مجموع الأصوات: 37
نشر قبل 7 سنوات
القراءات: 8166

حقول مرتبطة: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

استعادة الوعي حكمة الابتلاء

لا شك إن وراء المآسي التي تتوالى على الأمم ، والصعوبات والمحن التي تنتاب المجتمعات ، فلسفة وحكمة . على الرغم من إن البعض يزعم أن الصدفة تلعب دوراً أساسياً فيما يجري عليه، ونحن ـ كمسلمين ـ نرفض هذا الراي، ونرى إن كل شيء في هذا الكون بمقدار ؛ فما من سكون وحركة ، وضر ونفع ، إلاّ في كتاب مبين.

فنحن نؤمن ـ على سبيل المثال ـ بأن السحب لا تجري ، وإنما تزجى وتساق من قبل إرادة مدبّرة لها ، وإن الأرض لا تنبت وإنما تُزرَع ، وإننا لسنا نحن الزارعين ، بل ان الله جل وعلا هو الزارع ، وإنه لن يصيب الانسان إلاّ ما كتب له . . وبالتالي فان السنن الالهية والتقديرات الحكيمة ، هي التي تجري مقادير الكون الذي نعيش نحن فيه ، ونعد جزء منه .

ضرورة وعي الاحداث

وبناءً على ذلك ، فان علينا أن نتساءل عن أسباب الحوادث التي تجري حولنا وعلينا ، لأن الصدفة لا يمكن أن تلعب دوراً في تسبيب تلك الحوادث . فليس من الصدفة بمكان أن يأتي الطغاة الظالمون ليتحكّموا في مصائر بلداننا وشعوبنا . فقديماً أبتلي ـ على سبيل المثال ـ العراق بالحجاج ، وبزياد ابن أبيه ، وقديماً أبتلي الايطاليون في الزمن الغابر بطاغية مثل نيرون ، وقديماً نزلت القوارع على الأمم من أمثالنا فأبيدت ، واغرقت ، واحترقت . . .
إن تلك الأحداث وغيرها لم تقع صدفة ؛ لذا علينا أن نسأل أنفسنا ما هي البصيرة من وراء ذلك ، وما هي العبرة ، وكيف نستطيع أن نفهم الحياة الفهم اللائق بها ؟
أقول : إن من الجيد أن يفكر الإنسان في هذه الأمور ، وأن لا يحبس تفكيره في أطر ضيقة ، لأن التفكير في قضايا صغيرة وتافهة ليس من شأن الإنسان . فمن المفروض فيه أن يفكر ويعتبر ويخطط لمستقبله ، ويتطلع إلى الأفضل . فماذا ينفعه أن يصبّ تفكيره على القضايا الهامشية ، في حين يعيش حالة التغافل عن إنسان طاغية يتحكم في مصيره ويسلبه إراداته ، ويسومه الخسف والهوان ؟

حكمة المآسي

وهنا نعود لنتساءل : ما هي حكمة المآسي التي تتوالى على البشرية ؟
في آيات عديدة من القرآن الكريم يكشف لنا الله تعالى عن هذه الحكمة . ونحن اذا تدبرنا في هذه الآيات ، واستوعبنا تلك الحكمة ، وطبقناها على أنفسنا ، ولم ندع المآسي تتكرر ، فاننا سنعيش أحراراً في دنيانا ، مستقلين عن أية قوة داخلية أو خارجية تريد أن تستعبدنا.
ومن أبرز الحكم في مآسي الأمم ، دعوة الله عز وجل الإنسان أن يعود إليه . فالله يحب البشر ، ويحب أن يعود عباده إليه ، ولذلك فانه ينزل عليهم المآسي والمحن . وقد روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال : "إن الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبداً غتّه بالبلاء غتاً وثجَّه بالبلاء ثجاً ، فإذا دعاه ، قال : لبيك عبدي ، لئن عجّلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر ، ولكن ادّخرت لك فما ادّخرت لك خير لك" 1 .
وهكذا فان من جملة الحكم أن الخالق جلّ شأنه يريد من عبده أن يدعوه ، وأن يتضرع إليه . فالله تبارك وتعالى يتحبب إلى العباد ، وهناك منهم من يستجيبون الى هذا التحبب ، فيتضرعون الى خالقهم . فان كان الإنسان يتمتع بكل شيء من طعام وشراب وما الى ذلك ، فانه سوف لا يجد في نفسه دافعاً أساسياً حتى الى العبادة ، فيستبدّ به الغرور . أمّا إذا أصابته مصيبة ، فان قلبه سينكسر ، وسيدعو الله جل جلاله بلسان التوسل والتضرع .
وفي هذا المجال يروى أن جبرائيل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وآله ومعه مفاتيح كنوز الأرض وقال : يا محمد السلام يقرؤك السلام ويقول لك : إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهباً وفضّة ، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة . قال : يا جبرئيل وما يكون بعد ذلك ؟ قال : الموت ، فقال : إذاً لا حاجة لي في الدنيا ، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع إلى ربي وأسأله ، واليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي وأحمده . فقال له جبرئيل : وفقت لكل خير يا محمد" 2 .
إن الانسان الذي يجيء شبعه بعد جوعه ، فانه يشكر الله تبارك وتعالى . أما الانسان الذي لم يذق في حياته الجوع ولو لمرة واحدة ، فانه سوف لا يحس بأن هناك جائعاً على الأرض ، وبالتالي فانه سوف يطغى ويستكبر عن عبادة الخالق . ولذلك فان الانسان لا يشكر ربه ـ عادة ـ على النعم العظيمة التي أنعم بها عليه .
ومن حكمة المآسي على الشعوب ، أن سلبياتها تتراكم طبقة على طبقة ، وظلاماً فوق ظلام ، وإنحرافاً أيديولوجياً ، وشذوذاً في العادات والسلوكيات ، وإنحرافاً في الاخلاق والآداب والمفاهيم ، وتشوّشاً في الرؤية ، وفوضى في النظم السياسية والاقتصادية والقضائية وغيرها . . فاذا بهم يعيشون في شرنقة الانحرافات ، وزنزانة الفساد . وفي هذه الحالة لا تنفعهم نصيحة الناصحين ، ولا عبر ودروس التأريخ ، ولا تلاوة القرآن والروايات . . فتراهم يركضون وراء المادة ، فان لم يجدوها جروا وراء وهمها .
وفي هذه الحالة فان الله عز وجل ، وطبقاً لحكمته يعرّض هذه الشعوب للبلاء . ويشتد هذا البلاء ، ويتدرج في العنف والقسوة ، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في البأساء والضراء ، فيجعل الله سبحانه بأسهم بينهم ، فيقتلون بعضهم البعض ، ويتسلّط عليهم أراذلهم وحقراؤهم .

هدف الابتلاء

وفي كل مرحلة من مراحل البلاء يكون الهدف هو اليقظة ؛ أي أن يستيقظوا ، وينتقدوا أنفسهم ، ويعودوا الى رشدهم ، ويعترفون بخطأهم وانحرافهم ، ليعودوا الى الله جل وعلا ، والى القيم الحقة ، والصراط المستقيم ، وينعموا في الحياة الدنيا والآخرة . فان لم يصلوا الى هذا المستوى ، فان الخالق سوف ينـزل عليهم بلاءات أخرى أشدّ ، حتى تحين فرصتهم في الاعتبار من هذا البلاء . وحينئذ يفتح الله تعالى عليهم أبواب الرحمة ، وإذا بهم بعد ذلك يفرحون ، ويعلون في الأرض ، ويعيثون فيها الفساد ، وعند ذلك يأخذهم الخالق بأشدّ البلاء .
فعلى سبيل المثال ابتلى الله فرعون وقومه بسبع بلايا ، فكانوا كلما تأتيهم آية يقرّرون العودة الى بارئهم ، وبمجرّد أن تنتهي يعودون الى غيّهم وعدوانهم . وحينها كانوا يذهبون الى موسى ويقولون له : يا موسى ؛ أدع الله أن يرفع عنّا هذا البلاء ، فاننا عائدون الى دينه . وما كان من هذا النبي الكريم إلاّ أن يتوجه بالدعاء الى الخالق ليرفع عنهم البلاء ، فيستجيب الله لدعوته . ولكنهم سرعان ما يعودون الى سابق عهدهم . وفي نهاية المطاف أغدق الله عليهم بالنعم والخيرات ، ففرحوا واستبدّ بهم الغرور ، وعلوا وطغوا . وحينئذ أخذهم ـ سبحانه ـ أخذ عزيز مقتدر ، ونبذهم في اليم فانتهوا وانقرضوا ، وأصبحوا عبرة لمن يعتبر .

استعادة الوعي

والذي يصيبنا الآن ـ نحن المسلمين ـ هدفه وحكمته أن نستعيد وعينا ، وأن نقف موقف الناقد من أنفسنا ، وأن نسأل أنفسنا : لماذا هذه الابتلاءات ؟ فان انتبهنا ، واستيقظنا ، وعدنا الى رشدنا ، رفع الله تعالى عنّا البلاء . وإن لم نفعل ذلك ، فان هذا البلاء سوف يزداد ، وستأتي مراحل شديدة وصعبة إذا لم نتّعظ .
وفي هذا المجال يقول عز من قائل : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 3.
إن الأمم السابقة لم تتضرع ، ولم تعد الى الله ، ولم تطبق حكمة الابتلاء في حياتها ؛ وبدل أن ينقذوا أنفسهم ، ويستعيدوا وعيهم ، وينتفعوا من المآسي ، تكرّست السلبيات في أنفسهم ، لأن قلوبهم كانت قاسية . والقلب عندما يقسو ، فان المواعظ البالغة ، والابتلاءات الشديدة لا يمكن أن تنفع معه .
وعلى الرغم من التذكير والابتلاءات المتواصلة ، فانهم نسوا التحذيرات الالهية ، فكانت النتيجة أن استدرجهم الله سبحانه وتعالى بالنعم حتى قطع دابرهم ، وأهلكوا عن آخرهم . فأين عاد ، وأين ثمود ، وأين أصحاب الأيكة وقوم لوط . . . ؟ لقد انقرضوا جميعاً ، وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم . فالله أتاح لهم الفرص الواسعة ، وفتح أمامهم الطريق للعودة ، ولم يبادرهم ويباغتهم بالعذاب .
ويبقى هنا السؤال المهم : بعد هذه المآسي والويلات والابتلاءات التي توالت وتتوالى علينا بين الحين والآخر ، هل انتفعنا منها وأخذنا الدروس والعبر ؟ وهل أدرك الناس إن التشرذم ، والتفكير المصلحي الخاص لا يمكن ان ينفعهم ؟ وهل أعادت مؤسساتنا النظر في إستراتيجياتها ، وفي اُسلوب عملها وتحرّكها ؟ وهل قمنا بما كان ينبغي لنا أن نقوم به ؟
إن علينا أن نقف وقفة شجاعة مشرّفة لنعرف ماذا فعلنا . ففي كثير من الأحيان يكون النقد البنّاء ، ومراجعة الماضي ، وإعادة النظر في المسيرة ، من صميم العمل الرسالي ، ومن صميم واجبات ومسؤوليات الانسان كانسان ، فما بالك بالقيادات ، والعلماء والمفكّرين والطلائع الرسالية ؟

الى متى الهزائم ؟

إن المهم في كل ذلك أن نتضرع الى الله جل جلاله ، وأن نعود إلى أنفسنا ، ونتساءل عن الخطأ في سلوكنا وفكرنا وبصيرتنا ووعينا .
ومن العجيب في هذا المجال أننا نرى البعض يفتخرون بالهزائم ، في حين أن الناس يبحثون عادة عن إنتصار لكي يربطوا أنفسهم به . ولكن البعض منّا تراه يبحث عن هزيمة ليتقوقع وينطوي على نفسه في داخلها ، ويصبّ كل تبريراته في إطارها ، ويقول إن مصيرنا أن ننهزم وننهزم دون أن نستطيع تحقيق أي إنتصار . في حين أن المثل المعروف يقول : (الهزيمة يتيمة) ، ولكننا نرى أن هزيمتنا لها ألف أب وأب . الأمر الذي يدلّ على شدة فقرنا الفكري ، وانعدام الوعي بالبصائر القرآنية .
مما لا ريب فيه إن الله تبارك وتعالى عادل ، عندما يصيبنا بذنوبنا ، ويوجّه إلينا الصعقات القوية التي لم تصل لحد الآن الى المستوى الذي نصحو فيه على واقعنا . فعلى الرغم من المآسي والمصائب والويلات والمحن التي نزلت علينا ، فاننا ما نزال نياماً . ونحن نعوذ بالله تعالى من أن تنطبق علينا الآية الكريمة التي تقول :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ... 4.
فمن الخطأ أن نتصور إن هذه الآية تنطبق على الحكام الظالمين وحدهم . فالانسان الذي يترك العمل في سبيل الاسلام ، ويضع مصالحه فوق مصالح الأمة ، والذي يثير الخلافات في وقت نحن أحوج ما نكون فيه الى الوحدة ، والـذي يعيش في زنزانة ذاته الضيقة ، هو أيضاً إنسان ظالم . ولذلك فاننا ندعو الأمة الى أن تتعظ من المصائب والابتلاءات ، وأن تكون في مستوى المرحلة التي تعيشها .

الضراعة هدف الابتلاء

الفطرة هي أكبر رأس مال يمتلكه الانسان في الحياة ؛ فهذه الفطرة هي التي تكشف للانسان الحقائق ، وتجعله ينسجم مع طبيعة الكون والنفس ، فيتفاعل بهما ومعهما . ولكن هذه الفطرة التي لابد أن تقوم بدور المنسق بين الانسان والطبيعة من حوله تتعرض للرين ، لأن حجب الشهوات والأهواء والتراكمات السلبية تفصل بينها وبين إدراك الحقائق . فقد تتحول هذه الفطرة الى فطرة تحجبها الأهواء والشهوات ، فتفتقد القدرة على الكشف ، ولا تستطيع ان تقوم بدورها الأساسي في تبصير الانسان بالحقائق .

سبب جميع المآسي

والانسان عندما ينظر بفطرته ، وطبيعته الأولية الى الأشياء ، فان حياته ستكون حياة قائمة على أسس حضارية تحمله خطوة فخطوة الى الأمام وبصورة مستمرة . وإذا ما استبعدت الفطرة فان كل سعي الانسان ، وكل حركة له سيكونان باتجاه معاكس ؛ أي إتجاه التخلف والتقهقر بدلاً مـن التقدم .
وإذا أردنا أن نبيّن بكلمة واحدة سبب تخلف الانسان ، وسبب المشاكل المتراكمة عليه ، لابد أن نقول ان تلك الفطرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في ذات الانسان قد تغيرت وانقلبت واحتجبت بالشهوات . وهذا هو تعبير موجز عن جميع المآسي التي يتعرض لها الانسان .
وعلى سبيل المثال فان الانسان الذي ينظر الى الأمور بفطرته ، يستطيع أن يتنبّأ بالمستقبل بصورة طبيعية . صحيح إنه لم يزود بالقدرة على إستشراق الغيب ، ولكنه قد منح البصيرة الكافية لتنسيق حياته ، ودرء الأخطار عن نفسه ، ولذلك فان الشعور بالألم وضع للدلالة والاشارة الى وجود المرض في الجسم .
وهكذا الحال بالنسبة الى الحياة الاجتماعية ؛ فظهور الفوضى في المجتمع يشير الى قربه من المأساة ، والوقوع في مستنقع المشاكل الاجتماعية . فمشكلة الفقر ، والعنصرية ، والرأسمالية ، والمشاكل الأخرى على الصعيد الاجتماعي تترك آثاراً واضحة تبين للانسان أن هذا المجتمع يسير في اتجاه منحرف ، وبالتالي فانها تمكنه من اكتشاف الخطأ في الوقت المناسب ومعالجته قبل الاستفحال .
وعلى سبيل المثال فان السياسي الذي لا يستطيع أن يفهم ضمير مجتمعه ، لا يمكنه أن ينجح في قيادة هذا المجتمع ؛ والرئيس الذي لا يدرك معنى الاضطرابات في بلده ، ومعنى أن يعيش شعبه في حالة الغليان والثورة ، لا يمكنه أن يستمر في حكمه . فلابد أن يكتشف أن المجتمع يعيش في حالة غير صحية ، وأن من الممكن أن ينقلب عليه الأمر . والسيطرة على هذه الاضطرابات ، وتهدئة الأوضاع بحاجة الى وجود حالة من الانسجام بين فطرة الحاكم ، وبين طبيعة الأوضاع الاجتماعية السائدة في بلده .
وبناءً على ذلك فان الفطرة هي طبيعة الانسجام بين الانسان والطبيعة ، واذا كانت الحجب متراكمة على هذه الفطرة فانها سوف لا تنفع الانسان فحسب وإنما تضره ، لأن هذه الحجب بإمكانها أن تنفذ الى عمق الفطرة ، وتقلب رؤية الانسان .
والتخلف الذي منيت به الأمة الإسلامية اليوم ، هو نتيجة الحجب المتراكمة على فطرة أبنائها . ففطرتنا ليست تلك الفطرة التي خلق الله تعالى الناس عليها ، ولا تمثل تلك المواهب التي أودعها الله عز وجل في الانسان ، والمقاييس والمعايير التي وضعها في قلبه والتي لابد ان تقوم بدور المنسق بين الانسان والطبيعة من حوله . فتلك الفطرة والمواهب والمقاييس قد انحرفت ، ولم تقم بدورها الطبيعي ، ولذلك نرى أن أمتنا تزداد تخلفاً يوماً بعد آخر ، ولا تستطيع أن تقوم بأي دور .

عبادة الماضي سبب التخلف

ومن جملة عوامل وأسباب التخلف عبادة الماضي ، والافتخار الكاذب به . فالمجتمع الذي يقلد ماضيه ، ويفتخر به بكل ما فيه من ايجابيات وسلبيات ، هذا المجتمع يكون عاجزاً عن القيام بأي دور ، لأنه ينظر الى الحياة من حوله بمنظار الماضي الذي أكل الدهر عليه وشرب . ولذلك فانه لا يستطيع أن ينسق حركته ، فتراه يفسر كل شيء وفق المقاييس السابقة ، وهذه مشكلة كبيرة يعاني منها الانسان .
وهكذا فان الذي يريد أن يعالج الأوضاع الحالية من خلال العهود السابقة التي كانت لها ظروفها وملابساتها ، وقيمها الخاصة بها ، لا يفهم مدى التطور الهائل الذي حدث في عالمنا اليوم والذي يحدث بين لحظة وأخرى ؛ فكيف بين سنة وأخرى ، وبين مرحلة من الزمان ومرحلة أخرى ؟ فالذي يريد أن يسير على حرفية الكلمات التي تفوّه بها المفكرون الاسلاميون قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة لا يستطيع أن يقرأ لغة العصر ، ويعجز عن أن يكيّف تصرفاته وفق الحاجات المتجددة لهذا المجتمع أو ذاك .

اثارة الفطرة حكمة الابتلاء

وعلى هذا فان مشكلة الانسان منذ أن خلقه الله عز وجل وحتى يومنا هذا هي مشكلة إبتعاده عن فطرته ، ومحاولته أن ينظر الى الحياة من زوايا جانبية لا بشكل مباشر . فمشكلة الانسان في عصر نوح عليه السلام وعاد وقوم ثمود هي مشكلة اليوم ، وهي مشكلة كبرى . فلقد زوّد هذا الانسان بمقياس واحد لكي يكتشف الحياة من حوله ، ألا وهو العقل والفطرة . فاذا ما انسحب العقل من العمل ، وتغيرت الفطرة ، فماذا يبقى للإنسان ؟ لا يبقى له حلّ سوى أن ينسحب هو بدوره .
وعلاج هذه المشكلة هو علاج إلهي من خلال إبتلاء الانسان بالمصائب والمآسي . فالحكمة منها هي إثارة فطرة الانسان ، وإعادته الى حالة نقائه وطهره . وبتعبير آخر ؛ الى نقطة البداية التي لابد أن يبدأ منها ، من خلال إزالة الحجب التي حالت دونه ودون استيعاب الحقائق .
وفي هذا المجال يقول عز من قائل : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ 5.
فهذه الآيات الكريمة تصرح بأن الهدف من أخذ الناس بالسراء والضراء هو أن يضرعوا ، والضراعة هي أن يعود الانسان الى حالته الطبيعية والفطرية . وعلى سبيل المثال فان السياسي ينظر الى الحياة من خلال سياسته ، والمثقف لا ينظر الى الحياة إلاّ بمنظار ثقافته ، ولكن هذا الانسان لابد أن يعود الى الضراعة ، والى حالته البشرية واستكانته الى الله سبحانه وتعالى ، وازالته لكل العوائق التي تمنعه من الوصول الى القمة.
وهناك الكثير من الأمم التي تنتفع من الضراعة ، وهي عادة الأمم التي أصيبت بمشاكل وأزمات سياسية وإجتماعية وحضارية . ولكن البعض من هذه الأمم لا يستفيد حتى من المأساة التي تهز الضمير ، وتكشف عن فطرة الانسان ؛ ولأنهم وصلوا الى هذه المرحلة من قسوة القلب ، فقد جاء الأمر الإلهي بانزال العذاب عليهم ، ومحوهم من الوجود .
﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ 6.

وهكذا فقد اكتسبوا السيئات ، فرسمت هذه السيئات المقياس الذي كان لابد أن يكشف لهم عن حقيقة الحياة . فالمآسي والمصائب لم تعدهم الى طبيعتهم ، فكانت النتيجة أن انتهوا بكارثة طبيعية نتيجة عدم اعتبارهم بالمأساة .
وللأسف فان بعض الناس في مجتمعاتنا ما يزالون غير مدركين لمغزى ما جرى ويجري عليهم ، فلم يفسروا الأحداث التي مرت بهم تفسيراً قرآنياً صحيحاً . وأنا عندما أقول : (بعض الناس) فاني لا أقصد أناساً بعيدين عنا ، بل نحن أنفسنا ؛ بسبب تراكم سلبيات الماضي علينا ، واحتجاب فطرتنا عن الحقائق ، فلم نكتشف الدرس الذي لابد أن نكتشفه ، والعبرة التي لابد أن نأخذها في مجال الحياة الاجتماعية .
لقد مرت أعوام طويلة والعالم الاسلامي ممزق ، والمآسي والمشاكل والأزمات السياسية والاجتماعية تتراكم علينا ، فلا نتخلص من مأساة إلاّ لنقع في شرك مأساة جديدة ، ولا ننجو من حاكم ظالم إلاّ لنقع في حبائل حاكم ظالم آخر . . والمشكلة ليست في وجود المآسي ومعاناتنا منها ، بل إن المشكلة هي عدم فهمنا للعبرة منها . فهذه المآسي التي تتكرر علينا لم تعطنا الدرس المناسب ، وهو أن نعود الى فطرتنا ، والى حالة الضراعة .

حقيقة الضراعة

إن الضراعة تعني في حقيقتها أن نغيّر أنفسنا ، وأن نستعد لاعادة النظر في تأريخنا ، وبنائنا الفكري والثقافي والسلوكي والاجتماعي والسياسي . ولكن للأسف فان كل تلك المآسي لم تعطنا الدرس المناسب والكافي ، فلماذا لا نحتكم الى القرآن الكريم وهو الذي يهدينا سواء السبيل في هذا المجال ، من خلال الآيات السابقة التي تقرّر أن الحكمة من المصائب والمآسي التي تنزل على الانسان هو أن يستشعر حالة الضراعة الى الله تبارك وتعالى ؟
وعلى هذه الأساس فان مشكلتنا الرئيسية هي أننا لم نستفد من الدروس القاسية التي مرّت بنا ، ولم نفهم الحكمة الالهية من الضراعة الناجمة من البأساء والضرّاء . ورغم أننا نؤمن إنّ علينا أن نعيد النظر في تاريخنا وأشخاصنا وفي كل شيء يحيط بنا ، إلاّ أننا ما نزال نعيش في قمة المآسي والمشاكل . والمصيبة أننا ننسى كل هذه المآسي لنعيش في أفقنا الضيق ، وننظر الى كل هذا العالم الرحب الواسع عبر ثقب ضيق للغاية . في حين أن الله جل وعلا خلق لنا هذه السموات الواسعة والمظاهر الطبيعية التي لا حصر لها . . ومع ذلك ترانا نهرب من الطبيعة ، ومن الحقائق ، ونحصر أنفسنا في زاوية حادة .
فلنعد الى القرآن الكريم الذي يطلب منا أن نعيد النظر في بنائنا الاجتماعي والفكري والسياسي ، فلابد من أن نعود إليه والى حكمه ونكتشف بصائره في الظروف المتأزمة التي يمرّ بها الانسان . ثم لنتضرع الى الله سبحانه وتعالى عبر الادعية التي من شأنها أن تعيدنا الى فطرتنا ، والى فهم السبب الحقيقي لمآسينا ، وإسقاط الاعتبارات المزيفة ، وتحطيم الأصنام التي تحجبنا عن الحقائق . فلنقرأ القرآن بتدبر ولندرس من خلاله واقعنا ، ولنقرأ الأدعية بتأمل لندرس أنفسنا من خلالها ، وليحاول كل واحد منا أن يعيد بناء نفسه ومن حوله ، فالمأساة هي أعظم مدرسة لنا في الحياة ، فمن يدخل مدرسة الحياة فانه سيكون في غنىً عن أي أستاذ آخر .

تزكية النفوس مراد الابتلاء

من الظواهر السلبية في حياتنا إنّ أغلب الناس منصرفون الى هموم الدنيا ، وشؤون المعاش من مأكل وملبس ومتع ولهو ولعب ، غير ملتفتين الى علة وجودهم وحياتهم على هذه الأرض ، ولا آبهين بغاية هذا الوجود ؛ فقلّما نجد أولئك الذين يسائلون أنفسهم عن تلك العلّة والغاية ، وما ينطوي عليهما من حقائق تنظّم الحياة ، وتعبّد طرقها على أساس ذلك الفهم والادراك .
فلابدّ أن يكون هناك هدف وغاية من وجودنا ، وتركيبنا بهذه الهيئة التي نحن عليها ؛ بل إنّ الغائيّة والهدفيّة تعمّان كلّ صغير وكبير في أبداننا وأحاسيسنا . فأعضاء جسد الإنسان لم تخلق ، ولم ينعم بها الإنسان إعتباطاً وعبثاً ، بل لها أهداف تجتمع في بؤرة هدف واحد ، هو الهدف الرئيس من الوجود .

هدفية الوجود تشمل كل شيء

وهدفيّة الوجود لا تقتصر على الإنسان وحده ، بل إنها امتدّت الى كل شيء صغير وكبير في الطبيعة . فليس هناك شيء مخلوق دون هدف ، وحاشى لله أن يصدر منه ذلك ، وحتى المخلوق الذي فيه الضرر والفتنة للانسان فانّه ضروري لإصلاحه .
ويبقى من حقّ كل إنسان أن يسأل عن هذا الهدف ، وسرّ الظواهر التي تحيط به ؛ فهذا السؤال هو السؤال المهم الذي له صلة وثيقة بأوضاعنا التي نعيشها اليوم ، والتي هي أوضاع خطيرة وحسّاسة يعجب منها الناس لأنهم يجهلون أسبابها وأسرارها والحكمة من ورائها ، فلو عرفوها بطل العجب وزالت الحيرة عندئذ .

الفتنة . . هدف اساس

وهكذا فانّ المهمّ أن نعرف ما هو الهدف من وجودنا وحياتنا أوّلاً ، وكيف نتحرّك في إطار هذا الهدف ثانياً كي لا يستبدّ بنا العجب . والجواب على السؤال الأوّل يتلخّص في كلمة واحدة صريحة هي : الفتنة التي هي باطارها العام الهدف الأساسيّ من خلق الإنسان فوق هذه البسيطة ، وربّما جهلت ملائكة السماء أمر الخلقة الإلهية للانسان ، والارادة الربانية من وراء إهباطه على الأرض ، ومنحه نعمة الارادة والحريّة والاختيار بعد أن يجد أمامه أسباب الاستقامة ، وأسباب الانحراف ، ويرى بعينه ، ويدرك بعقله سبل التقوى والرفعة والنبل مقابل سبل المعصية والانحطاط ، ليختار ، ويُعمل إرادته وحريّته . فالملائكة جهلت سرّ أمر الارادة الإلهية في هذا الخلق ، فما عرفوه أنّ هذا المخلوق من شأنه الإفساد ، وسفك الدماء فحسب كما روى لنا ذلك الخالق تعالى في قوله : ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ 7.
الآثار الايجابية لمعرفة الهدف
وبمعرفة الهدف وادراكه والتكيّف معه ، نعرف كيف نتعامل مع هذا الهدف ، وبالتالي فاننا سنقترب من الحكمة الإلهية التي اقتضت لنا تلك الهدفيّة في الحياة ؛ أي الفتنة والتمحيص والابتلاء ، وبذلك يكتمل الإيمان فينا ، فنعيش الطمأنينة والسكينة وراحة النفس والبال والضمير . وهذه هي سمات المؤمنين بالله حقّاً ، فلأنَّ المؤمنين يعون جيداً هذه الهدفية في الحياة ، فانّك تراهم في سكن وطمأنينة وراحة في نفوسهم وضمائرهم ؛ فاذا ما محّصوا بالفقر وجدوا الله تعالى عندهم فاطمأنّت قلوبهم ، وهدأت نفوسهم بذكره وحمده وتسبيحه وشكره على نعمائه ، وإذا ما أصابتهم مصيبة الموت في عزيز أو قريب عندهم لجأوا الى ربهم ، فقد كيّفوا أنفسهم مع البلادء والابتلاء ، وخبروا الفتن والمصائب بكلّ ألوانها وأنواعها ، وارتضوا لانفسهم ما قدّر الله سبحانه وقضى لهم وعليهم . وهذه من قوانين الله في عباده ومخلوقاته في الوجود ، فالمؤمن يكيف نفسه ، ويجعلها تنسجم مع المقتضيات والسنن الإلهية .

تأثير الابتلاء على النفس المؤمنة

وهناك سؤال آخر يثار في هذا المجال وهو : ما هو تأثير الإمتحان والفتنة على النفس المؤمنة ، وكيف نحقّق في أنفسنا وحياتنا فلسفة وحكمة الفتنة والابتلاء ؟
إن تأثير الامتحان والتمحيص على الإنسان قد يكون سلبيّاً أو ايجابياً ، ولذلك قيل : (عند الامتحان يكرم المرء أو يهان) . فعندما يسأل الإنسان عن مدى خبرته في عمل ما ، فانه لا يتردّد في الجواب الايجابي وإن كان جاهلاً ، وهذه هي طبيعة الإنسان المتمثلة في عدم إقراره بالجهل ، ولكنّ أمره سرعان ما يفتضح عند الاختبار ، وحينئذ سيفهم هذا الإنسان حقيقة نفسه فيضطرّ حينئذ الى إصلاحها .
وللأسف فانّ البعض ممن يهرب من عيوب نفسه ، ويخشى ظهورها على حقيقتها ، نجده يتهرّب من مواقع التمحيص كالذي يكره المرآة ، ويودّ تحطيمها لأنها أظهرت له عيباً في وجهه لم يكن قد التفت إليه لولاها . ولكي نبرهن على واقعيّة إيماننا علينا أن نعشق المرآة ، ونلجأ إليها دائماً كي نطّلع على عيوب أنفسنا ، ونعمد الى إصلاحها ؛ ومرآتنا تتمثل في إخواننا المؤمنين ذوي الألباب ، فبنصحهم وصلاحهم تصلح مسيرتنا ، وتنجلي البقع السوداء من قلوبنا ؛ فقد تحسّ أن في قلبك نقاطاً سوداء يجعلها الناس فيك ، وربّما يتوفّاك الموت دون أن يعلم أحد بها ، ولكن عليك أن لا تنسى أن الإنسان لا يحاكم لوحده يوم القيامة ، بل إنّ الملايين قد تُحاكم كمجموعة واحدة في يوم الحشر الرهيب ، وهناك تفتضح النفوس ، وتنكشف حجب القلوب ، ولذلك جاء في الدعاء بشأن هذا الموقف الرهيب : "اللهم إنّي مؤمن بجميع أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم فلا تقفني بعد معرفتهم موقفاً تفضحني فيه على رؤوس الأشهاد ، بل قفني معهم وتوفّني على التصديق بهم" 8 .
من هنا كان الأجدر بنا أن نظهر حقيقة ما في قلوبنا وأنفسنا قبل أن يفتضح أمرنا في يوم الخزي الأكبر . فلنعرض حقيقة أنفسنا ، ولنبدأ باصلاحها بعد التوكّل على الله سبحانه ، ولندعُ لاصلاح أنفسنا في كلّ ساعة وفي كل حال نحن فيه .
واصلاح النفس يكون بالالتزام بركنين من الأخلاق ؛ الاجتناب ، والتمسك . إجتناب الأخلاق السلبية السيئة ، والتمسّك بالأخلاق الايجابية الفاضلة . فالى متى نظلّ نعيش أخلاق السلب ، ونتعامل بها مع الآخرين ، فتزيدنا ذنوباً الى ذنوبنا ؟ والى متى يبقى الحسد ، والكبر ، والبغض متأصّلاً في قلوبنا ، ومتراكماً عليها ؟ فمثل هذه الكدورات ، والعيوب التي تسوّد قلوبنا وتميتها ينبغي أن ندعو الله لإزالتها . فلنحذر الشيطان ومكائده ، والتي منها أنه يصوّر لنا أنفسنا بأحسن صورة ، فيجعلنا نرضى عنها ، ونقتنع أنها منـزّهة زكية .

الابتلاء غاية الحياة

ومن كلّ ذلك نستنتج إن غاية الحياة والوجود هي الابتلاء ، ومعرفة حقيقة الإيمان به ، ومدى تحمّله ، والصبر عليه ، ومن ثمّ الاستقامة والثبات في السير نحو الهدف التكامليّ للحياة . فحين الابتلاء يعرف الإنسان المؤمن نفسه ويعرف قيمة أخيه المؤمن ، وقد قيل في الحكم "عند الشدائد تعرف الاخوان" . فالبعض قد تجد منه الطيب والنبل في لسانه ، فيعدك بالاخلاص ، وتشمّ من كلامه معك روح التفاني والتضحية ، ولكن حين الشدة والصعاب لا تلقى منه أدنى شيء مما لقيته في لسانه حين الرخاء واليسر ، وربما تلمس منه الكذب في ظروف أخرى غير الشدّة وذلك عندما يرتقي منصباً ، أو يصبح ذا مال وفير بعد فقر أو غير ذلك مما يظهر معدن المرء على حقيقته .
وهكذا فبالتمحيص والابتلاء والفتنة يعرف المؤمنون الصادقون ، والرجال الصالحون المخلصون ، والمجاهدون حقّاً في سبيل الله ، وإلاّ فإنَّ الدين والإيمان في السرّاء ليسا إلاّ لعقاً على الألسن كما قال تعالى :﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ 9فبالتمحيص يتميّز الخبيث من الطيب ، والمؤمن حقّاً من المنافق .

هدفية الحياة في القرآن

والآن نتناول موضوع الهدفيّة في الحياة من خلال الآيات القرآنية التالية المقتطفة من سورة الأحزاب . قال الله تعالى : ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا 10.

الأنبياء طليعة الخلق

فالسياق القرآني يتعرّض هنا للعهود والمواثيق التي أُخذت على أنبياء الله وخاصّة أهل العزم منهم . فالأنبياء والرسل هم قادة الأمم على مرّ الدهور السابقة ؛ فهم طليعة الخلق ، ولذلك لم يكن العهد الذي أُخذ منهم عهداً هيّناً وسهلاً ، بل كان عهداً غليظاً ـ كما عبّر عنه القرآن ـ يليق بمقامهم كأنبياء ورسل يقودون الأمم نحو التكامل الانساني .
ثم ينتقل السياق لبيان علّة أخذ الميثاق ، فيقول تعالى :﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ... 11. فالإنسان الصادق إنما يظهر صدقه عندما يفتن ويمحّص فيتبيّن إذا ما كان صادقاً حقّاً أم لا ، وقد جاء التأكيد على هذا التمحيص في هذا الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، حيث قال : "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم ، فانّ الرجل ربما نهج بالصلاة والصوم ، حتى لو تركه استوحش ، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة" 12 . فهويّة الإنسان المؤمن تتجلى بصدق الحديث ، ومدى ادائه للأمانة .
ثم يستمر السياق الكريم مذّكراً المؤمنين بما أنعم الله عليهم في أيام الشدائد ، وساعات المواجهة الأولى مع الأعداء ، إذ يقول تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... 13، ولعلّ أعظم نعمة يغاث بها الإنسان المؤمن حين الشدة ، وساعة الصراع ، هي الامداد الإلهي الغيـبي .
ثم يمضي السياق ليذكّر المؤمنين بشدّة تلك المواقف الصعبة : ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ... 14. فتلك كانت ساعة التمحيص الكبرى ، حيث زاغت العيون من شدّة الخوف ، وراح المؤمنون يتحشرجون في أنفاسهم وكأن قلوبهم قد انخلعت ، حتى ظنّ بعضهم أنّ ربّهم قد خذلهم ، وأوقع بهم في المهلكة . وهناك كانت ساعات التمحيص ولحظاته ، حيث استخرج الله عز وجل ما خفي في نفوسهم وقلوبهم ، وأزال منها ما كان قد علق بها من الأدران والشوائب فأجلاها ونقّاها في هذا الاختبار الصعب .
والإنسان المؤمن الواعي لا يمكن أن يغفل هذه الحقيقة ، فيدع الشيطان يداهم نفسه ، ويوهمها بالكمال والصلاح ، فيرضى عن نفسه ، ويكتفي بما بلغه من السير على طريق الكمال والصلاح ؛ بل يبقى لآخر لحظة من حياته يروّض نفسه ، ويربّيها على التقوى من أجل أن يضمن لها حسن العاقبة ، وهو الأمر الخطير والمهمّ لدى كلّ انسان 15