مجموع الأصوات: 12
نشر قبل 7 أشهر
القراءات: 1276

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الحقيقة المحمدية ومقام النبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام)

اللهُ جَلّ جَلاله وَتَقَدّسَت أسماءه هو الجّامع للكمالات والمُنزّه عَنِ العَيب في كُلّ الحالات أظهِرَ المُمكنات لِتُعرَفَ مَعَها حِكمَته وَتَبرز قُدرته ويُعرف شأنه، ولأنّه تَبارك وَتَعالى عَزيزٌ مُتعال قديمٌ فهو بعيدٌ عَن أنْ يُباشر عالَمَ الممكنات بذاته المقدّسة؛ وفي هذا الشأن يقول صدر المتألهين في معرض إنكاره لما ذهبت إليه الأشاعرة من إسناد الأفعال الطبيعية والجزئية إلى الله مباشرة، مُعلّلًا ذلك بِعَدم سنخيّةالمجرّد لعالم المادة:
" والأوّل محال بالبراهين القطعية والأدلة النقلية؛ لأن ذاته المقدسة أجل أن يفعل فعلاً جزئياً متغيّراً مستحيلاً كائناً فاسداً، ومن نسب إليه تعالى هذه الانفعالات والمتجدّدات، فهو من الذين لم يعرفوا حق الربوبية ومعنى الإلهية"1.
لذلك يرى أهل الفلسفة والعرفان أنَّ الباري شاء أنْ يكونَ تدبيره في الخلق مِنْ خِلال خَليفة مُنيب يقوم بمقام الولاية، ليكون هو الإنسان الكامل صاحب الولاية المطلقة، مستمدًّا الفيض من الحق، ووسيطًا بينه وبين الخلق، لذلك أظَهَرَ الحَقيقة المُحمديّة مِن أنواره الصمديّة، لتكون البداية مِن حَضرتهِ الأحديّة.
إن الله تعالى لا يرتبط بمخلوقاته إلّا من خلال أسمائه وصفاته، وأنّ لكلّ اسم من هذه الأسماء تجلّيات ومظاهر، وأنَّ اسمَ الله الأعظم هو الجامعُ لتلك الأسماء، وهو الرابطُ بينَ الحقّ وأسمائه والوسيطُ بين كل اسم ومظهره، وأنّه الاسم الذي يَتَجَلّى في جَميع الأسماء لذلك فهو أعظمها، وأنَّ مَنشَأَه وَجَميع تجلّياته هو في مرتبة الأحديّة الذاتية.
والحقيقة المحمديّة التي أشرنا إليها في مقام التجلّي الأحدي الذاتي ، هو الصادر الأوّل، حيث يرى العرفاء والكثير من الحكماء والمتكلّمين أنَّه نور الأنوار، وهو الوجودُ المُنبَسط الذي من فيوضاته تظهر جميع مراتب الموجودات. يقول السيد أبو القاسم الخوئي:
" إبتَدَأَ اللهُ كتابَه التّدوينيّ بذكرِ اسمِه، كما ابتدأَ في كتابِه التّكوينيّ باسمِه الأتمّ، فخلقَ الحقيقةَ المحمّدِيّةَ ونورَ النّبيّ الأكرم قبلَ سائر المخلوقين"2.
الحقيقة المحمديّة والمراتب الأحديّة والواحديّة:
الصادر الأوّل أو الحقيقة المحمدية هو التجلّي الأعظم لإسم الله الأعظم (التجلّي الواحدي)، أوجده بمحض مشيئته وتمام إرادته في الأزل إلى الأبد ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ 3، وهو ظلّ الله الممدود بين العوالم جميعا وفيضه الأقدس، قال الله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ... 4.
وهو النفس الرحمانيّة ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... 5، وهو العقل الكليّ، وإنّه كتاب الله التكويني ــ الذي لا تنفد كلماته، قال الله تعالى:﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ 6، حيث يُعَبَّر عنه تارَةً بنور الأنوار، فَمِنْ نور الذّات الأحدية تستفيض دون واسطة جميع مراتبه الكماليّه، ومن أنواره (الحقيقة المحمدية) تقتبس جميع الأعيان نور الوجود، لذلك فهو منبع حقائق الوجود وأشرف موجودات العلم والعين.

ويُعبّر عنه تارة بالعقل وتارة بالروح الأعظم وتارة بقطب الأقطاب وحقيقة الحقائق.
لقد أشرنا سابقًا كيف أنّ الحق تعالى يتجلّى لذاته (شاهد على ذاته) من خلال صور لأسمائه وصفاته، أي يتجلّى من ذاته لذاته ويشاهد جمال أسمائه وصفاته، حيث تبدو الذات الإلهية بِرِداء أسماء الحقّ تعالى وصفاته، مُتَجَليةً ولها شهودٌ علميٌّ مفصل، فالأسماء والصفات كالمرآة، فَأَشهَدَ الحقّ تعالى الحقيقةَ المُحمديّةَ على حقائق العلم في مرتبة التجلّي العلميّ، وعلى عالم الشهود في مرتبة العين.
العِلَلِ الفاعليّة والغائيّة في قَوسِ النزول والصعود:
الله جلّ جلاله هوَ الخالقُ الفاعلُ لما يَشاء، ولكن لتنزّه وَتَقَدّس ذاته عَنِ المُباشرة مَع عالم الإمكان، جَعَلَ مَشيئته هي الفاعله، وليست ذاته المقدسة، روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: "خلق الله المشيئة قبل الأشياء ثم خلق الأشياء بالمشيئة"7، وأنّ المشيئة هيَ مِنَ صفات الأفعال، والأفعال خارجة عن ذاته تعالى، بمعنى أنّ مباشرة الأفعال من خلال مشيئته (فعل الله تعالى)، والمصطفى وأهل بيته عليهم السلام محال مشيئة الله، جاء في الزيارة الجامعة (اَلسَّلامُ عَلى مَحالِّ مَعْرِفَةِ اللهِ)، جعلهم الله تعالى وسائط بينه وبين موجوداته، وهذا لا يستثني حتى الزمان والمكان، فكلّ موجود في هذا الوجود له أبعاد وهي الطول، والعرض، والعمق، والزمن، وأنّ جميع الموجودات تُسبّح لله تعالى، قال الله تعالى:﴿ ... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... 8، وهذا التسبيح لا بدّ له من إمام يعلّمه ويدله ويرشده ويأخذ بيده نحو الطريق الصحيح ليبلغ به مدارج قبول التسبيح، قال الله تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ 9، فالزمان والمكان، لجميع الموجودات هي بأجمعها تَخضَع لرعاية الإمام الحُجة في ذلك الزمان، فالإمام المهدي المُنتظر عجل الله تعالى فرجه هو إمام للزمان وليس في الزمان، وهو صاحب للعصر وليس صاحبًا في العصر، لذلك فالقرونوالأزمنة، عليهم وعلى معرفتهم ولمقاماتهم وإمامتهم كانت ولا زالت وستبقى تدور، وبذلك نُدرك حقيقة العلّة الفاعليّة لهم عليهم السلام ، ولا غرابة في تأثيرهم في عالم التكوين بإذن من الله تعالى، كما أذِنَ جلّ جلاله لبعض أنبيائه، كعيسى عليه السلام في قوله تعالى:﴿ ... وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ... 10، فما صحّ نسبته للأنبياء بشهادة القرآن لا غرابة أن يصحّ بمقتضى ما تقدّم، ولمن لا يزال في قلبه شكّ عليه التدبر في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام)، فعن أبي الحسين بن أبي الطيب بن شعيب ، أخبرنا أحمد بن القاسم الهاشمي ، أخبرنا عيسى ، حدثنا فروخ بن فروة ، أخبرنا مسعدة بن صدقة ، عن صالح بن ميثم ، عن أبيه قال : "بينما أنا في السوق إذ أتاني الأصبغ بن نباتة فقال لي ويحك يا ميثم لقد سمعت من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حديثًا صعبًا شديدًا فاما يكون كذلك ؟ قلت : وما هو ؟ قال : سمعته ( عليه السلام ) يقول :

إنَّ حديثنا أهل البيت صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للايمان .
فقمت من فورتي ، فأتيت عليا ( عليه السلام ) فقلت : يا أمير المؤمنين حديث أخبرني به الأصبغ بن نباتة عنك فقد ضقت به ذرعًا ، قال : وما هو ؟ فأخبرته ، قال : فتبسم ثم قال : اجلس يا ميثم أَوَ كُلّ عِلْمٍ يَحتمله عامل ، إنّ الله تعالى قال للملائكة : إنّي جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال : إني أعلم ما لا تعلمون ، فهل رأيت الملائكة احتملوا العلم ؟
قال : قلت : هذه والله أعظم من ذلك ، قال: والأخرى : أنَّ موسى ( عليه السلام ) أنزل الله عز وجل عليه التوراة فظن أن لا أحد أعلم منه ، فأخبره الله عز وجل ان في خلقي من هو أعلم منك وذاك إذ خاف على نبيه العجب ، قال فدعا ربه ان يرشده إلى العالم ، قال : فجمع الله بينه وبين الخضر فخرق السفينة فلم يحتمل ذاك موسى ، وقتل الغلام فلم يحتمله وأقام الجدار فلم يحتمله ، وأمّا المؤمنون فإنّ نَبِيّنا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخذ يوم غدير خم بيدي فقال:
اللَّهُمَّ من كنت مولاه فعلي مولاه، فهل رأيت احتملوا ذلك إلا من عصمه الله منهم ، فابشروا ثم ابشروا فإنَّ الله تعالى قد خصكم بما لم يخص به الملائكة والنبيين والمرسلين فيما احتملتم من أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلمه "11.
إذن فالنظام الوجودي كما خلقه الله تعالى حقيقته ومحوره ومرتكزه هي الذات الإلهيّة المطلقة، وأمّا جميع ما خلق جل جلاله فإنّما هي تجلّيات متباينة وفيوضات من نوره الأقدس، شاء الله لمن شاء أن يُوجَد، وبمراتب ومقامات، أدركها وأحصاها بعلمه، عالمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال، فالموجودات جميعًا هي في الحقيقة عِلَلٌ ومعلولات، تابعة لعلّة المعلولات جميعًا وهو الله تعالى، فكلّ ما في الوجود، عدا واجب الوجود وَمُوجِدَه، إنّما وجودهم وجودٌ تَبَعيّ، ووجودٌ عِلّي، وأنَّ الله تعالى هو العلّة الأولى لوجود الوجود والذي بأكمله هو قوس النزول من فيض المنبع المطلق.
ولأن فيوضاته جَلَّ جَلاله مُطلقة تامّة مستمرة لا انقطاع لها، فالمراتب الوجوديّه، تلك التي لديها القدرة في التّكامل والسير فإنّها تَستَمدّ مِن فيوضات الباري ما يُمكّنها من بلوغ أعلى مدارج الكمال في قوس الصعود، كُلٌّ حَسَب مرتبته وقدرته في التّكامل.
وَأمّا الإنسانُ الكامل فَهو ذلك الهدف والغاية والعلّة من الخلق، والذي بَلَغَ أعلى مراتب القرب الإلهي، إنّه النبي المصطفى صلّى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، العلّة الغائية لعالم التكوين، بلغوا أشرف المراتب وأعلى المقامات في التجرّد والتكامل ، حيث بلغ المصطفى مقام الفناء في الله تعالى، قال الله تعالى:﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ﴾ 12، فكان هو الغاية والمقصد كما ورد في قوله تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 13.

إنَّ نور الأنوار هَو الفيض المُنبسط والوجود التّام المُطلق، الذي منه خلق الأنوار المقدّسة للنبي والوصي وانبثقت جميع الحقائق والعوالم، الصاعد منها والنازل، ومنه خُلِقَ نور النبيّ المصطفى ووصيّه المرتضى ليكونا نورًا مقدّسًا، حقيقة محمديّة علويّة واحدة، عقلٌ مجرّد يسبق عالم الأكوان. ثمّ شاء الله تعالى لهما أن يظهرا، فخلق الكان والمكان، حيث مراتب الوجود من كائنات ومكانيّات وطبقات وأرضيّات وأجرام سماويّات وكل شيء في عالم الطبيعيات، ليبدأ قوس النزول، فتقلّب النّور في العوالم والأصلاب، فمن عالم الجبروت، إلى عالم الملكوت (العليا ثم السفلى)، إلى عالم الناسوت إلى الهَيُولى الأولى، ليظهر في الإنسان (خلاصة العوالم)، فما زال ذلك النور ينتقل بين أعين النبيين والمنتجبين، بين أصلاب الطاهرين وأرحام الطاهرات حتى وصل النور والطينة إلى صلب عبد المطلب فافترق في أطهر طاهرين، عبد الله وأبي طالب عليهما السلام.
وأنَّ التكامل من الأدنى إلى الأكمل كان في قوس الصعود، فالنبي المصطفى صلّى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين والزهراء والحسن والحسين والأئمة المعصومين التسع من ذرية الحسين عليهم السلام ، جميعهم قد بلغوا أعلى درجات الكمال، فأصبحوا الغاية والعلّة الفاعليّة القصوى للموجودات، لا بمعنى ما منهم الوجود، بل بمعنى ما بهم الوجود ، وعليهم تدور حركة الوجود نزولًا وصعودًا منذ القرون الأولى؛ روى طارق بن شهاب عن أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي (عليه السلام) أنَّه قال: " فالعزة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وللعترة، والنبي والعترة لا يفترقان في العزة إلى آخر الدهر فهم رأس دائرة الإيمان وقطب الوجود وسماء الجود وشرف الموجود وضوء شمس الشرف ونور قمره وأصل العز والمجد ومبدئه ومعناه ومبناه "14.
المراجع