الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

أيّها الوجهاء!! ... مَنْ منكم وجيهٌ حقاً ؟

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في البدء ولكي تكون الإجابة صحيحة نحتاج إلى معرفة مَنْ هو الوجيه؟ لكي نميز بين الوجهاء الذين يسعون جاهدين أنفسَهم، ويعطون من ذواتهم لإصلاح حياة الناس، وبين الذين يتسلقون الوجاهة على آهات وآلام وجراحات وجماجم الناس المستضعفين، ولكنهم أذيال وعبيد أمام السلطة الطاغية، ومن خلال تلك المعرفة، وذلك التمييز، نعرف أيضاً أصول الوجاهة، والدور الملقى على كاهل الوجيه.

مَنْ هو الوجيه؟

الوجيه مشتق من الوجه، وهو وجه المجتمع وواجهته ووجهته. وكلمة الوجه تختزل معانياً لطيفة، وتحمل ظلالاً عميقة، تحدِّد شخصية الوجيه وحقيقته. ومن تلك المعاني اللطيفة:

أولاً: أن الوَجه هو: صاحب الجاه

ورجل ذو وجه: أي ذو جاهٍ وقَدْرٍ.

وَجُهَ يَوجُه وَجاهة: صار وجيهاً، وصار ذا قَدْرٍ ورتبة، فهو وَجِيه، وجمعه وُجَهاء، وللمرأة وجيهة، وجمعها وِجَاه.

وبما أن الوجه هو العضو الأعلى والأرفع في الإنسان، فالوجيه هو الإنسان الأعلى والأرفع في المجتمع لأنه هو الذي يعطي من نفسه الكثير للمجتمع، فيتبوأ مقاماً سامياً محموداً في قلوب المجتمع، فضلاً عن ما تلهج به ألسنتهم بذكره الطيب، فيصبح ذا قدْرٍ عالٍ، ورتبةٍ رفيعةٍ في المجتمع.

فالوجيه هو صاحب المقام الرفيع في المجتمع، لأنه يترفع عن صغائر الحياة، وسفاسف الدنيا، ويترفع عن كل خلق ذميم.

والوجيه هو صاحب الرتبة العالية، لأنه يمتاز بهمة وأهداف عالية، ويتحلى بمكارم الأخلاق، ويتطلع دائماً وأبداً إلى المعالي من الأمور.

والوجيه هو صاحب القدر السامي، لسمو فكره وعمله، وثقافته وسلوكه، ورؤاه ومواقفه، وأقواله وأفعاله، ولسمو قلبه وضميره، فضلاً عن شخوصه وظاهره، ولسمو لسانه ونفسه عن الفواحش والقبائح والرذائل.

ولقد حظي بهذا القدر العالي نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، وارتقى الرتبة الرفيعة، وبلغ المقام السامي في الدنيا والآخرة، ومثَّل النموذج الطيب للوجيه، وحقق القدوة الصالحة للوجاهة، وجسد الأسوة الحسنة للوجيه والوجاهة. قال الله تبارك وتعالى ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ 1 .

ووَجْه القوم هو: سيدهم، وشريفهم، والجمع وُجُوه.

والوَجيه هو: ذو الجاه، وسيد القوم، والجمع وُجَهاء.

والوَجَاهَة هي: الجاه، والسيادة، والشرف، والحُرْمة.

فالوجيه هو الإنسان الذي تحرر من عبودية جبت الهوى، وطواغيت التسلط، فتعالى على صغائر الأمور، ووضيع الحياة، فصان نفسه من رذائل الدنيا، متبعاً لفطرة العقل، وملتزماً بمباني العقلاء، ومسترشداً بوحي الرسالة، وشريعة السماء، فكرس جهده وإمكاناته ومقامه السامي لخدمة المجتمع وصلاحه، ومعالجة مشاكله، وحلحلة معضلاته، وفكِّ نزاعاته، فأصبح سيداً مستقلاً في أقواله ورؤاه وثقافته وأفكاره، وشريفاً شامخاً في أفعاله ومواقفه وسلوكياته وأعماله، وطاهراً نقياً في ذاته، فسيادته وشرفه وحرمته منبعثة من عفةِ نفسه، وطهارةِ قلبه، وصدقِ لسانه، وإن جهله المجتمع، ولفَّق عليه قول الزور، والتهم الباطلة، والدعاوي المزيفة، ولكنه مبرئ عند الله ووجيهاً، كما هو نبي الله موسى عليه السلام. قال الله تبارك وتعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ 2 .

ثانياً: أن الوجه هو: الصحة، والاستقامة، يقال ليس لكلامه وجه.

وأحسن القوم وجها: أحسنهم حالاً، لأن حسن الظاهر يدل على حسن الباطن.

بيَّض الله وجهه: يقال لمن فعل فعلاً يُحْمد عليه.

سوَّد الله وجهه: يقال لمن فعل فعلاً يلام عليه.

فالوجيه هو أحسن الناس حالاً في اللسان والقلب، وفي الأقوال والأفعال، وفي الرؤى والمواقف، وفي الثقافة والسلوك، وفي الأفكار والأعمال، ظاهراً وباطناً، لأنه يتبنى المعتقد السليم شرعة، ويلهج بالمنطق الصحيح منهاجاً، ويعتمد الدليل القاطع في الشرعة مصدراً، ليتيقن سلامة معتقده، ويتخذ البرهان الساطع في المنهاج مرجعية، ليفقه صحة منطقه، ولذلك تكون أفكاره وثقافته ورؤاه وأقواله عند أهل العقل والفقاهة حميدة، وأعماله وسلوكياته ومواقفه وأفعاله عند أهل الرشد والرشاد محمودة. فأياديه العملية بيضاء من بياض وجهه، وثيابه الفكرية طاهرة من طهارة قلبه، وأفعاله ومواقفه وسلوكياته وأعماله رشيدة من رشد أقواله ورؤاه وثقافته وفكره.

ثالثاً: أن الوجه: من الكلام السبيل الذي تقصده به.

التَُِجَاه – بضم التاء وكسرها وفتحها - :الوجه الذي تقصده.

والجِهة والوِجْهَة: الجانب والناحية والموضع الذي تتوجه إليه وتقصده، وكل مكان استقبلته، والقبلة وشبهها. فالوجه من كل شيء مستقبِلُه. قال الله تبارك وتعالى ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ 3 .

والوجه هو الذي يحدد الوجهة للمسار، ويحدد الاتجاه للطريق لبقية أعضاء الجسد.

فالوجيه هو مقصد المجتمع، وقبلة الأشراف، وكعبة الأحرار، وحصن المستضعفين، حيث يتوجهون إليه دائماً، ويقصدونه باستمرار، لاستمداد العون، واستلهام القوة، واستجلاء الرأي السديد، والموقف الرشيد في الفكر والعقيدة، وفي السياسة والاقتصاد، وفي النفس والاجتماع، وفي السلم والحرب، وفي الرخاء والشدة، وفي كل مجالات العلوم الإنسانية، للتحصن من الخطل والزلل.

والوجيه هو بوصلة المجتمع، لاستخلاص الدروس من حوادث الماضي وتقييمها، وتشخيص وقائع الحاضر وتقويمها، واستشراف حقائق المستقبل وإقامتها.

والوجيه هو بوصلة الحياة، لكل القضايا الكبرى، والأمور المعضلة التي تحيط وتقع في المجتمع.

والوجيه هو الذي يحدد الوجهة للمسار السليم، وللهدف الصحيح، ويحدد الاتجاه الصائب، والطريق الثاقب للرضوان الإلهي الخالص من الشوائب، وللحراك الاجتماعي نحو استرداد الحقوق، وتحقيق المطالب.

رابعاً: أن الوجه: من النجم ما بدا لك منه، ومن الثوب والمسألة ما ظهر لك منهما.

والوجه هو: كل مظهر من المظاهر التي يبدو فيها سيَّار للنظر خلال دورانه، ولذا يقال أوجه القمر.

والوجيه مشتق من الوجه. والوجه هو العضو الظاهر والشاخص للإنسان، فالوجيه في المجتمع هو ذاك الإنسان الذي يكون له وجود ظاهر، وظهور شاخص، وشخوص فاعل، وفاعلية إيجابية في الشؤون العامة، والقضايا المصيرية، والآلام النفسية، والأزمات الاجتماعية.

والوجيه دائم الظهور لتلقي السهام والنبال، دفاعاً عن المجتمع وقيمه ومبادئه ومصالحه، وجميع شؤونه وقضاياه العامة والخاصة.

والوجيه هو البلسم الذي يداوي جراحات المجتمع. وكلما اشتد الظلام ازداد الوجيه نوراً وضياءً وسطوعاً، وكلما تفاقمت الأزمات ازداد الوجيه ظهوراً وشخوصاً وحضوراً، وكلما خمدت الأصوات، وأخرست الألسن صدع الوجيه بصوت عالٍ يملأ الآفاق تغريداً.

فالوجيه هو مَنْ يكون في الأزمات حاضراً غير غائب، فلا يحتجب عن المستضعفين، ولا يتوارى عن الناس، ولا يعتزل المجتمع، ولا يختبئ عند النوازل، ولا يتخفى عند المصائب، ولا يتخلى عن مسؤلياته، ولا يتلكأ في حركته.

خامساً: أن الوجه: من البيت الجانب الذي يكون فيه بابه.

والوجه: ما يُقْبِل من كل شيء، فوجه الدهر أول الدهر ووجه النهار أول النهار. فالوجه هو أول ما يبدو للناظر من البدن، والوجه هو أول ما يواجهك من الرأس وفيه العينان والفم والأنف.

فالوجيه هو البوابة الاجتماعية المؤصدة التي تؤصد أمام الأعداء، وتمنعهم من الدخول إلى المجتمع، فضلاً عن التغلغل في أوساطه.

والوجيه هو البوابة الاجتماعية المشرَّعة للأصدقاء للدخول والولوج إلى كل فئات المجتمع، وجميع أفراده.

والوجيه هو أول مَنْ يتصدى لقضايا المجتمع وشؤونه، فهو أول مَنْ يتصدى للتغيير، ولا يأبه بالمتحجرين، وهو أول مَنْ يسعى للإصلاح، ولا يخشى المفسدين، وهو أول مَنْ يقارع الفساد، ولا يعبأ بالمثبطين، وهو أول مَنْ يبادر لفعل الخيرات ولا ينتظر الشكر من الآخرين، وهو أول مَنْ يعمل الصالحات، وهو أول مَنْ يأمر بالمعروف، وهو أول مَنْ ينهى عن المنكر، وهو أول مَنْ يقارع الظلم، وهو أول مَنْ يقف أمام الجور، وهو أول مَنْ يواجه البغي، وهو أول مَنْ يتحدى الطغيان، وهو أول مَنْ يصدَّ العدوان، وهو أول من يخاصم الظالم، وهو أول مَنْ ينتصر للمظلوم، ولذلك تجده دائماً وأبداً في صدارة المجتمع، وتراه السَّبَّاق للدفاع عن المجتمع، وقيمه السامية، ومبادئه العالية، وحريمه القدسية.

والوجيه هو الحصن والمتراس الذي يحمي ويصون المجتمع من الآفات والزلات والنكبات.

سادساً: أن وجه الشيء: نفسه.

ووجوه القرآن والكلام معانيه.

والوجه هو: القلب.

فالوجيه هو وجه المجتمع، وصورته الصافية من اللوث، ومعدنه الخالص من الشوائب.

والوجيه هو عقل المجتمع البصير بكليات الحياة، وسنن التكوين، وموازينهما العقلية، وثوابت التشريع، وأصول الفكر، وتأصيلاتهما العلمية، والخبير بجزئيات الحياة، وعِبَر التكوين، وشواهدهما الحسية، ومتغيرات التشريع، وفروع الفكر، وتفريعاتهما العملية.

والوجيه هو قلب المجتمع المولد لأفكاره المعرفية، والمنتج لرؤاه الثقافية، والمدبر لأموره الحياتية، والدال لمواقفه المصيرية، والمفكر لمستقبله الزاهر.

والوجيه هو ضمير المجتمع المفعم بالإحساس اللطيف، والمليء بالمشاعر المرهفة.

والوجيه هو نفس المجتمع، فهو لسانه الصادق، وضميره الناطق، وقلبه الطاهر، وروحه الملتهبة.

والوجيه هو الإنسان الذي يحمل نفس آلام المجتمع، ونفس جراحاته، ونفس همومه، ونفس تطلعاته المحقة، ونفس أهدافه المشروعة، ونفس حاجياته الضرورية، ونفس رغباته الكمالية.

والوجيه هو قلب المجتمع النابض بالكرامة والعدالة والحرية، المتدفق بالعطاء والحركة والحيوية.

سابعاً: وجَّهَ: انقاد واتَّبع.

وجَّه الناسُ الطريق: وطئوه وسلكوه.

فالوجيه هو الموجه الاجتماعي الذي ينقاد له المجتمع ويتبعونه، لاسترداد الكرامة الإنسانية، وتحقيق العدالة الشاملة، ونيل الحرية الراشدة، وإيجاد الأمن العام.

والوجيه هو قناة المجتمع التي يسلكها جميع الأفراد والفئات الاجتماعية للعبور من ضفة الخوف والتردد والضعف والعجز إلى ضفة الشجاعة والإقدام والقوة والقدرة.

والوجيه هو الجسر الذي يطؤه المجتمع ليعبر نهر أزمات الحياة، ومصائب الدنيا، ونوازل الدهر، ومن دون السقوط في أوحالها ومستنقعاتها.

وانطلاقاً من تلك المعاني اللطيفة يتضح لنا بجلاءٍ ظاهرٍ معنى الوجاهة وحقيقتها، وندرك أهميتها في المجتمع، وأنها تعكس المقام السامي الرفيع، والدور الريادي المسؤول للوجيه، مما يجعله شخصية متميزة في المجتمع، لها وقارها (ثقلها) الإنساني، وعطاؤها الاجتماعي، وحضورها الفاعل.

ودائماً ما يشار إلى الوجيه بالبنان، ويلجأ إليه في النوائب، لحل المعضلات التي تعصف بالمجتمع، لاستجلاء الرؤية الثاقبة، ومعرفة الرأي الحصيف، واتخاذ الموقف الرشيد، والقيام بالعمل السديد، لما يمتلك من خبرة في التفصيلات الجزئية اليومية، وبصيرة في الكبرويات الكلية التي تستخلص من سنن الكون عبر الوحي، وتكتشف من تجارب الحياة عبر العقل.

فالوجاهة سنام رفيع، ومقام سامٍ، وشرف عظيم. والأجدر بالمجتمع أن لا ينازع الوجاهة أهلها. ويجب على جميع أفراد المجتمع أن يَدَعَ هذه الوجاهة، ويُسلِّم هذا المقام السامي، ويؤدي هذه الأمانة الإلهية إلى أهلها، امتثالاً واستجابة لقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 4 .

والوجاهة من أكبر الأمانات. ولا يحق ولا يجوز لغير أهلها أن يدَّعيها لنفسه، ويغتصبها من أهلها القادرين عليها المتمكنين منها. نعم قد يكون الإنسان بما يمتلك من مؤهلات علمية وفنية، وبما يسديه من خِدْمات لمجتمعه مكملاً ومعيناً ومشاركاً للوجيه في أدواره دون البلوغ لمرحلة الوجاهة، وقد يكون الإنسان يسير على الدرب في طريق الوجاهة مبتدءاً بالحراك الوجاهتي في الثلث الأول من الطريق ليتعلم ويتقن ألف باء الوجاهة، أو متوسطاً في ثلثه الثاني ليستكمل حالة الرشد للوجاهة، أو مرتقياً ثلثه الأخير بانياً لحالة الأشد للوجاهة، أو على وشك نهاية الطريق مقترباً من حالة الاستواء للوجاهة، وقد يوفق الله الإنسان للوجاهة، ويبلغ حالة الأشد والاستواء الوجاهتي، ويستحق أن يسمى وجيهاً حقاً بجدارة واقتدار واستحقاق، وكل هؤلاء الوجهاء ومَنْ هو في الطريق يستحقون الاحترام والإجلال والإكرام والمحبة والود ما داموا ملتزمين ومتمسكين بالقيم الرسالية، ومتفانين في خدمة المجتمع بكل أطيافه، ومتعالين على محورية الذات والأنا، وبعيدين عن استغلال قضايا المجتمع لتسلق الذات لتحقيق الطوامح النفسية.

ولكن قد لا يكون الإنسان أهلاً للوجاهة، أو أنه غير مؤهلٍ لها، ولكنه ممن يتظاهر بها، ويدَّعيها لنفسه، ويزعمها لذاته ظلماً للناس، وبغياً في الأرض، وعلواً على الغير، وغروراً في النفس، واستكباراً على الحق، ولذلك لا غرابة أن نرى مع الأسف أن كثيراً ممن ركب صهوة الوجاهة لم يكن من أهلها، ولا يملك مؤهَّلاً - ما يؤهله - للوجاهة ولا رصيداً، وليس له حظ ولا نصيب من الوجاهة، وما كان ليتمكن من ركوبها لولا امتلاكه السلطة، أو المال، أو المنصب، أو العلم المهني بلباسِ الدين، أو بلباسٍ غيره، أو العلاقات، أو العمالة، أو الإرث الأسري، أو القدرة الوهمية في شأن - ما - من الشؤون الاجتماعية، أو السياسية، أو الثقافية، أو غيرها.

ولذا حتى لا يخدع الإنسانُ نفسَه، كمن يحيك الكذب على الآخرين، ثم يصدق كذبتَه، كان من الضرورة بمكان أن يطرح السؤال الذي عنون به المقال:

أيها الوجهاء!! ... مَنْ منكم وجيهٌ حقاً؟.

فهل أنت وجيه حقاً؟ أم متطفل ومتطاول على الوجاهة؟

هل أنت وجيه باقتدار؟ أم وجاهة ورثتها من أبيك؟ والوجاهة الحقيقية لا توَرَّث.

هل أنت وجيه للمجتمع؟ أم وجاهة سلطة طاغية غاصبة لحقوق المجتمع وهبتك فتاتاً تنسج به قناعاً من الوجاهة التي هي (أي السلطة) لا تملكها؟ ولكن وهب الطاغي ما لا يملك.

هل أنت وجيه بمكارم الأخلاق؟ أم وجاهة مالٍ جُمع على حساب القيم والمستضعفين؟ والحال أنه ما جاع فقير إلا بما متِّع به غني.

هل أنت وجيه عند الله؟ أم هي وجاهة مهنةٍ أو فنٍّ أو علمٍ ألبست لباس علم الشريعة نفاقاً، أو لباس فن الحياة بادعاء الأدب مقلوباً، أو لباس مهنة التكنوقراط بزعم الفنون العلمية منكوسة؟ ولكن سماه أشباه الناس عالماً، أو أديباً، أو دكتوراً.

هل أنت وجيه بالقيم والمبادئ؟ أم هي وجاهة بطشٍ وغلبةٍ، فرضتها سلطة القوة على المجتمع الضعيف كيف ما كان؟ لأن المجتمع الذي يرفض قوة الحق لا ريب سيغرق في تيه القوة.

فيا أيها الوجهاء... مَنْ منكم وجيهٌ حقاً؟

وهل أنتم وجهاء حقاً؟ أم متطفلين ومتطاولين على الوجاهة؟

فهل وجاهتكم وجاهة حقيقة مؤسسة على حقائق الوجاهة من التقوى والرضوان الإلهي؟ أم هي وجاهة دعاوي تأسست على دعاوي وأوهام الوجاهة على شفا جرف هارٍ؟. يقول الإمام الحسين عليه السلام: (إلهي من كانت محاسنه مساوئ، فكيف لا تكون مساوئه مساوئ. ومن كانت حقائقه دعاوي، فكيف لا تكون دعاويه دعاوي).

هذا سؤال موجه إلى كل مَنْ يَدَّعي الوجاهة في المجتمع، أو يشار إليه بالبنان أنه وجيه اجتماعي، وأخص منهم مَنْ يتداخل مع السلطة السياسية، أو الأمنية، بلباس ديني، أو شعار سياسي، أو غطاء اجتماعي، أو غير ذلك، مبرراً دخوله بالمصلحة الاجتماعية والدينية.

ولذلك من حق المجتمع ومن الرشد والحكمة والعقل أن يسأل المجتمعُ هل هذا الإنسان وجيهٌ حقاً؟ وهل هو لسانُ المستضعفين؟ أم هو بوقُ زورٍ، وعبدٌ ذليلٌ، وذيلٌ حقيرٌ للطاغي؟. ولكنه يستضعف المجتمع، ويتسيَّد على المستضعفين، فكثيرٌ - وليس الكل - ممن يدَّعي ويزعم الوجاهة ما هم إلا أبواقُ زورٍ للطغاة، وعبيدٌ لهم، حيث اتخذوا الطغاة آلهة لهم لعلهم بعزة الطغاة - كما يتوهمون - يتسيدون على المستضعفين من المجتمع، ويحققون تطلعاتهم الوهمية، وطموحاتهم الشيطانية، وينتصرون على مَنْ ينافسهم الزعامة والتسلط على الناس، ويتغلبون على أزمات ومعوقات الحياة التي يصنعها الطاغي. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ ... وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ 5 .

والحال والحقيقة أن العزة لله جميعاً، وليس للطاغي فيها ذرة من خردل. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ 6 .

ومَنْ يريد العزة فإن العزة جميعاً لله، وعند الله، وفي شرعة السماء، ومنهاج الرسالة. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ 7 .

ولن تتحقق العزة إلا من العزة الإلهية ولا يمكن تحقيق ذلك إلا حينما تستوحِي العزة شرعتها من الشرعة الإلهية، ولن توجد العزة إلا بالعزة الإلهية ولا يمكن تحقيق ذلك إلا حينما تتخذ العزة منهاجها من المنهاج الإلهي، فمن العزة الإلهية وبالعزة الإلهية يعتز المؤمنون. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ 8 .

إن كل مَنْ يَزعُم الوجاهة ويتسلق صهوة جيادها، وهو ليس لها بأهل، سيتمرمر في عقدة وداء انفصام الشخصية، التي تقلبه في شخصية مزدوجة في تيه وضلال الازدواجية الشخصية المتلونة بالكذب والنفاق، فهو يراقب الحراك الاجتماعي ضد الطاغي في صعوده ونزوله، في تقدمه وتراجعه، في إقدامه وتقهقره، في انتصاراته وهزائمه، وذلك لاستغلال الأحداث، وسرقة جهود المخلصين، لمآربه الشخصية. فحين تكون للمجتمع المكنة والقدرة والغلبة على الطاغي ترى مَنْ يَزعُم الوجاهة يحشر نفسه في الحراك الاجتماعي طلباً لسرقة الغُنْم دون أن يشارك في دفع الغُرْم، ويتضعضع للمجتمع، ويطلب وده ورضاه، بل يتكالب من أجل الصدارة الاجتماعية، وتسلق الوجاهة زاعماً مشاركته ودوره الفعَّال في تحقيق المطالب والأهداف الاجتماعية بعدما كان متعالياً على المجتمع، مستخفاً بقدراته، محتقراً لتطلعاته، مزدرياً لأفعاله، وحين ترجح كفة الطاغي على المستضعفين سينقلب على عقبيه، ويهرول لزريبة الطاغي، ويتضعضع له، ويتزلف إليه طالباً لَحْس ذيلِه، والاستطعام من فتات فضلاته. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ 9 .

إن شياطين الجن والإنس والطواغيت يوهمون الناس بأن القدرة والمكنة بيد الطواغيت، ولا مجال ولا يمكن لأحد أن يحقق وجوده، فضلاً عن تطلعاته وأهدافه المشروعة وغير المشروعة، وبالخصوص طموحاته الجامحة إلا عبر بوابة الطاغوت، ولأن الله خلق الإنسان بطبعه ضعيفاً، لكي يكون الضعف دليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً، ويقيناً كاملاً لمعرفة الله، فيستشعر الفقر والحاجة إلى ربه، ويخضع ويتذلل لخالقه، ولا يتجبَّر في البلاد، ولا يدَّعي الإلوهية على العباد، ولكي يبقى الإنسان دائماً يتحسس الضعف البشري في ذاته، مما يجعله دائم البحث عن القوة التي بها يستمد العزة، ويحافظ على الكرامة التي لن يجدها إلا عند الله تبارك وتعالى، ولن يكون هناك حظ من العزة للطغاة، ولا نصيب لهم، ولا للمنافقين، ولا للكافرين كذلك. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ 6 .

ولكنه بدل أن ينظر بهديِّ عقله، وبصيرة قلبه، ويلجأ إلى الله، ويستلهم منه القوة التي لا تُحد، ويستمد العزة التي لا تمَانع، تراه ينظر بضلال هواه، وغشاوة شهواته، ولذلك يتكالب على أوهام الآلهة من الجاه، ويلهث وراء آلهة الأوهام من الطغاة، لينتصر على ضعفه، ويتعالى على شعبه، ويتسيد على مجتمعه، وذلك لأن الطغاة تمكنوا من الإيحاء والإيهام لكثير من أصحاب التطلعات والقدرات من العلماء والوجهاء والمترفين، وجميع الملأ من الناس، وكل الأعيان الاجتماعية، بأن استثمار إمكاناتهم، وتفعيل قدراتهم، وتحقيق طموحاتهم، وبلوغ تطلعاتهم، لا يمكن بل ويستحيل أن تتحقق من دون تأليه الطاغي، والعبودية له، والخضوع لدولته، والاستسلام لشريعة فساده، والإتباع لنهج طغيانه، مما يدفعهم هذا الوهم إلى اتخاذ الطواغيت آلهة من دون الله، لعلهم يلحسون ذيل الأمارة، أو يستنشقون النتن من الوزارة، أو يتصدرون كرسي الفتوى أو القضاء، أو يملكون مفاتيح صدئة لسراب خزائن المال والثراء، أو يتسلقون صهوة الوجاهة والزعامة على البسطاء والضعفاء. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ 10 .

إنّهم عبيد حتى النخاع لآلهة القوة الوهمية للمال والسلطة الاقتصادية، سلطة الدينار والدرهم والدولار. وهُم عبيد إلى درك الغيبوبة لآلهة القوة الوهمية للحكم والسلطة السياسية، سلطة الظلم والجور والطغيان. فهم يعبدون الطغاة لكي ينتصروا بعزة الطغيان على كوابح العقل والوحي، ويحققوا جوامح الهوى والشهوات، ويتسلقوا وهْم الزعامة والجاه والتسيِّد على المجتمع.

إن سذاجة الهوى، وغباء الشهوات تسلب الإنسان البصيرة العقلية، وتمنعه من الرؤية الثاقبة، وتحجب عنه الحكمة البالغة، فيصاب بالعمى، فلا يرى الدليل القاطع، ولا يبصر البرهان الساطع، ولا يستشعر الحجة البالغة، فيُشرب قلبَه حب الكفر، ويُشغفه بعشق الفسوق، ويُهيمه في العصيان، فلا يرتوي من ظمأ الدنيا أبداً، لأنه لم يستسقي إلا ماء البحر الذي لا يزيد شاربه إلا عطشاً،  فيخرج عن جادة الحق، ويتنكب طريق الهدى، ويعاكس سبيل الرشاد، فيسقط في مستنقع ظلمة الجبن والخوف والرهبة، ويهوي في وحل ظلمة الجشع والبطر والطمع، ويتخبط في تيه ظلمة التردد والتلون والببغاوية، ظلمات بعضها فوق بعض، فلا يكاد يرى الحقائق، ولا يدرك سنن الحياة، ولا يتعظ بوقائع عصره، ولا يستوعب عِبَر الأحداث، فيتشبث بقشة الغريق، فيشرك بخالقه وربه ومالكه وإلهه، ويعبُد بنسبة معينة آلهة القوة والثروة والجاه، فيفقد بذات النسبة قوته التي وهبها الله له لمصلحة تلك الآلهة المزيفة، وهو يزعُمُ أنه يكتسب منها قوة ومنعة وعزاً وغلبة ونصراً، ولذلك يتخذ الإنسانُ الأعمى نظيرَه الإنسانَ الطاغي إلها من دون رب العزة والكون، لينصره أمام سنن الله الحاكمة، وقدَرِه المحتوم، وقضائه المبرم، ولذلك نرى أغلب الناس يشركون بربهم. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ 10 .

والسؤال هو هل يمكن لهذه الأوهام أن تتحول إلى حقيقة؟ وهل يمكن للأوهام الذهنية أن تصنع على أرض الواقع واقعاً حقيقياً في الخارج مستوحى من الخيال الوهمي والأحلام الذهنية الوهمية؟ وهل يقوم الطغاة بنصر المتملقين لهم والعابدين لسلطانهم من المنافقين والدجالين؟ 11 .