الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الامام الصادق فقيه الامة الاسلامية

ما ذاع صيت عالِم في الإسلام واشتهر كالإمام الصادق (عليه السلام) الذي عرف كيف يستفيد من الفرصة الذهبية التي أتيحت له بين نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي حيث خفّت رقابة السلطتين عليه مما سمح له بالتالي أن ينصرف إلى نشر العلوم والمعارف الإسلامية في أوساط الأمّة مما دفع بالتالي كل طلاب المعرفة إلى الترحال نحوه والتتلمذ على يديه، ولم يقتصر الأمر على دارسي فقه الشريعة وأهل البيت (عليهم السلام)، وإنما درس عنده الكثير أيضاً من مختلف المذاهب والاتجاهات الإسلامية، ومن أبرز من درس على يديه الإمام أبو حنيفة الذي اشتهر عنه قوله: (لولا السنتان لهلك النعمان).
وهذا كله إن دل على شيء فهو يدل على السعة والشمول والإحاطة عند الإمام الصادق (عليه السلام) بحيث كان دائرة معارف إسلامية متكاملة ولم يقتصر عطاء تلك الشخصية على تخريج الفقهاء المستنبطين للأحكام الشرعية، وإنما تعدى هذا العلم إلى العلوم الأخرى كالعقائد والفلسفة والطب والتفسير وغير ذلك، ولذا نرى هذا التنوع الكبير في طلاب مدرسته، ومن أبرزهم "هشام بن الحكم" المتخصص في علم الإمامة والعقائد، و"مؤمن الطاق" المتخصص في علم الكلام، و"زرارة بن أعين" و"أبان بن تغلب" في علوم الفقه، و"حمران بن أعين" في علوم القرآن، وغيرهم كثير ممن انتخبهم الإمام (عليه السلام) من بين طلابه ليكونوا نماذج تنشر الفقه الإسلامي الأصيل وتنشر العلوم الإسلامية في أوساط الأمة.
ولم يقتصر جهد الإمام (عليه السلام) في نشر علوم الإسلام على تلقين الطلاب، بل كان يشجعهم على السفر إلى البلدان المختلفة التي يأتون منها من أجل القيام بواجب التبليغ، وقد رُوِيَ عنه (عليه السلام) أنه قال يوماً لأبان بن تغلب: (يا أبان أجلس في مسجد المدينة وافْتِ الناس، فإني أحب أن يُرَى في الناس مثلك).
وهذا يدل على الإهتمام الكبير من الإمام الصادق (عليه السلام) بضرورة نشر المعارف الإسلامية، خاصة أن ذلك العصر تميز بالتوسعات الكبيرة التي امتدت إليها رقعة العالم الاسلامي وأدت إلى دخول أقوام متعددة في هذا الدين ونشطت حركات الترجمة ونقل العلوم الأخرى الموجودة عند الفرس والهند واليونان إلى العربية، مما سمح بالتالي إلى بروز بعض الأفكار والعقائد المنحرفة والتي حاول أصحابها إضفاء الطابع الإسلامي عليها من خلال تغليفها وتقديمها إلى الجماهير المسلمة على أنها عقائد من هذا الدين، وهذا ما دفع بالإمام (عليه السلام) إلى محاربة هذا التوجه الفاسد والمفسد لتوجهات المسلمين، ومن أبرز المسائل التي تدخّل فيها كانت مسألة الجبر والاختيار التي احتار فيها العلماء آنذاك، ففئة قالت بالجبر ولا نستبعد أن يكون بعض وعاظ السلاطين هم من تولى طرح هذه الفكرة لتبرير تسلط الحكام على الناس آنذاك، فأدى ذلك إلى بروز فئة أخرى تقول بأن الله قد فوض الإنسان كل أموره، وأدى الهرج والمرج في ذلك إلى أن يتدخل الإمام  (عليه السلام) ليضع حداً للنقاش فقال (عليه السلام): (لا جبر ولا تفويض، وإنما أمر بين الأمرين).
وحارب الإمام (عليه السلام) كذلك أولئك الذين أرادوا استعمال القياس لاستخراج الأحكام الشرعية وأوضح مخاطر ومساوئ هذا المسار على الإسلام فورد عنه (عليه السلام) قوله: (... إن أول من قاس إبليس، والسُّنة إذا قيست محق الدين) أو (إن دين الله لا يصاب بالعقول)، لأن الإنسان لا قدرة لعقله على اقتحام عالم الغيب لكي يعرف ملاكات الأحكام والدوافع التي أدت إلى إيجاب شيء وتحريم آخر.
وبالجملة نجد أن الإمام الصادق (عليه السلام) قد اكتسب شهرة واسعة في العالم الإسلامي حتى غدا الفقيه الأوحد في سعة مدرسته وتنوع العلوم التي استقاها طلابها منه، حتى وصل العدد الإجمالي لمن تتلمذوا على يديه أربعة آلاف عالم، ولا نتصور أن هناك من أنتج عدداً مماثلاً من العلماء طوال التاريخ الإسلامي.
لذلك كله لا نجد مغالاة في القول إذا قلنا أن الإمام الصادق (عليه السلام) هو فقيه الأمّة الإسلامية لا في عصره فقط بل حتى إلى عصرنا هذا، وليس تسمية أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بالجعفريين إلا جزءاً من التأثير الكبير الذي خلَّفته تلك الشخصية الفذة في تاريخنا الإسلامي.
نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من المطبقين لوصية الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يؤكد على أنصاره وأتباعه أن يكونوا دعاة لله بغير ألسنتهم من خلال الأخلاق الحميدة والمعارف الإسلامية الصحيحة لإنقاذ الأمّة من التخلف والجهل1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.