الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

آفاق التوكل

من الكلمات والمعاني التي جاء التأكيد عليها في القران الكريم ، والإشارة الى أهميتها وعظمتها ، والتي طالما نلهج بها ونرددها على ألسنتنا دون التوجه والالتفاف الى مغزاها ومعناها العميق وآثارها النفسية والاجتماعية .. من هذه الكلمات والمعاني كلمـة " التوكل " ، التي يراد بها التوكل على الله ـ تعالى ـ الذي هو مفتاح كل باب موصد ، وسلم الانسان الذي يعرج به نحو عالم المدنية والرقي والحضارة النزيهة .

التوكل موسوعة كاملة جامعة

صحيح ان التوكل كلمة صغيرة ولكنها في الحقيقة عالم كبير ، وموسوعة علمية مترامية في اطرافها وآفاقها ، وعند التوغل في اعماق معانيها ، وسبر أغوارها سوف نلمس تلك الفوائد العظيمة ، والمكاسب الهائلة التي حملتها هذه الكلمة المباركة ، المتضمنة للمعاني الزاخرة بالعطاء .
وقد جاء في الروايات ان جبرئيل جاء الى النبي (ص) فقال : يا رسول الله ان الله تبارك وتعالى ارسلني اليك بهدية ، لم يعطها احد قبلك . قلت : وما هي ؟ قال : الصبر وأحسن منه . قلت : وما هو ؟ قال : الرضا واحسن منه . قلت : وما هو ؟ قال : الزهد واحسن منه . قلت: وما هو ؟ قال : الاخلاص واحسن منه . قلت : وما هو ؟ قال : اليقين واحسن منه . قلت : وما هو ؟ قال جبرئيل : ان مدرجة ذلك التوكل على الله عز وجل . قلت : وما التوكل على الله عز وجل ؟ فقال جبرئيل : العلم بأن المخلوق لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع واستعمال اليأس من المخلوق ، فاذا كان العبد كذلك ، لم يعمل لأحد سوى الله ولم يرج ولم يخف سوى الله ، ولم يطمع في احد سوى الله فهذا هو التوكل 1 .
فلا عجب ـ اذن ـ ان يتضمن ( التوكل ) موسوعة فلسفية كاملة وجامعة ، وذلك لان هذه الصفة تشتمل على ثلاثة ابعاد رئيسية :

1ـ شحن الانسان بالثقة ، والمعنوية العالية ، والشجاعة لتجاوز حالات الخوف وتحديها

فالخوف حالة متأصلة وغريزة فطرية في الانسان ، فقد نشأت عنده طبيعة الخوف مذ خلق ومكث في الارض ، فبات يخشى الطبيعة ومظاهرها وغرائبها ، وراح يهابها ويحذر منها ، وعند مطالعة التأريخ الغابر نجد مصداق هذا الرأي ، فقد كان الناس يعبدون ويقدسون كل شيء يستشعرون منه الرهبة والهيبة ؛ فالمصريون القدماء كانون يعبدون النيل اتقاء لطغيانه ، وكانوا يقدمون له كل عام اجمل فتياتهم قربانا له .
والعربي ـ ابن البادية ـ راح يعبد الصخور والجبال والشجر ويسجد لها خشية من سطوتها الطبيعية حتى بلغ الامر ببعضهم الى ان يعبد الحيوانات الصغيرة والحشرات ؛ فمنهم من عبد الخنفساء ، واخرون عبدوا الثعابين والفئران وغيرهما ، كما وقدسوا المظاهر الطبيعية كالبحر والصحراء والرعد والبرق والرياح العاتية والاعاصير ، وصنعوا لكل منها الها يناجونه ويسجدون له ، ليتقوا بزعمهم شرور ومخاطر تلك الظواهر الطبيعية ، فقد كانوا يتصورون عند حدوث ظاهرة ما ان الاله المعني بها قد استشاط غضبا عليهم ، وان من واجبهم ان يرضوه بالعبادة والسجود ، وربما بتقديم الاضحية والقرابين ان تطلب الامر ذلك .
وهكذا فان خوف الانسان من الطبيعة جعله يعيش في اطار التفكير الضيق . فكان التوكل على الله ـ تعالى ـ سببا لشحن الانفس بالثقة والشجاعة من خلال رجوعها الى ربها ، واعتمادها عليه ، والاستعانة والاستعاذة به ، هذه الاستعاذة التي هي استحضار لقدرة الله ـ تعالى ـ في الذهن ، لان الحضور الذهني عند تلك العظمة الهائلة التي شملت ووسعت كل شيء في الوجود هو الذي يدفع صاحبه الى تحدي الطبيعة و إزالة جدار الخوف من نفسه .
وللاسف فان الكثير من الناس ما يزالون يعيشون هاجس الخوف الذي يملأ كيانهم ، حتى ان البعض منهم يخشى الظلام ، بل ويخاف حتى ظله ، والبعض من حالات الخوف تهد صاحبها ، وتقضي على البقية الباقية من شجاعته فهم ضحايا الاوهام والتصورات والخيالات واحاديث النفس ،وفي الحقيقة فان الوهم الذي يعيشونه ويبعث فيهم حالة الخوف والرهبة هو الذي يجعلهم يقولون انهم قد رأوا مخلوقات غريبة او اشباحا ، ولا علاج لهذه الحالة سوى التوكل على الله ـ تعالى ـ ، هذا التوكل الذي من شأنه ان يقضي على سطوة الاوهام والخيالات ، وبالتالي ازالة طبيعة الخوف وما يترتب عليها .

2 ـ إزالة وسوسة الشيطان من القلب

يعيش الانسان بطبيعته هاجس الاوهام الداخلية في النفس ، فتراه الى التشاؤم اكثر منه ميلا الى التفاؤل ، وهذه الحالة نابعة من طبيعته الضعيفة فتراه يميل الى الراحة ، ويتجنب المشاق والصعاب ، ويفر من المسؤولية ، ويلجأ الى اساليب التبرير ، والتشاؤم الذي يسيطر عليه هو واحد من اساليب التبرير ، فهو ـ مثلا ـ يتشاءم من مكان معين او حدث ما او زمن معين او ربما من عدد ما او حركة طارئة : فاذا حل ـ مثلا ـ يوم السبت كان يوم نحس فلا عمل ولا بيع ولا شراء ولا زواج فيه ، ولعل اليهود هم مصدر مثل هذه العقائد الخرافية البالية ، فهم يتشاءمون كثيرا من يوم السبت فيسبتون فيه ولا يعملون ولا يبيعون ، فجاء الاسلام ليدحض مثل هذه الخرافات حتى ورد في الحديث الشريف : " بورك لأمتي في سبتها وبكورها " .
والقران الكريم يشير بدقة الى هذا الموضوع ، فقد جاء في بعض سياقه المبارك ردا على زعم المتطيرين والمتشائمين الذين توعدوا الانبياء والصالحين بالتطير ان هم لم ينتهوا عن دعوتهم قائلين :
﴿ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ 2.
فالتطير والتشاؤم كانا جزء من كيان هذه الفئة من الناس ، وكان الاعتقاد بالمنحوسات متغلغلا في اعماق نفوسهم ، وتوجد هنا حقيقة لابد من الاشارة اليها وهي ان التفكير في الشيء ، واخذ الصورة عنه سرعان ما ينعكسان على الواقع ، فالذي يعتقد ان امرا ما هو منحوس و مشؤوم فانه سيصبح بالفعل كذلك ، والحكمة تقول : " تفاءلوا بالخير تجدوه " .
فالانسان الذي يخرج من بيته او محل عمله وفي نفسه شيء من الهم والغم والتشاؤم فانه على الاغلب سيتعرض الى مكروه يصيبه ، وعند وقوع هذا المكروه ستتعزز عنده العقيدة التشاؤمية وايمانه بمثل هذه الاوهام التي مهدت لوقوع المكروه ، في حين ينبغي على الانسان المؤمن ان يسلك في معتقداته وافكاره السبل التي رسمها القران الكريم ، وان ينظر الى معالم الحياة وآفاقها ببساطة ووضوح ، وقد روي عن النبي (ص) انه كان يصبح على اصحابه ويسألهم : الا هل من مبشر ؟ ، حتى وان كانت هذه البشرى حلما رآه احد في منامه .
والغريب في الامر ان نجد بعض الناس غارقا في التشاؤم حتى في رؤى الخير واحلامه ، فهو يبادر الى تفسير مثل هذه الرؤى تفسيرا تشاؤميا ، فيزيد بذلك من بؤس وظلام عالمه المتشائم ، ومعظم هؤلاء ـ ان لم نقل جميعهم ـ هم من ضعفاء الايمان ، وقليلي الثقة بالله ـ سبحانه ـ ، فهم غافلون عن رحمته التي وسعت كل شيء ، ولذلك فان ديدنهم هو تلبيد سماء المجتمع بالغيوم والسحب السوداء ، ولا يتفوهون الا بما يبعث الاشمئزاز في النفس ، ولا يعرفون التعابير التي تبعث البهجة والمسرة بين الناس في الوسط الاجتماعي ، وخلاصة القولفأن حياتهم مليئة بالسلبية في كل جوانبها ، السلبية الباعثة على التثبيط والخمول والشلل في مسيرة الحركة الاجتماعية نحو الرقي .

التوكل مبعث التفاؤل

وعلى هذا فأن التوكل على الله يزيل مثل هذه الصورة السلبية من المجتمع الانساني المؤمن ، وهو مبعث التفاؤل والخير والازدهار ، وهو السلاح الفعال الذي يقف في مواجهة اوهام الفشل واشباحه ، فحينما يعشعش وهم الفشل في عقلية الانسان الضعيف في ايمانه ، فان هذا الوهم لوحده سيمهد لنصف الفشل الحقيقي ، فحين تطلب من هكذا انسان القيام بعمل معين يتطلب بعض العناء والجهد ، تراه يخاف ويتردد في الاقدام عليه ، ويتقاعس عنه ، كل ذلك بوحي من اوهام السقوط والفشل ، ومثل هذا الانسان يفشل بالفعل لانه هو الذي مهد لفشله بأوهامه ، فكانت فسيلة الفشل التي غرسها في بستان حياته الجافة الميتة ، في حين انه لو كان مؤمنا حقا ، وذا عزيمة ، وتوكل على الله لنجح بالتأكيد في انجاز ما خاف منه .
ومن هنا كان الخوف من الفشل نصف الفشل في الحياة ، ووهم الفشل هو ـ بحد ذاته ـ صورة من صور وسوسة الشيطان في قلوب الناس ، وحديثه مع النفس الانسانية . فلابد ـ اذن ـ من افشال اسلوب الشيطان هذا بالتوكل على الله العزيز .
وعلى هذا فان التوكل يطرد من النفس الانسانية المخاوف والاوهام والوساوس الكامنة فيها ، ويفتح امامها آفاق التحرك الواسعة .

3 ـ ربط القلب بالقوة الرحمانية

البعد الثالث في التوكل هو ربط وشد قلب الانسان بقوة الرحمان وقدرته اللامحدودة ، فالرافد قد يبقى صغيرا ولكنه يقوى ويعظم حين يتصل بالبحر الممتد مع الافاق ، وكذلك هو حال الانسان فلا ريب انه مخلوق ضعيف في بنيته وكيانه ، محدود في طاقاته ، ولكنه سرعان ما يقوى ويتسع في طاقاته وآفاقه ، وتتذلل امامه العظام من الامور ، وتنحني له الطبيعة طائعة مسخرة عندما يتصل ببارئه الازلي الذي لا تحده حدود ، ولا تنتهي قدرته ، ولا يقهر سلطانه وجبروته ، ومثل هذه القدرة كمثل ذلك البحر ، فلابد للانسان من ان يتصل بهذا البحر العظيم ؛ بحر القدرة الالهية الذي لا يحده شيء .
ولا يمكن ان يتحقق هذا الاتصال الا بجسر التوكل ، وهذه هي حقيقة التوكل التي تعني ان يخرج الانسان من حوله وقوته المحدودتين ليدخل عالم الحول والقوة الالهيتين ، ولذلك جاء تأكيد الاسلام على بدء الافعال والنشاطات والحركات الحياتية بذكر الله المعـروف بـ ( البسملة ) في كل صغيرة وكبيرة ، فلابد من ابتداء كل عمل بالاسم الجليل المبارك والصفة التي هي احب الصفات اليه ـ سبحانه ـ الا وهي صفة الرحمان الرحيم .
وقد جاء في بعض الروايات التأكيد على استحباب ترديد ذكر " بسم الله الرحمن الرحيم ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم " سبع مرات في اليوم بعد صلاتي الصبح والمغرب ، وتفيد الروايات الشريفة ان هذا الذكر اذا ما ردد على اللسان بعقيدة نابعة من القلب فانه سوف يجنب صاحبه من الاصابة بالعمى والعاهات المستديمة حتى نهاية حياته ، والسبب في ذلك ان هذا الذكر المبارك ـ كما تشير الى ذلك الروايات ـ هو اقرب الاذكار الى الله ـ سبحانه ـ لتضمنه معنى التوكل عليه ـ تعالى ـ وهو ان مالدي من حول وقوة لم يكنمني بل منه ـ سبحانه ـ .

أمير المؤمنين (ع) مثال التوكل

ولعل اقرب وافضل مثال للتوكل يمكن ان نضربه من التاريخ الاسلامي يتمثل في امير المؤمنين (ع) أبان عهد رسول الله (ص) ، فحينما توجه (ص) اليه ( ع) مناديا اياه : يا علي ، كان الجواب اسرع من البرق : لبيك يا رسول الله ، ولا غرابة في ذلك فقد كان علي (ع) خير المتوكلين على الله بعد النبي (ص) ، ثم بعد ذلك امر النبي عليا ان يذهب ويأخذ سورة البراءة من ابي بكر في المدينة المنورة ، فاخذها (ع) وتلاها على مشركي قريش والعرب ، وكانت هذه الواقعة ايام حج بيت الله الحرام .
وعلي (ع) هو انسان لا يختلف في البنية التكوينية عنا ، فهو مثلنا محدود مهما بلغت قوته الجسمية ، ولكن سر قوته وطاقته الهائلة وشجاعته يكمن في ايمانه بالله ـ تعالى ـ ، وتوجهه واعتماده واتكاله عليه ، وقد وصل حوله وقوته بحول الله وقوته . وهناك موقف اخر له (ع) سبق الموقف السابق الا وهو المبيت على الفراش الذي لايمكن ان ينكـره منكر ، فقد خاطب حبيبه رسول الله (ص) : او تسلمن بمبيتي هناك يا نبي الله ؟
قال : نعم .
فتبسم علي (ع) ضاحكا ، واهوى الى الارض ساجدا ، شكرا لما انبأه به رسول الله (ص) من سلامته 3 .
فتوكل بذلك على الله متحديا سيوف قريش التي ارادت الكيد والغدر برسول الله (ص) ، وليس هذا الموقف عجيبا من ابن ابي طالب الذي انصهر بكل كيانه و وجوده ، وذاب في الذات الالهية .
من كل ذلك يتضح لنا ان الانسان بمقدوره ان يسلم امره لله ـ تعالى ـ اذا ادرك ووعى كيف يرتبط ويندمج بقدرة الله ـ عز وجل ـ ومثل ذينك الموقفين لعلي (ع) هما من جملة الاف الامثلة التي عاشها في كل لحظات حياته ، ولا يمكننا تفسيرهما الا بالتوكل على الله ـ تعالى ـ ، وهما قمة هذا التوكل ، واعلى درجاته .

التوكل يفتح الافاق الخيرة

وعندما يتكل الانسان على الله ، ويجعل كل ثقته به ، لابد ان تنفتح امامه الافاق الخيرة ، لينطلق في رحاب الحياة بتفاؤل ونشاط وحركة مثابرة ، ولابد ايضا ان تتفتح مواهبه العقلية ، وافاقه الفكرية ، ويتمتع بالرؤية السليمة في الحياة . والسياق القراني في سورة يونس يعكس حال مجموعة مستضعفة من بني اسرائيل استضعفهم واذلهم فرعون الطاغي بملكه وامواله ورجاله واتباعه من السحرة في البلاط ، لا لجرم سوى ايمانهم بموسى (ع) ، فيقول السياق طارحا جانبا من حالهم :
﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ 4.
فالذين آمنوا لموسى هم بعض قومه والفئة القليلة منهم وقد وصفهم السياق القراني بأنهم " ذرية من قومه " ، فلم يؤمن كل بني اسرائيل ، وهذه القلة التي آمنت كان ايمانها ممزوجا بالخوف من فرعون وسطوته ، والخشية من ساداتهم وكبرائهم ، وزعماء قبائلهم الذين يشير اليهم السياق بـ ( الملأ ) .
وقد كان خوفهم هذا نابعا من تهدد مصالحهم المرتبطة بالطاغية وحاشيته ، اضافة الى جبروت فرعون وظلمه وجوره الذي تشير اليه الاية بقوله ـ تعالى ـ : " وان فرعون لعال في الارض ، وانه لمن المسرفين " ، فهذا الطاغية كاد يستولي على كل شيء فضلا عن القوة والمال والغنى , وهنا يأتي الامتحان الالهي على لسان موسى (ع) اذ يقول لهم : ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ 5.
ويتمثل هذا الامتحان في التوكل ، فهو محك الايمان والعقيدة بل وذاتهما المجسدة ، فالانسان انما يثبت ايمانه من خلال توكله على الله ـ تعالى ـ ، والتسليم له ، وحينئذ لايعود يهاب المعضلات والصعاب ، وقوى الكفر ، فليس للانسان ان يدعي الايمان والتسليم ان لم يكن يحمل روح التوكل على الله والثقة به التي تبعث فيه الشجاعة والاقدام ، فكان جواب تلك الثلة المؤمنة القليلة ان قالت :
﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ 6.
فهذه الكلمة ـ كلمة التوكل ـ التي هي اثقل ما في ميزان الجزاء يوم القيامة عندما اذعنت لها قلوب مؤمنة صادقة عندئذ تهاوت صخور المعضلات ، وذابت الصعاب ، وهانت المشكلات ، ومن ثم تهاوت الاصنام والقوة الاستبدادية الجائرة ، هذه الكلمة اقر بها المؤمنون من قوم موسى فكانت بداية السقوط الفرعوني ، واندثار عهد الجور والطغيان ، لان عقد الخوف والاوهام زالت من عقولهم ، ولم يعودوا يتشاءمون من الايام والساعات والاشهر حيث غدت كلها جهادا ونشاطا وعملا دؤوبا لمقارعة الجور والظلم والاستعباد ، لقد توكلوا على الله ـ تعالى ـ ، واتجهوا اليه بالدعاء يستلهمون منه القوة والعزم والعناية والتدبير .
وفي هذا السياق الكريم نكتشف علائق تربط بين التوكل والدعاء ، فهما يبدوان في السياق مترابطين متلازمين حيث يبدو الدعاء عمقا للتوكل ؛ اي انك ان اردت وعزمت التوكل على الله فلابد ان تعمر قلبك بالدعاء دائما .

ضرورة اقتران التوكل بالعمل

ثم ينتقل السياق ليطرح جانبا من التخطيط للعمل والحركة في مواجهة فرعون وملئه وطغيانهم ، فيقول ـ تعالى ـ : ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 7، اي ان التوكل ليس معناه ان تقول توكلت على الله ثم تركن الى زاوية في بيتك ، وفي هذا المجال يروى ان رجلا جاء الى الرسول (ص) ليجلس في مجلسه ، ويستمع الى درره الشريفة ، وكان لديه جمل ، فقال : يا رسول الله اعقلها واتوكل او اطلقها واتوكل ؟
قال : اعقلها و توكل 8 .

الفرق بين التوكل والتواكل

وهنا لابد من الاشارة الى مفارقة في معنى كلمة التوكل ، وكلمة التواكل ، فليست الاولى كالثانية ، فالتوكل هو الفاعلية والحيوية والعطاء ، بينما التواكل يعني التقاعس والخلود الى الراحة والنوم والجلوس في البيت ، ومن هذا التواكل ما يعكسه لنا القران على لسان قوم موسى في قوله : ﴿ قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ 9، وهذا المنطق مرفوض في الاسلام والقران ، فشتان ما بين المعنيين ؛ التوكل والتواكل ، فقد كان الامر الالهي ان يجعلوا بيوتهم متقابلة ، ويقيموا فيها مجتمعهم الايماني بعيدا عن مجتمع فرعون الوثني :
﴿ ... وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 7.
فالصلاة والتأكيد والمواظبة عليها كل ذلك ينم عن الحيوية والخير والبشرى وتحقق الامال العظام ، وتفتح آفاق العمل والحركة والنشاط ، وعندما اتبعوا هذا النهج ذاعت كلمتهم وانتشرت ، وقويت شوكتهم حتى كانت لهم السيادة في الارض بعد هلاك فرعون وجنوده .
من هنا يجدر بكل من يحمل راية العمل في سبيل الله ان يعتبر من ذلك كله وان لا تثبط عزيمته وسعيه الجهادي تلك التراجعات البسيطة ، والتعثر المحدود في المسيرة ، وان حدث ذلك فيجب ان لا يتحول الى تراجع نفسي خطير امام المشاكل والصعاب ، وفي الوقت ذاته يجب ان لا يصيبنا داء الغرور عندما نجني بعض ثمار النصر لان هذا النصر انما هو من الله ـ تعالى ـ وبقوته لا بقوة انفسنا وحولها .
ومادمنا واثقين به ـ سبحانه ـ ، وسلطانه اللامتناهي فلايجب ان ننهزم نفسيا عندما نمنى بنكسات . بل يجب ان نواصل العمل والجهاد لأننا مؤمنون بالله ومتوكلون عليه ، وهذا هو محك التوكل الحقيقي وهو عدم الانهزام النفسي والروحي .
وعلى هذا يجب ان لا تموت هذه الروح فينا وتغادر انفسنا حتى في احلك الظروف ، واقسى الحالات ، فيجب ان يبقى املنا بالله حيا وان كبلنا بالاغلال ، وقطعنا بسيوف الحقد ، فالذي يتوكـل على الله حقا تذلل امامه كل الصعاب ، ويعيش ويموت شجاعا متحديا اياها 10 .