الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ذكرى انتقال رسول الله الى ربه

لا شك أن انتقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربه راضياً مرضياً كان حدثاً مؤلماً وحزيناً لعموم المسلمين آنذاك، لأن ذلك الانتقال إلى الرفيق الأعلى كان الإشارة إلى انقطاع الوحي الإلهي الرابط بين السماء والأرض، لأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان خاتم الرسل والأنبياء (عليهم السلام) وكان رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد جهاد طويل ومرير طوال ثلاث وعشرين سنة قضاها في الدعوة إلى الله عزوجل وتوحيده وعبادته كبديل عن عبادة الأصنام والأوثان التي كانت متعارفة في ذلك العصر، وكان منها ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة ولم يدخل في دين الله إلا العشرات في الإسلام، وتعرض خلالها المسلمون الأوائل لشتى أنواع الضغوطات والتعذيب والتهديد، حتى اضطروا للهروب بدينهم والهجرة إلى الحبشة ليعيشوا الأمان والحرية في عبادة الله وفق الدين الوافد الذي آمنوا به، وكانت المرحلة المكية صعبة جداً على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة العراقيل والعقبات الموجودة التي كان زعماء قريش يضعونها في طريق انتشار الدعوة الحقة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، واستشهد والدا عمار وهما ياسر وسمية " وكانا أول شهيدين في سبيل الله عزوجل واللذين قضيا نتيجة التعذيب الجسدي القاسي الذي مارسه جلاوزة قريش بحقهما.
وبسبب هذه الصعوبات حاول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسعى لإيجاد أرض بديلة يمكن أن يدخل أهلها في الإسلام ويتقبلوا هذا الدين الجديد، وتحقق ذلك في أهل المدينة المنورة "يثرب" الذين آمنوا بالإسلام وعاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحاموا عنه ويدافعوا معه في سبيل إرساء قواعد هذا الدين الجديد وكانت الهجرة إليها إيذاناً ببداية مرحلة جديدة في حياة الإسلام، حيث استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتعاون مع أهل المدينة أن يقيم أول مجتمع إسلامي، يتم التعامل فيه وفق قواعد الشرع الحنيف، وسعى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن تكون تلك التجربة ناجحة ومميزة لتعطي للناس كلهم آنذاك البديل عن النظام الجاهلي وعن عبادة الأصنام والأوثان.
ولذا قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكثير من الخطوات الرائدة، كان أولها بناء المسجد للصلاة، وكان منها المؤاخاة بين المسلمين من المهاجرين من مكة والأنصار من أهل المدينة، وكان منها بناء المجتمع وفق مراتبهم الدينية والإيمانية تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿ ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... 1، وكان منها المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أبناء المجتمع الإسلامي على اختلاف مراتبهم وامتيازاتهم ودرجاتهم في مجتمع ما قبل الإسلام، ومنها صهر كل القوميات في الدين الجديد الجامع الأول بين كل البشر ولذا فسلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وأبو ذر العربي صار انتماؤهم للإسلام أقوى من الانتماء لقومياتهم الأساسية التي كان لها اعبتار في مجتمع الجاهلية المبني على التفاضل بين العربي وغيره من أبناء القوميات الأخرى.
فالمرحلة المدنية التي حفلت بكل تلك الإنجازات جعلت من التجربة ناجحة جداً، بحيث إن الناس صاروا يقارنون بين مجتمع الإسلام في المدينة المنورة، وبين المجتمع الجاهلي، ووجدوا الفوارق الكبيرة بينهما، فالمجتمع الإسلامي يعطي للإنسان حقه مهما كان لونه أو لغته أو جنسيته وقوميته، ويشعر الإنسان بإنسانيته وقيمته في الحياة، بينما الإنسان في المجتمع الجاهلي لقيمة مادية لا غير أو قيمة عينية على قوة القبيلة والعشيرة وما شابه ذلك من القوانين غير الإسلامية التي كانت سائدة يومذاك ويتم تقسيم أفراد المجتمع على أساسها.
ولذا نجد أنه لم تكن السنة الثامنة من الهجرة تنتهي حتى دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة فاتحاً معلناً نهاية عصر عبادة الأصنام والأوثان، ومعلناً بداية عصر عبادة الله الواحد الرحمن، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن النموذج التطبيقي السليم والصحيح للإسلام على كل أفراد المجتمع هو الذي يعطي القوة للعقيدة من جهة، وهو الذي يدفع بالناس للدخول في دين الله عزوجل الذي هو "الإسلام" كما قال عزوجل: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ... 2.
من هنا نحن المسلمون مطالبون اليوم كما كنا مطالبين في السابق وكما سنكون مطالبين في كل عصر بأن نمارس إسلامنا كأفراد وجماعات وشعوب بالطريقة الصحيحة التي تجعل الآخرين منجذبين إلى هذا الدين، خصوصاً في هذا الزمن الذي يتعرض فيه هذا الدين لمؤامرة الاستكبار العالمي المتحالف مع الصهيونية العالمية لتسفيه هذا الدين وإظهاره على غير حقيقته ومحتواه.
ولا بد من دراسة تجربة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بناء المجتمع الإسلامي الأول دراسة دقيقة ومتأنية حتى نستفيد منها كيف نبني مجتمعاتنا على أساس هذا الدين العظيم المليء بالمعاني السامية التي تحقق إنسانية الإنسان بكل أبعادها المادية والمعنوية والروحية، لعل ذلك يكون الخطوة السليمة لإنقاذ البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور ومن موت الكفر إلى حياة الإيمان والإرتباط بالله عزوجل3.