شتان ما بين الضلال و الهدى

رَوى الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) في كتابه المُسمى بـ " الأمالي " عَنْ من روى عَنْ بَكْرِ بْنِ عِيسَى أنهُ قَالَ : لَمَّا اصْطَفَّتِ النَّاسُ لِلْحَرْبِ بِالْبَصْرَةِ خَرَجَ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ فِي صَفِّ أَصْحَابِهِمَا ، فَنَادَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ( عليه السَّلام ) الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ .
فَقَالَ لَهُ : " يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ادْنُ مِنِّي لِأُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسِرٍّ عِنْدِي " .
فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ فَرَسَيْهِمَا .
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) : " نَشَدْتُكَ اللَّهَ إِنْ ذَكَّرْتُكَ شَيْئاً فَذَكَرْتَهُ أَ مَا تَعْتَرِفُ بِهِ " ؟
فَقَالَ لَهُ : نَعَمْ .
فَقَالَ : " أَ مَا تَذْكُرُ يَوْماً كُنْتَ مُقْبِلًا عَلَيَّ بِالْمَدِينَةِ تُحَدِّثُنِي إِذْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) فَرَآكَ مَعِي وَ أَنْتَ تَبَسَّمُ إِلَيَّ ، فَقَالَ لَكَ يَا زُبَيْرُ : أَ تُحِبُّ عَلِيّاً ؟
فَقُلْتَ : وَ كَيْفَ لَا أُحِبُّهُ وَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ مِنَ النَّسَبِ وَ الْمَوَدَّةِ فِي اللَّهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ .
فَقَالَ : إِنَّكَ سَتُقَاتِلُهُ وَ أَنْتَ لَهُ ظَالِمٌ .
فَقُلْتَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ " ؟!
فَنَكَسَ الزُّبَيْرُ رَأْسَهُ ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي أُنْسِيتُ هَذَا الْمَقَامَ .
فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ : " دَعْ هَذَا ، أَ فَلَسْتَ بَايَعْتَنِي طَائِعاً " ؟!
قَالَ : بَلَى .
قَالَ : " أَ فَوَجَدْتَ مِنِّي حَدَثاً يُوجِبُ مُفَارَقَتِي " ؟!
فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : لَا جَرَمَ ، وَ اللَّهِ لَا قَاتَلْتُكَ ، وَ رَجَعَ مُتَوَجِّهاً نَحْوَ الْبَصْرَةِ .
فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ : مَا لَكَ يَا زُبَيْرُ ، مَا لَكَ تَنْصَرِفُ عَنَّا ، سَحَرَكَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ؟!
فَقَالَ : لَا وَ لَكِنْ ذَكَّرَنِي مَا كَانَ أَنْسَانِيهِ الدَّهْرُ ، وَ احْتَجَّ عَلَيَّ بِبَيْعَتِي لَهُ .
فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ : لَا وَ لَكِنْ جَبُنْتَ وَ انْتَفَخَ سَحْرُكَ 1 .
فَقَالَ الزُّبَيْرُ : لَمْ أَجْبُنْ ، وَ لَكِنْ أُذْكِرْتُ فَذَكَرْتُ .
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : يَا أَبَهْ جِئْتَ بِهَذَيْنِ الْعَسْكَرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ حَتَّى إِذَا اصْطَفَّا لِلْحَرْبِ قُلْتَ أَتْرُكُهُمَا وَ أَنْصَرِفُ ، فَمَا تَقُولُ قُرَيْشٌ غَداً بِالْمَدِينَةِ ، اللَّهَ اللَّهَ يَا أَبَتِ لَا تُشْمِتِ الْأَعْدَاءَ ، وَ لَا تَشِنْ نَفْسَكَ بِالْهَزِيمَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ .
قَالَ : يَا بُنَيَّ مَا أَصْنَعُ وَ قَدْ حَلَفْتُ لَهُ بِاللَّهِ أَنْ لَا أُقَاتِلَهُ ؟
قَالَ لَهُ : فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَ لَا تُفْسِدْ أَمْرَنَا .
فَقَالَ الزُّبَيْرُ : عَبْدِي " مَكْحُولٌ " حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ كَفَّارَةً لِيَمِينِي ، ثُمَّ عَادَ مَعَهُمْ لِلْقِتَالِ !
فَقَالَ هَمَّامٌ الثَّقَفِيُّ فِي فِعْلِ الزُّبَيْرِ ، وَ مَا فَعَلَ وَ عِتْقِهِ عَبْدَهُ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ ( عليه السَّلام ) :
أَ يُعْتِقُ مَكْحُولًا وَ يَعْصِي نَبِيَّهُ *** لَقَدْ تَاهَ عَنْ قَصْدِ الْهُدَى ثُمَّ عُوِّقَ‏
أَ يَنْوِي بِهَذَا الصِّدْقَ وَ الْبِرَّ وَ التُّقَى *** سَيَعْلَمُ يَوْماً مَنْ يَبَرُّ وَ يَصْدُقُ‏
لَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الضَّلَالِ وَ الْهُدَى *** وَ شَتَّانَ مَنْ يَعْصِي النَّبِيَّ وَ يُعْتِقُ‏
وَ مَنْ هُوَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ مُشَمِّرٌ *** يُكَبِّرُ بِرّاً رَبَّهُ وَ يَصْدُقُ‏
أَ فِي الْحَقِّ أَنْ يَعْصِيَ النَّبِيَّ سَفَاهَةً *** وَ يُعْتِقَ مِنْ عِصْيَانِهِ وَ يُطَلِّقَ‏
كَدَافِقِ مَاءٍ لِلسَّرَابِ يَؤُمُّهُ *** أَلَا فِي ضَلَالٍ مَا يَصُبُّ وَ يَدْفُقُ‏ 2

  • 1. انْتَفَخَ سَحْرُكَ : أي رِئَتُك ، يقال ذلك للجبان .
  • 2. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 32 / 204 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .