الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

حديث أهل المشرق والرايات السود

وقد ورد في مصادر الشيعة والسنة ، ويعرف أيضاً بحديث الرايات السود ، وحديث أهل المشرق ، وحديث ما يلقى أهل بيته صلى الله عليه وآله بعده . وقد روته المصادر المختلفة عن صحابة متعددين ، مع فروق في بعض الألفاظ والفقرات ، ونص عدد من العلماء على أن رجاله ثقات .
ومن أقدم المصادر السنية التي روته أو روت قسماً منه ابن ماجة في سننه : 2 / 518 و 269 ، والحاكم : 4 / 464 و553 ، وابن حماد في مخطوطته الفتن ص84 و 85 ، وابن أبي شيبة في مصنفه : 15 / 235 ، والدارمي في سننه ص 93 ، ثم رواه عنهم أكثر المتأخرين .
ولعل الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وغيرهم : ( يخرج ناس من المشرق يوطؤون للمهدي سلطانه ) جزء منه .
وهذا نص الحديث من مستدرك الحاكم :
( عن عبد الله بن مسعود قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله فخرج إلينا مستبشرا يعرف السرور في وجهه ، فما سألناه عن شئ إلا أخبرنا به ، ولا سكتنا إلا ابتدأنا ، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين ، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه ! فقلنا يا رسول الله ، ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه ! فقال :
إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد ، حتى ترتفع رايات سود في المشرق فيسألون الحق فلا يعطونه ، ثم يسألونه فلا يعطونه ، فيقاتلون فينصرون ! فمن أدركه منكم ومن أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبوا على الثلج ، فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، فيملك الأرض ، فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ) . انتهى .
أما من مصادرنا الشيعية فقد رواه ابن طاووس في الملاحم والفتن ص 30 و117 ، ورواه المجلسي في البحار : 51 / 83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم ، الحديث السابع والعشرين في مجيئه ـ أي المهدي عليه السلام ـ من قبل المشرق . وروى شبيهاً به في : 52 / 243 عن الإمام الباقر عليه السلام قال : ( كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه ، ثم يطلبونه فلا يعطونه . فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم . فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يقوموا . ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم ( أي المهدي عليه السلام ) قتلاهم شهداء . أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر ) .

ويستفاد من هذا الحديث بصيغه المختلفة عدة أمور
الأول : أنه متواتر بمعناه إجمالاً ، بمعنى أنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة بحيث يعلم أن هذا المضمون قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعمدة مضمونه : إخباره صلى الله عليه وآله بمظلومية أهل بيته عليهم السلام من بعده ، وأن إنصاف الأمة لهم يكون على يد قوم من المشرق يمهدون لدولة مهديهم عليهم السلام ، وأنه يظهر على أثر قيام دولة لهؤلاء القوم فيسلمونه رايتهم ويظهر الله به الإسلام على العالم ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً .
الثاني : أن المقصود بقوم من المشرق وأصحاب الرايات السود : الإيرانيون ، وهو أمر متسالم عليه عند جيل الصحابة الذين رووا الحديث الشريف وغيره فيهم ، وعند جيل التابعين الذين تلقوه منهم ، ومن بعدهم من المؤلفين عبر العصور ، بحيث تجده عندهم أمراً مفروغاً عنه ، ولم يذكر أحد منهم حتى بنحو الشذوذ أن المقصود بهؤلاء القوم وبهذه الرايات أهل تركيا الفعلية مثلاً ، أو أفغانستان ، أو الهند ، أو غيرها من البلاد . بل نص عدد من أئمة الحديث والمؤلفين على أنهم الإيرانيون . بل ورد اسم الخراسانيين في عدة صيغ أو فقرات رويت من الحديث ، كما سيأتي في حديث رايات خراسان .
الثالث : أن حركتهم تواجه عداء من العالم وحرباً ، وأنها تكون خروجاً على حاكمهم ثم قياماً قرب ظهور المهدي عليه السلام .
الرابع : أن نصرتهم فريضة على كل مسلم من الجيل الذي يعاصرهم ، مهما كانت ظروفه صعبة ، حتى لو أتاهم حبواً على الثلج .
الخامس : أن الحديث من أخبار المغيبات والمستقبل ، وإحدى معجزات النبي صلى الله عليه وآله الدالة على نبوته ، حيث تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وآله من مظلومية أهل بيته عليهم السلام وتشريدهم في البلاد على مدى العصور ، حتى وصلوا الى أربع جهات العالم فلا نجد أسرة في العالم جرى عليهم من الإضطهاد والتشريد والتطريد مثل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله من أبناء علي وفاطمة عليهم السلام .
هذا ، وقد تضمنت صيغة الحديث المتقدمة عن الإمام الباقر عليه السلام وصفاً دقيقاً لحركتهم ، والمرجح عندي أنه يتعلق بحديث النبي صلى الله عليه وآله المذكور . ( كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق ) يدل على أن هذا الحدث من وعد الله المقدر المحتوم ، وهو ما يعبر عنه النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بـ ( كأني بالشئ الفلاني أو الأمر الفلاني قد حدث ) فهو يدل على حتميته ووضوحه في أذهانهم ، ويقينهم به حتى كأنهم يرونه .
بل يدل على رؤيتهم له بالبصيرة التي خصهم الله بها ،المتناسبة مع مقام النبي صلى الله عليه وآله ومقام أهل بيته عليهم السلام .
كما يدل على أن حركة الإيرانيين هذه تكون عن طريق الثورة ، لأنه المفهوم من قوله ( قد خرجوا ) أي ثاروا .
( يطلبون الحق فلا يعطونه ، ثم يطلبونه فلا يعطونه . فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فيعطون ما سألوا فلا يقبلون حتى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم ) .
وهذا التسلسل في حركتهم يعني أنهم ( يطلبون الحق ) من أعدائهم أي الدول الكبرى ، وهو أن لا يتدخلوا في شؤونهم ويتركوهم مستقلين عن دائرة نفوذهم فلا يعطونهم ذلك ، حتى يضطروهم إلى أن يضعوا سيوفهم على عواتقهم أي إلى الحرب فيحاربون وينتصرون ، فيعطيهم أعداؤهم ما سألوا أول الأمر فلا يقبلون ذلك ، لأنه يصير أمراً متأخراً بعد فوات الأوان وتغير الظروف .
( حتى يقوموا ) حيث تبدأ ثورتهم الجديدة المتصلة بظهور المهدي عليه السلام الى أن يظهر فيسلمونه الراية .
وقد ذكرت إحدى روايات الحديث أنهم يقاتلون بعد رفض مطالبهم الأولى ، وينتصرون فيها ، كالحديث المروي في البحار : 51 / 83 : ( فيسألون الحق فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون ، فيعطون ما سألوا فلا يقبلون . . الخ . ) .
وينبغي الإشارة الى أن تكرار قوله عليه السلام : ( يطلبون الحق فلا يعطونه ) يدل أن مطالبتهم به تكون على مرحلتين قبل الحرب وبعد الحرب ، وأن ثورتهم الشاملة ( حتى يقوموا ) تكون قرب ظهور المهدي عليه السلام .
وتعبيره عليه السلام عن بداية حركتهم بالخروج ، وعن حركتهم المتصلة بالظهور بقوله عليه السلام ( حتى يقوموا ) ، يدل على أن هذا القيام أعظم من خروجهم وثورتهم أول الأمر .
ويدل على أنه مرحلة نضج وتطور لهذه الثورة يصل فيها الإيرانيون إلى مرحلة النفير العام والقيام لله تعالى تمهيداً لظهور المهدي عليه السلام .
وقد يفهم من التعبير بـ ( حتى يقوموا ) وليس ( فيقوموا ) مثلاً أنه يوجد فاصل زمني بين إعطائهم مطالبهم وبين قيامهم الكبير ، أو على وجود مرحلة من التأمل والتردد عندهم ، بسبب وجود اتجاه في داخلهم يريد القبول بما كانوا يطالبون به فقط ، أو بسبب الظروف الخارجية التي تحيط بهم ، ولكن الاتجاه الآخر يغلب فيقومون من جديد قياماً شاملاً يتحقق فيه التمهيد للمهدي عليه السلام .
( قتلاهم شهداء ) هذه شهادة عظيمة من الإمام الباقر عليه السلام لمن يقتل في حركتهم سواء في خروجهم أو حروبهم أو قيامهم الكبير الأخير . .
وقد يقال إن شهادة الإمام الباقر عليه السلام بأن ( قتلاهم شهداء ) إنما تدل على صحة نية مقاتليهم و مظلوميتهم ، ولكنها لا تدل على صحة نية قادتهم وخطهم .
ولكن حتى لو سلمنا ذلك جدلاً ، وتجاوزنا قاعدة صحة عمل المسلم ونيته ، فإن مثل هذا التفسير لا يغير من الموقف شيئاً .
( أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر ) يخبر بذلك عن نفسه عليه السلام أنه لو أدرك حركتهم لحافظ على نفسه أن يقتل وإن كان قتلاهم شهداء ، لأجل أن يبقي نفسه إلى ظهور المهدي عليه السلام ونصرته . وفي ذلك دلالة على المقام العظيم للإمام المهدي عليه السلام ومن يكون معه ، بحيث يحرص على ذلك الإمام الباقر ، وهو تواضع عظيم أيضاً منه لولده المهدي الموعود عليهما السلام .
وفيه دلالة أيضاً على أن مدة حركة الإيرانيين إلى ظهور المهدي عليه السلام لا تزيد عن عمر انسان ، لأن ظاهر كلام الباقر عليه السلام أنه لو أدرك حركتهم لأبقى نفسه لنصرة المهدي عليه السلام بالأسباب الطبيعية ، وليس بالأسباب الإعجازية ، وهي دلالة مهمة على دخولنا في عصر الظهور واتصال حركتهم به ، وقربها منه .
ومن طريف ما سمعته من التعليق على حديث رايات المشرق وقوله صلى الله عليه وآله : ( فليأتهم ولو حبواً على الثلج ) أن أحد كبار علماء تونس وهو عالم جليل متقدم في السن لا نريد الإضرار به بذكر اسمه حفظه الله ، زار إيران في فصل الشتاء والثلج ، وبينما كان خارجاً من الفندق زلقت قدمه فوقع على الثلج . قال صاحبه : بادرت لأنهضه فقال لي : لا تفعل ، إصبر ، أريد أن أنهض أنا بنفسي ! ونهض على يديه ببطء ، حتى إذا استوى واقفاً قال : كنا عندما نقرأ هذا الحديث عن المهدي وأنصاره ونصل إلى قوله صلى الله عليه وآله : ( فليأتهم ولو حبواً على الثلج ) نتساءل : إن المهدي يخرج من الحجاز وأين الثلج في الحجاز أو الجزيرة حتى يأمرنا النبي صلى الله عليه وآله بهذا التعبير؟ والآن عرفت معنى قوله صلى الله عليه وآله فأردت ألمس الثلج وأنهض عنه بنفسي 1!

  • 1. عصر الظهور ، للعلامة الشيخ علي الكوراني العاملي حفظه الله.