمراً لا بد منه ، لأن استخلاص الحكم في ضوء ما ذكرت من أسلوب و ملابساته لا يتأتى و لا يتحقق إلا عن طريق الاجتهاد .
و الشأن في السنة الشريفة لا يختلف عما هو في القرآن من حيث الاختلاف و الحاجة بسببه إلى الاجتهاد .
و من أمثلة ذلك في السنة القولية : ( من جدّد قبراً‏ أو مثّل مثالاً فقد خرج عن الإسلام ) .
فقد روي ( جدد ) بالجيم المعجمة ، و يعني : تجديد بناء القبر بعد اندراسه .
و روي ( حدد ) بالحاء المهملة ، و يعني : تسنيم القبر .
و روي ( خدد ) بالخاء المعجمة ، و يعني : شق القبر .
و روي ( جدث ) بالجيم المعجمة من أوله ، و الثاء الثلاثية من آخره ، و يعني : جعل القبر المدفون فيه ميت قبراً لميت آخر .
فإن كل واحد من هذه المعاني المذكورة يتدخل في تحديد معنى الحكم .
و كما في الحديث التالي : ( قلت : و يسيل عليّ ماء المطر أرى فيه التغير و أرى فيه آثار القذر فتقطر القطرات عليّ و ينتضح عليّ منه و البيت يتوضأ على سطحه فكيف على ثيابنا ؟ قال ( عليه السلام ) : ما بذا بأس ، لا تغسله ، كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر ) .
هكذا نقل هذا الحديث الشريف في بعض نسخ ‏( الكافي ) و نقل في نسخ كتاب ( الكافي ) الأخرى و كتاب ( الحدائق ) و كتاب ( الوسائل ) هكذا ( قلت : و يسيل عليّ من ماء المطر . . . ) فإن ما يعطيه الحديث حسب النقل الأول هو أن ماء المطر أخذ يقطر على الرجل ، و ما يعطيه الحديث حسب النقل الثاني هو أن ماء المطر أخذ يسيل على الرجل و يجري من الميزاب عليه .
و هما معنيتان مختلفان نشأ من ذكر ( من ) في الحديث و عدم ذكرها و من الأمثلة في السنة الفعلية : الاختلاف بين المسلمين في كيفية الوضوء و كيفية التيمم ، و هكذا .
كما أن فهم معاني التشريع و دلالات ألفاظ النصوص الشرعية ، سواء كان ذلك في الآيات أو الروايات يتطلب فهم لغة عصر التشريع تراكيب و مفردات و أسلوب بيان .
و كذلك لأن أكثر الروايات التي وصلت إلينا كانت أجوبة لأسئلة من أناس يختلفون في بيئاتهم من حيث الشؤون الاجتماعية و الثقافية مما يستلزم فهمها و فهم شخصية السائل من حيث المستوى الثقافي .
كل ذلك و أمثاله كان مدعاة للزوم الاجتهاد و في الوقت نفسه هو مدعاة لأن تقوم وظيفة الاجتهاد و ممارسته على أساس من العمل المعمّق في البحث و التدقيق و بذل أقصى الطاقة في الاستقصاء و التحقيق .
يقول أستاذنا السيد محمد باقر الصدر في بيان ( كيف نشأت الحاجة إلى الاجتهاد ) من مقدمة كتابه ( الفتاوى الواضحة )‏ بما يلقي الضوء على أهمية الاجتهاد : " و المصدر الأساس للشريعة هو الكتاب الكريم و السنة الشريفة ، و لو كانت أحكام الشريعة قد أعطيت كلها من خلال الكتاب و السنة ضمن صيغ و عبائر واضحة صريحة لا يشوبها أي شك أو غموض لكانت عملية استخراج الحكم الشرعي من الكتاب و السنة ميسورة لكثير من الناس ، و لكنها في الحقيقة لم تعط بهذه الصورة المحددة المتميزة الصريحة ، و إنما أعطيت منثورة في المجموع الكلي للكتاب و السنة و بصورة تفرض الحاجة إلى جهد علمي في دراستها و المقارنة بينها ، و استخراج النتائج النهائية منها ، و يزداد هذا الجهد العلمي ضرورة ، ‏و تتنوع و تتعمق أكثر فأكثر متطلباته و حاجاته كلما ابتعد الشخص عن زمن صدور النص و امتد الفاصل الزمني بينه و بين عصر الكتاب و السنة بكل ما يحمله هذا الامتداد من مضاعفات ، كضياع جملة من الأحاديث و لزوم تمحيص الأسانيد و تغير كثير من أساليب التعبير و قرائن التفهيم و الملابسات التي تكتنف الكلام و دخول شيء كثير من الدس و الافتراء في مجاميع الروايات ، الأمر الذي يتطلب عناية بالغة في التمحيص و التدقيق ، هذا إضافة إلى أن تطور الحياة يفرض عدداً‏ كثيراً من الوقائع و الحوادث الجديدة التي لم يرد فيها نص خاص فلا بد من استنباط حكمها على ضوء القواعد العامة ، و مجموعة ما أعطي من أصول و تشريعات .
كل ذلك و غير ذلك مما لا يمكن استيعابه في هذا الحديث الموجز جعل التعرف على الحكم الشرعي في كثير من الحالات عملاً علمياً‏ معقداً و بحاجة إلى جهد و بحث و عناء و إن لم يكن كذلك في جملة من الحالات الأخرى التي يكون الحكم الشرعي فيها واضحاً كل الوضوح " .
فالاجتهاد الفقهي هو الوسيلة التي يتوصل إلى الحكم الشرعي بواسطتها و عن طريقها حيث تنصب على دراسة النص الشرعي بحثاً‏ عن الحكم .

أهداف دراسة النص الشرعي

يتمثل الغرض من الاجتهاد الفقهي و دراسة النص الشرعي بالتالي :
1 ـ معرفة الأحكام الشرعية التي كلّف الله تعالى عباده بها بمالها من شمولية تعم جميع مجالات حياتهم فردية و اجتماعية .
2 ـ إن الدين الإسلامي يختلف عن الأديان الأخرى بما يتمتع به من استمرارية مع هذه الحياة حتى نهايتها . و الحياة ـ كما هو معلوم بالبداهة ـ في تطور مستمر ، تستجد فيها أمور و تنتهي أخرى ، و تتغير فيها شؤون من حال لأخرى .
و كل هذا تحتاج إلى الوسيلة التي تلتمس لها الأحكام الشرعية المناسبة عن طريقها ، و ليست هي إلا الاجتهاد .

محاور دراسة النص الشرعي

و محاور البحث في النصوص الشرعية أو قل : الموضوعات التي يتناولها الفقيه و الباحث الفقهي بالدراسة توخياً ‏للوصول إلى الحكم الشرعي تتمثل بالتالي :
1 ـ إسناد النص .
2 ـ دلالة النص .
أ ـ في القرآن الكريم : في إسناد القرآن الكريم لا يحتاج الفقيه إلى دراسة لإثبات أنه صادر عن الله تعالى ، لثبوت ذلك بالضرورة الدينية عند المسلمين .
و عليه : تقتصر دراسة الآية باعتبارها نصاً شرعياً‏ على محاولة فهم دلالتها .
ب ـ و في السنة الشريفة : يقسم علماء الفقه و كذلك علماء الحديث سند الرواية إلى قسمين : ما هو مقطوع بصدروره عن المعصوم و ما هو مظنون الصدور .
و يعبرون عن الأول ـ غالباً ‏ـ ‏بقطعي الصدور ، و عن الثاني بظني الصدور .
و يقسمون القطعي منهما إلى قسمين :
1 ـ الحديث المتواتر .
2 ـ الحديث المقترن بما يفيد القطع بصدوره .
وكلا القسمين لا يحتاج الباحث الفقهي معهما لإثبات مشروعية العمل بهما عن طريق إثبات صدروهما عن المعصوم ، لأن القطع ( اليقين ) حجة بذاته ، و ثبوت حجيته بديهي و بالوجدان ، و مع الوجدان لا نفتقر إلى البرهان .
و يقسمون الظني إلى قسمين أيضاً :
1ـ الخبر المعتبر : و هو الخبر الظني الذي قام الدليل على اعتباره شرعاً ، و صحة العمل به . و يصطلح عليه أصولياً بـ ( خبر الثقة ) .
2 ـ الخبر غير المعتبر : و هو الذي لم يقم الدليل على اعتباره . و يصطلح عليه أصولياً‏ بـ ( الضعيف ) بمختلف أنماطه .
و في ضوء ما تقدم يتمثل محور البحث في إسناد النص في ما اصطلح عليه بـ ‏( خبر الثقة ) .
و ذلك لأن أقصى ما تفيده و ثاقة الخبر ، الظن بصدوره عن المعصوم ، و الظن بالصدور يقابله احتمال عدم الصدور ، و هذا الاحتمال يتطلب إثبات اعتبار الظن المقابل له شرعاً ، و صحة الركون إليه .
من هنا لا بد من التماس الدليل على ذلك . استدلوا لذلك بدليلين ، هما :
1 ـ القرآن الكريم : و ذلك في مثل الآية الكريمة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ 9. ببيان أن الله تعالى أوجب التبين ( التثبت ) في قبول خبر الفاسق ، و لازم هذا قبول خبر الثقة ، لأن التبين الذي أمر الله به جاء بسبب فسق المخبر ، و هذا يعني أنه إذا لم يكن المخبر فاسقاً‏ لا يجب التبين في قبول خبره . و نتيجة هذا : جواز الاعتماد على خبر الثقة ، و العمل على و فقه .
2 ـ سيرة المتشرعة : و المراد بها سيرة المسلمين القائمة على سيرة الناس ، المعبّر عنها في لغة أصول الفقه بـ ( سيرة العقلاء ) و ( بناء العقلاء ) الموثقة من قبل المشرع الإسلامي .
و قد رأينا ـ فيما تقدمه ـ أن المشروع الإسلامي قد أقر هذه السيرة ( سيرة الاعتماد على خبر الواحد ) و لكن بعد تهذيبها باشتراط أن يكون الراوي ثقة ، فولّد بهذا الشرط من سيرة العقلاء‏ سيرة خاصة بالمسلمين و هي المصطلح عليها بسيرة المتشرعة .
و الطريق إلى معرفة وثاقة الرواة هو الرجوع إلى كتب و موسوعات علم الرجال و الجرح و التعديل ، أمثال :
1 ـ التاريخ في رجال الحديث ، محمد بن إسماعيل البخاري ( ت 256هـ ) .
2 ـ الضعفاء ، له أيضاً .
3 ـ الضعفاء و المتروكين ، أحمد بن شعيب النسائي ( ت 303هـ ) .
4 ـ الكنى و الأسماء ، محمد بن أحمد الدولابي ( ت 320هـ ) .
5 ـ الجرح و التعديل ، ابن أبي حاتم الرازي ( ت 327هـ ) .
6 ـ الثقات من الصحابة و التابعين و أتباع التابعين ، محمد بن حبان البستي ( ت 354هـ ) .
7 ـ اختيار معرفة الرجال ، رجال الكشي : محمد بن عمر بن عبد العزيز ( ق4 ) .
8 ـ رجال النجاشي : أحمد بن علي بن العباس ( ت 450هـ ) .
9 ـ رجال الطوسي : محمد بن الحسن ( ت 460هـ ) .
10 ـ الضعفاء ، ابن الغضائري : أحمد بن الحسين بن عبيد الله ( ق5 ) .
11 ـ معالم العلماء ، ابن شهراشوب : محمد بن علي السروي ( ت 588هـ ) .
12 ـ الفهرست ، منتجب الدين بن بابويه‏ ( ق6 ) .
13 ـ الرجال ، ابن داود الحلي : الحسن بن علي ( ت 707هـ ) .
14 ـ خلاصة الأقوال ، العلامة الحلي : الحسن بن يوسف ( ت 726هـ ) .
15 ـ تهذيب الكمال ، يوسف المزي ( ت 742هـ ) .
16 ـ الكاشف في أسماء الرجال ، محمد بن أحمد الذهبي ( ت 748هـ ) .
17 ـ ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، له أيضاً .
18 ـ‏المشتبه في أسماء الرجال ، له أيضاً .
19 ـ التكميل في معرفة الثقات و الضعفاء و المجاهيل ، ابن كثير : إسماعيل بن عمر ( ت 774هـ ) .
20 ـ لسان الميزان ، ‏ابن حجر العسقلاني : أحمد بن علي ( ت 852هـ ) .
21 ـ التحرير الطاووسي ، الحسن بن زين الدين العاملي ( ت 1011هـ ) .
22 ـ منهج المقال ، محمد بن علي الاسترابادي ( ت 1028هـ ) .
23 ـ جامع المقال ، فخر الدين الطريحي ( ت 1085هـ ) .
24 ـ مجمع الرجال ، عناية الله القهبائي ( ق11 ) .
25 ـ نقد الرجال ، الأمير محمد التفريشي ( ق11 ) .
26 ـ جامع الرواة ، محمد بن علي الأردبيلي ( ق12 ) .
27 ـ اتقان المقال ، محمد طه نجف ( ت 1323هـ ) .
28 ـ تنقيح المقال ، عبد الله المامقاني ( ت 1351هـ ) .
29 ـ معجم رجال الحديث ، أبو القاسم الخوئي ( ت 1413هـ ) .
30 ـ قاموس الرجال ، محمد تقي التستري ( ت 1415هـ ) .
و الخلاصة : إن المطلوب من الفقيه و الباحث الفقهي التأكد من وثاقة سند الحديث و يتمثل هذا بالخطوات التالية :
أـ التأكد من تواتر الحديث وفق ما يتبناه الفقيه في تحديد مبدأ التواتر .
ب ـ‏ التأكد من أن القرائن التي تحيط بالحديث تفيد القطع بصدوره .
ج ـ و بالنسبة للحديث الذي لم يقطع بصدوره عليه :
1 ـ أن يدرس أحوال رواته وفق متبنياته التي يفيدها من بحثه في تقييمات و تقويمات علماء الرجال .
2 ـ أن يتأكد من أن القرائن المحيطة بالنص تفيد الوثوق بصدوره عن المعصوم في إطار ما يمتلكه الفقيه من خلفيات ثقافية تساعد على ذلك .

دلالة النص

تقدم أن دراسة سند النص الشرعي يقتصر فيها على سند الحديث فلا تشمل سند القرآن الكريم لأن صدوره عن الله تعالى ثابت بالضرورة الدينية عند المسلمين .
أما هنا فالدراسة تعمم دلالة الآية و دلالة الرواية ، و الدلالة هنا :
ـ قد تكون نصاً ‏في المعنى الذي تدل عليه .
ـ و قد تكون ظاهرة فيه .
و الفرق بين الدلالة النصية و الدلالة الظهورية هو :
ـ إن الدلالة النصية هي دلالة تعيين ‏بمعنى أن اللفظ لا يدل إلا على معنى واحد و لا تحتمل دلالته على غيره .
فالمعنى المدلول عليه متعين .
و هكذا دلالة ، لا يحتاج الفقيه معها إلى أكثر من التأكد من أن اللفظ نص في معناه لا يدل على سواه .
و هذا كما في دلالة كلمة ( أبداً ) على معنى التأبيد من الآية الكريمة : ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 10 ففي هذه الآية الكريمة يستفاد من كلمة ( أبداً ) حرمة قبول شهادة الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء حرمة مؤبدة ، وذلك لانحصار كلمة ( أبداً ) في الدلالة على التأبيد و الاستمرار ، لأنها نص في معنى التأبيد .
ـ أما الدلالة الظهورية فتعني أن اللفظ يدل على أكثر من معنى إلاّ أن دلالته على أحدها أظهر و أبين . و لهذا : على الفقيه و هو يلتمس الحكم من ظواهر الألفاظ أن يقوم بالخطوتين التاليتين :
أ ـ أن يتأكد من أن الدلالة ظهورية و ليست نصية و لا احتمالية .
ب ـ‏ أن يثبت أن الظواهر اللفظية يصح الاحتجاج بها شرعاً ، بمعنى أنه يسوغ للفقيه الاعتماد عليها و الاستناد إليها في محاولة استفادة الحكم الشرعي .
وقد عنون علماء أصول الفقه هذا الموضوع بـ ( حجية الظهور ) لأنهم يبحثون فيه عن مشروعية الأخذ بظواهر الألفاظ و الركون إليها في استفادة الحكم الشرعي منها .
و استدلوا على أن ظهورات الألفاظ حجة من ناحية شرعية بـ ( سيرة العقلاء ) الموثقة من قبل المشرع الإسلامي . بتقريب أن الاستقراء قد أفادنا بأن الأخذ بظواهر الألفاظ ظاهرة لغوية ـ اجتماعية ، عامة ، أي أنها موجودة في كل لغات العالم و في جميع مجتمعات البشر ، و لم يعهد من المشرع الإسلامي عدم توثيقها بل المعهود منه السير بسيرة الناس في الاعتماد على هذه الظاهرة .
و هنا ليس على الفقيه بعد تبنيه لهذه القاعدة ( قاعدة الظهور ) عن طريق اجتهاده في المسألة إلا التأكد من النص الذي يريد أن يستدل به أو يستنبط الحكم منه من أنه من مصدايق هذه القاعدة و واحد من جزئياتها .
و إلى هنا لا بد من التساؤل : ما هو المعنى الظاهر الذي هو محور البحث في الدلالة الظهورية ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال توقفنا على أهم سبب للاختلاف في اجتهادات الفقهاء . و الإجابة أن للمعنى ثلاثة وجودات ، هي :
1 ـ وجوده في الواقع الموضوعي ، المصطلح عليه ـ فلسفياً ‏ـ بـ ( الواقع الخارجي ) لأنه خارج الذهن .
و هذا الوجود هو حقيقة الشيء و واقعه .
2 ـ وجوده في الذهن ، المصطلح عليه ـ فلسفياً ‏ـ‏ بـ ( الوجود الذهني ) .
و هذا الوجود هو الصورة التي ترسم في الذهن للمعنى الموجود في الواقع الخارجي .
و هذه الصورة قد تطابق المعنى الموجود في الواقع للخارجي مطابقة كاملة و قد تطابقه من بعض الوجوه و تخالفه من وجوه أخرى ، و قد تخالفه مخالفة كاملة .
3 ـ وجوده في اللفظ ، المصطلح عليه بـ ‏( الوجود اللفظي ) .
و هذا الوجود هو انعكاس للمعنى الموجود في الذهن .
و إلى هنا : أمامنا معنيان : المعنى الخارجي و المعنى الذهني ، فأيهما الذي يدل عليه اللفظ ، ليكون محور البحث في مسألتنا هذه .
و بتعبير آخر : أي المعنيين هو المعنى الظاهر للفظ و الذي يبحث الفقيه عنه و فيه ؟
إن المعنى المقصود لنا هنا ‏( في دلالة الألفاظ ) هو المعنى الذهني ، و هو الذي يتعامل معه الفقيه في استفادة الحكم منه و في ترتيب الآثار العلمية و الشرعية عليه .
يقول ابن سينا في كتابه ( الشفاء ) : " و معنى دلالة اللفظ : أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس ( يعني في الذهن ) فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم ، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه " .
فمعنى المعنى : هو المفهوم المرتسم في الذهن كصورة للمعنى الموجود في الواقع خارج الذهن . و يعبّر عنه بـ ‏( المفهوم ) و ( الفكرة ) و ( المعنى ) .
و بسبب أن صورة المعنى الخارجي المرتسمة في الذهن قد تطابق المعنى الخارجي و قد تشابهه من بعض الوجوه و قد تخالفه ينشأ الاختلاف في فهم المعنى الظاهر بين الفقهاء ، و يكون مدعاة للاختلاف في الحكم المستفاد منه .
و لنأخذ مثالاً ميسوراً ‏للجميع هو فيما إذا قيل : يكره الاشتراك في المنديل الواحد . فقد يستظهر بعضهم من كلمة ( الاشتراك ) في المنديل الواحد أن يمسك كل من الشخصين المتمندلين بطرف من المنديل و ينشف يديه من غسلهما بعد الأكل .
و يستظهر آخر أن الاشتراك يتحقق في الصورة المذكورة و يتحقق أيضاً حتى بتمندل كل منهما الواحد بعد الآخر .
و مثله ما لو قلت ( اتخذ من هذا الرغيف عشاءك ) فقد يُستظهر منه أن للمخاطب أن يأكل الرغيف كله ، و له أن يتناول منه كفايته ، أي بعضه .

طريقة فهم الظهور

إن المستفاد من أبحاث الفقهاء و تجاربهم العلمية النابعة من تعاملهم مع النصوص الشرعية بغية استنباط الحكم الشرعي منها هو أن لديهم طريقتين لفهم ظهورات الألفاظ ،‏ أو قل لفهم المعنى الظاهر من النص الشرعي ، و هما :
ـ الفهم العلمي .
ـ الفهم العرفي .
و قبل محاولة إيضاح فحوى كل من الطريقتين نمهد ببيان ما تتوقف عليه الدلالة اللغوية لنعيّن معناها المتوخى من استخدامها فنقول : إن الإنسان عندما يستخدم الكلام لإبراز ما في نفسه من معاني يروم إيصالها للمتلقي سامعاً أو قارئاً عبر الألفاظ و بواسطة العلاقة القائمة بينها و بين المعاني ، تلك العلاقة المصطلح عليها بالدلالة يتوقف تبيين و تعيين المعنى الذي يهدف إليه المتكلم على شيئين ، ‏هما :
1 ـ الوضع أو الاستعمال :
و يراد به أن يكون اللفظ موضوعاً‏ من قبل أهل اللغة للمعنى أو مستعملاً فيه من قبلهم .
و أن يكون كل من المتكلم و المتلقي عالمين بذلك الوضع أو الاستعمال ، و عارفين به .
2 ـ القصد : و يراد به أن يكون المتكلم قاصداً ‏للمعنى . و الذي يدلنا على الوضع ( أي أن هذا المعنى هو الذي وضع اللفظ له ) .
و بتعبير آخر : على أن هذا اللفظ هو اللفظ الذي قامت علاقة الدلالة بينه و بين المعنى .
إن الذي يدلنا على هذا هو قاعدة الظهور . و الذي يدلنا على تحديد و تعيين قصد المتكلم هو قواعد تشخيص مرادات المتكلمين .
و الطريق الذي سلكه الفقهاء إلى معرفة الظهور ، أي إلى معرفة أن هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى دون غيره من المعاني تمثل فيما ذكرناه مما أسميناه بالفهم العلمي و الفهم العرفي .

الفهم العلمي

و نعني به استخدام القواعد العلمية لمعرفة الظهور ، تلكم القواعد المرتبطة بفهم معطيات تركيب الألفاظ ، كلمة و كلاماً ، و هي :
ـ قواعد علم الأصوات .
ـ قواعد علم الصرف .
ـ قواعد علم النحو .
ـ قواعد علم البلاغة .
ـ قواعد علم الأسلوب .
ـ قواعد علم اللغة العام .
ـ قواعد الدلالة و المعجم .
و يضيف إليها الفقهاء نظريات الفلسفة القديمة و الإسلامية و مبادئ علم الكلام و ضوابط علم المنطق اليوناني و ما إليها من عقليات .
أي إن النص الشرعي يُدرس في ضوء . أو هدي هذه القواعد العلمية ، و عن طريقها يتوصل الفقيه و الباحث الفقهي إلى دلالة و مدلول النص الشرعي و من ثم يستخلص الحكم منه .
و هذا اللون من الفهم هو ما يعرف الآن في علم النقد الأدبي الحديث بالدراسة البنيوية structuralism نسبة إلى البنية ( بنية النص ) التي تعني هيئته و تركيبه ، و من هنا عبّر عنها بعضهم بالبنائية نسبة إلى بناء النص أي بنيته و عبّر عنها آخرون بالتركيبية نسبة إلى تركيب النص أي بنيته .
و عادةً ‏يبحث في النص في إطار هذه الدراسة مجرداً‏ من علائقه و قرائنه في الواقع الموضوعي ( الخارجي ) الذي انبثق فيه و منه . و من هنا هي ـ في واقعها ـ دراسة داخلية ، أي إن نتائجها تستفاد من داخل النص من تركيبه عن طريق دلالة المفردات و دلالة نظمها في سلك التركيب .

الفهم العرفي

و نعني به فهم دلالة النص و تعيين مدلوله من خلال معرفتنا لكيفية تعامل العرف ( و هم أبناء المجتمع ) معه .
أو قل : نفهم معنى النص من القرائن الاجتماعية المحيطة به و الملابسات الأخرى التي لها ارتباط به .
و يعرف هذا اللون من الدراسة في الدرس الأدبي الحديث بالدراسة البيئية ، نسبة إلى البيئة Environment ، حيث يدرس النص في إطار معالم بيئته الحضارية ، ثقافية و اجتماعية .
و هي ـ كما هو واضح ـ دراسة خارجية ، في هدي ما يفهمه العرف من النص .
و الخلاصة : إن الموقف الفقهي من السلوك إلى معرفة معنى النص الشرعي يتمثل في التالي :
1 ـ الاعتماد على الدراسة الداخلية للنص بتطبيق القواعد العلمية عليه ، و الاقتصار على ذلك .
أي إن الفقيه يعتمد على الصناعة العلمية فقط ، و من هنا نعتوه ـ في عصرنا هذا ـ بالفقيه الصناعي .
2 ـ الاعتماد على الدراستين معاً الداخلية و الخارجية .
و في حالة حصول تنافٍ بين الدلالة البنيوية و الدلالة البيئية ، أو اختلاف بين الفهم العلمي و الفهم العرفي ، تقدم نتيجة الفهم العرفي على نتيجة الفهم العلمي ، و ذلك للسببين التاليين :
1 ـ أنه قد ثبت من الاستقراء لاستعمالات المشرع الإسلامي في خطاباته و حواراته أنه يسلك طريقة الناس ( العرف ) .
2 ـ أن استعمال العرف هو بمثابة القرينة ، و القرينة في حالة تعارضها مع صاحبها تقدم عليه لأنها مفسِّرة ، و المفسِّر يقدم على المفسَّر ، و هذا من القضايا الواضحة .
و الذي يتحكم في هذا الفهم العرفي هو ما يمتلكه الفقيه من ذوق أدبي يوقفه على نكات التعبير و دقائق التركيب اللفظي .
كما أن الذي يحكّم فيه هو ما يحمله الفقيه من حس اجتماعي يدرك به عرفيات النص التي يضيفها الاستعمال الاجتماعي على مغزاه و مؤدَّاه ، التي هي فوق القواعد و التي هي من نتائج الطريقة الاجتماعية ( العرفية ) في التعامل مع الصياغات الكلامية و دلالاتها .
و من هنا نعت هذا الفقيه بالفقيه الذوقي .
و أيضاً‏ ـ ‏وعلى أساس منه ـ ندرك أهمية و ضرورة اطّلاع الفقيه على حضارة عصور التشريع الإسلامي ، و بخاصة ما يرتبط منها بفهم دلالات النصوص الشرعية .
كما لا بد في دراسة دلالة النص الشرعي من أن نتحرك داخل إطار المبدأ العام للتشريع الإسلامي الذي راعى فيه المشرع الإسلامي أن يلتقي دائماً و أبداً‏ مع طبيعة الإنسان في تكوينه الجسدي و الروحي و النفسي و العقلي ، تلك الطبيعة التي عبّر عنها تعالى و تقدس بالفطرة ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 11 و داخل دائرة علاقاته الاجتماعية فرداً‏ و أسرة و مجتمعاً و دولة ، ‏وبها يحافظ على مقاصد الشريعة ، و هي : حفظ الدين و حفظ النفس و حفظ العقل و حفظ النسل و حفظ المال .
و من الواضح أن الفقيه الذوقي هو الأقرب إلى طبيعة و واقع فهم النصوص الشرعية .
و على أساس من هذا ـ و من غير ريب في ذلك ـ يفضل مثل هذا الفقيه على الفقيه الصناعي .
و ينبغي أن يحتاط لذلك حتى في مجال التقليد و إناطة منصب الإفتاء العام .