الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نظرات سريعة في فن التحقيق 4

عدّة المحقّق وحاجاته اللازمة

لكل عامل آلات وحاجات يتوصل بها إلى عمله، ومحقق التراث عامل ـ وإن اختلفت الأعمال في أساليبها ـ وهو محتاج إلى آلات عمله، وفي هذه النظرة سنتحدّث عن قسم من هذه الحاجات:

<--break->

١ ـ الكفاية الإقتصادية

لا أعني بالكفاية الإقتصادية أن يكون المحقّق واسع الغنىٰ متموّلاً من الطبقة العليا في امتلاك المال (طاغوتاً) فإنّ هذه الحالة الإجتماعية لا يؤمل من أهلها خير ولا يؤمن منهم شرّ، فهم يشكّلون طبقة أوجدتها الأوضاع الشاذّة عن الحقّ، و غذّاها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

و إنّما أعني بالكفاية أن يكون للمحقّق مورد دخل دارّ يكفيه مؤونة طلب العيش، و يصون ماء وجهه أن يراق، و يحفظ عليه حرّية فكره.

و إلّا.. فهل نأمل ممّن يكدّ في طلب رزقه أن يخرج لنا من رائع تراثنا كتاباً مضبوطاً.. أم نأمل منه أن يغضب فلاناً و علّاناً في تقويم عوج ما نشروه، أو تصحيح خطأ ما كتبوه.

ولينظر القارئ إلى حالة فريدة في التاريخ، هي حالة علماء الشيعة الإمامية ـ أقصد العلماء بما يعطيه حاقّ الكلمة من معنى ـ و غزارة إنتاجهم و دقّته و نزاهته، و ليفتّش عن سببه.. فإنّه واجد من أهمّ أسباب ذلك أنّهم كفوا مؤونة عيشهم فانصرفوا إلى علمهم و انقطعوا إليه فأجادوا وأفادوا.

وكان لهم من استقلال الفكر و حرية النظر مالا نظير له، لاستقلالهم الإقتصادي عن المتموّلين، و غناهم عن المرتّب والوظيفة.

وليرجع القارئ بصره إلى من كُفي المؤونة من المؤلفين والمحقّقين.. وليعتبر.

قال صاحب «كشف الظنون» في مقدمة الكشف ج ١ / ٤٣:

«و أمّا ضيق الحال وعدم المعونة على الإشتغال، فمن أعظم الموانع و أشدّها، لأنّ صاحبه مهموم مشغول القلب أبداً».

وما اُريد بهذا أن اُثّبط همم المحارفين.. ولا أن أصرفهم عن وجهتهم و إنّما هي حقيقة اُقرّرها.. ولكل قاعدة شواذّ.

٢ ـ حسن قراءة الخط العربي

قد تتبادر إلى ذهن القارئ غرابة هذا العنوان، ولعلّه يقول: و أيّ عارف بالألفباء العربية ـ من عربي أو مستعرب ـ لا يحسن قراءة الخط العربي ؟

ولكن..

الخط العربي بتشابه صور حروفه، و دقّة الفرق بينها، و بجريانها في يد الكاتب على صور مختلفة مشتبهة... كثيراً ما تحتمل في القراءة عدّة ألفاظ.

أضف إلى هذا عجلة الناسخ أو جهله، والسهو والنسيان اللذين لايخلو منهما إلّا من عصم الله.. ولسبق القلم وسبق النظر حصة كبيرة في هذا الباب.

ولا تنس سقم الأصل المنقول عنه، وعجلة المؤلف أو الناسخ، وقد رأيت من خطوط العلماء نسخة من كتاب الإيضاح للعلّامة الحلّي رحمه الله (ـ ٧٢٦ هـ) خالية من النقط متّصلة الكتابة كلمة بكلمة، تصعب قراءتها ولا يستطيعها إلّا الحذّاق. ومثلها في تراثنا كثير.

لهذه الأسباب ـ مجتمعة ـ ولغيرها ممّا طوينا ذكره، يكون تمكّن المحقّق من قراءة الخط العربي عُدّة يعتدّ بها لمواجهة هذه المشكلات التي هي في تراثنا المخطوط السمة الغالبة ولها منه الحصة الوافرة. و عندي أنّ لطالب التحقيق أن يمتحن نفسه بقراءة الخطوط اليدوية الشائعة، فإنّها أول الطريق.

و قراءة الكتب المحققة جيّداً و ملاحظة هوامشها، لأنّ محقّقي التراث الضابطين يستدلّون لقراءتهم في الهوامش ـ غالباً ـ بأدلّة تفتح الذهن و ترسّخ الملكة.

و قراءة مقالات النقود والردود التي يعقّب بها بعضهم على بعض، ومظنّتها المجلات المتخصّصة كمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ومجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة، ومجلة الاُستاذ العراقية... وأمثالها.

فإنّ في هذين الموردين من لطائف التصحيح، ودقائق التصحيف الشيء الكثير.

وقد جاء السيد محمد باقر الداماد قدّس سرّه (٩٦٠ ـ ١٠٤١ هـ) في الراشحة السابعة والثلاثين من كتابه الفريد «الرواشح السماوية في شرح أحاديث الإمامية» وهو شرح لأجلّ كتب حديث أهل البيت عليهم السلام، كتاب الكافي للشيخ الكليني قدّس سرّه، و ممّا يحزّ في النفس و تكاد أن تذهب عليه حسرات عدم إكماله هذا الشرح القيّم، فلم يخرج منه إلّا بعض المقدمة..

جاء هذا العيلم بكلام جامع في التحريف والتصحيف (ص ١٣٢ ـ ١٥٧ من مطبوعته على الحجر سنة ١٣١١ هـ).

قال رحمه الله عن التصحيف في ص ١٣٣: «وهذا فنّ جليل عظيم الخطر، إنّما ينهض بحمل أعبائه الحذّاق من العلماء الحفّاظ والنقّاد من الكبراء المتبصّرين».

وقسّمه إلى أقسام:

محسوس لفظي: وهو واقع في موادّ الألفاظ وجواهر الحروف وصورها الوزنية و كيفيّاتها الإعرابية وحركاتها اللازمة.

وهذا التصحيف المحسوس اللفظي:

إمّا من تصحيف البصر كجرير و حريز.

و إمّا من تصحيف السمع كـ (استأى لها) أي استاء و (استآلها) أي أوَّلَها ـ من التأويل ـ.

ثم تكلّم رحمه الله عن التصحيف المعنوي.

ثم ساق أمثلة من تصحيفات عصريّيه ـ لا نوافقه على كلّها ـ.

و بالجملة فهو بحث عميق دقيق من مجرّب خبير، فلا يفوتنّ طلبة العلم إمتاع عيونهم وعقولهم به.

وقد تحدّث الدكتور مصطفى جواد في تحقيقه لكتاب «تكملة إكمال الإكمال» لابن الصابوني، عن هذا الأمر بما يفيد الطالب، ولا يحضرني الكتاب لأدلّ على مكانه فيه.

وقد كسر علماؤنا السابقون كتباً برأسها لهذا الفنّ، منها:

شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، المشتهر باسم التصحيف والتحريف، للحسن بن عبدالله العسكري (٢٩٣ ـ ٣٨٢ هـ).

و درّة الغوّاص في أوهام الخواصّ، للقاسم بن علي الحريري (٤٤٦ ـ ٥١٦ هـ).

و ذكر عبدالقادر البغدادي (١٠٣٠ ـ ١٠٩٣ هـ) في مقدمة «خزانة الأدب» من كتب هذا الفنّ سبعة كتب تحت عنوان (ما يتعلّق بأغلاط اللغويّين) [اُنظر خزانة الأدب ١ / ١١ ط. بولاق ١٢٩٩ هـ].

و أفرد له صاحب «كشف الظنون» عنواناً وعدّه علماً، و كذلك فعل المولى عصام في «مفتاح السعادة ومصباح السيادة».

وممّا شاع على ألسنتهم في العصر الأول: «لا تأخذ العلم عن صحفيّ» يعنون به من يأخذ علمه من الكتب لا من أفواه الشيوخ، لأنّ الكتب مظنّة التصحيف والتحريف.

وفي هذا الباب من الطرائف والمضحكات الشيء الكثير.

و بالجملة لاغنى لطالب التحقيق عن معرفة فنّ التصحيف والإطّلاع على ما كتب فيه.

و أعتذر عن إيراد قائمة أمثلة له، لئلّا يصحّفها الطابع فتحتاج إلى تصحيح جديد.. !

و إنّما أدلّ القارئ على قائمة مفيدة في (تحقيق النصوص ونشرها) لعبد السلام هارون، من أرادها فليراجعها.

وقد كشفت لي متابعة سنين طوال لهذا الأمر أنّ كثيراً من أوهام المحقّقين ـ كباراً وناشئين ـ علّتها عدم إجادة قراءة الخطّ العربيّ..

٣ ـ الإستقرار

أعني به أن لا يكون المتصدّي لهذا الفنّ منتقل الدار، مزعجاً في وطنه من دار إلى دار، و مرتحلاً من وطنه من قطر إلى قطر، و بخاصة نقلات هذا الزمان الذي صارت فيه الكرة الأرضية غابة وحوش كواسر، من نجا منها برأسه فقد سلم، و أصبح الإنسان فيها من سقط المتاع.. لا حرمة ولا كرامة.

والمنتقل من وطنه غريب ـ إن لم يكن متموّلاً ـ لا يجد في البلد الجديد إلّا الصدّ والردّ، ولا مثنوية في هذا.. ومن ذاق عرف..

و ربّ سائل: ما هي حاجة المحقق إلى الإستقرار ؟ والعلم في الصدور لا في الصناديق.. !؟

وفي جوابه نقول:

إنّ سعة المعارف التي وصلت إليها البشرية، و مخلّفات السلف الضخمة وكون المحقّق مجدّداً لبناء قد تشعّث، أو مزيناً له وقد حال عن روائه الأول، فهو لاشكّ محتاج إلى الآلة التي تعينه في عمله وهي آلة يشقّ معها الإنتقال.

وطالب هذا الفنّ ـ حقّ الطلب ـ مولع بالكتب، باذل ما يضنّ به غيره في سبيل اقتنائها ـ ومن المعلوم أنّ أثمن المكتبات ما كان حصيلة عمر عالم أو باحث ـ فعلى مرّ الأيام تتجمّع عنده مكتبة أقلّ ما يقال فيها أنّها بقدر أثاث بيته.. والكتاب ثقيل يحتاج إلى العناية في نقله من مكان إلى مكان.

و طالب هذا الفن ـ أيضاً ـ مغرم بالقراءة والتقييد والتسجيل، لا تكاد تمرّ به نكتة علمية إلّا و دوّنها في طواميره، أو حزمها في أضابيره، فتكون له من هذه التقييدات أكوام من الجزازات، هي خلاصة مطالعاته و زبدة ملاحظاته.

ثم هو غير بالغ هذه المرتبة إلّا بعد وهن العظم و اشتعال الرأس شيباً، و ذلك الوقت من عمره مظنّة استقراره من عناء الطلب.. ومن الكدح في سبيل العيش.

ومن المعلوم عند العارفين اعتذار الصاحب بن عبّاد عن قبول منصب الوزارة في بلد غير بلده، لأنّ مكتبته فقط تحتاج في نقلها إلى مائتي بعير.

وانظر إلى من استقرّت به الدار.. كم هو محكم التحقيق لطيف التدقيق، واستثن من هو ملصَق بهذا الفنّ طارئ عليه.

و للنفس الإنسانية الصافية اُلفة بما يحيط بها حتى أنّها تألف الجماد، وحسبك شاهداً قوله صلّ الله عليه وآله في جبل اُحد: «جبل يحبّنا و نحبّه».

٤ ـ حاجة المحقق من الكتب

هنا بيت القصيد لهذه النظرة الذي رسمنا على ضوئه عنوان (عدّة المحقق). فطالب هذا الفنّ محتاج إلى أنواع من الكتب كثيرة، هي بعض سلاحه في مواجهة المشاكل التي ألمّت بالكتاب المخطوط من طبيعية ومقصودة، وهي بعض عدّته في إخراج الكتاب سالماً من المصائب التي لحقت به طوال قرون.

و نستطيع أن نقسّم هذه الكتب إلى مجموعات:

أ ـ كتب الفنّ

وهي كتب قليلة لا تكاد تتجاوز عدد الأصابع، لحداثة التأليف في فنّ التحقيق عندنا ـ على قدمه واقعاً في تراثنا ـ.

من هذه الكتب:

١ ـ تحقيق النصوص ونشرها ـ لعبد السلام محمد هارون ـ طبعته الاُولى سنة ١٩٥٤ م.

٢ ـ اُصول نقد النصوص والكتب ـ للمستشرق الألماني برجستراسر، وقد نشره الدكتور محمد حمدي البكري سنة ١٩٦٩ م.

٣ ـ قواعد تحقيق المخطوطات ـ للدكتور صلاح الدين المنجّد.

٤ ـ اُصول تحقيق النصوص ـ للدكتور مصطفى جواد، وهي أماليه على طلبة ماجستير اللغة العربية بجامعة بغداد، نشرها الدكتور محمد علي الحسيني في كتابه «دراسات و تحقيقات» المطبوع سنة ١٩٧٤ م.

٥ ـ منهج تحقيق النصوص ونشرها ـ للدكتور نوري حمودي القيسي وسامي مكّي العاني، طبع سنة ١٩٧٥ م.

٦ ـ تحقيق التراث ـ للدكتور عبدالهادي الفضلي، طبعته الاُولى سنة ١٩٨٤ م.

وهناك مقالات منشورة في المجلات يجدها الباحث في مظانّها.

وفي مقدّمات بعض المحقّقين لبعض ما نشروه فوائد لايستهان بها، صدرت عن ممارسة وخبرة.

وفي تراثنا الواسع درر منثورة، يجدها الباحث خلال مطالعاته.

ب ـ الفهارس

فهارس الكتب حاجة لازمة للمحقّق لأنّها عينه التي تدلّه على ما تفرّق من مخطوطاتنا، و تهديه إلى أماكن وجودها.. وربّ كتاب قطعنا منه الأمل ثم عثر عليه مخطوطاً في المكتبة الفلانية العامة أو الخاصة.

هذه الفهارس نستطيع تقسيمها ثلاثة أنواع:

١ ـ فهارس تدلّ الطالب على الأماكن التي هي مظنّة احتواء الكتاب العربي، وهي مكتبات العامة منها كثيرة والخاصة أكثر من أن تحصى، وقد أفرد جرجي زيدان في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» ج ٣ / ٤٥٥ ـ ٤٩٦ فصلاً بعنوان (المكتبات)، و ذكر برجستراسر أسماء مكتبات اسطنبول التي زاد عددها على أربعين مكتبة، وقد جدّ بعدهما ظهور كثير من المكتبات إمّا مكتبات خاصة وقفت، أو مكتبات عامة اندمج بعضها ببعض..

و على كل حال يستطيع الباحث أن يسجّل في جزازات أسماء المكتبات وعناوينها، و يرتّبها ترتيباً مناسباً لتكون تحت يده وقت الحاجة.

٢ ـ فهارس تدلّ الطالب على الكتاب، و أين يجده ؟

وهي فهارس المكتبات، وقد صدر منها عدد ضخم، أحصى منها كوركيس عوّاد في كتابه «فهارس المخطوطات العربية في العالم» (٣٣١٢) مادة، وقد نشره معهد المخطوطات العربية بالكويت سنة ١٩٨٤ م، في مجلدين.

أمّا المكتبات الخاصة فالمفهرس منها أقلّ قليل، والكثير منها بعد في طيّ الكتمان.

ومن أهمّ فهارس المخطوطات الجامعة:

الذريعة إلى تصانيف الشيعة، للمرحوم العلّامة آقا بزرك الطهراني.

تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان.

تاريخ التراث العربي، فؤاد سزكين.

وهنا ملاحظة مهمّة يجدر بنا تسجيلها، وهي أنّ الفهارس مهما كانت دقيقة فإنّها لا يمكن الإعتماد عليها اعتماداً كاملاً، لأنّ أكثر الفهارس الدقيقة كتبها المستشرقون وهم ـ بطبعهم ـ قاصرون عن معرفة دقائق تراثنا، أمّا الفهارس العربية والفارسية ففيها من الخلط والخبط ما لا حدّ له.. فقد ترى كتاباً في فهرس مكتبة ما، فتطلبه منهم مصوّراً، فيأتيك كتاب غير الذي أنت طالبه.

٣ ـ فهارس المطبوعات

وهي التي تدلّ المحقّق على ما أخرجته الطباعة من الكتب، وهي كثيرة منها:

اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ـ إدوارد فنديك ـ طبع القاهرة سنة ١٨٩٧ م.

معجم المطبوعات العربية والمعرّبة ـ يوسف إليان سركيس.

معجم المخطوطات المطبوعة ـ د. صلاح الدين المنجّد ـ أربعة أجزاء من سنة ١٩٥٤ ـ ١٩٧٥ م.

وقد عدّ الدكتور عبدالهادي الفضلي في كتابه « تحقيق التراث » ٦٥ عنواناً من الكتب المتخصّصة بهذا الجانب من جوانب فنّ التحقيق.

وفي النشريات الدورية التي تنشرها المكتبات الوطنية إعانة كبيرة لمحقّقي التراث.

ج ـ كتب اللغة العربية

هذه اللغة الكريمة الواسعة التي قيل فيها: لم يحط بها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، والتي حظيت بأعلى المراتب لارتباطها بالله تعالى ـ وكلّ مرتبط بالله تعالى معجز باقٍ لا يضرّه من كاده ـ وفازت بالخلود بنزول القرآن الكريم بها، و بكونها لغة الأرض كلّها في عالم المهديّ من آل محمد صلّ الله عليه وآله، و ستبقى بعد فناء الأرض و ما عليها لغة لأهل الجنّة.

هيّأ الله سبحانه ـ لهذه اللغة الكريمة من الأسباب ما مكّن لها في الأرض، و سخّر لخدمتها أقواماً رسخ في قلوبهم حبّ الله و رسوله وكتابه، ففضّلوها على لغاتهم التي نشؤوا عليها، ووقفوا أعماراً جليلة على العناية بها وكان فوز أحدهم بغريبة من غرائبها فوزاً بقرطي مارية.

فأثروا مكتبتها بألوان الكتب في غريبها ومعربها والدخيل فيها، وفي نحوها وصرفها و بيانها و بديعها، وفي خطّها ونقطها.. ولم يتركوا جانباً من الجوانب التي لها علاقة بها من قريب أو بعيد إلّا و أشبعوه بحثاً و دراسة وافتنّوا أيّما افتنان في تقييد شواردها و تأنيس أوابدها، و جمع النظير منها إلى نظيره، والنادّ إلى اُلّافه.

و حسبك أنّهم في التأليف المعجمي (متن اللغة) قد تفننوا فألّفوا معاجم لمعاني الألفاظ و اُخرى لألفاظ المعاني، و ثالثة للحقيقة والمجاز، و رابعة لمعاني اُصول الموادّ، و خامسة للمصطلحات، و سادسة للمعرب والدخيل...

والمكتبة العربية الإسلامية كتبت بهذه اللغة الوسيعة، والمحقق مغرى بالكتاب المخطوط مغرم بإخراجه في أكمل صورة و أجملها، فعليه أن يكون من معرفة اللغة على حظّ كاف يمكّنه من غايته.. و وسيلته إنّما هي الكتب المعتمدة والأسفار التي خلّد فيها مؤلفوها علوم هذه اللغة المقدّسة.

ولا نقول إنّ على محقق التراث أن يكون علّامة لغوياً أو نحوياً ـ لأنّ هذا مطلب عسير لا يتأتّى إلّا للواحد بعد الواحد ـ بل نريد منه أن يكون ذا إلمام كاف بحيث يفهم الكلام العربي و يتذوقه كأهله.. أمّا ما عسر عليه لغرابته فما عليه في الرجوع إلى الكتب المتخصّصة غضاضة.

لذا فهو محتاج إلى عدد من المعاجم اللغوية وكتب النحو والصرف وغيرها من كتب اللغة، و يشترط أن تكون هذه الكتب ممّا اعتمده أهل اللغة الاُصلاء لاممّا يجيء به مستشرق أو عدو لهذه الاُمة..

و إلّا فهل يقول عاقل بالإعتماد على المنجد الذي ثبت خطؤه ـ فقد أحصى عليه عبدالستار فرّاج مئات الأغلاط في القسم اللغوي منه ونشره في مجلة العربي الكويتية، وفي ذكري أنّ أحد الدماشقة الحريصين على لغتهم أحصى عليه أكثر من ألف غلطة في القسم اللغوي فقط، أمّا قسم الأعلام منه ففيه ما يضرّ بالإسلام بعد ما أضرّ قسيمه باللغة.... نعم هل يقول عاقل بالإعتماد عليه وترك عين الخليل، وصحاح الجوهري، ومخصّص ابن سيدة ومحكمه، ولسان العرب، و تاج العروس و أصله القاموس المحيط.. إلى مئات من كتب أئمّة اللغة الأثبات.

أم يقول عاقل بالإعتماد على نحو علي الوردي أو سلامة موسى الهدّامين، و ترك شرح الكافية للرضي الاسترابادي، الذي ألّفه في حضرة أفصح الناس ـ بعد أخيه صلّ الله عليه وآله ـ أميرالمؤمنين عليه السلام، ففاض عليه من أنوار ذلك المعهد الأقدس ما جعله الحجّة في النحو، وجعله صاحبه نجم الأئمة.

د ـ الكتب المشهورة المرجوع إليها كثيراً

هي كتب في تراثنا تفوت العدّ، ولكنّ المحقّق محتاج إلى جملة منها و أهمّها في علم الحديث: الكتب الأربعة والبحار من حديث آل الرسول صلّ الله عليه وآله،والستّة ومسند أحمد و كنزالعمّال من كتب الجمهور، وفي التفسير: التفاسير المعتبرة كمجمع البيان لأمين الدين الطبرسي و تفسير الطبري.. و في التاريخ: تاريخ ابن واضح اليعقوبي و تاريخ المسعودي و تاريخ الطبري... وغيرها.

وعليه بحسن الإنتقاد وجودة المراجعة.

هـ ـ المجلّات والدوريّات المتخصّصة

وهي كثيرة ـ ومنها ماله عمر طويل ـ مثل:

مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (مجلة مجمع اللغة العربية ـ حالياً) وقد بلغ عمرها الستين عاماً.

مجلة المجمع العلمي العراقي.

مجلة التراث العربي السورية.

مجلة معهد المخطوطات العربية.

مجلّات كليّات الآداب في الجامعات العربية.

نشرتنا هذه (تراثنا) التي نأمل أن تسدّ فراغاً في هذا البلد المبارك من بلدان الإسلام (إيران الإسلام) البقعة المباركة العريقة الصلة بالتراث العربي، الحافظة له الحانية عليه.

و للمستشرقين مجلّات كثيرة.

ولا ننسى البحوث التي تنشر في مجلات غير متمحّضة لهذا الفنّ وهي كثيرة متفرقة.

و بعد هذا كلّه فإنّ على المحقّق أن يكون متابعاً لما يصدر من جديد في فنّه، و أن يتّصل بأئمّة هذا الفنّ الّذين قضوا أعمارهم في البحث والتنقيب.. و إلّا فإنّه يتخلّف عن مسايرة الركب و ينقطع به الطريق.

وما التوفيق إلّا من عند الله..

للبحث صلة.... 1

  • 1. نشرت هذه المقالة في مجلة تراثنا العدد 4 ـ التابعة لمؤسسة آل البيت لإحياء التراث.