الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مواقف من كربلاء موقف الامام الحسين

ورد عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المعروف (حسين مني وأنا من حسين)، ومن الواضح جداً معرفة سبب أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ابن ابنته الزهراء البتول (عليها السلام)، إلّا أنّ جملة "وأنا من حسين" هي التي قد تكون بحاجة إلى بعض التوضيح لتصبح الصورة بلا التباس أو غموض، وحتى يصبح معنى الحديث منسجماً مع بعضه البعض. فالكلّ يعلم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء بالشريعة السمحاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وجاهد ما جاهد، وتحمّل ما تحمّل من الأذى والضيق من جبابرة قومه حتى ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (ما أوذي نبي قط مثل ما أوذيت)، ومع كلّ ذلك صبر وتوكّل على الله ومعه المسلمون الأوائل الذين تعذّبوا وحوصروا وهاجروا، واْستُشهِد البعض منهم بسبب الظلم الإستكباري من عتاة قريش، وكانت نتيجة كلّ تلك التضحيات أن فتح الله أمام نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الآفاق الرحبة انطلاقاً من المدينة المنورة التي قامت فيها النواة الأولى والركيزة الأساس لدولة الإسلام، ثمّ توالت الفتوحات، فتمّ فتح مكة وأعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهاية عصر عبادة الأوثان، وبداية عصر العبودية لله وحده سبحانه وتعالى، ومن بعد ذلك انطلق جنود الإسلام لإيصال الدعوة إلى خارج الجزيرة العربية حتى وصلت كلمة التوحيد إلى أكبر مجموعة بشرية من سكان الأرض وعمّ نور الإسلام والهداية والإيمان. إلّا أنّ مجريات الأمور بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تحصل بالطريقة التي أرادها (صلى الله عليه وآله وسلم)، ممّا سمح لبعض الخلل أن يتسرّب إلى حياة المسلمين، وهم ما زالوا في بدايات معرفتهم بهذا الدين، ممّا لم تسترعِ تلك المجريات الإنتباه بالدرجة الكافية نظراً لأنّ المسلم على مستوى نفسه لم ير أيّ تغييرٍ أو تبديل في ارتباطه بالإسلام، ولم يلحظ التغيير الحاصل على المستوى القيادي، هذا التغيير الذي وعاه البعض القليل جداً من الذين تربّوا على يد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلّا أنّهم لم يكونوا قادرين على النهوض لتصحيح الوضع بسبب طراوة الإسلام التي كانت غالبية الناس عليها. وهكذا جرت الأمور، إلى أن تمكن البعض ممّن كان قد دخل الإسلام ليحقن دمه وليحفظ مصالحه كأبي سفيان ورهط من عشيرته الذين ما عرف الإيمان طريقاً إلى قلوبهم وسبيلاً إلى عقولهم، وإنّما دخلوا فيه لاتخاذه وسيلة لعلّهم من خلال ذلك يتمكنون ولو بعد حين من الإنتقام من هذا الدين الذي أنزل من مقاماتهم التي كانوا عليها في الجاهلية، ولعلّنا لا نغالي إذا قلنا إنّ المحاولة الأولى للإنتقام كانت عندما جاء أبو سفيان ومعه العباس عم أمير المؤمنين (عليه السلام) ووضع كلّ إمكانياته بتصرّف الإمام (عليه السلام) ضدّ الذين أزاحوه عن موقعه القيادي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال أبو سفيان يومها لعلي (عليه السلام): (فوالذي يحلف به أبو سفيان إن شئت لأملأنّها عليك خيلاً ورجالاً)، إلّا أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فَهِم مراده وأجابه بأنّ ما يدعوه إليه هو الفتنة للإيقاع بين المسلمين ليعود لأبي سفيان الأموي ورهطه العزّ والشرف والرفعة كما كانوا قبل الإسلام. وتشاء الظروف كما هو مخطّط لها أو كما جرت آنذاك بأن يتسلّم معاوية خلافة المسلمين، وهو من هو، يحمل ثارات رهطه ضدّ الإسلام ويتحيّن الفرصة تلو الفرصة للوصول إلى ذلك، وقد لاحت أمامه فتلقّفها وتمسّك بها وشرع يستغلّ كلّ إمكانيات الدولة الإسلامية من أجل تحقيق الهدف الذي لم يستطع أبوه بلوغه من قبلُ، فقتل أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) من أمثال حجر بن عدي وابنه وغيرهما، وشرّد الآخرين في بلاد المسلمين الخائفين على أنفسهم من الموت والقتل، ولاحق كلّ أتباع أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلّ مكان، وابتدع سب أمير المؤمنين (عليه السلام) من على منابر الإسلام لتركيز ذلك في أذهان الأجيال الإسلامية، كلّ ذلك كمقدمات ضرورية لنيل مراده الأقصى وهو إعادة الناس إلى الجاهلية وزمن عبادة الأوثان والأصنام وإعادة أمجاد بني أمية الغابرة. ويشرف معاوية على الموت، والهدف لم يتحقق، مع أنّه قام بخطواتٍ كبيرة على هذا الصعيد كما قدّمنا، وأتبعها بمؤامرته ضدّ الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) حيث اعتبره لاغياً، وأغرى زوجته بالمال والزواج من ولده "يزيد" فدسّت السم للإمام (عليه السلام) فمات منه، وأخذ البيعة من رؤوس الصحابة والتابعين لولده الفاسق الفاجر ليطمئنّ إلى الخليفة الذي يكمل تنفيذ المخطّط الشيطاني الجهنمي الذي قطعوا شوطاً بعيداً للوصول إليه. وهكذا تسلّم يزيد من موقع فسقه وفجوره وتهتّكه واستهتاره بالإسلام وأحكامه مركز الخلافة الإسلامية، ومع هذا سكتت الأمة التي لم تكن تشعر بالخطر على دينها ومقدّساتها، لأنّ يزيد من موقعه المنحرف ذاك كان جاهزاً للوصول إلى المدى الأبعد في مخالفته للطريقة الإسلامية التي ينبغي أن يكون عليها الحاكم المسلم، وعلى عكس والده الذي كان يراعي ولو جزئياً بعض الظاهر الذي يوحي للمسلمين بأنّه لا يخالف حكم الإسلام. إلى هنا وصلت الأمور، فالخطر على الإسلام كبير جداً وهو قريب، والمجال للمناورة صار ضيّقاً، لأنّ يزيد كان يشعر بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ما زال العقبة الكبيرة التي ينبغي التخلّص منها لكي تستتبّ له الأمور توصّلاً إلى هدف الآباء والأجداد، وجرى الذي جرى بين الإمام (عليه السلام) ووالي يزيد على المدينة المنورة الذي أرسل للإمام (عليه السلام) يطلب منه البيعة ليزيد، وهنا يطلق الإمام (عليه السلام) كلماته المدوّية الصارخة التي أعلن فيها رفضه القاطع لاستجابة ذاك الطلب الخسيس الذي يراد منه إعطاء الشرعية الإلهية لمغتصب الخلافة والمستهتر بها وبمقتضياتها "يزيد الفاسق الفاجر" وقال (عليه السلام): (إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب للخمرة قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله). وتأتي رسل أهل الكوفة ومكاتيبهم داعية الإمام (عليه السلام) ليقودهم ضدّ السلطة الظالمة التي يترأسها يزيد، وهكذا تواصلت الأمور وانتظمت حتى حط الإمام (عليه السلام) رحاله في كربلاء مع البقية الباقية المخلصة والوفية لإسلامها وإمامها (عليه السلام) في موقفٍ عزّ نظيره وقلَّ أن يقدم عليه أحد سوى الرساليين الذين يحملون عبء الرسالة ويقدمون في سبيلها الغالي والرخيص، كما يفعل ذلك اليوم المجاهدون الحسينيون من أبناء المقاومة الإسلامية ضدّ الغطرسة الصهيونية. وتجري الأمور في كربلاء ويستشهد الإمام (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، وتُسبى "زينب" (عليها السلام) والنساء من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويدار بهنَّ في البلاد ليراهنّ القريب والبعيد، والفاجر والمؤمن على أنّهم ممّن خرجوا عن طاعة الخليفة، وبذلك تصوّر يزيد وجلاوزته أنّهم قد حقّقوا الهدف الذي عملوا له طويلاً، وأطلق يزيد أبيات الشعر تلك تعبيراً عما كان يجول في نفسه من الكفر والنفاق: (ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل... إلى أن يقول... لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل). لكن بالتأمّل فيما جرى بعد كربلاء، نرى أنّ الأمة قد قامت من رقدتها، واستيقظت من سباتها، ووعت المخاطر التي كانت تحيط بها، وصار الحسين (عليه السلام) ومصيبته في كربلاء على كلّ شفة ولسان، وتناقلتها الأجيال، جيلاً بعد جيل، وعصر بعد عصره، ولم تمضِ سنوات قليلة على كربلاء حتى بدأت الثورات تتوالى، واحدة بعد أخرى، وفي كلّ ثورة كان الحكم الأموي يضعف ويهتز، إلى أن كانت الضربة القاضية التي أزالت حكم أولئك الذين سفكوا الدم الحسيني وإلى الأبد، وكان كلّ الذين يثورون يردّدون شعاراً واحداً: (يا لثارات الحسين (عليه السلام))، الشعار الذي يرفعه المجاهدون في هذا العصر من الذين تمسّكوا بالإسلام واهتدوا براية الإمام الخميني الراحل المقدس، ويلتزمون اليوم طاعة ولي أمر المسلمين "آية الله الخامنئي" حفظه الله وأبقاه في جهاده ضدّ الاستكبار الأمريكي والصهيوني. وبذلك كلّه، نفهم معنى الحديث النبوي المتقدم "وأنا من حسين"، فالثورة الحسينية هي التي أحيت الإسلام وأبقت له وجوداً في حياة الأمة، ذلك الوجود المبارك الذي ننعم به اليوم كثمرةٍ أساسية وكبرى من ثمرات تلك الثورة الرائدة، التي حمل فيها الحسين (عليه السلام) كلّ التراث الإلهي معه إليها لينشره من هناك مع قطرات دمه ومع كلماته الخالدة التي ما زالت تهدي المجاهدين الثائرين عندما يدعوهم الواجب الإسلامي إلى النهوض والقيام دفاعاً عن دين الله1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.