الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الإسلام وما بعد الحداثة

حتى هذه اللحظة لم تقترب الكتابات الإسلامية كثيراً صوب فكرة ما بعد الحداثة التي شغلت وما زالت تشغل اهتمامات الفكر الغربي، وليست هناك كتابات في المجال العربي بالذات، تلفت النظر بعناية إلى العلاقة بين الإسلام وهذه الفكرة، وما يوجد في هذا الشأن مجرد إشارات عابرة لا تفتح أفقاً، ولا تحرك ساكناً، ولا تثير جدلاً، ولا تكون رؤية.
وكان من اللافت تجاهل هذه القضية، حتى في بعض الكتابات التي تناولت العلاقة بين الإسلام والحداثة، فلم يأت على ذكرها قط الدكتور مصطفى الشريف في كتابه (الإسلام والحداثة)، وتغافلها الدكتور عبد المجيد الشرفي في كتابه (الإسلام والحداثة)، وجاء على ذكرها مرة واحدة في إشارة عابرة لا تكاد تذكر، وجاءت في الأسطر الأخيرة من خاتمة الكتاب لمجرد التنبيه لا غير.
هذا يعني أن هذه القضية ما زالت خارج النقاش الفكري في المجال العربي، لكنها مرشحة مع مرور الوقت لأن تصبح في قلب وصميم هذا النقاش، وذلك لأن الأنظار بدأت تلتفت إليها، ولأن النقاشات العابرة حول العالم تجاه هذه القضية سوف تلقي بضلالها علينا، وعندئذ سوف نتعرف على حوافز بإمكانها أن تعلي من شأن هذه الفكرة، وبشكل يفوق فكرة الحداثة نفسها.
أما لماذا تأخر الاهتمام في الكتابات الإسلامية تجاه هذه القضية، فلعل ذلك عائد إلى الملاحظات التالية:
أولاً: هناك انطباع في بعض الكتابات التي تناولت هذه القضية، ترى أن فكرة ما بعد الحداثة هي فكرة تعبر عن خصوصية في الشأن الأوروبي، ولها وضعيتها الخاصة في المجال الأوروبي تحديداً، وبالشكل التي لا تعني باقي المجتمعات الأخرى، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية.
فحين تساءل الدكتور فهمي جدعان في كتابه (الماضي في الحاضر) عن حال العلاقة بين الإسلام وما بعد الحداثة، أجاب بقوله: علينا أن نقر هنا بأن ما بعد الحداثة وضع يخص الحضارة الغربية بالذات، وأن هذا الوضع ليس إلا تطوراً اعتور الحداثة الغربية في بناها الجوهرية، تماماً مثلما أن الحداثة نفسها لم تكن إلا تحولاً في قلب البنى القديمة لهذه الحضارة نفسها.
ثانياً: هناك من يرى أن المجتمعات العربية والإسلامية ما زالت في وضعيات ما قبل الحداثة، وتحاول جاهدة اللحاق بركب الحداثة، وخطواتها في هذا الطريق ظلت متعثرة منذ قرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وبالتالي فإن الشرط التاريخي لا يسمح لهذه المجتمعات الانشغال بفكرة ما بعد الحداثة التي تفصلها عنها مسافات حضارية بعيدة، ولا معنى لهذا الانشغال أساساً ما دامت هذه المجتمعات تنتمي إلى مرحلة ما قبل الحداثة، ولم تقطع شوطاً كبيراً في الطريق إلى الحداثة، فكيف بها والطريق إلى ما بعد الحداثة.
ثالثاً: هناك من يرى أن فكرة ما بعد الحداثة ما زالت فكرة غامضة ومبهمة ومضطربة، تتباين في داخلها وتتعارض وجهات النظر بين الأوروبيين أنفسهم أصحاب هذه الفكرة، وينقسمون حولها ويتنازعون، ولم تتحدد لها هوية واضحة ومحددة تعرف بها، وتفهم من خلالها.
وفي هذا الصدد هناك من يرى أن هذه الفكرة تعبر عن نقد جذري وصارم لفكرة الحداثة لتجاوزها، والخروج عليها، وتغيير مساراتها. وهناك من يرى أنها فكرة جاءت استمراراً لفكرة الحداثة لكن بصورة جديدة تعبر عن حداثة ثانية أكثر تجدداً وتطوراً من الحداثة الأولى السابقة، إلى جانب من يرى فيها انتكاسة وصدمة للحداثة تدفع بالتحول من العقلانية إلى اللاعقلانية، وبين من يرى فيها تصويباً وتصحيحاً للحداثة ومساراتها، بالإضافة إلى من يرى فيها مواكبة واستجابة للتطورات المذهلة في تكنولوجيا المعلومات، وتقنيات الاتصال، وشبكات الإعلام، إلى جانب وجهات نظر أخرى.
وبالتالي ما قيمة الاهتمام بهذه الفكرة ما دام يحيط بها كل هذا الغموض والإبهام والتناقض!
رابعاً: هناك من يرى وبخلاف التصورات السابقة، أن لا فرق بين الحداثة وما بعد الحداثة بالنسبة إلينا في المجال الإسلامي، ويذهب إلى هذا الرأي الدكتور طه عبد الرحمن استناداً إلى موقفه في التفريق بين واقع الحداثة وروح الحداثة، فحين تساءل بلسان المعترض عن جدوى هذا الاشتغال في وقت حل فيه طور ما بعد الحداثة محل طور الحداثة؟
جاء جوابه أن التجاوز ما بعد الحداثي الذي حصل تعلق أصلاً بالواقع الحداثي الغربي، وليس بروح الحداثة نفسها.
لهذه الانطباعات تأخر الاهتمام في المجال الإسلامي بفكرة ما بعد الحداثة1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد: 15657.