تقيمك هو: 4. مجموع الأصوات: 58
نشر قبل 5 سنوات
القراءات: 6507

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القلوب المبصرة

إنّ مِنْ أعظَمِ نِعَمِ اللّه على الإنسان أنْ أكرَمَهُ بالعَقل وحَباهُ بِحَواس يَنطِقُ بها ويَسمَع وَيَرى مِن أجل أنْ يَفْهَم وَيَعرِف فَيُدرك وَيَعقل أسرارَ الحياة وآثارَها ونَتائجَها. ثُم مَنَّ عَلَيه أنْ هَداه وأكرَمَه بِنُورٍ وبَصيرَةٍ قَلبيّة يَسْلُك بِها مَدارِجَ الإيمان وَيَهتَدي بها الى نُورِ الحَقّ والرِّضوان، قالَ اللّه عز وَجَل: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ 1.

وَحينما يَسْتَخف الإنسان بِهذه النِّعم يقع في شَرَكِ كُفْرانِها، فَيَسْتَخدِمها لا مِن أجل تَربية النّفس والسَّير بها نَحو مَدارج رضا الجَبّار بَل مِن أجل أنْ يُبصِر وَيَسمع ويَنطق بما لا يرضی مالِكَها جل جلاله، عِندَها يَفقِد الإنسان هذا النور من قلبه وتنطفيءَ بَصيرَته ويَعمى قَلبه وَيَفقد إدراكه وتَفكيره وَيَتَوقف سَيره نَحو مَراتب الكمال، فيعيش الظُلمة وحَيرة الجهالة، فَيَنسَلِخ عن إنسانيته ويَتحَوّل الى بَهيمة، قال اللّه تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ 2.

والقَلبُ هنا لا يُقصَد به ذلك العُضو الذي يَضُخّ الدَم مِن وإلى جَميع أنحاء الجسم، وهو ما يُطلَق عليه بالقلب الجِّسماني، بل هو إشارة الى النّفس المُدرِكة، وَهُو الروح بلحاظ قواها الإدراكيّة المُجرّدة، إنّه النُّور الذي يَهتدي به الإنسان ويَسلُك به أعلى مَراتِب الإيمان لِيَصل الى القُرب الإلهي وهو ما يُطلق عليه بالقَلب الروحاني إشارةً الى مُجمل معاني النّفس والروح والعقل والفُؤاد والعِلم، كُلّها من أجل صياغة أعلى دَرجات الفَهم والشُعور والإدراك.
والقلبُ روحٌ أو نفسٌ ذات تعلّق ربّاني تأخذ بالإنسان نحو عِزّ عبودية اللّه تعالى، وَتُطَهّر ساحَته مِنَ الرَذائل والمُوبقات، فتطمأن نَفْسهُ بِذِكر اللّه تعالى وتَسعَد بحلاوة مُناجاته، فَيبدأ مَرتبة الحُبّ في اللّه والبغض في الله، إنّه القَلب السّليم في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ 3. وقَد أشار الى تلك القلوب كلام سَيّد البلغاء أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين قال: (فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنب من يرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصره  وطاعة هاد أمره. وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه وتقطع أسبابه  واستفتح التوبة وأماط الحوبة فقد أقيم على الطريق وهدى نهج السبيل)4.
إن اللَّه عزَّ وجلّ قد أوضح طُرق الحق وأعطى الإنسان سُبُل الإستدلال لِمَعرفتها وَحَذّره من الإنجرار نَحو دروب الباطل وأن لا يَتّخذ إلهه هَواه لأن العاقبة هي عِيشَة الضّلال في مَيدان جَهل تَختَفي فيه المعايير ويَختَلط الحَقّ بالباطل فَيُؤخَذ من الحَقّ ضِغث ومـن الباطل ضـغـثٌ فَيُمزَجان، عِندَها يَستَولي الشيطان على القلوب فَتُداهِمَها ظُلمة الشُبهات، فَعَن الإمام الحَسن (عليه السلام) أنّه قال: (أسلم القلوب ما طهر من الشبهات)5.
فَكَما لا يُمكن للماشي مِنَ الرؤية في دَياجير الليالي، كذلك يَصعب البَصر حينما تَغشى القلوب ظُلمة الغَفلة والشُبهة، لذا لابُد للقَلب من نُور وَدليل وبوصله تَدُلّه وَتَقوده الى نور الحق جل جلاله، وهذه البوصلة هي "البَصيرة"، قال اللّه تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ 6.
فالبصيرة إذن هي ذلك النور الذي يَستَضيء بهِ المؤمن عندما تَهجم عليه  المُدلهمات مِنَ الأمور  فَيَرى الأشياء على حَقائقها دون تشابه أو أختلاط. إنها الرؤية القَلبية والعقلية من أجل الإدراك والفَهم الصحيحين. والقلوب العَمياء هي تلك التي فَقَدت البَصيرة، فَدخلت عُتمة الظلال وَوَحشَة المَعاصي فعاشَت الحَيرة والأوهام، قال اللّه تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ... 7.
ألبصيرةُ هيَ العَين القَلبية للمؤمن والتي بها يُفَكّر فَيُبصر وَيَتَدَبّر في كنه الاُمور وخفايا المُعضلات وَيَفهم مُجريات الأحداث بوعي وإدراك، قال اللّه تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ 8.
إنّ أصحاب البَصائر النافذة لا تَظِلُّهُم الفِتَن، ولا تُتْعبهم المِحَن، عَرفوا الحَقّ فاتَّبَعوه والباطِل فاجتَنَبوه، لَمْ تَلتَبِسَ عليهم الأحداث وَلَم يَصغُوا الى الأضغاث ولم يَنخَدِعُوا  بأهل المَعاصي والأحناث، إنّهم نَفَذوا بِبَصائرهم الى عُمق الفِتنه فأبصروا بِقلوبٍ واعية مِلؤُها الإيمان والتّقوى والرَّغبة في العُروج إلى أسمى مَدارجَ الكَمال ونَيل الفيوضات من الله ذي الجلال.
وخَير من وَصَف أهلَ البصائر هو أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطابٍ وجَّهَهُ لمعاوية بن أبي سفيان حين قال: (وأرديت جيلاً من الناس كثيرًا، خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشبهات، فجازوا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولّوا على أدبارهم، وعوّلوا على أحسابهم، إلاّ من فاء من أهل البصائر، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى الله من موازرتك، إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد)9.
إنّ الإصرارَ على الخَطايا والذُنوب تُمرِض القُلوب وتَمحو نِعمَة البَصيرة فَتَقْسُو النُفُوس وَتَعْمَى الأبْصار وَتُملأ ظُلْمة وَوَحشة وَيَذهَب عَنها اللِّين وتَتَحول الى حِجارة بَل أشَد قَسوَة، فَتَكون مانعاً لنفوذِ نُور الرحمانية الإلهية، وَإنْ أصَرَّ العَبدُ على الكُفر والعِصيان سَيُختَم على قَلبه وسَمعه وبَصره بِغِشاوة فَيزداد قَسوة وحَيرة وتَخَبطاً، عِندَها تَنقَلب المَفاهيم وتنعدم الصورة فَيَرى الحَقّ باطلاً والباطِلَ حقاً. ذلك مما كَسبت يَداه فاللهُ عَدْلٌ لا يَحيف، قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 10. وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وفِي قَلْبِه نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوَادُ وإِنْ تَمَادَى فِي الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُه إِلَى خَيْرٍ أَبَداً وهُوَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 10) 11.
إنّ الإنشِغال بالدُنيا وَزينَتَها والغَفْلة عن الجَنّة وَنَعيمَها والنار وَحَميمَها، والاستخفاف بِعَمل الصالحات وَتَرك المُنكرات، والجَّهلَ بأمور الفقه وشرائع الدّين، وَتَرك ذِكر أهل البيت عليهم السلام وأحياءِ أمرِهم، كُلُّ ذلك يُولِدُ قَسوة القُلوب. روى الشَّيْخ الطوسي قدس سره في أماليه بإسناده إِلَى سَعْدِ بْنِ زِيَادٍ الْعَبْدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عليهما السلام، قَالَ: (فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ:... يَا ابْنَ آدَمَ، أَصْبَحَ قَلْبُكَ قَاسِياً وَأَنْتَ لِعَظَمَةِ الله نَاسِياً، فَلَوْ كُنْتَ بِالله عَالِماً، وَبِعَظَمَتِهِ عَارِفاً، لَمْ تَزَلْ مِنْهُ خَائِفاً)12.
لِذا وَمِن أجل سَلامَة القُلوب وحفظها من والأمراضِ والعُيوب وَعَدَم الإنجرار والإنزلاق لِمَكائد إبليس وَجنوده، على السالك أن يَجتَهِد وَيَجِدّ في السَّعي لأن يكون في المَكان الذي يُحِبه اللّه وأن يَبتَعد عمّا نَهاه عنه ان يكون، وأن يُسارع في الخَيرات ويَسلُك طَريق الأبرار ويَهرب من مَكائِد الفُجّار، وأن يَعمل على تَنقية القَلب مِنَ الأدْران والشَوائِب فالقُلوب آنية الله في أرضه، فأحبّها إليه أرقّها وأصلبها وأصفاها، فعن  رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إن لله تعالى في الأرض أواني، ألا وهي القلوب، فأحبها إلى الله، أرقها، وأصفاها، وأصلبها: أرقها للاخوان، وأصفاها من الذنوب، وأصلبها في ذات الله)13.
أن القُلوب السّليمة هِيَ تِلك التي تَقتَبِسُ أنْوارها مِن فيوضات النُّور المُقدس فَتَستَضيئ بِه لِتُزيلَ به العَوائق والعَلائق، فَتَسير بأرواحِها وتَشْخَص بأبصارها نَحو مَصدَر الجّمال الحَق، ذلك هُو القَلب السليم، إنها الروح والنفس المُطمئنة، أدْرَكت كمال اللطيفة الإلهية، فَوَعَت وَعَقَلَت فأدْرَكَت ثم سارَت فَنالت فَرَضِيَت فاطْمَأنّت، فَعَنْ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث القدسي أنه قال: (ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن)14.
إنّ القُلوب فُطِرَت على مسالك الخير والإيمان والطاعة، لأنها نالَت فاطمأنّت، فَحاكمية هذه القُلوب هو اللّه تعالی، ولا بُدّ لها أن تَسير نَحو مَنهج الفطرة الإلهية التي فُطر الأنسان عليها، ليَعرج نحو مَنْبَع النُّور مُطمَئناً أمِناً راضياً مُدركاً لمراتب اليقين. لكنّ الحَذَر كُلّ الحَذَر، فالقُلوب التي اسْتَبطَأتْها الغَفْوَة وَقادَتْها الشَّهوة وَسَيَّرَتها النَّزوة وَقَلَّبتها الأهواء فإنها لا مَحال سَتُصيبها النكتة السَوداء فَتَعمى وَتَمرض وتتحجّر.
فَما أجمل اليَقين حينما يَستَقرّ في القلوب، فَعَن معاوية بن عمار عن الإمام الصادق عليه السلام  انّهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: (إن حب علي عليه السلام قذف في قلوب المؤمنين، فلا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق، و إن حب الحسن و الحسين عليهما السلام قذف في قلوب المؤمنين و المنافقين و الكافرين فلا ترى لهم ذاما، و دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم الحسن و الحسين عليهما السلام قرب موته فقبلهما و شمهما و جعل يرشفهما و عيناه تهملان)15.