الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

اسباب انحطاط الامة الاسلامية

تعرّضت الأمّة الإسلامية عبر تاريخها الطويل إلى عدد من الهزائم الكبيرة، نذكر منها الحروب الصليبية والغزو المغولي، إلاّ أنّ القوة الكامنة في الإسلام كانت تتحرك في النفوس وتلهب المشاعر والأحاسيس، لأنّ الهزيمة كانت تضع المسلمين أمام واقع التحدّي الذي لا مفرّ منه، وهذا ما كان يعطي الأمّة الثقة التامّة للإنتصار على الأعداء عبر تجميع عناصر القوة من الوحدة وإدراك حجم الأخطار والتمسّك بطريق الجهاد ضدّ كلّ الذين استطاعوا أن يقهروا إرادة الأمّة في مراحل محدّدة من تاريخها.
إلاّ ّأنّ تلك الهزائم لم تستطع يوماً في الماضي أن تهزم العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين، ولم يكن الهدف من الحملات على العالم الإسلامي استهداف الإسلام، وهذا ما كان يجعل الخلاص وتحرير الأمّة ممّا تصل إليه أمراً ميسراً بسبب القدرة التي يحتويها الدين الإسلامي على توحيد المسلمين وطاقاتهم لدحر المعتدين.
وهذا بالذات ما أدركته القوى الإستعمارية الحديثة التي استوعبت أسباب هزائمها السابقة على أيدي المسلمين، وسعت بعد سيطرتها على عالمنا الإسلامي الذي مهّدت له بالتغلغل عبر مراحل سابقة من خلال الخلافات المؤسفة التي كانت موجودة بين حكام المسلمين بدعم البعض من هؤلاء ضدّ البعض الآخر من أجل إحكام السيطرة على الجميع، وهكذا صار العالم الإسلامي كلّه تحت قبضة تلك القوى الإستعمارية، فمزّقته إلى قطعٍ متناثرة، وجعلت حدوداً لكلّ قطعة منها وأعطتها إسماً معيناً وتاريخاً خاصاً على النمطين الأوروبي والأمريكي القائمين على أساس المسألة القومية أو الوطنية وغير ذلك من البدع التي أدّت إلى نشوء الدول الحديثة في العالم.
وبهذه المؤامرة ذات المراحل المتعدّدة دخل العالم الإسلامي الكبير إلى القرن العشرين من موقع التمزّق والتعدّد في الأوطان والقوميات التي صارت الأطر التي يتجمّع حولها المسلمون وينطلقون منها في حياتهم، بدلاً من الإسلام الذي كان عبر المراحل السابقة هو العنوان الأول الذي يجتمع حوله المسلمون ويتوحدون من خلاله إذا خرقتهم العناوين الأخرى الطارئة.
وبالدخول إلى التفاصيل بذكر الأسباب التي أدّت إلى الإنحطاط الحاضر الحاصل في جسد الأمّة الإسلامية، يمكننا أن نحدّد ما يلي:
ـ أولاً- التغلغل الإستعماري: إنّ الإنقسامات التي كانت قائمة بالفعل بين المسلمين قبل المرحلة الإستعمارية، لعبت دوراً كبيراً في تعميق الخلافات بين أبناء الدين الواحد ممّا سهّل عملية الإستعمار بداعي الحماية تارة، وبداعي المساعدة تارةً أخرى، حتّى توسّع هذا الأمر وشمل العالم الإسلامي كلّه من خلال إتّفاقات ومعاهدات ثنائية كانت تعقد بين إحدى الدول الأوروبية بالخصوص وبين منطقة إسلامية، أو من خلال إجراءات الوصاية التي كانت تتخذ منها تلك الدول ذريعة للدخول إلى مناطق أخرى من عالمنا، وهكذا تفكّك العالم الإسلامي في الواقع وإن بقي في الشكل والظاهر موحّداً تحت راية الخلافة العثمانية باسم الإسلام ولو إسماً وعنواناً.
ـ ثانياً- نشوء الأنظمة على النمط الإستعماري، وهذا ما كان يحتاج الوصول إليه إلى عملية دفع من داخل الأمّة كتمهيدٍ له، وهذا ما حصل بالفعل من خلال إلغاء مبدأ الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك، ممّا جعل العالم الإسلامي بلا مرجعية سياسية يعود إليها، وسمح بالتالي لكلّ قوّة من القوى الإستعمارية بوضع يدها بالكامل على المناطق الواقعة تحت نفوذها من عالمنا، وأقامت فيها أنظمة تشابه في دستورها ونظام عملها نفس الأساليب المتّبعة في الدول الإستعمارية، وهذا ما نلاحظه اليوم في دساتير الأنظمة العربية والإسلامية التي تستقي تشريعاتها من الدستور الإنكليزي أو الفرنسي بنحو الغالب، وصار الإسلام محصوراً في جانب قوانين الأحوال الشخصية المتعلّقة بأمور الزواج والطلاق والإرث والوصية لا غير وكذلك الأوقاف، وهذا التقسيم لعب دوراً سلبياً كبيراً في نشوء الكيان الغالب في أرض فلسطين الإسلامية.
ـ ثالثاً- أزمة المثقّف المسلم: إنّ سقوط العالم الإسلامي فريسة بيد القوى الإستكبارية أشعر أبناء الأمّة بالضعف والإنكسار أمام قوّة أولئك الغزاة وجيوشهم الجرارة ذات التسليح الجيّد والحديث، وعمل المستعمرون على بثّ الدعايات والإشاعات بأنّ السبب في هزيمة المسلمين هو الدين الذي يمثّل عنصر التخلّف والرجعية والجمود، وإذا أرادت الأمّة الإسلامية أن تنهض من كبوتها، فما عليها إلاّ أن تقوم بثورة ضدّ الإسلام ومفاهيمه حتّى تستطيع اللحاق بركب التقدّم العلمي والحضاري والصناعي في العالم، وهذا ما مهّدت له تلك الدول بانتخاب مجموعاتٍ من الأفراد من مناطق العالم الإسلامي تولّت الترويج والدعاية لذلك، ومن هنا بدأ تدفّق السيل الكبير من الفلسفات الحديثة كالوجودية والشيوعية وغير ذلك من الأفكار التي لعبت دوراً خطيراً في تعميق الهوّة الفكرية بين الأمّة وأصالتها، وأدّت إلى تغريب الأّمّة، فعانت الضياع الذي لم تستطع التخلّص منه بالدخول إلى العالم الجديد، كما أنّها لم تتمكّن من الرجوع أيضاً إلى عقيدتها الحقيقية التي حمتها من أخطار التمزّق خلال قرونٍ مديدة.
هذه هي الأسباب الكبرى والرئيسة التي أدّت إلى ما وصل إليه العالم الإسلامي اليوم من إحباطٍ وانهزام، وبالتالي إنحسار دور هذا القسم الكبير من التأثير في مجريات أحداث العالم، بل نرى أنّ الدول الإسلامية لم تعد تمتلك الحرية في اتخاذ القرار المستقلّ الذي يلحظ مصلحة شعوبها، وإنّما تحوّلت إلى أدواتٍ بيد القوى الإستكبارية في العالم للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها القائمة على مصادرة ثروات الأمّة ونهجها، وبهذا تحوّلت الأنظمة إلى آلات قمعٍ وكتمٍ للحريات وخنقٍ للأصوات المرتفعة الداعية إلى تحرير إرادة الأمّة من هذا التسلّط البغيض.
لهذا يتوجّب على الأمّة الإسلامية إذا أرادت أن تواجه هذا الواقع المبحط الذي تتخبّط فيه، أن تسعى جاهدة قبل فوات الأوان إلى الإلتحاق بالإسلام من جديد والتمسّك به كهوية حضارية أصيلة بديلاً عن الهويات الأخرى التي أضاعت الأمّة عقوداً وأوصلتها إلى الحد الذي تجلس فيه مع الكيان الغاصب للقدس إلى طاولة واحدة للإعتراف بوجوده الشرعي على أرضنا المقدّسة ولمشاركته لنا في كلّ مياهنا وثرواتنا ومواردنا الأولية وغير ذلك، ولن نتمكن بغير الرجوع إلى عقيدتنا من تحرير الأمّة وإرادتها من هذا الوهن الذي تعانيه، خاصة بعد سقوط المقولة الشيوعية وانحسار دورها حتّى في موطنها الأصلي وهو "الإتّحاد السوفياتي".
إنّ قدر الأمّة أن تتّحد بالإسلام وتقوى به، وهكذا استطاعت أن تتجاوز كلّ مراحل الضعف التي مرّت بها سابقاً، وفي مواجهة هذه الهجمة الشرسة الآن ليس هناك من حلّ سوى الإسلام الذي أثبت جدارته في قيادة الصراع ضدّ المستكبرين وعلى رأسهم أمريكا وربيبتها إسرائيل، وإنّ بوادر رجوع الأمّة إلى دينها وأصالتها قد بدأت، ونتمنّى أن لا تقف عند هذا الحد، بل نأمل تنامي الصحوة الإسلامية لتكون البديل الحقيقي لكلّ الواقع القائم الآن.
والحمد لله ربّ العالمين1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.