الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

بالوحدة نواجه المستكبرين

لو قدّر ان يبقى النظام السائد على العالم لمدة نصف قرن آخر ، فان نهاية البشرية ستكون مأساوية حتى وإن لم يفجروا على انفسهم الحمم التي اخترعوها بأسلحتهم التدميرية الهائلة ، التي تستيطع افناء البشرية عدة مرات ؛ حيث انهم صنعوا لكل واحد من ابناء البشر ما يمكن بواسطته ان يقتله خمسة عشر الف مرة من اسلحة الدمار الشامل غير الكيمياوية ، اما اذا أضفنا إليها الأسلحة الكيمياوية فحدث ولا حرج .

المستكبرون ونهاية البشرية

وحتى ان لم يعمدوا الى استخدام هذه الاسلحة فان نهاية البشرية ستكون ـ لا سمح الله ـ على يد هؤلاء المستكبرين ، لان استهلاكهم النهم لموارد الطاقة كالبترول والمعادن الاخرى ينذر بفناء الانسان للاسباب التالية :
1 ـ لان هذا الاستهلاك يمضي بوتيرة سريعة جداً لا تحتملها أرضنا .
2 ـ لان هذا الاستهلاك يفسد البيئة ؛ فهناك مخاطر جدّية اعلن عنها خبراء عالميون في البيئة من مثل حدوث ثقوب في الغلاف الواقي للكرة الارضية التي تتعرض في كل اربع وعشرين ساعة لعشرين مليون قذيفة من الفضاء الخارجي ؛ ولولا هذا الغلاف الواقي لأبيدت ودمرت الارض ، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل للسماء سقفاً محفوظاً .
ومع ذلك فان هذا الغلاف الواقي يتعرض اليوم للتمزق عبر الاستهلاك غير المنظم ، بل عبر التبذير والإسراف في موارد الطاقة ؛ الأمر الذي يدل على ان العالم يقع تحت تصرف أيد غير امينة لا يفكر أصحابها في مصير البشرية .
وبالاضافة الى السببين السابقين فان هناك اسبابا اخرى يقف في مقدمتها التجويع المنظم للانسان ، وعلى سبيل المثال فنحن نعلم ان القارة الافريقية كانت قارة خضراء ، وكان يعيش فيها اناس سعداء أصحاب سيادة وثقافة ، ولكن الاستكبار العالمي جاء الى هذه القارة ،وأفسدها شر افساد ؛ فقتل رجالها ، واستعبد مجاميع هائلة من البشر الى درجة ان الاحصائيات تشير في هذا المجال الى ان الاستكبار الغربي استعبد واخرج خلال قرون معدودة ما يربو على ثلاثمائة مليون انسان من حوض الكونغو فقط ، القى بعضا منهم في البحر ، والذين وصلوا الى القارة الاميريكية استعبدوا واصبحوا رقيقا يخدمون البيض !
وبعد فهذا هو النظام السائد على العالم اليوم ؛ المجاعات تتلو المجاعات ، فهناك بشر يموتون جوعاً في أكثر من دولة في العالم ، وتشير احصائيات المنظمة الدولية في هذا الصدد ان هناك خمسمائة مليون انسان جائع فوق هذه الارض ، وفي مقابل ذلك فان الاميريكيين لا يعرفون كيف يتخلصون من فائض القمح ، والاوروبيون لا يعرفون كيف يتخلصون من فائض الزبدة ، وبعض البلدان الاوروبية تنفق عشرات الملايين من الدولارات في سبيل إعدام المزيد من فائض الغلاة ، والمواد الغذائية الاخرى !
ترى هل من الممكن ان يعيش العالم تحت ظل هذا النظام الاستكباري ؟
طبعاً لا ، فمن جملة ما يقوم به هذا النظام امتصاص قدرات الانسان في سبيل صنع الاسلحة التي من شأنها تدمير البشرية . فنحن نعلم ان اكثر من ترليون ( الف الف مليون ) دولار ينفقه العالم سنوياً ، وخصوصاً البلدان الغربية على صناعة الأسلحة . فهل من الممكن ان يعيش العالم في ظل نظام تبتلع صناعة الاسلحة فيه هذا القدر الهائل من جهود البشرية ، وهل من المعقول ان يستمر هذا النظام في الحياة ؟؟
وبالاضافة الى ذلك فان هذا النظام الدولي القائم الآن يقوم باختلاق الحروب ، وإثارة الفتن والصراعات ، حيث اننا نشهد اليوم حروبا عديدة قائمة على الارض ، وعشرات الالوف من البشر يتساقطون في كل يوم بسبب هذه الحروب التي فرضها الاستكبار على الشعوب .

كيف نكافح الاستكبار ؟

والسؤال المصيري المطروح هنا هو : كيف ينبغي ان نكافح هذا الاستكبار وننقذ العالم من شروره ؟
قبل الاجابة على هذا السؤال لابد ان نضع نصب أعيننا حقيقة هامة ، وهي اننا كلما خضعنا للاستكبار اكثر كلما ساهمنا في جرائمه أكثر ، لان الضحية التي تسكت تسهم في الجريمة ، والشعب الذي يسكت وهو يرى الظالمين يمارسون الإفساد في ارضه فانه يشاركهم في جريمتهم .
ومن الأمم التي ابيدت شر إبادة ، ودمرت شر تدمير ، وضرب الله تعالى بها مثلاً هي أمة ثمود ؛ اي قوم صالح ، فالقرآن الكريم يذكرنا بهذه الأمة ومصيرها الاسود ، وكيف ينبغي لنا ان نتجنب هذا المصير .
والسبب الذي ادى الى نزول العذاب الالهي القاصم والمدمر على هذه الأمة ، هو ان رجلاً واحداً منها وصفه القرآن الكريم بانه ( الاشقى ) عمد الى قتل الناقة التي جعلها الله لهم آية . فكانت النتيجة ان دمرت أمة ثمود كلها باستثناء ثلة من المؤمنين المتقين الذين امتثلوا للأوامر الالهية ، والسبب في ذلك يعود الى ان الآخرين سكتوا ورضوا ، فعمهم الله جل وعلا بالبلاء ، ولذلك فقد انتهوا واصبحوا امثولة للتاريخ ، وعبرة لمن يعتبر .
وبناء على ذلك فان الامم التي تلوذ بالسكوت فانها تنتحر في الحقيقة ، وهذا يعني ان الانتحار قد يكون فردياً ، ولكن الانتحار الجماعي اعظم وأشد هولاً .
وعلى هذا الأساس هل نسكت عن الاستكبار ، وهل نستمر في عيشنا تحت ظل هذا النظام ؟
اننا لو فعلنا ذلك فاننا نكون قد دمرنا سعادتنا في الدنيا والآخرة ؛ ففي الدنيا سنعيش اذلاء مهانين ، وفي الآخرة نحشر مع المجرمين .
وفي آيات قرآنية عديدة يؤكد الله تقدست اسماؤه على ان المستضعفين والمستكبرين والمظلومين والظالمين سيحشرون معا في جهنم ، ثم يتنازعون في جهنم لعدة ملايين من السنين . وعلى هذا فان المستضعف الساكت ، والراضي عن ممارسات المستكبر لا يقل جريمة عن هذا المستكبر نفسه ، او لنقل انه مساهم ومشترك في جرائم المستكبرين .
ان الاستكبار العالمي يمثل انحرافاً وشذوذاً عريضاً ، وضلالة بعيدة ، وعلى البشرية ان تنهض لمقاومته من خلال المبادرة الى الهجوم والانقضاض عليه . فنحن نعلم ان العدو اذا تقدم نحونا من مسافة مائة كيلومتر فان افضل موقع لمحاربته التخندق على رأس هذه المسافة ، فكلما يتقدم كيلو مترا فان هذا يعني انه يتقدم بنفس النسبة الى بيوتنا ، وبذلك سنفقد قدراتنا اكثر فأكثر حتى يصل الى عقر ديارنا . ومن الخطأ الفاحش ان تحارب عدوك في بيتك ، بل عليك ان تحاربه في بيته ، وان تهاجمه قبل ان يهاجمك ، وان تبادره قبلان يبادرك .
وعلى سبيل المثال فاننا لوكنا قد نهضنا نهضة رجل واحد في وجه اسرائيل والصهيونية العالمية عندما اراد الاستكبار العالمي المتمثل آنذاك في الاستعمار البريطاني ان يزرع هذه الدويلة كالخنجر في اظهرنا ، لما جرت وديان بلادنا بالدماء الى اليوم ، ولما كنا بحاجة الى ان ننفق الملايين على التسلح . فقد خدعونا وحرمونا من فرصة التقدم بالميزانيات المتصاعدة للتسليح وحرمونا من وحدتنا عندما فرقونا ، وسلبوا منا استقلالنا ، وأرضنا . .
ورغم ان الأرض المحتلة تتفجر في هذه الأيام لهباً تحت أقدام الصهاينة ، إلاّ ان ذلك جاء متأخراً . فنحن لا نأخذ العبر من التأريخ ، ولاننظر الى تأريخ نبينا الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) الذي من المفترض ان يكون قدوتنا في جميع تصرفاتنا ، وفي كل الآداب والاخلاق الحسنة التي نتميز بها ، ولكننا يجب ان نتبعه (صلى الله عليه وآله) أكثر في القضايا الاستراتيجية ، وفي البصائر الحياتية المرتبطة بكيان الأمة ، لانها قضايا اكثر اهمية وخطورة .
ان علينا ان ننظر كيف كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يتعامل مع اعدائه ، وكيف كان يحاربهم . . لقد كان يبادرهم ، وكان يطلق الحملات من المدينة المنورة الى حدود الروم رغم قلة الامكانيات ، ورغم الوسائل البدائية للسفر ، وكان (صلى الله عليه وآله) وهو في المدينة يرسل المجاميع المقاتلة الى تخوم اليمن ، واذا سمع ان مجموعة من الاعراب يريدون الهجوم على المدينة باغتهم بالهجوم قبل ان يتحركوا من مواقعهم . فكان نشيط الحركة ، سريع المبادرة ، قوي الارادة . .
ترى ألسنا أمة هذا الرسول ، فأين مبادراتنا ـ اذن ـ وأين تحركاتنا وانشطتنا ؟؟
اننا لابد ان نقف امام الاستكبار منذ الخطوات الاولى له ، ولنسأل انفسنا في هذا المجال : كيف استطاع البريطانيون الدخول في العراق ـ مثلاً ـ ؟ لقد دخلوا تحت شعار انهم محررون لا فاتحون ، ثم لم يرحلوا عن هذا البلد إلاّ بعد تلك الثورة الدموية العارمة التي اجتاحت العراق من أقصاه إلى أقصاه ، ولكن بعد ان دمروا الارض والعباد ، وعاثوا الفساد ، على انهم خرجوا من الباب ليدخلوا من النافذة من خلال تثبيت الحكومات العميلة لهم .

بالوحدة نبادر الاستكبار

والامريكيون لا يختلفون عن اخوتهم البريطانيين ، فهم لا يمكن ان يخرجوا بسهولة . فلابد ـ إذن ـ من المبادرة ، والشيء الاول الذي نبادرهم به هو وحدتنا ، لان هذه الوحدة هي السلاح الفاعل لمقاومة الطغاة . ليس فقط لان الامم والشعوب الموحدة ستستطيع ان تقاوم اعداءها بشكل افضل من الناحية المادية ، بل لان المعنويات الداخلية لهذه الأمة وايمانها بحقوقها وعدالة قضاياها كل ذلك سيكون اقوى . فعندما نتعاون معا في حربنا ضد الاستكبار فاننا سنحارب بقوة ، اما اذا ذهب الواحد منا الى المعركة في حين ان ابناء مجتمعه خلفه يأكلون لحمه بالغيبة والتهمة والنميمة ، ويأكلون أمواله بالباطل . . فمن الطبيعي انه سوف لا يستطيع ان يحارب بشجاعته .
ولذلك نرى ان الله جل جلاله يؤكد بشكل متواصل على الوحدة ، وخصوصا وحدة القيم والمبادئ . فالمستكبرون يريدون منا ان نتحد في الخضوع لاوامرهم ، ويريدون وحدة الاستسلام .
والله سبحانه وتعالى يؤكد على طبيعة الوحدة المطلوبة في قوله : ﴿ ... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... 1 . فمن الضلالات الكبرى ان نقول ان كل وحدة جيدة ومفيدة . كلا ، بل ان الوحدة النافعة هي وحدة المبادئ والقيم ، ووحدة المظلومين امام الظالمين . اما اولئك الذين يجلسون ويتآمرون على المسلمين فانهم يشكلون وحدة تشبه وحدة الاحزاب ضد رسول الله (صلى الله عليه وآله) . فلننظر الى دقة لطافة التعبير القرآني التالي : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ... 2 ، فلو اعتصمنا بحبل الشيطان ، فان الخالق جل جلاله سوف ينزل غضبه وسخطه علينا .

وحدة الاعتصام بحبل الله

وهكذا فاننا لانريد وحدة القمم الزائفة ، بل وحدة القاعدة النزيهة ؛ وحدة الانسان المظلوم ، ووحدة المسلمين تحت مظلة الدين الاسلامي الحنيف ، وحدة الاعتصام بحبل الله تبارك وتعالى . وهذه الوحدة هي المطلوبة ، والقرآن الكريم يأمرنا بهده الوحدة في قوله : ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 3 .
ثم يأمرنا تعالى بالتقوى ، لان الوحدة تقوم على هذه الخصلة فيقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ 4 ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ... 2 .
وعلى هذا فان الوحدة هي شرط الانتصار ، ولكن حبل الله سبحانه هو شرط الوحدة ، وهذا الحبل يعني كتاب الله ، ورسوله ، واولئك الذين يشكلون امتدادا للرسول (صلى الله عليه وآله) ، والذين يمثلون العترة الطاهرة (عليهم السلام) .
ثم يقول عز من قائل : ﴿ ... وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ... 2 . وهذه الآية تدل على اولئك الذين يعيشون حالة التمزق والفرقة والاختلاف ، فهم على شفا حفرة من النار ؛ اي قريبون للغاية من النار اللاهبة .

ضمانة الوحدة

ثم يقول عز من قائل : ﴿ ... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 2 ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5 . فالوحدة بحاجة الى ضمان ، وضمانها هو اولئك الرجال الذين يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويعبّدون الطريق امام وحدة الجماهير .
ثم ينهانا عز وجل عن التفرق بعد الوحدة فيقول : ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 6 .
وبكلمة ؛ ان الوحدة هي بناء عال وشامخ ، لكننا لابد ان نقوم بانفسنا بتشييد لبنات هذا البناء . فكل واحد منا ينبغي ان يقوم بدور في تشييد هذا البناء العالي ، وذلك بأن نوحد قلوبنا ونتآلف ونتعاون . . فكلما وحدنا صفوفنا ، كلما كانت هناك مسافات واشواط اكبر نتقدم عبرها باتجاه القضاء على المستكبرين في العالم .

هكذا نعالج عقبات الوحدة

ثمة حقيقة لابد من الاشارة اليها ، وهي ان سنن الله تبارك وتعالى شاملة وعامة لا تختلف من زمان لآخر ، ولا من انسان لآخر . وآيات القرآن الكريم لا تخلو من تفسير وتذكير بهذه السنن ، لذا يجدر بالانسان ان يستوحي من القرآن الحكيم ما يعالج به أوضاعه ، ويشفي أمراضه . .

الانتفاع من القرآن

ولا يغيب عنا ان مثل القرآن كمثل الغيث الذي ينزل من السماء ، حيث كل بقعة من بقاع الأرض تمتص من هذا الماء قدراً معيناً تستفيد منه بالطريقة التي تناسبها .
ولذلك لابد ان يكون الإنسان مستعداً لتلقي هذا الغيث ، وهذه الرحمة الالهية . ومن أعظم ما يجعل الإنسان يستفيد من القرآن الكريم ، والاعتقاد بان آياته تنفعه ، هو طرد الوساوس الشيطانية عن نفسه والتي توحي له بان هذه الآيات لا تنفعه ، وانها خاصة بالمؤمنين ، او باصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) . وبناء على ذلك فلا علاقة لنا بالقرآن !
في حين ان الآيات القرآنية حتى ولو تحدثت عن المشركين ، فانها تتحدث عن السنن الالهية العامة التي يخضع لها المشركون باعتبارهم بشرا يخضعون لها ، ولذلك فان الله سبحانه وتعالى عندما يتحدث عن المشركين الذين جابهوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما أمرهم بعبادة اله واحد فانه قال عن لسانهم : ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ 7 .
وهذه المعارضة لم تكن معارضة شاذة ؛ اي انها لم تكن نابعة من المناخ الذي كان سائداً في مكة آنذاك ، بل انها من طبيعة الانسان ، ومن انحراف فطرته نتيجة لوسوسة الشيطان . فالانسان يبقى هو الانسان ، والانسان المكي في زمن الجاهلية هو الانسان اليوم في بلاد الاسلام ، فهو يتأثر بنفس المؤثرات ، فنحن ايضاً يمكن ان نتخذ آلهة متعددة ونقول : كيف تكون الآلهة في مصلحة اله واحد ؟
كل ما هنالك ان الانسان في البيئة الجاهلية تحولت القضية بالنسبة اليه الى صنم يعبده بشكل ظاهري ، اما نحن فاننا لانمتلك اليوم جرأة وشجاعة لأن نعبد هذه الاصنام الظاهرية فنلجأ إلى أسلوب عبادة الأصنام الخفية ، فنلتف ـ على سبيل المثال ـ حول القانون ، ونقول اننا يجب ان نقدس الأرض ، او العلم ، او العنصر والعشيرة . . . وهذه كلها آلهة .
وفي الجاهلية كانوا يقدسون هذه الأشياء أيضا ، فكانوا يعبدون الأصنام المصنوعة من الحجر ، لكي يعبدوا من خلالها القيم الجاهلية ، واليوم يكرر التأريخ نفسه .

القرآن علاج أمراضنا

ونحن اذا استطعنا ان نفهم القرآن بشكل كامل فانه سيكون بالفعل علاجاً لامراض قلوبنا ، وشفاء لما في صدورنا . فكل واحد منا يقرأ القرآن ، ويطبق آياته الكريمة على نفسه وعلى واقعه ومجتمعه ، فسوف يظفر بالسعادة في حياته وآخرته ، لا سيما الآيات القرآنية التالية :
﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ * جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ 8 .

الوحدة قضيتنا المركزية

ومن المعلوم ان الآيات القرآنية السابقة تتحدث حول قضية مركزية ومحورية هي الوحدة ، فهي تبقى قضية محورية لوعالجناها بالف حديث فانها ستبقى محورا لمعالجاتنا .
ترى لماذا نؤكد على مسألة الوحدة ، ولماذا نظل نركز على هذه الحقيقة ؟
الجواب : لأهميتها وضرورتها ، ولانها رمز لمجموعة من الحقائق الاخرى التي لابد ان تجتمع الى بعضها لتكون جسرا للإصلاح .
والوحدة هي رمز لصفاء الذهن ، وتعبير عن وضوح الرؤية وعن الايجابية ، وتعبير عن الامل ، والخلق الرفيع ، والتسامح والكرم ، والتضحية والفداء ، وتعبير عن الذوبان في القضية . .
وهذه كلها حقائق مختلفة ، ولكن رمزها واحدة وهي كلمة الوحدة ؛ فعندما نقول اننا قد صلينا في المسجد ، او جلسنا في المصلى ، فان كلمة (المسجد) او (المصلى) هي كلمة واحدة ، ولكنها تعني مجموعة متكاملة من الحقائق .
فالوحدة هي البناء ، واعمدتها الرؤى الستراتيجية ، وجدرانها الصفات الحسنة ، وسقفها القيادة السليمة ، وارضيتها الايمان الخالص ، والنفسية النقية ، وبالتالي فان كل هذه المفردات تجتمع مع بعضها لتكوّن حالة الوحدة .
والوحدة تمنح الانسان الحيوية ، وتعطيه الراحة والسكينة والطمأنينة والانطلاق ، وبالتالي النصر .

ثغرات بنائنا الوحدوي

وعلى الرغم من اننا نتحدث عن الوحدة بكثرة ، إلاّ ان هناك عشرات الثغرات التي مازالت موجودة في انحاء مختلفة من كياننا الاسلامي . فالبعض من الناس تراهم يفتحون ثغرة في صفوف الأمة بتصرفات يزعمون انها ثورية ، والبعض الآخر يفتحون ثغرة من منطلقات حزبية او انانية ، وبالتالي فان هذه الثغرات كلها موجودة في البناء . فهذا البناء يشبه الى حد كبير المنخل ، او شبك الصيد ، ففي كل مكان فيه هنالك ثغرة وفجوة ، فهل بإمكان هذا البناء ان يحفظك امام الرياح والعواصف مادام مليئاً بالثغرات والخلل والضغوط ؟
ان هذه هي مشكلة المسلمين اليوم ، فكل واحد منهم يعتقد انه يمتلك صحيفة بيضاء عند الله سبحانه وتعالى ، ويعتقد بانه هو الذي يمثل الوحدة وانه هو المحور ، في حين ان الآخرين منحرفون كلهم . فهو يضفي بذلك الشرعية على كل اعماله .

مسؤولية العلماء في اقرار الوحدة

ونحن طلبة العلوم الدينية ، والعلماء ، والمفكرين والخطباء ، والموجهين الدينيين . . المعنيون اكثر من غيرنا في هذا المجال ، فنحن لو تعمقنا في اوضاعنا ، والقينا عليها نظرة فاحصة لرأينا ان طائفة العلماء ـ اي الموجهين في الأمة ـ ان فسدوا فان الأمة كلها سوف تفسد ، وان صلحوا صلحت . وحتى الامراء والحكام فان صلاحهم مستمد من صلاح العلماء ، فلا يوجد أمير يصلح من تلقاء نفسه ، بل ان السلطة بحد ذاتها هي اعظم عامل في افساد الانسان . فالعالم ـ اذن ـ هو وحده الذي يستطيع ان يصلح السلطة السياسية .
وفي هذا المجال يقول الحديث الشريف : " اذا فسد العالِـم فسد العالَـم " .
فبدلاً من ان يصلح العالم المجتمع ويوحده ، نراه يبث الافكار السلبية ، والتقاعسية ، وينشر روح الكسل والتشاؤم والتفرقة ، والنزاعات ، والصراعات . . ولذلك نرى الأمة متمزقة متفرقة ، وسـلبية متشائمة . فهل تستطيع مثل هذه الأمة ان تصلح الحكام ، وهل تستطيع انتقف في وجه الطغاة ؟
والعلم هو سلاح المستضعفين ضد المستكبرين ، والعلم هو الذي يوحد الأمة ، واذا سرقت رسالة العلم من قبل أدعياء العلم فان النتيجة ستكون ـ ولا شك ـ لمصلحة المستكبرين ضد المستضعفين .

الآفاق الواسعة للوحدة

وبناء على ذلك فنحن المعنيون بان نبني بناء الوحدة في انفسنا ، وهذه الوحدة لابد ان تشمل الفا وخمسمائة مليون انسان ، فتكون قاعدة هذا البناء في مكة المكرمة ، وعمودها في حرم الله جل وعلا . فطرف من هذه الخيمة يظللنا ، ثم يمتد من عندنا الى الصين ، ثمالى نيجريا ، وقسم منها يمتد الى أعماق اوروبا ، وقسم آخر يظلل شبه القارة الهندية . .
وهذه الخيمة الواسعة الممتدة التي تشمل الآفاق والعناصر والشعوب المختلفة ، بحاجة الى ان من يغرز اعمدتها واوتادها في عمق الارض ، وان يجعلها تمتد وتمتد لتشمل العالم الإسلامي كله .
ولتوضيح الفكرة السابقة لنضرب المثال التالي : فيما بيننا هناك الكثير من الحواجز بيننا كالحسد ، والعصبية ، واللون ، والعلم والجهل ، والغنى والفقر ، والانتماء الى الجنسية وما الى ذلك ، فهل يستطيع احد ان ينكر وجود هذه الحواجز ؟ انها موجودة بالطبع ، ولذلك فاننا بحاجة الى سنين عديدة من الجهد والتعب المتواصل لكي نوحد بين خمسين شخصاً ، فما بالك اذا أردنا ان نوحد أمة بأكملها ؟
فالمطلوب منا ان ننظر نظرة متعمقة الى هذه المسألة . فالسطحية هي التي افسدت افكارنا ، وهي التي جعلتنا نحارب بعضنا البعض ، فاذا بالحكام الطغاة يتسلطون علينا ، واذا بالافكار السطحية القشرية تسود حياتنا بسبب عدم تعمقنا في قضايانا الهامة . وللاسف الشديد فان تبادل التهم ، وسوء الظن وما الى ذلك من عوامل الاختلاف والتفرقة منتشرة بيننا ، فلمصلحة من كل هذه الاختلافات ؟!
اننا نرى ان كل واحد منا يفسر الوحدة تفسيراً خاصاً به ، فنحـن نفسر الوحدة بالتمزق ، في حين ان سنة الله تبارك وتعالى تفسر التمزق والاختلاف بالعذاب الشديد ، وهو القاهر فوق عباده .
وفي آية اخرى يقول سبحانه : ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ... 9 .

اقل ما يتسبب في الصراع

اقل شئ يمكن ان يتسبب في نشوب الصراع ان يفكر الواحد منا قبل ان يخلد الى النوم فيمن سيصدر في الغد فتوى جديدة ، ومن الذي يقوم بالعمل الفلاني ، وكيف يجيبه اذا تحدث معه . . . وبالطبع فان الشيطـان يفرح بوجود هذه الحالة ، فأنت في هذه الحالة بدلاً من ان تسبح لربك وتستغفره قبل ان تنام ، وبدلاً من ان تقوم في الليل ، وتستغفر لإخوانك المؤمنين وتقول : ﴿ ... وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا ... 10 ، بدلاً من كل ذلك فانك تنهمك في التخطيط من اجل ان تحطم شخصية اخيك المؤمن . وهذه الظاهرة السلبية ليست بالشيء الهين ، فنحن مبتلون بها ، وقد سقطنا فيها حتى الاعماق ! فان لذت بالسكوت ولم تتكلم سلقوك بالسنة حداد ، وإن تكلمت قيل ان كلامك ليس صحيحاً ، فماذا تعمل في هذه الحالة ؟
ان أفضل علاج هو الورع ـ حسب ما يتصور البعض ـ . فهناك الكثير من العاملين في الساحة ، ومن المجاهدين المتحمسين تراه في الايام الاولى يعمل ، ثم حين تأتيه الاتهامات يميناً ويساراً اذا به يترك العمل ، ويجلس في بيته ، ولا يتكلم مع احد . مع ان الأمة تتمزق ، واخوانه يأكلون بعضهم البعض ، وهو جالس في بيته يتفرج ! وهذه هي مشكلتنا الرئيسية .
وهكذا فليس من الصدف ان تصبح الأمة الإسلامية ممزقة حوالي قرن من الزمان ، ولسنا قادرين على تغييرها وتغيير ما فيها كالسفينة التي تغرق . فاذا بالعالم يتقدم ، ويتوحد ، وتقام بينه العلاقات المشتركة ، وتتقدم البلدان الصناعية ، وتتوحد الغالبية العظمى من الشعوب ، ولكننا نبقى على هذه الحالة المأساوية من التمزق والاختلاف !
وبالطبع فاننا لسنا السبب في كل ذلك ، فهناك اسباب وعوامل موجودة فينا لم نفكر بها بعد ، وهناك ظواهر سلبية منتشرة بيننا لم نستطيع ان نكتشفها لحد الآن . فاذا هربنا من العمل فان الله جل جلاله سوف يحاسبنا ، واذا اتخذنا موقف الصمت في بعض القضايا وجّهوا إلينا الاتهامات ، وإن جلسنا في بيوتنا فان هذا الجلوس سوف يكون سبباً في تمزيق الأمة اكثر واكثر . فماذا علينا ان نعمل اذن ؟
ان الحل الامثل هو ان ينمي الانسان في داخله حالة الدفاع عن نفسه . فالدفاع عن النفس واجب . فالانسان الذي لا يدافع عن نفسه لا يستطيع ان ينمي طاقاته ، ولا يعود بمقدوره الدفاع عن قضيته . فقضية الرسالة لابد لها من هدف وطاقات ، ولكن الخطأ يكمن في ما يتصل بالتعاون مع بعضنا .
وبناء على ذلك فان الدفاع هو افضل وسيلة للدفاع . لا ان يكون الهجوم افضل وسيلة للدفاع ، فالكثير منا ومن اجل الدفاع عن نفسه ، تراه يبادر بالهجوم على اخيه .
وهكذا فان الدفاع عن النفس هو من الواجبات ، فلابد من ان تدافع عن الحق ، وان تكون لديك مقاييس ومعايير واضحة في هذا الدفاع . فان اختلط الحق بالباطل فان الناس سوف لا يعملون بالحق لدخول الشبهات فيه ، فينهزمون ، ولا يعرفون كيف يتصرفون .

مسؤوليتنا كبيرة

ان هناك مسؤولية عظيمة ملقاة على عاتقنا في هذا الطريق ، فمهمتنا تشبه الى حد كبير مهمة من يحاول ان يجمع الصخور لكي يمهد طريقه . فبما اننا عاملون في سبيل الله سبحانه وتعالى فسوف نواجه الصعوبات والعقبات والعراقيل ، فلابد ـ اذن ـ من ان نتحلى برحابة الصدر ، والصبر ، والاستقامة ، والشجاعة لكي نستطيع تجاوز هذه العقبات بنجاح .
ولتكن انشطتنا تدور حول محور الدفاع عن النفس ، لا الهجوم على الآخرين . وليكن تحركنا ايجابياً ، وتوجهاتنا ايمانية . . فاننا في هذه الحالة سرعان ما نكتشف اننا اقوى من العقبات والعراقيل التي يضعها الاعداء امامنا . وحينئذ سوف ننال عند الله الجزاء الأوفى ، ونصبح بين افراد مجتمعاتنا انموذجاً للاناس الناجحين في الحياة .
ولنعلم في هذا المجال ان صمودنا ، وعدم التفاتنا الى كلام الجاهلين ، والمضي في طريقنا بعزم واصرار ، كل ذلك يعتبر بمثابة حجر نلقم به اعداءنا الذين يحاولون دائما تثبيطنا ، ووضع العراقيل في طريقنا .
وهكذا فان الواجب علينا ان ندافع عن انفسنا ، وان نكف ـ في نفس الوقت ـ عن مهاجمة غيرنا ، وان نسعى من اجل توحيد بلادنا وشعوبنا ، وان نكثف من انشطتنا . . وبذلك سوف نستطيع تحقيق اهدافنا بجدارة . هذه الاهداف التي تتطلب منا ان نتجاوز فردياتنا وانانياتنا ، وان نفكر تفكيراً جدياً في معالجة مشاكل الأمة ككل . فلابد من ان نوطن انفسنا على الحق مهما كانت المشاكل ، والعقبات التي تواجهنا ، ومهما كان حجم المعاناة لان الوحدة تمثل هدفاً عظيماً وسامياً لا يمكن ان نصل اليه إلاّ ببذل حجم كبير من التضحيات 11 .