مجموع الأصوات: 10
نشر قبل 6 أشهر
القراءات: 633

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مجتمع الصفاء الروحي

قال الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ 1

ربنا سبحانه وتعالى خلق الإنسان كائناً إجتماعياً، فلا يمكنه أن يعيش لوحده، بل كل واحد من أفراد هذا الكائن يحتاج الى الآخرين من بني نوعه، والآخرون – بدورهم – يحتاجون اليه. لذلك نشاهد أنَّ الإنسان – من بين سائر المخلوقات التي نعرفها – هو وحده تحوَّل من فرد الى وحدة متآلفة من عدد من الأفراد (الأسرة)، ثم الى (مجتمع) متكاتف، ثم الى (شعوب وقبائل)، واخيرا الى (أمم) مترابطة ومتعاونة، وهو وحده الذي طوَّر بيئة حياته، فبنى المدن وأقام الحضارات، ثم طوَّرها – ولا يزال – عن طريق التعاون، والعطاء المتبادل، وتكامل التجارب.
وحاجة هذا الكائن بعضه الى بعض تتم بالإستجابة لها – عادةً – عن طريق التبادل، فأحدهم يزرع للآخرين، والثاني يخبز، والثالث يطبِّب، والرابع يهندس ويبني، والخامس يعلِّم، والسادس يدير، والسابع يصنع وينتج، وهكذا يتم تبادل ما يملكه كلُّ واحد من الإمكانات مع الآخرين حتى تسير كل أمور الحياة بشكل طبيعي ويحيا الجميع في ظل الرفاه والتقدم.
ومع ذلك تبقى بعض الثغرات في المجتمع لا تمتلئ بهذه الطريقة المعتادة، إذ قد يكون هناك من يحتاج الى الآخرين ولكنه عاجز – لسبب من الاسباب – عن أن يقدم عوض ذلك من مالٍ أو خدمةٍ أو انتاج، فهل عليه أن يعاني من هذه الثغرة حتى يموت؟
كلا، فالشعور الإنساني الذي وضعه الله الخالق في فطرة الإنسان يجعل الآخرين القادرين أنْ يبادروا لملئ الثغرة بدون مقابل. وهذا النوع من البذل والعطاء بغير مقابل هو ما يُطلق عليه: (المبرات)، (الخيرات)، (العمل الخيري)، (العمل من أجل النفع العام)، (الوقف)، (مساعدة)، وعشرات الأسماء الأخرى التي تجمعها كلها كلمتا: (الانفاق) و(الصدقات) في القاموس الديني، فالصدقات تعني كل خدمة أو مساعدة مادية أو معنوية يقدمها الإنسان لبني نوعه ممن لا يستطيع أن يبذل العوض بسبب عجزه.

ولا يظنَّنَ أحدٌ أنَّ (الصدقات) ممارسة خاصة بالمسلمين فقط، بل كل الناس ومن أتباع كل الأديان، بل وحتى ممن لا يتبعون الأديان السماوية، يقومون بهذا العمل، كلٌّ بشكل من الأشكال، ما دام يتمتع بشعور إنساني وبالفطرة الإلهية.
إلّا أنَّ الدين جاء ليؤكِّد ويعمِّق هذا الشعور ويعطيه أبعاداً واسعة ليجعل من المجتمع الإيماني مجتمعا تنعدم أو تقل فيه هذه الثغرات. لذلك تم التأكيد على (الإنفاق) و(الصدقات).
والآية الكريمة التي تلوناها في بداية المقال جاءت لتضفي على هذا العمل الإنساني مسحةً من الصفاء الروحي، والصبغة المعنوية، واللون المناقبي الناصع، فلا يأتي العطاء والإنفاق ليسدَّ ثغرة اجتماعية بينما يترك جرحا في النفس أكثر ايلاما وخطرا من الثغرة التي سدَّها:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ ... 1
فأنْ تنفق وتعطي وتتصدَّق ثم تمنّ على الطرف المقابل وبذلك تسبِّب له (الأذى) النفسي، فهذا مرفوض في منطق الدين الذي تهمه الحاجات النفسية للإنسان كما تهمه الحاجات المادية والجسمية. فالمطلوب منا أنْ نتعاون في سدِّ الثغرات الموجودة مع الحفاظ على كرامة الانسان وشخصيّته، بغض النظر عن الإعتبارات الظاهرية المتداوَلة بين الناس.
أنْ تعطي بلا (منٍّ) ولا (أذى) له نتائج مذهلة فيك وفي الطرف الآخر، فأبسط النتائج أنْ تسدَّ ثغرةً في حياة إنسانٍ، ولكن إذا كان بدون (منٍّ) و(أذى) فانك تحترم إنسانيّته، وتعمِّق فيه الإحساس بالكرامة بعدم إشعاره بأنَّ لك اليد العليا وهو محتاج اليك وممتنٌّ لك. وهناك نتيجة أخرى أهم ترتبط بك أنت المعطي والمنفق، فلأنك لا تمنُّ عليه ولا تؤذيه بسبب المنِّ بعطائك، فبالاضافة الى الأجر الأخروي العظيم، فانك تشعر بحلاوة التحلي بالمناقب الإنسانية، وبأنك تتمتع بروح صافية من كل شوائب الكِبر والغرور والإعتداد بالذات، وهكذا فانك تحس بذلك بالتقرّب الى الله المتعال أكثر فأكثر وتأمل بأن تحظى برضوانه.

إذن، المؤمن يتصدَّق ويعطي وينفق ويساعد في الوقت الذي يسعى أن يكون كل ذلك بلا مضاعفات سلبية، بغير منٍّ ولا أذى.
من هنا فإنَّ وصايا الدين تؤكِّد على أن يكون الإنفاق سرّاً – إلّا في حالة واحدة وهي ما إذا أُريد ترغيب وتشجيع الاخرين بالمتابعة والاقتداء في هذا العمل الصالح – وفي غير هذه الحالة فان الكتمان هو المطلوب، لأنَّ الكتمان أدعى لحفظ كرامة الطرف المقابل، وأن لا يكون العطاء يستتبع المنِّ والأذى، وهذا هو الأكثر تأثيراً ايجابيا على الآخذ والمعطي والمجتمع.
والآية الكريمة تعبِّر بكلمة ﴿ ... لَا تُبْطِلُوا ... 1 مما يدل على أنَّ المنّ والأذى يجعلان العمل (باطلاً) أي غير نافع وغير مؤثِّر، ليس في مجال الثواب الأخروي فقط، بل حتى في الآثار الدنيوية المطلوبة من الإنفاق والتصدّق، إذ لا معنى لأن يُشبع الإنسانُ جائعاً ويكسو عرياناً ولكنه يجرح كرامته، أو يساعد مكروباً وملهوفاً ولكن يؤذي قلبه ويؤلم نفسه. إنه عمل باطل، لأنه يسد ثغرة بينما يفتح ويعمِّق ثغرات، فتعود النتيجة معكوسة تماما.

وختام الآية يقول:﴿ ... وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ 1. إنه كلام خطير حينما يكون من رب العالمين. فعندما أتصدّق مع المنِّ والأذى فانني أُصنَّف مع القوم الكافرين بأنعم الله الذين لا يهديهم الله الى سواء السبيل في الحياة الدنيا، وبذلك يخسرون النعيم الأبدي في الأخرى.