الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

بيعة غدير خم

وفي السنة العاشرة بعد الهجرة- حين عزم النبي صلى الله عليه واله على المسير إلى مكة وأداء الحج الأخير الذي سمي (بحجة الوداع)- كان الإمام عليه السلام في اليمن أو نجران. فكتب إليه الرسول صلى الله عليه واله بأن يوافيه في مكة حاجًّا، وقد أُوحي إلى النبي صلى الله عليه واله أنه راحل عن أمته.
فلما قفلوا عن مكة راجعين، أوقف الرسول الركب بمنطقة تسمى ب- (غدير خم) حيث نزلت عليه الآية الكريمة:  ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... 1.
فقام في الناس خطيبًا وقال في مستهل حديثه: «كَأَنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأَجَبْتُ».
وأضاف صلى الله عليه واله: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» . ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه واله: «إِنَّ الله مَوْلَايَ وَأَنَا مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ» ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» 2 . ثم أفرد النبي لعلي خيمة وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجًا فوجًا ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل ذلك كلهم حتى من كان معه من أزواجه ونساء المسلمين.
فأنزل الله تعالى على رسوله ما يعتبر إعلانًا عن خاتمة الوحي:  ﴿ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... 3.
وانتشرت في الآفاق أنباء استخلاف النبي لوصيه الإمام علي!. ولكن النبي صلى الله عليه واله الذي كان أخبر قائدٍ بالناس من حوله، كان يعلم أن الكثير من التمهيد يحتاج إليه المسلمون، خصوصًا وقد تكاثر عدد الوصوليين بينهم بعد فتح مكة، وإن الكثيرين منهم يطالبون عليًّا بأوتار الجاهلية، فلا يقبلون بولاية الإمام عليه السلام بسهولة.
كما أحيط علمًا بالمؤامرات التي كانت تجري في البلاد للسيطرة على الحكم من بعده، وكانت (قريش) التي دخلت- الآن- في الإسلام تتخذ منه أداة جديدة لسلطتهم على الجزيرة العربية، كانت مركز هذه المؤامرة.
ومن هنا لم يدع الرسول صلى الله عليه واله مناسبة إلَّا وأعلن فيها عن أن وصيه الذي اختاره الله للولاية من بعده إنما هو الإمام علي عليه السلام، لتبقى الأقلية المؤمنة وفيةً بعده مع الله والرسول، ومُلْتَفَّةً حول قيادة الإمام عليه السلام وتحافظ على الخط السليم للأمة، وتكون ميزانًا للحق والباطل، ومقياسًا سليمًا لمتغيرات الحوادث.
من هنا نجد النبي صلى الله عليه واله يسعى حتى آخر لحظة من حياته في هذا السبيل، فقد جاء في رواية البخاري- من كتاب المرض والطب- أنه اجتمع عند رسول الله رجال فيهم: عمر بن الخطاب، فقال لهم النبي صلى الله عليه واله: «هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا».
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه واله قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُكُمْ كِتَابُ رَبِّكُمْ» 4. فاختلف الحاضرون واختصموا فأمرهم النبي بالإنصراف.
وفي بعض روايات البخاري قال بعضهم: «مَا لَهُ أَهْجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ. فذهبوا يرددون عليه فقال: دَعُوْنِي، فَالَّذِي أَنَا فِيْهِ خَيْرٌ مَمَّا تَدْعُوْنِي إِلَيْهِ.
وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ قَالَ: أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ .. وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَة» 5 . وواضح أن المسلمين لم يكونوا لينسوا وصية نبيِّهم الأخيرة، إلَّا أنها كانت متعلقة بالوضع السياسي بعد النبي مما يستدعي تناسيه رغَبًا أو رَهَبًا.
والواقع أن الخليفة الثاني بَرَّر ذات مرة اتِّهامه للنبي (بأنه قد غلبه الوجع) بأنه لم يكن يرى مصلحة في استخلاف النبي للإمام علي. فقد جاء في شرح ابن أبي الحديد: «روى أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد مسندًا عن ابن عباس قال: دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقى له صاع من تمر على خصفة 6. فدعاني إلى الاكل، فأكلت تمرة واحدة واقبل يأكل حتى أتى عليه، ثم شرب من جر 7، كان عنده واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله يكرر ذلك.
ثم قال: من أين جئت يا عبد الله؟.
قلت: من المسجد.
قال: كيف خلفت ابن عمك؟.
فظننته يعنى عبد الله بن جعفر قلت: خلفته يلعب مع أترابه.
قال: لم اعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت.
قلت: خلفته يمتح بالغرب 8، على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.
قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟.
قلت: نعم. قال: أيزعم ان رسول الله صلى الله عليه واله نص عليه؟.
قلت: نعم. وأزيدك سألت أبى عما يدعيه، فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه واله في امره ذرو 9، من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا ولقد كان يربع في امره وقتا ما.
ولقد أراد في مرضه ان يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الاسلام. لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش ابدا ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله صلى الله عليه واله انى علمت ما في نفسه، فامسك وأبى الله إلا امضاء ما حتم» 10 11.

 

  • 1. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 67، الصفحة: 119.
  • 2. بحار الأنوار، ج 37، ص 137.
  • 3. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 3، الصفحة: 107.
  • 4. بحار الأنوار، ج 30، ص 535.
  • 5. صحيح البخاري، ج 5، ص 137.
  • 6. الخصفة، محركة: الجلة تعمل من الحوض للتمر.
  • 7. الجر بفتح الجيم وتشديد الراء: آنية من خزف، الواحدة حرة.
  • 8. الغرب: الدلو.
  • 9. ذرو: طرف.
  • 10. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 12، ص 20- 21.
  • 11. المصدر: كتاب الإمام علي( عليه السلام ) قدوة وأسوة ، لآية الله السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته.