الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القرآن الكريم والنزعة الانسانية.. المكونات (1ـ2)

عند البحث عن مكونات النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، يمكن التوقف عند ما حدثنا به القرآن عن أن الله سبحانه أعطى الإنسان صفة الخليفة في الأرض، وأشار إلى هذه الصفة ببيان واضح وصريح كقوله تعالى﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... 1، وقوله تعالى﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ... 2
ولولا ورود هذه الصفة في النص القرآني، لكان من الصعب الحديث عنها، والإشارة إليها، بهذا المسمى البياني واللساني، وما كان باستطاعة أحد أن يتجرأ ويقول إن الإنسان هو خليفة في الأرض.
وبهذه الصفة تحددت رؤية الإسلام الكلية للإنسان ذاتا ووجودا ووظيفة، الرؤية التي رفعت الإنسان إلى أعلى منزلة في هذا العالم، وليس هناك ما هو أعلى وأشرف من هذه المكانة التي يكون الإنسان فيها خليفة في الأرض.
وقيمة هذه الصفة أنها أعطت الإنسان مكانة مركزية في الأرض، على أمل أن يرتفع إلى مستواها، ويتخلق بها، ويحافظ عليها، ولا ينحدر عنها، ولديه من الاستعدادات والقابليات النفسية والفكرية التي تؤهله لبلوغ هذه المكانة الشريفة.
ويكفي لهذه الصفة وحدها لإثبات أن في القرآن نزعة إنسانية حقيقية، ونفي الحاجة إلى التساؤل الإشكالي والاعتراضي عن هل يوجد نزعة إنسانية في القرآن!
ومن مكونات هذه النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، ما أعلنه القرآن صراحة وبوضوح تام أن كل ما في الكون والطبيعة والحياة من ثروات ومنافع، بأقسامها وأصنافها كافة، هو مسخر للإنسان من أجل رفاهه وسعادته، ومن الآيات التي دلت على ذلك قوله تعالى﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ... 3
وقوله تعالى﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ... 4
وقوله تعالى﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ 5، وإلى جانب الكثير من الآيات الأخرى.
والحكمة من هذا التسخير هو دفع الإنسان وتحريكه نحو الاستفادة من كل ثروات وخيرات عالم الكون والطبيعة، وأنه قادر على النهوض بهذه المهمة، لكن الجانب الأهم هو تحرير الإنسان من قيود الطبيعة واكراهاتها، ومن الخوف والرهبة منها، ولتغيير طريقة التعامل معها من منطق الخضوع والركون والاستسلام لها، إلى منطق التسخير، الذي يعني تطويع الطبيعة والتغلب عليها، وليس الخضوع والاستسلام لها.
كما أن مفهوم التسخير يعني أن الإنسان ليس جزءا من عالم الطبيعة، الأمر الذي يترتب عليه أن لا يكون تابعا أو عاجزا، أو يشعر بالتبعية والعجز أمام الطبيعة، فلا خوف منها، ولا رهبة ولا خضوع ولا استسلام، وإنما العمل والعمل الفعال والمستمر لتسخيرها، وذلك عن طريق اكتشاف قوانينها والتعرف عليها، فلا يمكن تسخير الطبيعة من دون اكتشاف هذه القوانين والتعرف عليها والتمكن منها، وبهذه القوانين يمتلك الإنسان ناصية العلم، وبالعلم يتحرر الإنسان من هيبة الطبيعة ورهبتها، ومن الخضوع والاستسلام لها6.