نشر قبل 5 سنوات
تقيمك هو: 5. مجموع الأصوات: 53
القراءات: 7577

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

النفاق في مكة

نص الشبهة: 

هل كان يوجد فيمن أسلم قبل الهجرة من المكيين منافقون يبطنون خلاف ما يظهرون أم لم يكن؟! وهل كانت أجواء مكة صالحة لظهور أشخاص من هذا القبيل يعتنقون الإسلام ويبطنون الكفر، أم لا؟!. يقول العلامة الطباطبائي «رحمه الله» ما مفاده: إنه ربما يقول البعض: لا، لم يكن في مكة منافقون، إذ لم يكن للنبي «صلى الله عليه وآله» ولا للمسلمين قوة ولا نفوذ، يجعل الناس يهابونهم، ويتقونهم، أو يرجون منهم نفعاً مادياً، أو معنوياً من نوع ما، فلماذا إذاً يتقربون لهم ويتزلفون؟ ولماذا يظهرون لهم الإسلام، مع انطوائهم على خلافه؟. بل كان المسلمون في مكة ضعفاء مضطهدين، معذبين؛ فالمناسب أن يتقي المتقي ـ رغباً أو رهباً ـ من صناديد قريش وعظمائها، لا منهم. وأما في المدينة فقد قوي أمر النبي «صلى الله عليه وآله» وظهر أمر المسلمين، وأصبحوا قوة يمكنها الدفع والمنع، وكان له «صلى الله عليه وآله» في كل بيت أتباع وأنصار يطيعون أوامره، ويفدونه بكل غال ونفيس، والقلة القليلة الباقية لم يكن يسعهم الإعلان بالخلاف؛ فداروا أمرهم بإظهار الإسلام، وإبطان الكفر ـ على أن يكيدوا ويمكروا بالمسلمين، كلما سنحت لهم الفرصة لذلك. هكذا استدل البعض لإثبات عدم وجود منافقين بين المسلمين الأولين.

الجواب: 

ولكنه كما ترى كلام لا يصح.
وذلك لأن النفاق في مكة كانت له أسبابه، ومبرراته، ومناخاته، ونذكر هنا ما يلي:
أولاً: إن أسباب النفاق لا تنحصر فيما ذكر، من الرغبة والرهبة لذي الشوكة ومنه، إذ أننا كثيراً ما نجد في المجتمعات فئات من الناس مستعدة لقبول أية دعوة، إذا كانت ذات شعارات طيبة، تنسجم مع أحلامهم وآمالهم، وتعدهم بتحقيق رغائبهم، وما تصبو إليه نفوسهم، فيناصرونها، رغم أنهم في ظل أعتى القوى وأشدها طغياناً، وهم في غاية الضعف والوهن يعرضون أنفسهم لكثير من الأخطار، ويحملون المشاق والمصاعب من أجلها وفي سبيلها.
كل ذلك رجاء أن يوفقوا يوماً ما لتحقيق أهدافهم، والوصول إلى مآربهم، التي يحلمون بها، كالعلو في الأرض، والحصول على الثروات، والجاه العريض، وغير ذلك.
إنهم يقدمون على كل هذا، مع أنهم ربما كانوا لا يؤمنون بتلك الدعوة إلا بمقدار إيمانهم بضرورة الحصول على تلك المآرب والأهداف الآنفة الذكر.
ومن الواضح: أن المنافق الطامع الذي من هذا القبيل يكون ـ فيما لو نجحت الدعوة ـ أشد خطراً على تلك الدعوة من أعتى أعدائها ؛ لأنه إذا وجد أن الدعوة لا تستطيع أن تمنحه كل ما يريد ـ ولو لاقتضاء المصلحة لذلك ـ فإنه سوف يمكر ويغدر 1، كما أنه يكون هو الأقدر على الانحراف بهذه الدعوة، وإخراجها عن نهجها القويم، وصراطها المستقيم إلى المتاهات التي يستطيع في ظلماتها وبهمها أن يحصل على ما يريد دون رادع أو وازع، وهو الذي يملك كل المبررات لذلك مهما كانت سقيمة وتافهة.
وأما إذا فشلت الدعوة: وكان قد أحكم أمره ؛ فإنه يستطيع أن يقول لمن هم على شاكلته: إنا كنا معكم ؛ إنما نحن مستهزئون.
فإنه إذا كان النفاق في المدينة قد كان في أكثره لدوافع أمنية، أو للحفاظ على المصالح والعلاقات المعينة، فإن النفاق المكي لسوف يكون أعظم خطراً، وأشد محنة وبلاء على الإسلام والمسلمين، حسبما أوضحنا آنفاً.
وعلى هذا، فإن من القريب جداً.. أن يكون بعض من اتبع النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة لم يكن مخلصاً للدعوة، وإنما كان مخلصاً لنفسه فقط، لا سيما إذا لاحظنا: أن دعوة الرسول قد كانت مقترنة من أول يوم بدئها بالوعود القاطعة بأن حامليها لسوف يكونون ملوك الأرض، ولسوف يملكون كنوز كسرى وقيصر 2، فقد سأل عفيف الكندي العباس بن عبد المطلب عما يراه من صلاة النبي «صلى الله عليه وآله» وعلي وخديجة «عليهما السلام»، فقال له العباس:
هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، زعم أن الله أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح على يديه، فكان عفيف يتحسر على أن لم يكن أسلم يومئذ، ليكون ثانياً لعلي «عليه السلام» في الإسلام 3.
وحينما سأله عمه أبو طالب عن سبب شكوى قومه منه، قال «صلى الله عليه وآله»: إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية 4.
وينقل عنه «صلى الله عليه وآله» أنه قال لبكر بن وائل، حينما كان يعرض دينه على القبائل: فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم الخ..
وقال قريباً من هذا لشيبان بن ثعلبة، ومثل ذلك قال أيضاً حينما أنذر عشيرته الأقربين 5.
بل إن مما يوضح ذلك بشكل قاطع، ما قاله أحد بني عامر بن صعصعة لما جاء رسول الله «صلى الله عليه وآله» يعرض عليهم قبول دعوته: «والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب»، وقد تقدم بعض المصادر لذلك.
ثم إنه إذا كان هذا النفاق يهدف إلى استخدام الدعوة لأهداف شخصية، فهو بالتالي مضطر إلى الحفاظ على هذه الدعوة بمقدار اضطراره إلى الحفاظ على مصالحه وأهدافه تلك، ما دام يرى أو يأمل منها أن تتمكن من تحقيق ما يتمناه، وتوصله إلى أهدافه التي يرجوها.
وهكذا يتضح: أنه ليس من الضروري أن يكون المنافق مهتماً بالكيد للدعوة التي لا يؤمن بها، والعمل على تحطيمها وإفسادها، بل ربما يكون حريصاً عليها كل الحرص، يفديها بالمال والجاه ـ لا بالنفس ـ إذا كان يأمل أن يحصل على ما هو أعلى وأغلى فيما بعد، ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة في بعض مسلمي مكة، الذين كانوا يواكبون الدعوة ويعاونونها ما دام لم تصل النوبة إلى التضحية بالنفس والموت، فإذا كان ذلك فإنهم يفرون، وينهزمون، ويتركون النبي وشأنه، وقد رأينا ذلك في كثير من المواقف.
نعم، ربما يتمكن الدين تدريجياً من نفوس بعضهم، وتحصل لهم قناعة تدريجية به، ولسوف نشير إلى ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى، ولربما حين الكلام على غزوة أحد.
وخلاصة الأمر: أن الميزان لدى البعض هو أهدافه هو ؛ فما دامت الدعوة في خدمتها فهو معها، وأما إذا وجد أنها سوف تكون عقبة في طريقها، وتشكل خطراً عليها فإنه لا يألو جهداً ولا يدع وسيلة في الكيد لها، والعمل على هدمها وتحطيمها.
ثانياً: ما أشار إليه العلامة الطباطبائي «رحمه الله» أيضاً: أنه لا مانع من أن يسلم أحدهم في أول البعثة، ثم يعرض له ما يزلزل إيمانه، ويرتاب، ويرتد عن دينه، ولكنه يكتم ذلك، حفاظاً على بعض المصالح الهامة بنظره كالخوف من شماتة أعدائه، أو حفاظاً على بعض علاقاته القبلية، أو التجارية، أو للعصبية والحمية، وغيرها مما يربطه بالمسلمين أو ببعضهم، أو للحفاظ على جاه من نوع معين، أو أي شيء آخر بالنسبة إليه 6.
ولربما يشهد لذلك: أننا قد رأينا البعض يعترف أنه كان كثيراً ما يشك في هذا الأمر، حتى اعترف في الحديبية أنه ارتاب ارتياباً لم يرتبه منذ أسلم 7 وفي غزوة أحد، حينما سمعوا أنه «صلى الله عليه وآله» قد قتل فروا من المعركة، وقال بعضهم: «نلقي إليهم بأيدينا، فإنهم قومنا وبنو عمنا» 8.
ثالثاً: وقد أشار العلامة الطباطبائي أيضاً إلى بعض الآيات الدالة على وجود النفاق في مكة، وذلك كقوله تعالى: ﴿ ... وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ... 9 حيث قد وردت هذه الآية في سورة المدثر وهي مكية، وكذا قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ 10. فإن سورة العنكبوت مكية أيضاً، والآية مشتملة على حديث الإيذاء والفتنة في الله، وذلك إنما كان في مكة لا في المدينة، وقوله تعالى: ﴿ ... وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ... 10لا يدل على نزول الآية في المدينة لأن النصر له مصاديق ومراتب كثيرة.
وأضيف هنا: أن الله تعالى إنما يحكي حالة المنافقين المستقبلية بشكل عام.
ثم قال العلامة الطباطبائي: احتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقع بمكة بعد الهجرة، غير ضائر ؛ فإن هؤلاء المفتونين بمكة بعد الهجرة إنما كانوا من الذين آمنوا بالنبي «صلى الله عليه وآله» قبل الهجرة، وإن أوذوا بعدها 11.

ملاحظة هامة على ما تقدم

هذا، ويلاحظ العلامة الطباطبائي أخيراً: أننا لم نزل نسمع ذكراً للمنافقين إلى حين وفاة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» وقد تخلف عنه «صلى الله عليه وآله» في تبوك أكثر من ثمانين منهم، وانخذل ابن أبي في أحد في ثلاثمائة، ثم انقطعت أخبارهم عنا مباشرة، ولم نعد نسمع عن دسائسهم، ومكرهم، ومكائدهم للإسلام وللمسلمين شيئاً، فهل انقلبوا بأجمعهم ـ بمجرد وفاته «صلى الله عليه وآله» ـ عدولاً أتقياء وأبراراً أوفياء؟!
وإذا كان كذلك، فهل كان وجود النبي «صلى الله عليه وآله» فيما بينهم مانعاً لهم من الإيمان، وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين؟! نعوذ بالله من التفوه بالعظائم، وبما يسخط الرب، أم أنهم ماتوا بأجمعهم، وهم يعدون بالمئات بمجرد موته «صلى الله عليه وآله»؟ وكيف لم ينقل لنا التاريخ ذلك؟!
أم أنهم وجدوا في الحكم الجديد ما يوافق هوى نفوسهم، ويتلاءم مع أهوائهم، ومصالحهم؟! أم ماذا؟! ما هي الحقيقة؟!
لست أدري! ولعل الذكي يدري 12.

  • 1. راجع: تفسير الميزان ج19 ص289.
  • 2. أشار إلى هذا أيضاً العلامة الطباطبائي في الميزان ج19 ص289.
  • 3. ذخائر العقبي ص59، ودلائل النبوة ج1 ص416، ولسان الميزان ج1 ص395 وعن أبي يعلى، وخصائص النسائي، والكامل لابن الأثيرج 2 ص57 ط صادر، وتاريخ الطبري ج2 ص57 وراجع حياة الصحابة ج1 ص33.
  • 4. سنن البيهقي ج9 ص88 ومستدرك الحاكم ج2 ص432، وصححه هو والذهبي في تلخيصه، وتفسير ابن كثيرج 4 ص28، وحياة الصحابة ج1 ص33 عن الترمذي، وتفسير الطبري، وأحمد، والنسائي، وابن أبي حاتم.
  • 5. راجع: الثقات ج1 ص88 والبداية والنهاية ج3 ص140 وراجع ص142 و 145 عن دلائل النبوة لأبي نعيم والحاكم والبيهقي وحياة الصحابة ج1 ص72 و 80 عن البداية والنهاية وعن كنز العمال ج1 ص277.
  • 6. تفسير الميزان ج19 ص289.
  • 7. مغازي الواقدي ج2 ص607.
  • 8. السيرة الحلبية ج2 ص227، وبقية الكلام على هذا مع مصادره يأتي إن شاء الله تعالى في غزوة أحد.
  • 9. القران الكريم: سورة المدثر (74)، الآية: 31، الصفحة: 576.
  • 10. a. b. القران الكريم: سورة العنكبوت (29)، الآية: 10، الصفحة: 397.
  • 11. راجع: تفسير الميزان ج20 ص90 و 91.
  • 12. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، سنة 2005 م. ـ 1426 هـ. ق، الجزء الرابع.