الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مواجهة الاحتكار، سلطة الردع و الإجبار

النقطة الأخيره في فقه الاحتكار هي السبيل القانونية التي وضعت في التشريع الإسلامي لمواجهة ظاهرة الاحتكار، حيث لابدّ من معرفة هل هناك سلطة رادعة تستطع القيام بخطوات لمنع وقوع الاحتكار في المجتمع والاقتصاد أم لا؟

والبحث حول هذا الموضوع يقع ضمن نقاط عدّة، أهمها:

1 ـ إجبار المحتكر على البيع

ذهب الكثير من الفقهاء المسلمين إلى أنّ الدولة الشرعية والحاكم الشرعي يمنعان المحتكر من الاحتكار ويجبرانه على البيع 1، وقد ادّعي عليه أو نقل فيه الإجماع 2. ويبدو أنّ ذكرهم البيع كان من باب كونه أشهر وسائل المعاوضة، وإلا فإنّ العبرة بعرضه في السوق ووصوله إلى يد المستهلك ولو بعوض، فضلاً عما إذا كان من دونه، فيدخل الصلح أو القرض أو الهبة المعوّضة وغيرها ونحو ذلك كما أشار إلى هذا الأمر بعضهم 3.

ويبدو من بعض تعابير الفقهاء أنّ السلطان ملزم بإجباره على البيع، لا أنّ له الحقّ في ذلك فحسب 4، وربما يكون مراد من عبّر بأنه يجبَر أو يُكره هو ذلك لا بيان الجواز كما احتمله بعضهم 5.

وقد ذكر هنا أنّ فقه الجمهور غير متفق على مسألة الإجبار، بل لديه تفصيل في ذلك، من حيث إنه إذا خيف الضرر على الناس أجبر المحتكر على البيع، بل أخذ منه وبيع، وأنّ هذا متفقٌ عليه بين فقهاء أهل السنّة، أما إذا لم يكن هناك مثل هذا الخوف فقد ذهبت المالكية والشافعية والحنابلة والشيباني من الأحناف إلى أنّ للحاكم الشرعي إجباره، فيما خالف في ذلك أبو حنيفة ـ على رواية ـ وأبو يوسف، فذهبا إلى أنه لا يجبر على البيع، وأنّ غاية ما في الأمر أن يثبت في حقّه التعزير والعقوبة 6، إلا أنّ الملاحظ وجود خلافات داخل فقهاء المذاهب وأنّ هذا التقسيم ليس على إطلاقه.

وعلى أية حال، فمن الواضح ـ كما ذكر العلامة شمس الدين 7ـ أن الإجبار لا يكون بمجرّد الاحتكار، وإنما طبيعة الأمر تستدعي أن يوجّه إليه الحاكم أمراً بالبيع وينذره فإن لم ينفع ألزم بالبيع، والمرجع في هذا الأمر واضح، وعبارة الحلبي في الكافي دالّة على ذلك 8؛ إذ الحكم تابعٌ للغرض هنا وليس أمراً تعبدياً، فلا موجب للانتقال إلى إكراه المحتكرين إذا كان في توجيه الخطاب إليهم كفاية، وما أعطى الحاكم صلاحية الإكراه يؤخذ فيه بالقدر المتيقن حينئذٍ.

وعلى أية حال، فمن اللازم رصد الأدلّة التي تعطي للدولة الحقّ في إجبار المحتكر على البيع، ويمكن عرضها كما يلي:

الدليل الأول: الرجوع إلى أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أساس أنّ المحتكر قد ارتكب حراماً بفعله هذا، فيجبر ـ من باب النهي عن المنكر ـ أن يقلع عن هذا الحرام، ويكون ذلك بتدخّل الحاكم 9.

ومن الواضح أنّ هذا الدليل إنما يمكن التمسّك به بناءً على القول بحرمة الاحتكار، أما الفقهاء الذين يذهبون إلى الكراهة فلا يمكنهم أخذ هذا الدليل هنا مستنداً.

يضاف إلى ذلك أنّ هذا الدليل لا يقف عند حدود الحاكم أو الدولة الشرعية، بل يتعدّى إلى كل مسلم مخاطب بنصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فسائر المسلمين يمكنهم إجبار المحتكر أيضاً ما لم يستدع ذلك عنواناً طارئاً يحول دونه، كأن يكون نهيهم فيه تصرّفٌ في جسد المنهي أو ماله وشَرَطْنَا تصدّي الحاكم لمثل هذه المرتبة أو إذنه على الأقلّ. كما أنّ هذا الدليل يثبت وحوب الإجبار لا جوازه فحسب، وذلك عند من اجتمعت في حقّه شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إلا أنّ المشكلة الوحيدة التي تواجه هذا الدليل هي أننا منعنا في مباحثنا في الأمر بالمعروف دلالة أدلّة هذه الفريضة على استخدام أسلوب القهر أو الضرب أو نحو ذلك 10، فإذا جامع الإجبار هنا غير هذه الأساليب والتي منها التصرّف في مال الشخص المنهي عن المنكر كان هذا الدليل جيداً وإلا فلا، فلا يكون دليل الأمر والنهي مثبتاً للجواز مطلقاً هنا.

الدليل الثاني: الاستناد إلى أدلّة صلاحيات الدولة في التدخّل لما فيه الصالح العام والحيلولة دون لحوق الضرر أو سلب الحقوق أو نحو ذلك على المواطنين عندها، وهذا معناه أنه إذا أعطينا الحاكم ولاية الأمور العامة فمن الطبيعي أن تمتدّ ولايته لمثل شؤون الاحتكار، لاسيما مع تفشّيه وإلحاقه الضرر العام، فإنّ هذا هو القدر المتيقن من ولايته 11.

وهذا الدليل خاصّ بمن تثبت له الولاية وصلاحيات عمل الدولة، ولا يتعدّى إلى عامّة المسلمين كما هو واضح. يضاف إليه أنه يمكن تصوّر هذا الدليل حتى لو قلنا بكراهة الاحتكار، فإنّه ما دام للدولة صلاحية التدخّل في الأمور العامة وكانت هذه منها ورأت صلاحاً في ذلك أمكنها حتى لو كان المورد غير إلزامي من الناحية الشرعية بناءً على الولاية العامّة للفقيه، وقد سبق أن تحدّثنا عن هذا الأمر لدى استعراض أدلّة تحريم الاحتكار.

ولا يفيد هذا الدليل إلا إعطاء الحقّ للدولة في منع المحتكرين، دون إلزامها بذلك ما لم يصل الأمر إلى حدّ الضرر أو الإخلال العام الذي يفرض عليها التدخّل لحماية مصالح مواطنيها.

وهذا الدليل من وجهة نظرنا جيّد، لكنه تابع للنظرية السياسية التي يختارها الفقيه؛ لأنّ هذه النظرية تحدّد سعة وضيق ومساحة نشاط الدولة في الموضوع الذي نحن فيه، وهو بحث آخر يعالج في محلّه، حيث قد يثبت هناك أيضاً أنّ الدولة غير الشرعية قد يكون لها الإلزام أيضاً ـ بعد التخطّي عن شرعيتها في ذاتها ـ على كلام طويل هناك.

الدليل الثالث: النصوص الدينية الخاصّة، وهذه النصوص في قضية الإجبار محدودة، وهي كما يلي:

1ـ خبر غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصادق، عن أبيه: «أنه مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها، فقيل لرسول الله$: لو قوّمت عليهم، فغضب رسول الله$حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوّم عليهم؟! إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء» 12. فهذا الخبر يكشف عن الفعل النبوي في إجبار المحتكرين على عرض سلعهم في السوق.

وقد يناقش في الاعتماد على هذه الرواية من جهات:

أولاً: بما ذكرناه سابقاً، من ضعفها السندي بطريقي الطوسي والصدوق معاً، فلا نعيد.

ثانياً: إنّ هذه الرواية غاية ما تدلّ عليه فعلٌ نبوي، والفعل دليلٌ صامت مجمل، فلعلّ هناك حالةً استثنائية أو عنواناً زمنياً فرض ذلك، مما لا يسمح لنا بالخروج بحكم شرعي إلهي عام.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بأنّ الرواية ولو كانت مجملةً لكنها على أيّة حال تثبت أنّ الإجبار مشروع من طرف وليّ الأمر، والفعل النبوي ليس عبثياً ولا صادراً عن تشهي فاعله، فلابد أن يفرض تعبيراً عن حكم شرعي إلهي يسمح للحاكم بالإجبار على البيع 13.

إلا أنّ هذا الجواب لا ينفع؛ لأنّ الفقهاء والأصوليين عندما يتحدّثون عن الصمت في الأفعال لا يمنعون عن إثبات الجواز في الجملة من خلالها ولو بعنوان ثانوي، لكن ما يقولونه هو أنّه حيث لا نعرف مبرّرات الفعل ولا يحكي الفعل في حدّ ذاته عن حدوده ومنطلقاته ومساحته، لهذا نصفه بالصمت والإجمال، والأمر هنا كذلك فإنّ أصل إفادة هذا الفعل لوجود حقٍ ما للحاكم في ظروفٍ ما أن يمنع عن الاحتكار ثابتٌ، لكنّ هذا لا يسمح للحاكم الآن بالإجبار إلا في نفس الحدود المفروضة المتيقّنة، مع أننا لا نعرفها، وهذا هو الإجمال. فلكي يتمّ الجواب هنا لابدّ من فرض قدر متيقّن ليكون الاستدلال بالفعل النبويّ المذكور جيداً، فمن تصوّره في المقام أمكنه الأخذ به.

ثالثاً: إنّ هذا الفعل النبوي قد يكون حكومياً ولايتياً ومن ثم يفقد بُعده الإلهي الثابت.

وأجيب أيضاً بأن الوظيفة الأساسية للنبي$هي تبليغ الأحكام الإلهية بالقول والفعل والتقرير، والحكومية والزمنية حالة طارئة تحتاج إلى شاهد ودليل وهو مفقود هنا، بل حتى لو كان المورد حكومياً فإنّ هذا لا ينافي مرجعيّته وصيرورته مشمولاً لأدلّة حجية السنّة الشريفة ما لم تثبت زمنيته، ولا دليل عليها هنا 14.

وقد أجبنا سابقاً عن هذا النمط من فهم الحكم الولايتي فلا نعيد، ونضيف هنا بأنّ الحديث عن أنّ الأصل في النبي هو تبليغ الأحكام الإلهية الثابتة سبق أن ناقشناه في أبحاثنا الأصولية في حجية السنّة 15. وأنه مصادرة لا دليل عليها، ويزداد حالها وضوحاً هنا فإنّ المجيب يجعل الأصل في الفعل النبوي أيضاً ـ وليس فقط القول ـ هو التبليغ، وهذا ما يصعب جداً إثباته، لاسيما مع نبيّ مارس السلطة وقضايا السلم والحرب وأقام مجتمعاً رجع في كلّ شؤونه إليه، فمن أين نعرف أنّ الأصل في أيّ فعلٍ يفعله هو أنه يريد أن يبلّغ حكماً شرعياً إلهياً بالمعنى الذي طرحه المجيب؟! وبهذا كله يظهر أنّ الاستناد إلى هذا الخبر غير جيّد.

2 ـ خبر حذيفة بن منصور (أو عبد الله بن منصور)، عن أبي عبد الله، قال: «نفد الطعام على عهد رسول الله$، فأتاه المسلمون، فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمره يبيعه الناس، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلا شيئاً عندك، فأخرجه وبعه كيف شئت، ولا تحبسه» 16. فإنّ هذا الحديث يدلّ على تدخّل النبي للمنع من الاحتكار 17.

ويناقش أولاً: إنّ الحديث ـ كما قلنا سابقاً ـ ضعيف السند بمحمد بن سنان الذي لم تثبت وثاقته عندنا.

ثانياً: بما ذكره العلامة شمس الدين من أنّ غاية ما في هذا الحديث أنّ الرسول$أمر المحتكر بإخراج السلع وبيعها ونهاه عن حبسها، وهذا لا يعبّر عن إجباره له 18.

وهذه الملاحظة النقدية في محلّها حيث لا يفوح من الحديث إلا رائحة تدخّل النبي في الموضوع، أما الإجبار وأمثاله فلا يفهم منه، ما لم نثبت أنّ أمر النبي بمثل إلقاء خطبة أمام الملأ يخلق ظاهرة إجبار اجتماعي، كما لعلّه ليس بالبعيد.

ثالثاً: نحتمل جدّاً أنّ هذا الحديث خاصّ بحالة مطالبة المسلمين للحاكم بالتدخّل، فلعلّه لا يجوز له التدخّل إلا عند مطالبتهم، كون ذلك من حقوقهم العامّة التي إن لم يطالبوا بها سقطت، وحيث إنّ مورد الرواية هو حالة المطالبة فيقتصر فيها على حدودها.

3 ـ ما جاء في العهد العلوي إلى مالك الأشتر: «فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله$منع منه.. فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكّل به وعاقب في غير إسراف» 19. فإنّ هذا الحديث دالّ على أنّ الرسول والحاكم له حقّ الإجبار والإلزام، فإنّ طلب أمير المؤمنين من مالك أن يمنع، والتعليل بالمنع النبوي، ثم وضع عقوبة شاهدٌ واضح على مسألة الإلزام والإجبار 20.

وهذا البيان إن قصد منه ضمّ جميع هذه العناصر إلى بعضها، لاسيما مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الموجّه إليه الخطاب بالمنع هو والي مصر فهو جيّد ومفيد، وإلا فإنّ الاقتصار على جانب العقوبة لا ينفع؛ لأنّ العقوبة لا تعني الإجبار بالضرورة بتمام معانيه، بل قد رأينا تفكيك بعض فقهاء أهل السنّة بين العقوبة والإجبار.

نعم، ورد في خبر دعائم الإسلام ـ وهو مرسل ـ عن علي× أنه كتب إلى رفاعة ـ قاضيه على الأهواز ـ :«إنْهَ عن الحكرة، فمن ركب النهي فأوجعه، ثم عاقبه بإظهار ما احتكر» 21. حيث جعل إظهار البضائع بعينه عقوبةً، ممّا يربط بين مفهومي العقوبة والإجبار على البيع.

وعلى أية حال فقد توقفنا سابقاً في سند العهد العلوي، إضافة إلى إرسال خبر الدعائم.

وعليه، فكلّ الأخبار الخاصّة هنا ضعيفة السند وبعضها ضعيف الدلالة وهي قليلة جدّاً، بل لو سلّمنا بمرجعيّة النصوص الحديثية الخاصّة هنا فهي تدلّ على أنّ حقّ الإجبار من وظيفة الحاكم أو من نصبه كما هو واضح؛ إذ ليس فيها أيّ كلام عن غيرهما في تولّي هذا الأمر، فإذا جعلت مرجعاً لم يعط هذا الحقّ لعدول المؤمنين إلا بضم قاعدة عامة بديلة.

وبهذا يظهر الاختلاف بين الأدلّة الثلاثة هنا، فالأول يثبت الحقّ لكلّ مسلم على المشهور، فيما يختصّ الأمر على الثاني والثالث بالحاكم أوالمسؤول من قبله، وعلى تقدير فقدهما يرجع إلى النظرية السياسية العامة في هذا الموضوع.

كما قد تبيّن من نوعية الأدلّة السابقة أنّ الدليل الأول يجعل الإجبار وظيفةً إلزامية على الدولة، وأما الثاني فيصيّره حقاً ما لم يبلغ الاحتكار حدّ الضرر أو الإخلال بالنظام العام، وأما دليل النصوص الخاصّة فخبر غياث بن إبراهيم وخبر حذيفة بن منصور لا يدلان على أزيد من الحقّ، إذ ليس فيهما أية إشارة إلى أنّ الفعل النبوي كان على نحو الإلزام لشخص النبي$بفعل ذلك، أما العهد العلوي فظاهره أمر مالك الأشتر بالمنع من الاحتكار وبالعقاب عليه، مما يفهم منه وجوب ذلك على الوالي، إلا إذا قيل بعدم كونه واجباً على الحاكم، بل جائز، وأنّ أمير المؤمنين× قد استخدم حقّه هذا بإلزام واليه فصار الإلزام ثانوياً في حقّ الوالي، وإن أفاد العهد العلوي الحرمةَ أولياً بملاحظة نفس الاحتكار، كما أسلفناه في محلّه.

2 ـ هل يجوز التسعير على المحتكر؟

ذهب الكثير من الفقهاء ـ وقيل: هو الأشهر 22 ـ إلى أنّ إعطاء الدولة حقّ إجبار المحتكر على البيع أو إلزامها بذلك لا يعني أنّ لها الحقّ في وضع سعر محدّد له 23، وذكر بعضهم أنّ لها ذلك لو تشدّد المحتكر في السعر ورفعه بشكل مفرط بعد عرضه البضاعة في السوق 24، لكنّ فريقاً منهم جعل حقّ الدولة ـ على تقدير التشدّد في السعر ـ في أن تلزمه بالتخفيض لا أن تعيّن له السعر من طرفها 25، واحتاط بعضهم في عدم تعيين السعر له إلا مع الإجحاف، فيفرض عليه النزول، فلو أصرّ على عدم تعيين سعرٍ عيّنت له الأسعار 26.

وفي المقابل خالف بعض الفقهاء، فذهب إلى أنّ للسلطان التسعير هنا بما يراه من المصلحة على أن لا يكون هذا التسعير مما يلحق الخسارة بأصحاب السلع 27.

أما على مستوى الفقه غير الإمامي، فالمنسوب إلى الشافعية والحنابلة والشوكاني هو القول بحرمة التسعير.

ومن الواضح أنّ هذه المسألة التي نحن فيها تأتي بعد الفراغ عن أنّ الدولة ليس لها ـ من حيث المبدأ ـ التدخّل في الأسعار بشكل عام، بصرف النظر عن المحتكر وعدمه، وإلا فإذا بنى الفقيه من دليل آخر على أنّ الدولة تملك هذا الحقّ فسيكون حقّها في التسعير للمحتكر ثابتٌ بشكل طبيعي إن لم يكن بطريق أولى.

والذي يحول دون ثبوت الحقّ لأحد في التسعير على المحتكر جملة أدلّة بعد استبعاد دليل الإجماع كما صار واضحاً من حاله:

الدليل الأول: الاستناد إلى أنّ التسعير على المحتكر مخالفٌ للقواعد الفقهية العامّة في نظرية الملكية في الفقه الإسلامي، فإنّ الناس مسلّطون على أموالهم 28، وليس لأحد الحقّ في التدخّل في أموالهم بدون رضاهم إلا بدليل، فلو ألزم بسعر خاص وهو لا يرضى فإنّ المال المأخوذ منه سيكون عن غير طيب نفس 29، ومن الواضح أنّ ذلك مخالفٌ للأوليات الفقهية.

وهذا الدليل جيد إذا لم يثبت دليل آخر يقدّم عليه مثل قاعدة نفي الضرر ببعض معانيها ونحو ذلك، من هنا يمكن الأخذ بهذا الدليل حتى حين.

الدليل الثاني: ما استند إليه بعض الفقهاء من أصالة عدم نفوذ حكم أحد على غيره في شيء إلا بدليل، ومن ذلك أن يفرض عليه سعراً خاصّاً في معاملاته المالية، والمفروض أنه لا توجد أيّ مستندات في النصوص الدينية حول هذا الأمر، فلا يجوز التسعير مطلقاً 30، وإثبات حقّ التسعير حكمٌ شرعي بحاجة لدليل 31.

وهذا الأصل جيد، إلا أنّه يتبع نظرية الفقيه في ولاية الدولة، فإذا ذهب إلى الولاية العامّة للفقيه فإنّ هذا الدليل يكون محكوماً لما دلّ على سلطنة الفقيه على الأموال بما فيه الصالح العام، وإذا ذهب إلى ولاية الدولة في حدود معينة فلابدّ من النظر في أنّ قضية التسعير على المحتكر هل تكون مشمولةً لهذه الحدود فيجوز التسعير أم لا؟

الدليل الثالث: النصوص الخاصّة، وهي عبارة عن الخبرين المتقدّمين عن حذيفة بن منصور وغياث بن إبراهيم، وقد ادّعى ابن إدريس الحلّي أنّ الأخبار عن الأئمة الأطهار قد تواترت في ذلك 14.

والذي يبدو أنّ نظر ابن إدريس كان إلى مجمل أخبار نفي التسعير الأعمّ من حال الاحتكار وعدمه، فإنها تربو على عشرة روايات لو أدخلنا روايات أهل السنّة في الحسبان، لكن حتى هذا المقدار يصعب تحصيل التواتر منه، على بحثٍ نتركه إلى مسألة التسعير، وإلا فلو اقتصرنا على روايات التسعير في خصوص حال الاحتكار فهي قليلة جداً لا تبلغ حدّ التواتر حتماً. كما أنه قد تقدّم سابقاً أنّ هاتين الروايتين ضعيفتا السند أيضاً فلم يسلم خبرٌ صحيح ولا متواتر في النهي عن التسعير على المحتكر بالخصوص.

لكن لو صرفنا النظر عن هذه الجهة، فلا ينبغي التوقّف في أنّ خبر غياث بن إبراهيم دالّ على مرجوحية التسعير بل حرمته، بمعنى أنه ليس من حقّ حتى النبي أن يتدخّل في تقويم الأسعار، وأنّ هذا الأمر متروكٌ إلى الله تعالى بوصفه حاكم عالم التكوين، وإلا فلا معنى لغضبه وتعجّبه مما طلبه منه المسلمون بالتقويم، ثم التعليق على ذلك بأنّ الأمر محصور بالله تعالى مستخدماً أداة الحصر (إنما)، فيكون هذا الخبر سالباً الدولة حقّ التسعير لا ساكتاً عن ذلك فحسب.

من هنا، لا نجد تفسيراً معقولاً لما ذكره العلامة شمس الدين، من أنّ خبر غياث بن إبراهيم لا يدلّ سوى على أنّ التسعير لم يشرّع في الإسلام لا أنه محرّم، وهناك فرقٌ بين عدم وجود شريعة التسعير في الفقه الإسلامي وكون التسعير غير مشروع في حدّ نفسه حتى نسلبه عن الحاكم أيضاً، والغضب النبوي الذي يفهم من الحديث غير دالّ بنفسه على الحرمة، إذ لعلّه من جهة خصوصية في السؤال أو في السائل أو نحو ذلك، مما يجعل الغضب مجملاً فيعقّد إمكانية استفادة التحريم منه 32.

إذ لو كان هذا التفسير صحيحاً من الشيخ شمس الدين، فلماذا رفض الرسول$أن يسعّر ما دام التسعير مشروعاً، حاصراً التسعير بالله تعالى؟! كما أنّ غضبه واضحٌ تعلّقه بالعَرْض الذي قدّم له، فلا معنى لجعله مجملاً. ولو كان المورد حالةً خاصّة فلا معنى للتعليل العام بحصر التسعير بالله سبحانه.

وقد يقال ـ كما ذكره الشيخ المنتظري ـ بأنّ هذا الحديث ناظرٌ إلى الحال الطبيعي، حيث طلب المسلمون التقويم فرفض الرسول معلّلً بأنّ الأسعار الطبيعية ترجع إلى الله ولا يراد الأسعار المجحفة والظالمة، وهذا يعني أنّ التصرّف في الأسعار الطبيعية غير جائر بخلاف الأسعار الظالمة 33، بل ذكر بعض المعاصرين أنّ النزاع هنا لفظيٌّ؛ لأنّ المانع عن التسعير يمنعه في الحال الطبيعي والمجيز يجيزه في الحال الاستثنائي 34.

لكن يمكن التعليق بأنّ نصوص التسعير على المحتكر لا تقبل هذا التفسير، وتجعله تحكّماً، حيث المفترض أنّ المسلمين عندما طالبوا النبي بالتقويم على المحتكر أنّ ذلك كان للحيلولة دون رفعه السعر بطريقة غير عادية؛ لأنّ هذا هو المترقب من المحتكر الذي نفد مع احتكاره الطعامُ من المدينة المنوّرة، ولو كان تسعير المحتكر عاديّاً فلماذا تدخّل المسلمون في هذا الأمر، فجهة مطالبة الناس بالتسعير في حال الاحتكار هو إفراط المحتكر في الثمن لا أصل أنّه يسعّر حتى لو كان تسعيره طبيعيّاً ومعقولاً، ومن ثم لا معنى لجعل النزاع لفظياً، مع صريح عباراتهم في المقام.

نعم، خبر حذيفة بن منصور لا يدلّ على عدم مشروعية التسعير؛ لأنّ المفروض فيه أنّ الرسول$طلب من المحتكر أن يبيع مرخّصاً له في السعر الذي يريد، لكن لا يحقّ له حبس السلعة، وهذا الترخيص النبوي لا يكشف عن عدم امتلاك النبي ـ بوصفه حاكماً ـ لحقّ التسعير، غاية الأمر أنه لم يمارس هذا الحق، نعم القول بوجوب التسعير ينافيه هذا الخبر.

وعلى أية حال، فلا يوجد دليل يمنع عن التسعير إلا القواعد العامة التي لابد من النظر في محكوميتها للأدلّة الأخرى.

والذي قد يصلح حاكماً على الأدلّة العامة المتقدّمة، هو:

1ـ دليل الضرر في حالة الإجحاف بالسعر، فإنّ الضرر والضرار منفيين في شريعة الإسلام وفقاً لبعض تفسيرات النفي هنا، وهذا يعني أنّه لابد من التسعير؛ إذ بدونه يلزم الضرر على عامة الناس 35.

وقد يصاغ الدليل بأنّ في الإجحاف في السعر ضرراً على الناس، ولابدّ للحاكم من رفع الضرر هذا 36، وكأنه لوجوب دفع الضرر عن المسلمين على من يقدر على ذلك.

ويمكن أن يناقش أولاً: إنّ دفع الضرر في حال الإجحاف يمكن تحقّقه دون تدخل في القيمة ووضع سعرٍ بعينه؛ وذلك أنّ الدولة إذا رأت الضرر والإجحاف أمكنها التدخل بإلزامه بالتخفيض دون تعيين سعرٍ له، ومن هنا ذهب بعض الفقهاء ـ كما قلنا ـ إلى اختيار أمره بالتخفيض مع الإجحاف دون تسعير بعينه؛ لأنّ الأدلّة تفي بهذه النسبة من تدخّل الدولة.

وناقش بعضهم في ذلك، بأنّ الحديث عن أمره بالتخفيض دون تعيين سعر له، أمرٌ له حالتان:

الأولى: أن يكون تحديد التخفيض بتحديده للسعر في الجملة، كأن يقول له: عليك أن تبيع ما بين السعر الفلاني والآخر الفلاني، مثل أن تبيع بين عشرة دراهم وعشرين، وفي هذه الحال سيكون هذا تسعيراً، بل يلزم منه نقض الغرض؛ لأنّ المشتري سيطالب بأدنى الحدين والبائع سيطالب بأعلاهما فتقع المنازعة.

الثانية: أن يتمّ الاقتصار على نهيه عن الإجحاف دون أيّ تحديد ولو كان إجمالياً، وهذا مما لا فائدة منه؛ لأنه مجرّد اكتفاء بالموعظة التي قد لا تفيد في دفع الضرر على الناس. فلا يعود هناك معنى لأصل هذا القول، فضلاً عن أن يجعل مناقشةً لدليل نفي الضرر 37.

ويجاب بأنّ الحالة الأولى ولو سمّيت تسعيراً إلا أنه إذا وفى بها الدليل ورفع الحاجة من خلالها فلا يصحّ مع ذلك إطلاق القول بالتسعير ولو بغير هذه الطريقة، كما يظهر من كلمات القائلين بالتسعير مع الإجحاف.

يضاف إلى ذلك أنه لا معنى لفرض نقض الغرض وتنازع المشتري والبائع؛ لأنّ الحاكم أعطى الخيار للبائع في البيع ضمن الحدّين، فيكون تعيين السعر ضمن الحدّين من حقوقه، رجوعاً إلى القواعد العامّة التي لا دليل على إخراجها في هذا المقدار، فما هو الموجب لإعطاء المشتري الحقّ حينئذٍ حتى ينازع البائع؟!

وأما الحالة الثانية، فلا تقف عند حدود الموعظة؛ لأنّ الدولة تمارس منعاً للبائعين عن أن يبيعوا بالسعر المجحف؛ فإذا خفّضوا السعر نظرت الدولة في سعرهم الجديد فإن ألحق الضرر طالبتهم بالمزيد من التخفيض إلى أن يبلغوا حداً لا يعلم شمول الضرر له، فلا يعود لها حقّ التدخل الإلزامي بالقوّة.

ثانياً: إنّ قاعدة الضرر ترفع الحكم الضرري، ولكنها غير قادرة على وضع حكم، وهو هنا حقّ التسعير للدولة في حال إجحاف البائعين المحتكرين؛ لأنها تنفي ولا تثبت، وقد توصّل البحث العلمي إلى الطابع النافي غير المثبت لقاعدة نفي الضرر.

وقد يجاب أولاً: إنّ قاعدة الضرر ترفع سلطان المالك على ماله بمقدارها فيخرج عن تحت سلطنة المالك ويدخل في سلطنة الحاكم، فلا تنافي الروح العامة للقاعدة تطبيقها فيما نحن فيه 38.

ويرد عليه أنّ إسقاطها سلطنة المالك بمقدار الضرر يمكن تصوّره؛ لأنه حيثية نفي تفي به القاعدة؛ لكنّ النقاش في ثبوت التسعير ضمن حقّ الدولة وصيرورة الحاكم قادراً على التسعير، فإنّ هذا هو الأمر الإثباتي في المقام، ولم يشرح المجيب هنا كيف ثبت بهذه القاعدة دخول السعر تحت سلطان الحاكم؟!

وإذا قيل بأنّ قاعدة نفي الضرر تسقط سلطنة المالك الخاصّ، فيما عموم ولاية الحاكم يجري في هذا المال حينئذٍ بلا معارض، فيثبت له حقّ التسعير، كان الجواب بأنّ سقوط سلطنة المالك كان بمقدار الإجحاف، فيكون ثبوت سلطنة الحاكم بمقدار رفع الإجحاف، وهذا غير التسعير الذي يحوي تحديداً إضافيّاً كما قلنا.

ثانياً: إنكار أنّ القاعدة ذات طابع نافٍ فقط، والقول بأنّ نفي الضرر لو توقف على إثبات حكم كان مثبتاً له 14. وهذه مناقشة كبروية مقبولة في الجملة، تراجع في محلّها، لكن غاية ما تثبته هنا هو حقّ الدولة في التدخّل لرفع الإجحاف لا التسعير الذي فيه حظّ أكبر من التدخّل.

ثالثاً: لسنا بحاجة أساساً لقاعدة نفي الضرر، بل قد لا تصحّ هنا؛ لأنّ الضرر آتٍ من البائع في اختياره السعر الأعلى لا من الشريعة كما قد يقال، بل يمكن صياغة الدليل ـ كما قلنا ـ بطريقة أخرى لا يرد معها الإشكال، وذلك بأن نقول بأنّ الدولة ملزمة بدفع الضرر عن مواطنيها وعامّة المسلمين فيجب عليها دفع هذا الضرر عنهم، وليس هذا من تعارض ضرري المشتري والبائع؛ فإنّ المشتري يتضرّر لكنّ البائع لا يربح الزائد، وعدم الربح الزائد ليس ضرراً دائماً، بل لو سلّم التعارض قدّم الضرر العام على الخاص لأرجحيّته؛ ولأنّ القاعدة امتنانية بالمعنى الجمعي كما قلنا سابقاً عند الحديث عن دليل البراءة.

وهذا يثبت للدولة حقّ التدخل لرفع الإجحاف، لا للتسعير بعينه كما هو واضح.

والمتحصّل مما تقدّم أنّ دليل الضرر ـ كيفما فسّر ـ لا يسمح للحاكم بالتسعير، فنخرج عن مقتضى القواعد العامة المتقدّمة بمقدار رفع الإجحاف المضرّ دون التسعير.

2 ـ إن يُرجع إلى نفس أدلّة حقّ الدولة في الإجبار على البيع، فإنّ هذه الأدلّة لا معنى لها مع عدم التسعير؛ لأنّ الفائدة منها سوف تزول لو تشدّد البائعون في الأسعار، وسيبقى المال على حاله، فيعود محذور الاحتكار مجدّداً وتظلّ روحه قائمة 39.

وقد بات الجواب عن هذا الدليل واضحاً؛ فإنّ الإجبار يظلّ مفيداً مع إلزامه بالتخفيض عن السعر المطروح دون تعيين سعر بديل له، كما قلنا في مناقشة دليل الضرر.

3 ـ الرجوع إلى أدلّة ولاية الدولة والحاكم، فإنّ الأسعار من الشأن العام الذي تكون للحاكم فيه ولاية، فيرجع إلى دليل الولاية لإعطاء الحاكم الحقّ في التسعير في مورد الإجحاف.

وهذا الكلام جيد ـ كما قلنا سابقاً ـ لكنّه محدود بالنظرية الفقهية السياسية التي يراها الفقيه من حيث حدود ولاية الدولة والحاكم، فلو كانت عامةً، كما في الولاية العامة للفقيه، كان له التسعير حتى دون إجحاف، بل دون احتكار، كما هو واضح.

4 ـ أن يلتزم بحرمة الإجحاف في الأسعار في حدّ نفسه، ويكون ذلك حكماً شرعياً إلهياً في تحديد الزيادات الربحية للتجّار والملاك، فإذا أجحف كان من حقّ الدولة أو الناس الإلزام بسعر معين من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا الكلام مبنيٌّ على الحرمة، ولو سلّمت أمكن الاكتفاء بالتخفيض دون تسعير، هذا على تقدير إمكان التمسّك بأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل المقام كما ألمحنا سابقاً.

نعم قد يستفاد التسعير من العهد العلوي: «وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع»، لكنه لا يدلّ ـ لو سلّم صدوراً ـ على أزيد من التوازن في الأسعار، لا تسعير الحاكم نفسه.

والنتيجة إنه لا يحقّ للدولة ـ بصرف النظر عن كبرى النظرية السياسية ـ التسعير على البائع المحتكر، وإنما لها أن تلزمه بالتخفيض إلى الحدّ الذي يرفع الضرر، على أن تراعى مصالح البائعين أيضاً ضمن توازن المصلحة العامّة، فالقول الثالث من الأقوال المتقدّمة هو الصحيح.

3 ـ عقوبة الاحتكار

بعد الفراغ عن ثبوت حرمة الاحتكار وعدم الاقتصار على الكراهة، يأتي الحديث عن وجود عقوبة شرعية دنيوية فيه بصرف النظر عن العقاب الأخروي، وبصرف النظر عن اعتبار التسعير عقوبةً كما تقدّم عن بعضهم 40، وإن كان في اعتبار التسعير عقوبةً نظر، فضلاً عن أنّ النصوص والأدلّة التي استند إليها في التسعير لا تستبطن ولا تستدعي مفهوم التعزير.

وعلى أية حال، فلم يرد في نصّ الشرع عقوبةٌ خاصّة على الاحتكار حتى لو ارتكبه فاعله عدّة مرات، من هنا لا يندرج الاحتكار في المخالفات الشرعية والقانونية الثابتة في موردها حدودٌ شرعية في العقوبات، ولذا يظهر في كلمات الفقهاء والباحثين الذين تعرّضوا لهذا الموضوع أنّ الثابت هنا هوالتعزير 41، وهو تلك العقوبة غير المقدّرة شرعاً والتي ينزلها الحاكم بالفاعل مقدّراً لها بما يراه صلاحاً. والمرجع في إعطاء الحاكم هذا الحقّ هنا هو تلك القاعدة الفقهية التي تتحدّث عن ثبوت التعزير في كلّ معصية، فإذا ثبتت هذه القاعدة أمكن الحكم بأنّ للحاكم الحقّ في تعزير المحتكرين، وكان بإمكانه استخدام الصيغة المناسبة من العقاب البدني أو السجن أو الإلزام بغرامات مالية أو منعه من بعض الحقوق المدنية أو التجارية أو نحو ذلك.

وإذا تجاوزنا القاعدة العامّة المذكورة، والتي لا يخلو إطلاقها من نظر نتركه لمناسبة أخرى، قد يدّعى وجود دليل خاص في المقام على وجود عقوبة، وهو عبارة عن بعض النصوص الخاصّة وهي:

1ـ ما تقدّم في العهد العلوي: «فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف»، فهو يدلّ على إعطاء الوالي صلاحية إنزال العقوبة بالمحتكر بعد نهيه، على أن تكون العقوبة متوازنة ومعقولة.

لكن قد تقدّم أنّ هذا العهد غير تامّ السند.

2 ـ الخبر المتقدّم في دعائم الإسلام، عن الإمام علي× أيضاً في كتابه إلى رفاعة ـ قاضيه على الأهواز ـ: «إنْهَ عن الحكرة، فمن ركب النهي فأوجعه، ثم عاقبه بإظهار ما احتكر».

لكن تقدّم أنّ الخبر ضعيف السند بالإرسال.

3 ـ خبر الحكم (أبي الحكم) قال: أخبر علي برجل احتكر طعاماً بمائة ألف فأمر به أن يحرق 42.

ومن البعيد أن يكون المحرَق هو الشخص، لهذا يفهم من هذا الحديث أنّ الإمام علياً أحرق الطعام المحْتَكَر عقوبةً للمحْتَكِر.

إلا أنّ هذا الخبر يناقش بأنّه إذا أحرق علي بن أبي طالب الطعام المحتَكَر قبل تأمين بديله للناس فهذا خلاف الغرض؛ إذ ما معنى الإحراق حينئذٍ إلا المزيد من الضيق على الناس؟! وإذا كان الإحراق بعد تأمين البديل للناس فلا نجد ذلك منسجماً مع القواعد العامة في النهي عن الإسراف، وقد كان يمكن مصادرة المال المذكور وبيعه ويعود الربح كلّه إلى بيت المال، فما معنى إحراق النعم الإلهية من الأطعمةالتي بها حياة الناس؟!

لهذا لا نتعقّل مثل هذا الفعل من الإمام علي، ولا سكوت الصحابة أيضاً عن ذلك، اللهم إلا أن تكون هناك خصوصيات ذات طابع استثنائي والعلم عند الله.

يضاف إلى ذلك كلّه، أنّ في سند هذا الحديث ليث بن أبي سليم، وهو رجل مجهول الحال عند الإمامية، ومضعّف في جهات من حديثه عند أهل السنة 43، فمن هنا لا يصحّ هذا الحديث أيضاً.

4 ـ خبر عبد الرحمن بن قيس، قال: قال حبيش (قيس): أحرق لي علي بن أبي طالب بيادر بالسواد كنت أحتكرها، لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة 44.

ويرد على هذا الخبر ما أوردناه على سابقه، إضافةً إلى أنّ عبد الرحمن بن قيس الوارد في السند مجهول الحال، والظاهر أنه الكندي، بقرينة الرواية عن أبيه، ولا أقلّ من تردّده بين الثقة وغيره 45.

وعليه، فلم يقم دليل معتبر خاصّ على ثبوت التعزير والعقوبة في حقّ المحتكر، فإن ثبتت القاعدة العامة المتقدمة ثبت التعزير وإلا أشكل الأمر، وفي عموم هذه القاعدة عندي نظر يبحث في محله إن شاء الله 46 47.

 

 

  • 1. انظر: الطوسي، المبسوط 2: 195؛ والوسيلة: 260؛ وكلمة التقوى 4: 27؛ والمختصر النافع: 120؛ وشرائع الإسلام 2: 275؛ وتحرير الوسيلة 1: 502؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 13؛ ومحمد الروحاني، منهاج الصالحين 2: 14؛ وإرشاد الأذهان 1: 356؛ وتبصرة المتعلّمين: 120؛ وجامع المقاصد 4: 42؛ والجامع للشرائع: 258؛ والمقنعة: 616؛ والسرائر 2: 239؛ والكافي في الفقه: 360؛ ومستند الشيعة 14: 51؛ والقطّان الحلّي، معالم الدين في فقه آل ياسين 1: 337؛ وجواهر الكلام 22: 485؛ وهداية العباد 1: 347؛ ومحمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 2: 30؛ والمراسم العلوية: 183.
  • 2. راجع: مصطفى الخميني، مستند تحرير الوسيلة 1: 481؛ والمهذب البارع 2: 370.
  • 3. انظر: مصطفى الخميني، مستند تحرير الوسيلة 1: 482.
  • 4. انظر: النهاية: 374؛ وتحرير الأحكام الشرعية 2: 255.
  • 5. انظر: موسوعة الفقه الإسلامي 6: 143 ـ 144.
  • 6. راجع: الموسوعة الفقهية mالكويتيةn2: 95؛ وأسامة السيد عبد السميع، الاحتكار: 96 ـ 98.
  • 7. شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 187.
  • 8. الكافي في الفقه: 360.
  • 9. النراقي، مستند الشيعة 14: 51؛ وانظر: شمس الدين، الاحتكار: 191.
  • 10. انظر: حيدر حب الله، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 470 ـ 507.
  • 11. انظر: جواد التبريزي، إرشاد الطالب 3: 282.
  • 12. تهذيب الأحكام 7: 161 ـ 162؛ والاستبصار 3: 114 ـ 115؛ والتوحيد: 388؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 265.
  • 13. شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 189.
  • 14. a. b. c. المصدر نفسه.
  • 15. حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي: 711 ـ 712.
  • 16. الكافي 5: 164؛ والاستبصار 3: 114.
  • 17. اللنكراني، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (المكاسب المحرّمة): 260.
  • 18. شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 190 ـ 191.
  • 19. نهج البلاغة 3: 100.
  • 20. انظر: المنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 56؛ والشفيعي، الاحتكار: 96؛ وشمس الدين، الاحتكار: 190.
  • 21. دعائم الإسلام 2: 36.
  • 22. الطباطبائي، الشرح الصغير في شرح مختصر النافع 2: 38؛ وآل عصفور البحراني، الأنوار اللوامع 11: 99.
  • 23. الطوسي، المبسوط 2: 195؛ والمختصر النافع: 120؛ وشرائع الإسلام 2: 275؛ وإرشاد الأذهان 1: 356؛ وتبصرة المتعلّمين: 120؛ والسرائر 2: 239؛ والنهاية: 374؛ وتحرير الأحكام 2: 255؛ وغنية النزوع: 231؛ وكشف الرموز 1: 456؛ والقطّان الحلي، معالم الدين في فقه آل ياسين 1: 337.
  • 24. الوسيلة: 260؛ ومسالك الأفهام 3: 193؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 13؛ ومحمد الروحاني، منهاج الصالحين 2: 14؛ وجامع المقاصد 4: 42؛ والجامع للشرائع: 258؛ وجواهر الكلام 22: 486؛ ومحمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 2: 30؛ وابن فهد، المقتصر: 168؛ والتنقيح الرائع 2: 43؛ ومختلف الشيعة 5: 72؛ واللمعة: 110؛ والدروس 3: 180؛ والحدائق الناضرة 18: 64.
  • 25. المقنعة: 616؛ والمراسم العلوية: 183.
  • 26. مفاتيح الشرائع 3: 17؛ والشرح الصغير في شرح مختصر النافع (حديقة المؤمنين) 2: 38؛ وحسن كاشف الغطاء، أنوار الفقاهة (كتاب المكاسب): 148؛ وكلمة التقوى 4: 27 ـ 28؛ ومستند الشيعة 14: 52؛ وهداية العباد 1: 348.
  • 27. تحرير الوسيلة 1: 502.
  • 28. رياض المسائل 8: 176؛ ومهذب الأحكام 16: 34؛ ونيل الأوطار 3: 335؛ ومفتاح الكرامة 12: 361.
  • 29. مختلف الشيعة 5: 72.
  • 30. رياض المسائل 8: 176؛ وكشف الرموز 1: 456؛ ومهذب الأحكام 16: 34.
  • 31. السرائر 2: 239.
  • 32. شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 210 ـ 211.
  • 33. المنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 65 ـ 66.
  • 34. الشفيعي، الاحتكار: 103.
  • 35. انظر: الحدائق الناضرة 18: 65؛ والروضة 3: 299؛ والمكاسب 4: 374؛ ومفتاح الكرامة 12: 362.
  • 36. انظر: ابن عبد البر، الكافي في فقه أهل المدينة: 730، ط الرياض.
  • 37. انظر: شمس الدين، الاحتكار: 219.
  • 38. المصدر نفسه: 221.
  • 39. انظر: إيضاح الفوائد 1: 409؛ ورياض المسائل 8: 176؛ ومفاتيح الشرائع 3: 17؛ والخميني، البيع 3: 416 ـ 417.
  • 40. انظر ـ على سبيل المثال ـ: أسامة السيد عبد السميع، الاحتكار: 105، 107.
  • 41. انظر: العلامة الحلي، نهاية الإحكام 2: 515 (متحدّثاً عن مخالفة تسعير الإمام بعد الاحتكار)؛ والبحر الزخار 3: 319 ـ 320.
  • 42. ابن أبي شيبة، المصنّف 5: 47؛ وابن حزم، المحلّى 9: 64 ـ 65.
  • 43. راجع: المزي، تهذيب الكمال 24: 279 ـ 288؛ والخوئي، معجم رجال الحديث 15: 143 ـ 144، رقم: 9795 ـ 9796.
  • 44. ابن حزم، المحلّى 9: 65؛ وابن أبي شيبة، المصنّف 5: 48.
  • 45. انظر حوله: ابن حجر، تقريب التهذيب 1: 587.
  • 46. مقتبس من بحث "فقه الاحتكار في الشريعة الاسلامية".
  • 47. المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ حيدر حب الله حفظه الله.