الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التقية

ما أكثر ما شنع خصوم الشيعة عليهم في التقية التي غاب معناها عن أذهانهم ورسموا لها معاني من مخيلتهم الخربة فصاروا يتهمون بها الشيعة والتشيع ، وعندما أوضح هنا معنى التقية وشرعيتها لا أنتصر للشيعة ومعتقداتهم بقدر ما أنصر القرآن ومفاهيمه التي تمسك بها الشيعة فكان صحة ما يعتقدون به فرعا لأصل صحة القرآن الذي غابت بصائره عن العقول النجدية فتاهت حتى أنها تكاد لا تفقه الفرق بين الطهارة والنجاسة.
البعض يردد أقوال الآخرين دون تمحيص ومعرفة غافلين عن خطورة استهزائهم بما لا يعلمون فيستهزئون من حيث لا يشعرون بالحق والقرآن وذلك ستكون عاقبته وخيمة ، وما أكثر ما سمعت « أن الشيعة منافقون لأنهم يعتقدون بالتقية وهي تعني النفاق وإظهار خلاف الباطن » ضاربين بذلك الآيات القرآنية وسيرة الأنبياء عرض الحائط.
وقبل استعراض أدلة شرعية التقية من القرآن والسنة كما جاء في كتب أهل السنة والجماعة ، والتي أرى أن الشيعة أعلم بها من أهلها ، نتحدث عن معنى التقية وظروفها.
إن الشيعة ومنذ وفاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عاشوا في اضطهاد وتشريد وتقتيل من قبل السلطات الجائرة التي تعاقبت ، وبعد واقعة كربلاء أصبح الشيعة وحدهم المناوئين للحكام والمتصدين لهموم الأمة باعتبار أن أئمتهم هم الحافظون للشريعة ، لذلك كرست الحكومات كل جهودها لضربهم.
لهذا السبب ولغيره عرف الشيعة بالتقية دون غيرهم من الفرق الإسلامية التي كان علماؤها ومن ورائهم العامة يؤيدون كل سلطان عادل أو جائر ، بينما يصور لنا الإمام الباقر (ع) حال الشيعة آنذاك يقول : « وكان من أعظم ذلك وأكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (ع) فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة وكل من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (ع) ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق وكافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي ».
هذا هو الحال باختصار وعند عرضنا للأدلة سيتبين بإذن الله تعالى أن التقية حاجة فطرية وكلنا نستخدمها في حياتنا العملية خصوصا أولئك الذين يواجهون الطواغيت في كل مكان ، يعلمون بأهميتها في مسيرتهم الجهادية.
والتقية في اللغة معناها الحذر ، قال ابن منظور في لسان العرب توقيت واتقيت ، أتقيه تقى وتقية وتقاء : يعني حذرته.
أما التقية شرعا كما عرفها الشيخ الأنصاري من ـ كبار علماء الشيعة المتقدمين ـ في كتابه المكاسب (التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق).
وشرعية التقية تؤخذ من الكتاب والسنة كمصدرين للتشريع وستجد أن العقل يؤيد مشروعيتها.

أما من الكتاب العزيز

قوله تعالى  ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ... 1.
وواضح من قوله تعالى ﴿ ... شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ... 1 شرعية التقية وأن المؤمن إذا خاف من الكفار يجوز له مداراتهم تقية منه ودفاعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك.
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية :
(المسألة الرابعة) اعلم أن للتقية أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها :
« الحكم الأول » إن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف على نفسه وماله فيداريهم بلسانه وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
« الحكم الثاني » هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل.
« الحكم الثالث » إنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة ، وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز.
« الحكم الرابع » ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين ، إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة عن النفس.

« الحكم الخامس » التقية جائزة لصون النفس. وهل هي جائزة لصون المال؟
يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله و سلم « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ولقوله صلى الله عليه و آله و سلم « من قتل دون ماله فهو شهيد » ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بألفين سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم.
« الحكم السادس » قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتا في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين ، فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا ، وروي عن عوف بن الحسن أنه قال : لتقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان 2.
يتضح من كلام الرازي دلالة الآية على شرعية التقية ، ويذكر ذات المعنى ابن كثير في تفسيره 3.
ويقول الله سبحانه وتعالى  ﴿ ... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ... 4.
والتي نزلت في عمار بن ياسر ، وكلنا يعرف قصة تعذيب كفار قريش له حتى قال ما طلبوه منه من تمجيد آلهتهم وغير ذلك ، إلا أن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بشره وأبويه بالجنة وقال له إذا عادوا فعد بمثل ما قلت ، ولا أعتقد أن هنالك أوضح من ذلك لفهم التقية والتي مارسها مؤمن آل فرعون كما جاء في القرآن  ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ... 5.

أما من السنة

فقد أورد الرازي نقلا عن البخاري في صحيحه من كتاب الأدب باب المداراة مع الناس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم : « إنا لنكشر في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم » ، كما نقل ـ الرازي ـ أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال : لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم ، فقال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم. وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه 6.
كل ذلك يدلل على مشروعية التقية وأنها حكم عام يشمل كل إنسان ، وبضم حديث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » يكتمل المطلب.
والتقية كحكم لها ضوابطها وحدودها والشيعة فيما يرتبط بفروع دينهم لا يحتاجون لغيرهم للأخذ منهم ولقد جئنا بالأدلة حتى لا يطلق البسطاء تهمهم بجهل. وإليك روايات عن طريق أهل البيت (ع) وهم الحجة على شيعتهم لا غيرهم :
ـ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) قال : اتقوا على دينكم فاصحبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له إنما أنتم من الناس كالنحل في الطير لو أن الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منهاشيء إلا أكلته ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبوننا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنجلوكم في السر والعلانية رحم الله عبدا منكم كان على ولايتنا.
ـ عن الإمام محمد بن علي الباقر (ع) : التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به.
ـ وعنه أيضا : إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية.
ـ وقال الإمام الصادق (ع) : « من لا تقية له لا دين له ».
وهذا قليل من كثير ورد عن طريق أهل البيت (ع) وعرفنا أصله في القرآن ، والعقل يذعن بذلك إذ أنه من البداهة أن التوقي والحذر مطلوبان في كل الأحوال ، ولا تكون التقية بذلك نفاقا كما حاول البعض أن يعرفها وكيف يأمرنا الله بالنفاق.
كما أنها لا تجعل من الدين وأحكامه سرا من الأسرار كما ذهب إليه بعض المستشرقين وأذيالهم ، فكيف تكون السرية عند الشيعة ، وهذه كتبهم ليس دونها حاجز أو حجاب ، فليبحث الجميع وليفتش. هذه النجف أمامكم وتلك قم فارحلوا إليها وانزلوا على مكاتبها فلن تجدوا دونكم سترا أو ممانعة ، أي الكتب أحببت فهي تحت يدك وفي متناولها وفيها أمهات الكتب ومصادر الأحكام لم تبق مسألة إلا وفصلت ولم تطرح قضية إلا وحلت وعلماؤهم شهرتهم عمت أرجاء المعمورة.
وفي الخاتمة أورد قصة لأحد الأصدقاء المهتدين ، التف حوله عدد من الشباب يحاولون إجباره على أن يعترف بأن التقية نفاق فقال لهم : عرفوا لي النفاق. قالوا : هو إضمار الكفر وإظهار الإيمان ، قال لهم : أما التقية فهي إظهار الكفر وإضمار الإيمان كما جاء في القرآن فهل لديكم دليل بحرمة ذلك؟

فسكتوا. وقد قال الإمام علي (ع) « لو سكت الجاهل ما اختلف حول الحق اثنان » 78.

 

من ركام الباطل إلى النور

  • 1. a. b. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 28، الصفحة: 53.
  • 2. التفسير الكبير للفخر الرازي ج 8 / 13.
  • 3. تفسير القرآن العظيم ج 1 / 308.
  • 4. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 106، الصفحة: 279.
  • 5. القران الكريم: سورة غافر (40)، الآية: 28، الصفحة: 470.
  • 6. تفسير الرازي ج 8 / 12.
  • 7. فليراجع كتاب إسلامنا في التوفيق بين الشيعة والسنة ـ التشيع ـ لعبد الله الغريفي.
  • 8. المصدر: كتاب بنور فاطمة اهتديت للسيد عبد المنعم حسن السوداني حفظه الله.