الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

كلام عن السحر في القرآن الكريم

هل اعترف القرآن بتأثير السحر تأثيراً وراء مجاري الطبيعة ، حسبما يزعمه أهلُ السحر و النفّاثاتُ في العُقد ؟
ليس في القرآن ما يشي بذلك سوى بيان وَهْن مَقْدُرتهم و فَضْح أساليبهم بأنّها شَعْوذة و تخييلات مجرّدة لا واقعية لها . يقول بشأن سَحَرة فرعون : ﴿ ... فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 1 . فكان الرائي يتخيّل أنّ تلك الحبال و العصيّ تسعى ، أي تنزو و تقفز و تلتوي على أنحاء الحركات التي كان الناظرون يحسبونها حركات حياتية و أنّها حيّات ثعابين متهيّجة . قال الطبرسي : لأنّها لم تكن تسعى حقيقة ، و إنّما تحرّكت لأنّهم جعلوا في أجوافها الزئبق ، فلمّا حميت الشمس تمدّدت الزئابق فحصلت على أثره تلك التحرّكات ، و ظُنَّ أنّها تسعى 2 .

و ذلك أنّهم أخذوا مصارين أو اُدُم مصنوعة على صُوَر الحيّات و الأفاعي ، و جعلوا في أجوافها زئابق و تركوها بصورة العصيّ و الحبال في ساحة بعيدة عن متناول الناس و مشاهدتهم القريبة . و كانت الساحة قد حفرت تحتها أسراب و أشعلوا فيها ناراً فأثّرت حرارتها من تحت و حرارة الشمس من فوق ، فجعلت الزئابق تتمدّد و تتقلّص ، و تراءى للنّاس أنّها تسعى . و من ثمّ قال تعالى : ﴿ ... سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ 3 . و ما هي إلاّ شعوذة لا واقع لها سوى تخييل ظاهريّ مجرّد .
قال الطبرسي : احتالوا في تحريك العصيّ و الحبال بما جعلوا فيها من الزئبق حتّى تحرّكت بحرارة الشمس و غير ذلك من الحيل و أنواع التمويه و التلبيس ، فخُيّل إلى الناس أنّها تتحرّك على ما تتحرّك الحيّة . و إنّما سحروا أعيُنَ الناس ، لأنّهم أروهم شيئاً لم يعرفوا حقيقته و خفي ذلك عليهم لبعده منهم ، فإنّهم لم يدعوا مجالاً للناس كي يدخلوا فيما بينهم [ خوف فضح أمرهم ] .
قال : و في هذا دلالة على أنّ السحر لا حقيقة له ، لأنّها لو صارت حيّات حقيقةً لم يقل الله سبحانه : ﴿ ... سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ... 3 بل كان يقول : فلمّأ ألقوا صارت حيّات . و قد قال سبحانه أيضاً : ﴿ ... يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 1 4 .
و امّا وصف سحرهم بالعظمة ، فلأجل استعظام الناس ذلك المشهد الرهيب .
يقول الرازي في ذيل هذه الآية : و احتجّ به القائلون بأنّ السحر محض التمويه . قال القاضي : لو كان السحر حقّاً لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم ، فثبت أنّ المراد أنّهم تخيّلوا أحوالاً عجيبة مع أنّ الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيّلوه . قال الواحدي : بل المراد ، سحروا أعيُنَ الناس أي قلبوها عن صحّة إدراكها بسبب تلك التمويهات . و قيل : إنّهم أتوا بالحبال و العصيّ و لطّخوا تلك الحبال بالزئبق و جعلوا الزئبق في دواخل العصّي ، فلمّا أثّر تسخين الشمس فيها تحرّكت و التوى بعضها على بعض و كانت كثيرة جدّاً ، فالناس تخيّلوا أنّها تتحرّك باختيارها و قدرتها 5 .
قال الإمام الجصّاص : و متى اُطلق السحر فهو اسم لكلّ أمر مموّهٍ باطل لا حقيقة له و لا ثبات . قال الله تعالى : ﴿ ... سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ... 3 يعني موّهوا عليهم حتّى ظنّوا أنّ حبالهم و عصيّهم تسعى . و قال : ﴿ ... يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 1 فأخبر أنّ ما ظنّوه سعياً منها لم يكن سعياً و إنّما كان تخييلاً . و قد قيل : إنّها كانت عصيّاً مجوّفة قد ملئت زئبقاً و كذلك الحبال كانت معمولة من اُدُم 6 محشوّة زئبقاً و قد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسراباً و جعلوا آزاجاً 7 و ملؤوها ناراً . فلمّا طرحت عليه و حمي الزئبق حرّكها ، لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته [ حرارة ] النار أنّ يطير . فأخبر الله أنّ ذلك كان مموّهاً على غير حقيقة . و العرب تقول لضرب من الحليّ مسحور ، أي مموّهٌ على من رآه مسحورٌ به عينه 8 .
و هكذا ذهب الإمام محمّد عبده في تفسير قال ـ بعد نقل كلام الجصّاص ـ : فعلى هذا يكون سحرهم لأعيُن الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية ، إذا صحّ الخبر . و يحتمل أن يكون بحيلة اُخرى كإطلاق أبخرة أثّرت في الأعيُن فجعلتها تبصر ذلك . أو بجعل العصيّ و الحبال على صورة الحيّات و تحريكها . بمحرّكات خفيّة سريعة لا تدركها أبصار الناظرين . و كانت هذه الأعمال من الصناعات و تسمّى السيمياء 9 و هي لغة يونانية تعني الشعوذة و النيرنج 10 . هي عبارة عن مزاولة أعمال خفيّة سريعة تتراءى للناظرين أشكالاً على غير واقعها ، و ربّما باستعمال موادّ كيمياوية تخفى على الناظرين 11 . و هو متعارف حتّى اليوم الغاية إلهاء الناس في مجالس اللهو و السرور و مناسبات الأعياد و الأفراح .
قال الزمخشري : ﴿ ... سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ... 3 أروها بالحيل و الشعوذة و خيّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه 12 .
إذن ، فلم يثبت من هذه الآية اعتراف للقرآن بحقيقة السحر سوى الشعوذة و التوسّل بالحيل للتمويه على أعيُن النّاس ، هذا فحسب . و هناك آيات اُخر استندوا إليها لهذا الاعتراف المزعوم ، كالآيات الواردة بشأن سَحَرة بابل في سورة البقرة . و كذا سورة الفلق ﴿ ... النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ 13 . و سنتكلّم عن ذلك أيضاً بعد الكلام عن أقسام السحر و رأي علماء المسلمين فيه . و سيبدوا بعون الله تعالى أنّ تلكم الآيات أيضاً بعيدة كلّ البُعد عمّا رامه الزاعمون و أن ليس في القرآن ما يشي باعترافه بحقيقة السحر بتاتاً .

أقسام السحر

السحر بحسب الغة : ما لطف و دقّ مأخذه في التأثير ، و من ثمّ فإنّ من البيان لسحراً . و قسّمه الإمام الرازي بحسب المصطلح إلى أنواع ثمانية :
النوع الأوّل : الاستعانة بالكواكب ، زعماً أنّها هي المدبّرة لهذا العالم . نسب ذلك إلى الكدانيّين كانوا يعبدون الكواكب ، فكانوا يستعينون بها على سدّ مآربهم و القضاء على مناوئيهم .
و أهل العدل و التنزيه من متكلّمي المسلمين ( الإماميّة و المعتزلة ) أنكروا صحّة ذلك ، بل جواز الاعتقاد به قد يؤدّي إلى الشرك بالله العظيم . و قامت الأشاعرة بوجههم فأجازوه باعتبارها أسباباً و عللاً طبيعية كانت تحت إرادته تعالى .
النوع الثاني : سحر أصحاب الأوهام و النفوس القوية ، فهناك لأرباب النفوس القوية تأثير كبير في إلقاءاتهم على ذوي النفوس الضعيفة . و النفس إذا تأثّرت بما اُلقي إليها توهّمته قطعيّاً و انفعلت به و انجذبت إليه انجذاباً . الأمر الذي قام به أكثر أصحاب المقدرات القوية فسخّرت زرافات من ذوي الأنفس الضعيفة السريعة الانخداع .
النوع الثالث : الاستعانة بالأرواح الأرضية الخبيثة ، ممّا عبّروا عنها بتسخير شياطين الجنّ . الأمر الذي يقوم به أصحاب الرقى و الدُخُن و التعويذ و الطلسمات . و لعلّ لهذا النوع سوقاً رائجة في أوساط هابطة ولا سيّما العجائز من النساء و ذوي العقول الساذجة .
النوع الرابع : التخييلات و الأخذ بالعيون . و هذا النوع مبتنٍ على أخطاء البصر و الانصرافات الذهنية التي يستخدمها السَحَرة من هذا النمط . و يسمّى بالشعوذة على ما مرّ تفصيله .
النوع الخامس : استعمال آلات و أدوات صناعية و تركيبها تراكيب غريبة في أشكال و صوَر هندسيّة تستجلب أنظار الحاضرين و توجب إعجابهم و الضحك و السرور ، و هو لعب على اُصول رياضية و هندسية مُهلية ، تتداول في مجالس الأفراح .
النوع السادس : الاستعانة بخواصّ الأدوية ، مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلّدة أو المزيلة للعقل و الدُخُن المسكّرة و نحو ذلك .
النوع السابع : تعليق القلب ، حيث يجد الساحرُ ضعيفَ العقل قليل التمييز ، فيلقي عليه أنّه يعرف الاسم الأعظم أو أنّ الجنّ يطيعونه ، فيصدّقه الضعيف و يتعلّق قلبه بما قال . و ربّما استخفّ الساحر من عقله فيتمكّن من تنفيذ ما أراده في نفسه . و لمثل هذه الانفعالات النفسية مجال متّسع لتجوال أهل الشعوذة و التزوير و النفوذ في الشعور .
النوع الثامن : السعي بالنميمة و التضريب من جوه خفيفة لطيفة ، بما يؤثر حبّاً أو بُغضاًَ أو تأليفاً أو تفريقاً بين الزوجين أو المتحابّين وهو شائع كثير 14 .
و إذ قد عرفت أنواع السحر المعروفة عند العرب و عند الناس في مختلف الأجيال تجد أن ليس له واقع في جميع أنواعه ، بمعنى : التأثير في تغيير اتجاه المسير الذي جرت عليه الطبيعة تأثيراً خارقاً للعادة . و من ثمّ فقد أنكرته اصحاب المذاهب العقلية من علماء الإسلام ، ولم يعتبروه شيئاً وراء التمويه و الشعوذة و التخييل ، لأجل التلاعب بعقول السُذَّج الضعفاء .
قال الرازي : أما المعتزلة فقد أنكروا السحر فيما عدى التمويه و الشعوذة ، و لعلّهم كفّروا معتقد تأثير الكواكب و تسخيرها أو تسخير الجنّ و ما شاكل ممّا ينافي التوحيد في الربوبية أو يخالف حكمته تعالى في الخلق و التدبير .
قال : و أمّا أهل السنّة فقد جوّزوا ذلك ، بأن يطير إنسان في الهواء بلا سبب طبيعي أو يحوّل إنساناً إلى حمار أو حماراً إلى إنسان ، الأمر الذي لا يتنافى و ربوبيّته تعالى حيث جرت سنّته على إقدار الساحر في تأثير سحره عندما يقرأ رقىً أو يزمزم ورداً 15 . و استندوا في ذلك إلى روايات واهية تزعم أنّ اليهود سحرت النبي ( صلى الله عليه و آله ) فكان يتخيّل أنّه فعل شيئاً ولم يفعله ، و ما إلى ذلك من أكاذيب فاضحة ، زيّفناها مُسبَقاً .
و أفظع من الكلّ تعاليق ابن المنير الإسكندري على الكشّاف بهذا الشأن ، منا قوله ـ عند كلام الزمخشري ﴿ ... سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ... 3 أي أروها بالحيل و الشعوذة و خيّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه : هذا الإنكار معتقد المعتزلة ، و معتقد أهل السنّة الإقرار بوجود السحر ، و لا يمنع عند أهل السنّة أن يرقى الساحر في الهواء و يستدقّ فيتولّج في الكوّة الضيّقة . و لا يمنع أن يفعل الله عند إرشاد الساحر ما يستأثر الأقتدار عليه . و ذلك واقع بقدرة الله عند إرشاد الساحر . هذا هو الحقّ و المعتقد الصدق . قال : و إنّما أجريت هذا الفصل لأنّ كلام الزمخشري لا يخلو من رمزٍ إلى إنكاره ، إلاّ أنّ هذا النصّ القاطع بوقوعه يُلجمه عن التصريح بالدفاع و كشف القناع ، و لا يدعه التصميم على اعتقاد المعتزلة من التنفيس عمّا في نفسه ، فيسمّيه شعوذة و حيلة . و بالقطع يعلم أنّ الشعوذة لا تعمل في يد ابن عمر حتّى بكوعها و لا تؤثّر في سيّد البشر حتّى يخيّل إليه أنّه يأتي نساءه و هو لا يأتيهنّ . و قد ورد ذلك و أمثاله مستفيضاً واقعاً . و العمدة أنّ كلّ واقع فبقدرة الله تعالى 16 .
و هذا الذي ذكره ابن المنير إلى أهل السنّة إنّما هو مذهب الأشعري البائد ، أمّا علماء أهل السنّة اليوم فقد واكبوا إخوانهم من أهل التحقيق في النظر ، ولم يعيروا لما يذكره أهل السفاسف اهتماماً ولم يعتبروا من مزاعمهم في السحر وزناً سوى تمويهٍ مجَّرد و تخييلٍ كاذب أو مشيءٍ في النميمة و بثَّ روح الفرقة أو ألاعيب تقام بها في الأفراح .
قال الشيخ محمّد عبده : السحر عند العرب كلّ ما لطف مأخذه و دقّ و خفي . . . و قد وصف الله السحر في القرآن بأنّه تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائناً ـ ثمّ يذكر الآيات و يقول ـ : و مجموع هذه النصوص يدلّ على أنّ السحر إمّا حيلة و شعوذة ، و إمّا صناعة علمية خفيّة يعرفها بعض الناس و يجهلها الأكثرون فيسمّون العمل بها سحراً لخفاء سببه و لطف مأخذه . و يمكن أن يُعدّ منه تأثير النفس الإنسانية في نفسٍ اُخرى لمثل هذه العلّة . و قد قال المؤرّخون : إنّ سَحَرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال و العصيّ بصوَر الحيّات و الثعابين و تخييل أنّها تسعى . و قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال و العصيّ بصوَر الحيّات و الثعابين و تخييل أنّها تسعى . و قد اعتاد الّذين اتخذوا التأثيرات النفسية صناعةً و وسيلةً للمعاش أن يستعينوا بكلامٍ مبهم و أسماء غريبة اشتهر عند الناس أنّها من أسماء الشياطين و ملوك الجانّ و أنّهم يحضرون إذا دعوا بها و يكونون مسخّرين للداعي . ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم ، عُرف بالتجربة . و سببه اعتقاد الواهم أنّ الشياطين يستجيبون لقارئه و يطيعون أمره . و منهم من يعتقد أنّ فيه خاصّية التأثير و ليس فيه خاصّية . و أنّما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما يغني منتحل السحر عن توجيه همّته و تأثير إرادته ، و هذا هو السبب في اعتقاد الدُّهماء 17 أنّ السحر عمل يستعان عليه بالشياطين و أرواح الكواكب 18 .
و قد اقتفى أثره الشيخ المراغي في عبارة اختصرها من كلام اُستاذه الشيخ محمّد عبده 19 .
و قال سيّد قطب ـ عند تفسير سورة الفلق ـ : و السحر لا يغيّر من طبيعة الأشياء ، و لا يُنشئ حقيقة جديدة لها ، و لكنّه يخيّل للحواسّ و المشاعر بما يريده الساحر . و هذا هو السحر كما صوّره القرآن الكريم في قصّة موسى ( عليه السَّلام ) من سورة طه ﴿ ... فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 1 . و هكذا لم تنقلب حبالهم و عصيّهم حيّاتٍ فعلاً ، و لكن خيّل إلى الناس أنّها تسعى . و هذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلّم بها ، و هو بهذه الطبيعية يؤثّر في الناس و ينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه ، مشاعر تخيفهم و تؤذيهم و توجّههم الوجهة التي يريدها الساحر ، و هو شرّ يُستعاذ منه بالله و يُلجأ منه إلى حماه 20 .
و قد أعرب شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي ( قُدِّسَ سِرُّه ) عن معتقد أهل الحقّ في السحر و أن لا حقيقة له ، قال : ذكروا للسحر معاني أربعة :
أحدها : أنّه خُدَع و مخاريق و تمويهات لا حقيقة لها ، يخيَّل إلى المسحور أنّ لها حقيقة .
الثاني : أنّه أخذ بالعين على وجه الحيلة .
الثالث : أنّه قلب الحيوان من صورةٍ إلى اُخرى ، و إنشاء الأجسام على وجه الإختراع ، فيمكن الساحر أن يقلب الإنسان حماراً و ينشئ أجساماً .
الرابع : أنّه ضرب من خدمة الجنّ .
قال : و أقرب الأقوال هو الأوّل ، لأنّ كلّ شيء خرج عن مجرى العادة فإنّه سحر [ في مزعومهم ] لا يجوز أن يتأتّى من الساحر ، و من جوّز شيئاً من هذا فقد كفر . لأنّه لا يمكن مع ذلك ، العلمُ بصحّة المعجزات الدالّة على النبوّات ، لأنّه أجاز مثله على جهة الحيلة و السحر 21 .
و هكذا ذهب إلى إنكاره في كتاب الخلاف 22 .
و قال الطبرسي : السحر و الكهانة و الحيلة نظائر . و من السحر ، الأُخْذَةُ التي تأخذ العين حتّى يظنّ أنّ الأمر كما ترى و ليس الأمر كما ترى . و الجمع ، الاُخَذ . فالسحر عمل خفيّ لخفاء سببه ، يصوّر الشيء بخلاف صورته عن جنسه في الظاهر و لا يقلبه عن جنسه في الحقيقة ، ألا ترى إلى قوله سبحنه و تعالى : ﴿ ... يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 1 ؟ 23
و قال المجلسي العظيم ـ في كلامٍ له عن السحر ناظرٍ إلى ما ننقله عن ابن خلدون : و أمّا ما يذكر من بلاد الترك أنّهم يعملون ما يحدث به السُحُب و الأمطار فتأثير أعمال هؤلاء الكفرة في الآثار العلوية و ما به نظام العالم ممّا تأبى عنه العقول السليمة و الأفهام القويمة . ولم يثبت عندنا بخبر من يوثق بقوله 24 .
و العجب من بعض الكتّاب العصريّين جنح إلى ترجيح الرأي القائل بحقيقة السحر و أنّ له واقعاً يؤثّر في قلب الواقعية حقيقة ، و اقتفى في ذلك بعض أقوال القدماء فيما نقلوه من حكايات هي أشبه بالخرافات منها بالواقعيات .
هذا الاُستاذ محّمد فريد وجدي ينقل أوّلاً عن مقدّمة ابن خلدون اعترافه بحقيقة السحر ، ثم يعقّبه باستنكار الغربيّين و يحمل عليهم بأنّهم قاصرو النظر في إطار من المادّيات و يجعلون العالم كلّه في دائرة أضيق من سمّ الخياط . و أخيراً يرجّح أنّ له حقيقة و يذكر له شاهداً في قصّةٍ خيالية . و إليك بعض كلامه و نُقُوله عن ابن خلدون و غيره :
قال ابن خلدون في مقدّمته : السحر ، علم بكيفية الاستعدادات تقتدر النفوس البشرية به على التأثيرات في عالم العناصر إمّا بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية . و الأوّل هو السّحر ، و الثاني هو الطِلَّسمات . قال : و لنقدّم هنا مقدّمةً يتبيّن بها حقيقة السحر ، و ذلك أنّ النفوس البشرية و إن كانت واحدة بالنوع فهي مختلفة بالخواصّ . فنفوس الأنبياء لها خاصّية تستعدّ بها للمعرفة الربّانية و مخاطبة الملائكة . و ما يتّسع في ذلك من التأثير في الأكوان و استجلاب روحانية الكواكب للتصّرف فيها و التأثير بقوّةٍ نفسانية أو شيطانية . فأمّا تأثير الأنبياء فمدد إلهي و خاصّية ربّانية ، و نفوس الكهنة لها خاصّية الاطّلاع على الساحرة على مراتب ثلاث ، فأوّلها المؤثّرة بالهمّة فقط من غير آلةٍ و لا معين ، و هذا هو الذي يُسمّيه الفلاسفة السحر . و الثاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواصّ الأعداد ، و يُسمّونه الطِلَّسمات ، و هو أضعف رتبةً من الأوّل . و الثالث تأثير في القوى المتخيّلة ، يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيّلة فيتصرّف فيها بنوعٍ من التصرّف و يلقي فيها أنواعاً من الخيالات و المحاكاة و صُوَراًَ ممّا يقصده من ذلك ، ثمّ ينزلها إلى الحسّ من الرائين بقوّة نفسه المؤثّرة فيه ، فينظر الراءون كأنّها في الخارج و ليس هناك شيء من ذلك كما يحكي عن بعضهم أنّه يُري البساتين و الأنهار و القصور ، و ليس هناك شيء من ذلك . و يسمّى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة .
قال : ثمّ هذه الخاصّية تكون في الساحر بالقوّة شأن القوى البشرية كلّها ، و إنّما تخرج من القوّة إلى الفعل بالرياضة ، و رياضة السحر كلّها إنّما تكون بالتوجّه إلى الأفلاك و الكواكب و العوالم العلويّة و الشياطين ، بأنواع التعظيم و العبادة و الخضوع و التذلّل ، فهي لذلك وجهةٌ إلى غير الله و سجود لغير الله ، و الوجهة إلى غير الله كفر ، فلهذا كان السحر كفراً و الكفر من موادّه و أسبابه .
قال : و اعلم أنّ وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه ، و قد نطق به القرآن ، قال الله تعالى : ﴿ ... وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ... 25 . و سُحِر رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) حتّى كان يخيَّل إليه أنّه يفعل الشيء و لا يفعله . و جُعل سحره في مِشطٍ و مُشاقةٍ و جُفّ طِلعةٍ ، و دفن في بئر ذروان . فأنزل الله عليه ﴿ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ 26 . قالت عائشة : كان لا يقرأ على عُقدةٍ من تلك العُقد التي سُحر فيها إلاّ انحلّت .
قال : و رأينا بالعيان من يصوّر صورة الشخص المسحور بخواصّ أشياء مقابلةٍ لما نواه و حاوله ، موجودةٍ بالمسحور ، و أمثال تلك المعاني من أسماء و صفات في التأليف و التفريق ، ثمّ يتكلّم على تلك الصور التي أقام الشخص المسحور عيناً أو معنىً ، ثمّ ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء و يعقد ذلك المعنى في سببٍ أعدّه لذلك تفاؤلاً بالعُقد و اللزام و اُخذ العهد على من أشرك به من الجنّ في نفثه في فعله ذلك استشعاراً للعزيمة بالعزم . و لتلك البنية و الأسماء السيّئة روح خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلّقةً بريقه الخارج من فيه بالنفث ، فتنزل عنها أرواح خبيثة و يقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر !
قال : و شاهدنا أيضاً من المنتحلين للسحر و عمله من يشير إلى كساء أو جلدٍ و يتكلّم عليه في سرّه ، فإذا هو مقطوع متخرّق . و يشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج ( أي شق البطن ) فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض .
و سمعنا أنّ بأرض الهند لهذا العهد مَن يشير إلى إنسان فيتحتّت ( أي يتفتت و يتساقط ) قلبه و يقع ميّتاً ، و ينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه . و يشير إلى الرمّانة و تُفتح فلا يوجد من حبوبها شيء .
قال : و كذلك سمعنا أنّ بأرض السودان و أرض الترك من يسحر السحاب فيُمطر الأرض المخصوصة . و كذلك رأينا من عمل الطِلَّسمات عجائب من الأعداد المتحابّة . . . و نقل أصحاب الطِلّسمات أنّ لتلك الأعداد أثراً في الاُلفة بين المتحابّين و اجتماعهما إذا وضع لهما مثالان أحدهما بطالع الزهرة و هي في بيتها أو شرفها ناظرةٌ إلى القمر نظر مودّةٍ و قبولٍ 27 .
ثمّ يذكر الاُستاذ وجدي ما شاهده الغربيّون في تجوالهم القارّات من غرائب صدرت على أيدي كهنة القبائل ، و لكنّهم جرّبوها بأنفسهم فوجدوها ﴿ ... كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ... 28 . فرأوها لا تؤثّر أدنى تأثير ، فزالت جميع الأوهام التي كان الأقدمون يحيطون بها من الكيمياء و النجامة ، و تولّد من الاُولى الكيمياء الحقيقية ، و من الثانية علم الفلك الصحيح .
قال الاُستاذ وجدي : و قد ذكر القرآن الكريم السحر في مواضع كثيرة . و قد مضى متقدّموا الأمّة معتقدين وجوده و أنّه من العلوم السرّية التي يتحصّل عليها بالرياضة و غيرها . و مال بعضهم و كثير من المتأخّرين إلى زعم أنّ السحر سرعة اليد و صناعة في التمويه ، و ليس له دليل يسنده . قال : و لكن دليلنا نصّ القرآن و ما نقرأه في كتب الخوارق التي ظهرت في أوربا منذ تسعين سنة باسم { الاسبرتزم } و غيره ممّا يرينا جليّاً أنّ هنالك علماً روحانيّاً و فيه من الكائنات مالا نتصّوره و أنّنا نستطيع أن نناجي تلك الكائنات عالماً روحانياً و فيه من الكائنات مالا نتصوّره و أنّنا نستطيع أن نناجي تلك الكائنات و تناجينا . و متى كان هذا ممكناً و تقرّر أنّ الوجود عامر بالآيات المغيّبة فلا يبعد أن يكون السحر تابعاً لقوى روحانية و أنّه ليس بمجّرد صناعة أو سرعة يد الساحر .
قال : حكى لي والدي عن محمّد وجيهي بيك العمري محافظ دمياط سابقاً ، و كان رجلاً صدوقاً تقيّاً ، قال : إنّه كان له قريب في بغداد اسمه عزّت باشا و كان شجاعاً مقداماً لا يهاب المخاوف ، و كان به غرام لرؤية الأسرار و العجائب ، فكان لذلك يتحرّى ملاقاة الدراويش و يتصيّدهم لأنّ منهم من يتّفق أن يكون على شيء ممّا يتحرّى رؤيته ، فعثر يوماً بدرويشين غريبين كان من شأنهما أنّ أحدهما يعزم ثمّ يقول بفمه : هُفْ ، فتنفتح جميع نوافذ البيت على سعته مهما كانت مغلقة محكمة الإغلاق ، ثمّ يقول : هُفْ ، فتُقفل جميعها دفعةً واحدةً . و أراه عجائب اُخرى . فسأله عزّت باشا عن السرّ الذي يحدث به ذلك ، فقال : إنّه مستخدمٌ إبليسَ نفسه . فطلب منه أن يراه ، فقال له : لا تقوى على رؤيته . فقال : تقويان أنتما على رؤيته و أضعفُ أنا عن ذلك ؟! مع أنّي كم جُبت المخاوف و ولجت المعاطب! فقالا : ذلك شيءٌ و هذا شيءٌ آخر . فألحّ عليهما ، فانقادا له فجلسا في الظلمة و أخذ أحدهما يعزم مدّةً ، فانشقّ السقف و ظهرت النجوم ثمّ تدلّت منه صورة لا يَتَصوَّر الوهم أفظع منها ، فما أن وقع عليها بصره حتّى قام مذعوراً و تلمّس الباب حتّى وجده و صعد إلى أهله فجمعهم حوله ، و مازال مضطرباً من الذُعر حتّى أصبح و بقي بعدها أربعين يوماً لا يمشي خطوةً حتّى يستصحب معه بعض أهله من شدّة ما لحقه من الخوف 29 .
و لعلّ صاحبنا الأستاذ وجدي فريدٌ وسط زملائه المتنوّري الفكر في قبوله ما يرفضه العقل الرشيد فضلاً عن العلم و الحكمة القويمة . إنّنا لا ننكر أنّ هناك نفوساً قوية من أصحاب التمائم و الزمازم يؤثّرون بقوّة إرادتهم في و هم ضعفاء النفوس فيخيّلون إليهم صوَراً و أشكالاً حسبما يشاءون ، و الغالب أنّ أمثال هؤلاء المدّعين للسحر و تقليب الحقائق هم اُناس مفاليس يستدرّون أموال ذوي العقول السذّج لأجل تأمين معيشتهم الحقيرة ، و هو أحد طرق الإستجداء ، فلو كانوا أصحاب قُدَر خارقة لعالجوا لأنفسهم ما يسدّ حاجتهم عن الاستجداء لا العيش على فضلة الآخرين و على طريقة التدليس و التزوير ، الأمر الذي يكون من أردء أنحاء المعيشة في الحياة ! إنّهم لا يملكون سدّ رَمَقهم فكيف بالتسخير للأرواح المدبّرات !
يقول ابن خلدون ـ الذي حفل بهذه المزعومة في حفاوةٍ و تفصيل ـ : إنّ التأثير الذي لهم إنّما هو فيما سوى الإنسان الحرّ من المتاع و الحيوان و الرقيق . و يعبّرون عن ذلك بقولهم : إنّما نفعل فيما تمشي فيه الدراهم ، أي ما يُملك و يُباع و يُشترى . . . قال : و من هؤلاء من يسمّى بالبعّاجين ، يشيرون إلى بطن الغنم فتنبعج . لأنّ أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام يُرهبون بذلك أهلها ليعطوهم من فضلهم و هم مستترون بذلك في الغاية خوفاً على أنفسهم من الحكّام 30 .
مساكين ! لا يمكنهم الدفع عن أنفسهم فكيف القدرة على قهر الطبيعة و قلبها ؟!
و العجب من الأستاذ وجدي أصاخ بكلّ مسامعه و استسلم لما سطّره ابن خلدون من قدرة الساحر على تسخير الكائنات وسلطته على الأفلاك ـ و حسبها ذوات أنفس و أجرام 31 ـ و الكواكب ـ حسبوها ذوات عقول و مدبّرات لما يجري على الأرض ـ و الجنّ و القوى الروحانية ، فسخّروها جُمَعَ للتأثير على قلب عناصر المادّة و التصرّف في العالم العلوي و العالم السفلي جميعاً . يالها من مخرقة و إن شئت فسمّها مهزلة!! و هناك حكايات و روايات أكثرها تنمّ عن قوّة التخييل أو هي أكاذيب و أباطيل . و أمّا أصحاب التمائم و النَفْث في العُقَد فإنّما هم أصحاب التمائم و إيحاء الوساوس للتفرقة بين الزوجين أو المتحابّين ، ولا يتأتّى منه غير الإفساد في الأرض ، فيتعلمون ما يضرّهم من غير أن ينفعهم شيئاً حسبما وصفهم القرآن الكريم .
نعم هنا شيء لا ننكره نبّهنا عليه ، و هو : أنّ للنفوس البشرية قدرة خارقة يمكن تنميتها بالارتياض إمّا في وجهة رحمانية رفيعة أو في وجهة أرضية هابطة . و الاُولى رياضة النفس يقوم بها الأنبياء و الأولياء و الصلحاء فيفوزون بمقامات عالية ، و ربّما تتسخّر لهم الكائنات ، و أمّا الوجهة الاُخرى الهابطة فيقوم بها أصحاب الارتياض بترك المشتهيات و لذائذ الحياة في أشقّ الأحوال و أصعب الأعمال التي لم يأت بها اللهُ من سلطان ، و لكنّهم قهروا أنفسهم على نبذ الشهوات و اللذائذ و انخلعوا عن زخارف الحياة . و هو عملٌ له قيمته و وزنه في ترك الدنيا الدنية ، و حيث لم يكن لهم نصيب في الحياة الاُخرى الخالدة فقد يمنحه تعالى منحة تقتنع أنفسهم بها تجاه ما تحمّلوا من مشاقّ الحياة . الأمر الذي قد نشاهده من خوارق على يد مرتاض الهند و غيرها من بلاد ، و لكن في إطار محدود و على شريطة أن لا يزاولوها عن جهة الفساد في الأرض ، و إلاّ فيؤخذ منهم فور إرادة السوء . نظير ما قيل بشأن { بلعام بن باعورا } . قيل : كان رجلاً صالحاً من قوم موسى ، و قد منحه الله استجابة دعائه ، فحاول تقرّباً إلى بعض الأمراء أن يدعو على قوم مؤمنين ، فسلبه الله المنحة و ظلّ خاسراً دينه و دنياه . قيل : و الآية التالية ناظرة إلى هذا الحادث : ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 32 33 .
أمّا العامل بالشرط ولم يتجاوز حدوده المضروبة فستدوم له منحته مادام باقياً على عهده ، أو يُسلم فتدّخر له مثوبته في الدار العقبى مثوبة باقية .
روي أنّ شيخاً من الأكابر رأى في طريقه لمّة مجتمعة حول رجل فسأل عنه ، قيل له : إنّه يعلم الغيب . فأتاه و سأله عن شيء أخفاه في كفّه فأخبره به . فسأله الشيخ عن أيّ ارتياضٍ بلغت هذا المقام ؟ قال : بمخالفة النفس ، لقد دأبتُ أن اُخالف كلّ ما تشتهيه نفسي و تهواه . قال له الشيخ : هذا عمل جسيم ، و لكن هل عرضت على نفسك الإسلام ؟ ـ وكان الرجل من براهمة الهند ـ قال : لا . قال له الشيخ : أعرضه على نفسك ثم انظر هل توافقك عليه أم تخالفك ؟ فعرض الرجل الإسلام على نفسه و أبدى أنّ نفسه ترفضه ! فقال له الشيخ : إذن خالِف هوى نفسك ، على دأبك القديم ! فقبِل الرجل و اعتنق الإسلام . و عندئذ سأله الشيخ عن شيء أخفاه في كفه ، فلم يستطع الرجل أن يخبر عنه و زال عنه علمه بالغيب و تعجّب الرجل من ذلك ! قال له الشيخ : لا تعجب ، إنّك كنت على أمرٍ عظيم ، و حيث لم يكن لك نصيب في العقبى جازاك الله بطرفٍ من عنايته عليك في هذه الحياة . فلمّا أسلمتَ ادّخر الله لك ذلك مثوبةً عُظمى في الآخرة .
و لبراهمة الهند المرتاضين قضايا عجيبة و تصرّفات خارقة تعود إلى مقدرتهم النفسية الفائقة ، الحاصلة على أثر ترك الملاذّ و تحمّل المشاقّ ، فمُنحوا شيئاً من إمكان التصرّفات الخارقة مقتنعين بذلك تمام الاقتناع ، حيث لا خلاق لهم في الآخرة .
جاء في مذكّرات مرافق الملك جورج السادس عاهل الحكومة البريطانية في سفرته إلى الهند أيّام الاحتلال مشاهد عجيبة بهذا الشأن . يقول : وقف القطار في إحدى المحطّات لخزن الماء ، فنزل الملك و جعل يتمشّى و إذا بمرتاض قابع في ناحية وجده في غاية الوساخة فنصحه أن يهتمّ بنظافة جسمه و ثيابه و حاول مساعدته ، و إذا بالمرتاض اغتاظ لذلك ولم يجبه شيء . فانصرف الملك و ركب القطار ، و إذا بالقطار لا يتحرّك . فقام المهندسون بالفحص من غير أن يجدوا فيه نقصاً . و كان مع الملك ضبّاط هنود . و رأوا المرتاض القابع في زواية ، فسألوا الملك : هل قال للمرتاض شيئاً يغيظه ؟ فأفصح الملك بما دار بينه و بين المرتاض من غير أن يسيء إليه بكلام أو غيره . قال الضباط : لعلّه سخط عليك و حسبه تجاسراً عليه و هو الذي أوقف القطار . فجاء الملك و استماح من المرتاض و اعتذر منه لوغاظه كلامه . فرفع المرتاض رأسه ـ يبدو في وجهه الرضا ـ و أشار إلى القطار فتحرّك لساعته .
و جاء فيها أيضاً أنّهم قصدوا زيارة كبير المرتاضين و كان مقرّه في غابة ملؤها حشرات و بعوض ضارية ، و لمّا أن اقتربوا من مقرّ المرتاض بكليومترات و إذا الفضاء صحو لا حشرة فيه و لا بعوضة . فتعجّبوا من ذلك و سألوا المرتاض عن السرّ ، قال : إنّا لا نمنح لها بالاقتراب من حريمنا !
كلّ ذلك إن دلّ فإنّما يدلّ على قدرة نفسية كبيرة حُظي بها هؤلاء المرتاضون على أثر رياضتهم و نبذ المشتهيات ، و ليس من السحر في شيء .
أضف إلى ذلك أنّ النفس بذاتها ذات قدرة جبّارة بها يتمكّن الإنسان من التغلّب على الطبيعة ، من غير أن يستعين بقدرةٍ خارجة عن إطار نفسه . لكن إذا عرف من نفسه هذه القدرة و استعملها بقوّة و عزيمة راسخة .
قرأت في تاريخ ثورة فرنسا الكبرى عن شخصية { ميرابو } الرجل السياسي الكبير من أركان الثورة ( 1749-1791م ) على عهد الملك لويس الخامس عشر . كان نائباً في مجلس النيابة و كان ذا منطق قويّ جبّار بحيث كان يرضخ له المؤالف و المخالف لقوّة خطاباته . يحكى عن مقدرته النفسية الخارقة قضايا ، منها ما ذكره أحد زملائه و كان يرافقه في قصده لزيارة قبر والدته ، و إذا بكلبٍ هارش هجم عليهما و كان ضارياً شديد البأس . فأخذ صاحبه يتوحّش و يلتمس الفرار ، لكن ميرابو في هدوء و طمأنينة و أخذ يهدّئ من روعة صاحبه قائلاً : لا تستوحش أنا أكفيكه . فجعل يتحدّق النظر في عيني الكلب و إذا به يهدأ حتى افترش بذراعيه على الأرض كالخاشع أمام ميرابو ! ينقل بشأنه من أمثال هذه القضايا كثير .
شهدتُ إحدى الاحتفالات في مراسم العزاء على سيّد الشهداء ليلة الحادي عشر من محرّم الحرام بكربلاء المقدّسة عام ( 1370هـ . ق ) و كان الاحتفال بشأن دخول النار المتوهّجة كما هو مرسوم عند الهنود . و قد توقّدت النار في حطبٍ ضخمٍ حوالي ساعات حتّى صارت جمرات متوهّجة في حفرة مستطيلة الشكل مترين في ثلاث أو أربع مترات في عمق ثلاثين سانتيمتراً ملؤها الجمرات المتوقّدة . فجاء هنود أربعة مسلمون و جعلوا يلطمون على صدورهم لطماً خفيفاً هادءاً و يترنّمون بـ{ ياحسين ياحسين } و كشفوا عن ساقهم و هم حفاة ، و من ورائهم صبّي على هيأتهم ربما كان عمره عشر سنوات و نحو ذلك ، فدخلوا الحفرة مستقبلين القبلة بهدوء و طمأنينة بلا تهيّج و لا اضطراب و اجتازوا الحفرة و خرجوا من الجانب الآخر بسلام لم يمسّهم أثر من الحريق . هذا ما شاهدته بعيني و كثيرٌ من وجوه السادة الأجلاّء بكربلاء حضور يرون المشهد الرهيب بكلّ إعجابٍ و إكبار !
و استمعت إلى الإذاعات هذه الأيّام أنّ هذه عادة جارية بين الهنود ، من مسلمين و غير مسلمين ، و أنّها تمسّ عزيمة النفس القوية بأنّها قاهرة تغلب على تأثير النار في أجسامهم ، الأمر الذي يشكّل ركيزة السرّ في تغلّبهم على توهّج النار الملتهبة ، و يحضر المراسم كثير من الخلائق المجتمعة من حول المجتمعة من حول العالم ليروا المشهد عن كثب بما لايدع مجالاً للاستنكار .
و هناك نفوس قدسية أكبر قدرة على التغلّب على نواميس الطبيعة بفضل اعتلاء قدرتهم النفسية الإلهية .
تلك السيّدة زينب الكبرى بنت الإمام أمير المؤمنين ( عليه و على آله أفضل صلوات المصلّين ) عندما حاولت أن تخطب خطبتها المعروفة في سوق الكوفة و هي رهن إسارتها إلى يزيد الطاغية . فأشارت إلى الجمع أن اسكتوا ، قال الراوي : فعند ذلك سكنت الأنفاس و هدأت الأجراس ، و جعلت تخطب في جوًّ ملؤه الهدوء حتّى من صفير الأجراس ! إنّ هذه قوّتها النفسية الخارقة أثّرت حتى في الجمادات !
و كان لنا صديق يعمل في تجهيز الأدوات الكهربائية ، فرأيته و هو يمسك على سلك كهربائي مجرّد عن الغلاف و يعمل في مزاولته لتجهيز حفلة كبيرة بمناسبة ميلاد الإمام المنتظر الحجّة بن الحسن ( عجَّل الله فرَجَه ) ليلة النصف من شعبان . فتعجّبت منه و هو ماسك على السلك المجّرد يعمل به ، و اقتربت منه ، فقال : لا تمسّني و كلّ جسدي ملؤه الكهرباء . فقلت له : و كيف أنت و قد مسكت السلك ؟! قال : أنا أتغلّب على الكهرباء و أضغط عليه بكلّ قوّة فلا يغلبني ، و هذا عملي المستمرّ يوميّاً ، أغلب على القوّة الكهربائية و لا تغلبني ، بفضل قدرتي على التغلّب عليهما في صلابةٍ قوية ! فتعجّبت من صنيعه ، و لكن لا عجب بعد أن كانت النفس البشرية ذات قوّة قاهرة جبّارة . . .
و على أي حال ، فهذا من قدرة النفس الجبّارة ، و أين هذا من السحر ، على ما حسبه صاحبنا وجدي و من قبله ابن خلدون ؟!
تلك مشاهد بل حقائق لا يمكن إنكارها ، إذا ما لاحظنا قدرة الإنسان النفسية الخارقة ، الذي تسخّر له ما في السماوات و ما في الأرض جميعاً ، بفضلٍ منه تعالى . { و النفس في وحدتها كلُّ القوى } .
أتزعم أنّك جرمٌ صغير *** و فيك انطوى العالم الأكبر
هذا من جانب ، و من جانبٍ آخر لا ننكر أنّ وراء هذا العالم المحسوس عالم أرقى مليء بالكائنات العاقلة ( ذوات الشعور ) من مَلََكٍ أو جنًّ أو أرواح طيّبةٍ أو خبيثة . و لكن أنّى لهؤلاء الصعاليك ( سَحَرة الأرض ) الهيمنة على تلك الكائنات المتعالية ذوات القدر الجبّارة . إنّهم أعلى كعباً من أن تنالها أيدٍ شلاّء قاصرة . و قد قامت الشواهد المستوعبة على وجود علام الغيب وراء علام الشهود . لكن هل بإمكان العائشين على الأرض التغلّب و السيطرة ( تسخير ) تلك الكائنات المنبثّة وراء ستار الغيب ؟ و قد دلّت الشواهد على أنّهم أعجز من ذلك ، اللّهمّ إلاّ بعض الإيحاءات الخبيثة تلقيها الشياطين على شاكلتهم في الأرض ﴿ ... وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ... 34 . فهم الذين وقعوا في فخّ الشياطين و حسبوا أنّها مسخّرة لهم ، يا لها من مهزلة تنبؤك عن سفاهةٍ في ذوي العقول الضعيفة . و قد استوفينا الكلام عن ذلك في رسالة كتبناها عن الأرواح .
و بعد ، فإذا لم تثبت حقيقة للسحر بمعنى التأثير في قلب الطبيعة و تسخير الكائنات , نعم سوى تمائم هي نمائم و وساوس ينفثونها لفكّ العُقَد و فَصْم الروابط و الاواصر بين المتحابّين ﴿ ... وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ... 25 . و من ثَمَّ لا تأثير لدسائسهم في نفوسٍ متّكلةٍ على الله قويمةٍ بعنايته تعالى ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ... 35. فكان ما تعلّموه ضرر عليهم و لا ينفعهم شيئاً . الأمر الذي جعلهم عَجَزة و مساكين و عائشين على فضلة الأثرياء أو الضعفاء الأغنياء . قال تعالى بشأنهم : ﴿ ... وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى 36 .
و هذا طابعٌ وسَمَهم به القرآنُ الكريم . حيثُ يقولُ ـ مُوَجَّهاً خطابَه إلى المشركين في زعمهم أنّ النبي جاء بسحر ـ : ﴿ ... أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ 37. دليلاً على أنّ الذي جاء به نبيّ الإسلام لا صلة له بالسحر ، حيث قد توفّق في تبليغ دعوته و التأثير بشريعته تأثيراً في واقع الحياة . الأمر الذي لا يتلاءم و سحر السحَرَة غير المفلحين و لا موفّقين في مسيرتهم المنحرفة بل مكدودين عاجزين أذلاّء و مساكين حُقَراء .
هذا هو منطق القرآن و نظرته القاطعة بشأن السحر و السَحَرة ، لا واقع له و لا تأثير خارج إطار الدسائس الخبيثة . و أن لاقدرة لساحرٍ و لا هيمنة على سكّان الأرض السفلى فكيف بالسلطة على سكّان السماوات العلى . فلا نجاح لهم في عملٍ و لا حظّ لهم في سعادة الحياة .
***
ثمّ فلنفرض أنّ جاهلية العرب كانت تعتقد بحقيقة السحر عقيدة جاهلية بائدة ، لكن هل هناك شاهد على أنّ القرآن وافقهم أو جاراهم على تلك العقيدة الباطلة ؟ فلننظر في الموارد التي أخذوها شواهد على زعم الموافقة أو المجاراة ، و هي ثلاثة موارد : سَحَرة فرعون ، سَحَرة بابل ، النفّاثات في العُقَد . نبحث عنها على الترتيب :

سَحَرَةُ فرعون

ممّا أخذوه شاهداً على ذلك سحرة فرعون ، حيث يقول عنهم القرآن : ﴿ ... وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ 3 .
و قد عرفت أنّ سحرهم كانت شَعْوذة و الاُخْذة بالعين لا غير . فقد ﴿ ... سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ... 3 و كانت ﴿ ... حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 1 . فقد كان مجرّد تلبيس و تمويه في الأمر و أروهم ما كان الواقعُ خلافَه .
و إذا كان هذا ( مجرَّد التخييل و التمويه ) سحراً عظيماً ـ و السّحر ما لطف و دقّ مأخذُه ـ فكيف بغير العظيم الذي هو أخفّ وزناً و أردأ شأناً . هذا ما يرسمه لنا القرآن من واقع السحر ، و أنّه يخالف تماماً ما كانت العرب تعتقده بشأن السحر و تأثيره في قلب الواقع ، فكيف يا ترى مزعومة مَن زعم أنّ القرآن وافق العرب في عقيدتها أو جاملهم و تماشى معهم في أمرٍ باطل! ؟
قال سيّد القطب : و حسبنا أن يقرّر القرآن أنّه سحر عظيم ، لندرك أيّ سحرٍ كان . و حسبنا أن نعلم أنّهم سحروا أعيُن الناس و أثاروا الرهبة في قلوبهم { وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } لنتصوّر أيّ سحرٍ كان . و لفظ { استرهب } ذاته لفظ مصوّر ، استجاشوا إحساس الرهبة في الناس و قسروهم عليه قسراً . ثمّ حسبنا أن نعلم من النصّ القرآني ـ في سورة طه ـ أنّ موسى ( عليه السَّلام ) قد أوجس في نفسه خيفةً لنتصوّر حقيقة ما كان . و لكن مفاجأة اُخرى تطالع فرعون و ملأه ، و تطالع السحرة الكهنة ، و تطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم : ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ 38 .
إنه الباطل ينتفش ، و يسحر العيون ، و يسترهب القلوب ، و يخيّل إلى الكثير أنّه غالب ، و أنّه جارف ، و أنّه مُحيق ! و ما هو إلاّ أن يواجه الهادئَ الواثقَ ، حتّى ينفثئ كالفُقّاعة ، و ينكمش كالقُنفذ ، و ينطفئ كشعلة الهشيم! و إذا الحقّ راجح الوزن ، ثابت القواعد ، عميق الجذور . و التعبير القرآني هنا يُلقي هذه ظلال ، و هو يُصوّر الحقّ واقعاً ذا ثقل ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ ... 39 . . . و ثبت ، و استقرّ . . . و ذهب ما عداه فلم يَعُد له وجود : ﴿ ... وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 39. و غُلب الباطل و المبطلون و ذُلّوا و صَغُروا و انكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون : ﴿ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ 40 41 .
قال : فالسحر لا يغيّر من طبيعة الأشياء ، و لا ينشئ حقيقةً جديدةً لها . و لكنّه يخيّل للحواسّ و المشاعر بما يريده الساحر . و هذا هو [ واقع ] السحر كما صوّرة القرآن الكريم في قصّة موسى ( عليه السَّلام ) فلم تنقلب حبالهم و عصيّهم حيّات فعلاً ، و لكن خيّل إلى الناس أنّها تسعى . و هذه طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلّم بها . و هو بهذه الطبيعة يؤثّر في الناس ، و ينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه . مشاعر تخيفهم و تؤذيهم و توجّههم الوجهة التي يريدها الساحر .
قال : و عند هذا الحدّ نقف في فهم طبيعة السحر و النَفْث في العُقَد . و هي شرٌّ يُستعاذُ منه بالله و يُلجأ إلى حماه .

سَحَرَةُ بابل

كان المجتمع البابلي ـ على عهد الكلدانيّين ـ مجتمعاً فاسداً شاعت فيه الفحشاء و المنكرات و راج الإفساد في الأرض ، و كان من أساليب إفسادهم ارتكاب الحيل الماكرة و الدسائس الخادعة لإيجاد البغضاء و الشحناء بين الناس ، و بثّ روح سوء الظنّ بين المؤتلفين : بين المرء و زوجه بين الوالد و ولده . بين الأخوين . بين الشريكين في صنعةٍ أو تجارة . و ذلك عن طريق الوساوس و الدسائس و الخُدَع و النيرنجات ، و كان السبب يعود إلى هيمنة الحَسَد على الناس حينذاك ، بما جَعَلهم يبغض بعضهم بعضاً و يعمل بعضهم ضدّ البعض في أساليب و حيل خدّاعة كلّ يوم في شكل من أشكالها ، و يتعاون بعضهم مع بعض في تخطيط هذه الأساليب و تنويعها ﴿ ... يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... 42 . و إلى ذلك تشير سورة الناس : ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ 43 . الخنس : العمل في خفاء و عن وحشة الافتضاح ، و من ثَمَّ إذا أحسّ بالفضح خنس أي انقبض و تخفّى بسرعة . فكان الخنّاس هو الذي يعمل في خبثٍ معه ضعف و جبن و وهن في مقدرته الماكرة .
فأنزل الله الملَكين هاروت و ماروت ببابل ينبّهان الناس على إفشاء تلك الأساليب الماكرة و يعلّمانهم طرق التخلّص منها و النقض من أثرها . غير أنّ بعض الخبثاء كانوا يتعلّمون ما يضرّهم دون ما ينفعهم . ليفرّقوا بين المرء و زوجه . سوى أنّ الله غالب على أمره و ما تشاءون إلاّ أن يشاء الله .
يقول الله عن سوء تصرّف بني إسرائيل : ﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ 44 .
لقد تركوا ما أنزل الله و نبذوه وراء ظهورهم ، و راحوا يتتبّعون ما كان يقصّه الشياطين ـ و الشيطان وصفٌ لكلّ خبيث سيّئ السريرة ـ على عهد سليمان و أساليب تضليلهم للناس من دعاوٍ مكذوبة عن سليمان حيث كانوا يقولون إنّه كان ساحراً و إنّه سخّر ما سخّر بسحره . و القرآن ينفي عنه ذلك ﴿ ... وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ... 25 باستعمال السحر الذي هو في حدّ الكفر بالله العظيم . ﴿ ... وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ ... 25 ( خبثاء الجنّ و الإنس ) ﴿ ... كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ... 25 ( طرق الإضلال و أساليب التضليل ) .
ثمّ ينفي أنّ السحر مُنزل من عند الله على الملَكين : هاروت و ماروت ، اللذين كان مقرّهما بابل . و يبدو أنّه كانت هناك قصّة معروفة عنهما و كان اليهود أو الشياطين يدّعون أنّهما كانا يَعْرِفان السحر و يعلّمانه للناس . فنفى القرآن هذه الفرية ، وبيّن الحقيقة ، و هي أنّ هذين الملَكين كانا هناك فتنة و ابتلاء للناس ، كانا يقولان لكلّ من يأتيهما طالباً منهما معرفة طريق التخلّص من براثن الشياطين السحرة : لا تكفر باستخدام تلك الأساليب الماكرة . و قد كان بعض الناس يصرّ على تعلّم السحر لغرض خبيث على الرغم من تحذيره و تبصيره ، ﴿ ... فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ... 25 . و هنا يبادر القرآن فيقرّر كلّيه التصوّر الإسلامي الأساسية ، و هي أنّه لا يقع شيء في هذا الوجوه إلاّ بإذن الله و رعاية مصلحته و حكمته . فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها و تنشأ آثارها و تحقّق نتائجها و إن مصلحته و حكمته . فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها و تنشأ آثارها و تحقّق نتائجها و إن كانت عاقبة السوء تعود على الزائغين الذين ينحرفون عن الطريق السوي و الصراط المستقيم الذي رسمه لهم ربّ العالمين .
ثمّ يقرّر القرآن حقيقة ما يتعلّمونه بُغية إيقاع لشرّ بالآخرين ، إنّه شرّ عليهم و ليس خيراً لهم ﴿ ... وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ... 25 . و ربّما يكفي أن يكون هذا الشرّ هو الكفر و الخسران في الآخرة ﴿ ... وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ... 25 . فمن تعلّم شرّاً و حاول الإضرار به يعلم أن لا نصيب له في العاقبة ، فهو حين يختاره و يشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة سوى العقاب . فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم و أضاعوا خيرات كانت لهم في عقبى الدار . ﴿ ... وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ 25 لو كانوا يفقهون و يعون واقع الأمر .
﴿ ... النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ 13
النفث ، قذْف القليل من الريق شبيهٌ بالنفخ ، و هو أقلّ من التفل . و نفث الراقي أو الساحر أن ينفث بريقه في عُقَدٍ يعقدها بعد كلّ زمزمة يتزمزم بها ليسحر بها فيما زعموا . و المراد به هنا هي النميمة ينفثها النمّامون في العُقَد أي في الروابط الودّية ليبدّدوا شمل الاُلفة بين المتحابّين : المرء و زوجه ، الوالد و ولده ، الأخوين ، المتشاركين في صنعةٍ أو تجارةٍ أو زراعةٍ و غير ذلك ممّا يرتبط و أواصر الودّ بين شخصين أو أكثر . و العرب تسمّي الارتباط الوثيق بين شيئين أو شخصين عُقْد ، كما جاء التعبير عن الارتباط بين الزوجين ( عُقدة النكاح ) قال تعالى : ﴿ ... وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ... 45 . ﴿ ... إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ... 46 .
و معنى الآية : و من شرّ النمّامين الذين يحاولون بوساوسهم الخبيثة قطع الأواصر بين المتحابّين . و هذا من التشبيه في الجُمَل التركيبية ، نظير التشبيه في سورة المَسَد بشأن اُمّ جميل امرأة أبي لهب ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ 47 أي النمّامة . حيث النمّام يحمل على عاتقه حطب لهيب النفاق و التفرقة بين المتحابّين . و جاء مناسباً مع تكنّي زوجها بأبي لهب . فهي تحمل حطب هذا اللهب . فكما أنّها لم تكن تحمل حطباً حقيقةً ـ كما زعمه بعضهم ـ لأنّها بنت حرب أُخت أبي سفيان و كذا زوجها أبولهب ، كانا من أشراف قريش الأثرياء ، غير أنّهما كانا يحملان خبثا و لؤماً بالِغَين .
فالنميمة تحوّل ما بين الصديقين من محبّة إلى بغضاء بالدسائس و هي وسائل خفيّة تشبه السحر الذي هو ما لطف و دقّ مأخذه . فالنّمام يأتي بكلام يشبه الصدق و يؤثّر في خلدك كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أن يحلّ عُقَد المحبّة و الوداد بين كلّ متحابّين . إذ يتزمزم بألفاظٍ و يعقد عُقدةً و ينفث فيها ، ثمّ يحلّها إيهاماً للعامّة أنّ هذا حلُّ للعقدة بين الزوجين أو غيرهما . فهو من التشبيه المحض و ليس المقصود ما تفعله السَحَرة بالذات . الأمر الذي يتناسب مع سائر آيات سورة الفلق : ﴿ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ 48 . أي و من شرّ الليل إذا دخل و غمر كلّ شيءٍ بظلامه . و الليل إذا كان على تلك الحال كان مخوفاً باعثاً على الرهبة و الوحشة ، لأنّه ستار يختفي في ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى ، و عونٌ لأعدائك إذا قصدوا بك الفتك . . . و هكذا قوله : ﴿ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ 49 يعني : شرّ حاسد إذا حاول إنفاذ حسده بالسعي و الجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده . فهو يعمل الحِيَل و ينصب شبائكه لإيقاع المحسود في فخّ الضرر و الأذى , يعمل ذلك بأدقّ الوسائل لتنفيذ مكائده .
فكما أنّ الآيتين ( السابقة و اللاحقة ) إستعاذة بالله من مكائد أهل الزيغ و الإفساد ، كذلك هذه الآية ﴿ ... النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ 13 هي مكائد يرتكبها أهل النمائم لإيقاع الأذى . شُبَّهُوا بالسّاحرات ينفثن في العُقد .
فالاستعاذة منهم جميعاً إلى الله المستعان لإحباط مساعيهم و ردّ مكائدهم في نحورهم ، و هو الملجأ و المعين .
قال سيّد قطب : و النفّاثات في العُقَد : السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواسّ ، و خداع الأعصاب ، و الإيحاء إلى النفوس والتأثير في المشاعر . و هُنَّ يعقدن العُقد في نحو خيطٍ أو منديل و ينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر و الإيحاء . قال : و السحر لا يغيّر من طبيعة الأشياء ، و لا يُنشي حقيقةً جديدةً لها . و لكنّه يخيّل للحواسّ و المشاعر بما يريده الساحر 50 .
قال شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ( قُدِّسَ سِرُّه ) و لا يجوز أن يكون النبي ( صلى الله عليه و آله ) سُحِر ، على ما رواه القُصّاص الجُهّال ، لأنّ من يُوصَف بأنّه مسحور فقد خيل عقله ، و قد أنكر الله تعالى ذلك في قوله : ﴿ ... وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا 51 .52.
و هكذا قال العلّامة الطبرسي في تفسير للسورة عند الكلام عن شأن النزول 53 .
و قال الأستاذ محمّد عبده : قد رووا هنا أحاديث في أنّ النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) سحره لَبيد بن الأعصم ، و أثّر سحره فيه حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء و هو لايفعله ، أو يأتي شيئاً و هو لا يأتيه . و أنّ الله أنبأه بذلك ، و اُخرجت موادّ السحر من بئرٍ ، و عوفي ممّا كان نزل به من ذلك و نزلت هذه السورة !
و لا يخفى أنّ تأثير السحر في نفسه عليه الصلاة و السلام ماسٌّ بالعقل آخذٌ بالروح . فهو مما يصدّق قول المشركين فيه : ﴿ ... إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا 51 .
و الذي يجب علينا اعتقاده أنّ القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه عليه الصلاة و السلام ، حيث نسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين و وبّخهم على ذلك .
و الحديث ـ على فرض صحّته ـ من أحاديث الآحاد التي لا يؤخذ بها في العقائد ، و عصمة الأنبياء عقيدة لا يؤخذ فيها إلاّ باليقين .
على أنّ سورة الفلق مكّية نزلت بمكة في السنين الأولى ، وما يزعمونه من السحر إنّما وقع في المدينة في السنين الأخيرة حيث اشتدّ العداء بين اليهود و المسلمين فهذا ممّا يُضعف الاحتجاج بالحديث و يُضعف التسليم بصحّته 54 .
قال سيّد القطب : هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل و التبليغ ، و لا تستقيم مع الإعتقاد بأنّ كلّ فعل من أفعاله ( صلى الله عليه و آله ) و كلّ قول من أقواله سنّة و شريعة . كما أنّها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) أنه مسحور ، و تكذيب المشركين فيما كانوا يدّعونه من هذا الإفك . و من ثمّ نستبعد هذه الروايات ، و أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة ، و المرجع هو القرآن . و التواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد ، و هذه الروايات ليست من المتواتر ، فضلاً عن أنّ نزول هاتين السورتين في مكّة هو الراجح ، ممّا يُوهن أساس الروايات الاُخرى 55 .
وقد استوفينا الكلام حول مزعومة سحر النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) وتفنيد رواياته بصورة مستوعبة ، فراجع 56 .

ظواهر روحيّة غريبة

إنّه ما يزال مشاهداً في كلّ وقت أنّ بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن حقيقتها بعد . لقد سمّي بعضها بأسماء من غير أن يحدّد كنهها و لا معرفة طرقها . هذه ظاهرة ( التيليپاتي ) ـ التخاطر من بعيد ـ ماهو ؟ و كيف يتمّ ؟ كيف يملك إنسانٌ أن يتلقّى فكرةً من إنسانٍ آخر على أبعاد و فواصل لا رابط بينهما سوى هذا الاّتصال الروحي الغريب ؟! و ربّما تُتَلقّى الفكرة من كائنٍ حيًّ وراء ستار الغيب ، إمّا فكرة طيّبة ـ و هي نفثة روح القدس ـ أو فكرة خبيثة تنبثها شياطين الجنّ. و إلى هذا الأخير جاءت الإشارة في قوله تعالى : ﴿ ... وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ... 34 . و هكذا تتبادل الأفكار الذميمة بين شياطين الجنّ و الإنس : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... 42 .
و هذا السبات المغناطيسي ( هپنوتزم ) أو التنويم الصناعي يتمّ بسيطرة إرادة إنسان على إرادة آخر كان قد نوّمه بطريقة غير عادية. قالوا : إنّ في الإنسان سيّالاّ مغناطيسياً لا يعرف كنهه ينبعث منه بالإرادة و يؤثّر على الأشياء أو الأشخاص تأثيراً خاصّاً . فقد يلقّنه بأن يُوقع في وهمه فيقتنع هذا اقتناعاً تامّاً . أو استخراج الروح من الجسد ليأخذ بالتجول و الإطّلاع على غيوب. و ربّما استخدم هذا السيّال المغناطيسي في الطبّ و في معالجة قسمٍ من الأمراض المستعصية . لكن لم يحدّد إلى اليوم ما هو ؟ و كيف يتمّ ؟ و كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة ؟ أو ينفعل شيء بتأثير قوّة الإرادة ؟
و هكذا تحضير الأرواح ـ حسبما يسمّونه اليوم ـ يقوم على أساس اتصالٍ روحيًّ بكائنات حيّة وراء ستار الغيب . أمّا ما هذه الكائنات الحيّة ؟ و كيف يتمّ هذا الاتصال ؟ و هل هو اتصال بأرواح فارقت أجسادها بالموت أم هي غيرها ؟ الأمر الذي بقي مجهولاً لم يُقْطَع بشيءٍ منه .
حكى لي زميلنا العلاّمة الشيخ مهدي الآصفي أنّ جماعة من مزاولي هذا الفنّ طلبوا إليه أن يشهد جلسة يتمّ فيها هذا العمل ، قال : و بعد أعمال و أطوار قاموا بها طلبوا إليَّ رغبتي في إحضار روحٍ من الأرواح ، فرغبت أن يحضر روح الشيخ الأعظم المحقّق الأنصاري ( قُدِّسَ سِرُّه ) فلمّا حضر ـ وفق إخبارهم ـ قالوا : ماذا تبتغي السؤال منه ؟ فطلبت إليهم أن يسألوه عن مسألةٍ أصولية عريقة كان الشيخ هو مبدعها و هي مسألة ( الحكومة و الورود ) في دلائل الأحكام . فرغبت أن يشرحها بنفسه حيث الاختلاف كثير في تفسيرها . و عند ذلك قالوا : إنّ الرّوح قد سخط من هذا السؤال و ترك الجلسة و ذهب مغضباً !
نعم ، لا ننكر إمكان ذلك إجماليّاً ، و لكن هل هذا الأمر يتمّ بهذه التوسعة ؟ و هل هذه الأرواح هي أرواح الأموات أم غيرها ؟ الأمر الذي لا يمكن البتّ فيه . غير أنّ هذه و أمثالها مظاهر روحية غريبة ، و هي في جميع أنحائها و أشكالها لا تمسّ قضية السحر حسبما كان يزعمه الأقدمون ـ من الاستعانة بأرواح الافلاك و الكواكب و تسخيرها أو حسبما راج عند أوساط السذّج الأوهام اليوم و ربّما بعد اليوم مادام لم تكتمل العقول 57 58 .

  • 1. a. b. c. d. e. f. القران الكريم : سورة طه ( 20 ) ، الآية : 66 ، الصفحة : 316 .
  • 2. مجمع البيان : 7 / 18 .
  • 3. a. b. c. d. e. f. g. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 116 ، الصفحة : 164 .
  • 4. مجمع البيان : 4 / 461 .
  • 5. التفسير الكبير : 14 / 203 .
  • 6. جمع أديم و هي الجلدة المدبوغة .
  • 7. جمع أَزَج و هو البيت يُبنى طولاً يُشبه الاُتُن : مواقد نار الحمّام .
  • 8. أحكام القرآن للجصّاص : 1 / 42 ـ 43 .
  • 9. تفسير المنار : 9 / 67 .
  • 10. معرَّب نيرنگ . الشَعوذة معرَّب شُعبدة ، كلاهما بمعنى ، و هو نوع من الحِيَل الخفيّة فيها مهارة و سرعة عمل تخطف من أبصار الناظرين و تؤثّر في تخيّلهم .
  • 11. قال العلامة الطباطبائي : و هو ( السيميا ) العلم الباحث عن تمزيج القوى الإرادية مع القوى الخاصّة الماديّة للحصول على غرائب التصّرف في الأمور الطبيعية . و منه التّصرف في الخيال المسمّى بسحر العيون ، و هذا الفنّ من أصدق مصاديق السحر . الميزان : 1 / 246 .
  • 12. الكشّاف : 2 / 140 .
  • 13. a. b. c. القران الكريم : سورة الفلق ( 113 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 604 .
  • 14. التفسر الكبير : 3 / 206 ـ 213 .
  • 15. المصدر: 213 .
  • 16. هامش الكشّاف : 2 / 140 .
  • 17. جمع الدُهَيم و هو الأحمق السفيه .
  • 18. تفسير المنار : 1 / 400 .
  • 19. تفسير المراغي : 1 / 180 ـ 181 .
  • 20. في ظلال القرآن : المجلّد 8 / 709 ، ج30 / 291 .
  • 21. تفسير التبيان : 1 / 374 .
  • 22. نقل عن أبي جعفر الاسترابادي أنّه لا حقيقة له و إنّما هو تخييل و شعبذة ، و به قال المغربي من أهل الظاهر . ثم قال : و هو الذي يقوى في نفسي . راجع : الخلاف : 2 / 422، مسألة 14 ، من كتاب كفّارة القتل .
  • 23. مجمع البيان : 1 / 170 .
  • 24. بحار الأنوار : 60 / 41 ـ 42 .
  • 25. a. b. c. d. e. f. g. h. i. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 102 ، الصفحة : 16 .
  • 26. القران الكريم : سورة الفلق ( 113 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 604 .
  • 27. راجع: المقدمة لابن خلدون ، الفصل 22 ، ص 496 ـ 499 .
  • 28. القران الكريم : سورة النور ( 24 ) ، الآية : 39 ، الصفحة : 355 .
  • 29. دائرة معارف القرن العشرين : 5 / 55 ـ 67 .
  • 30. مقدمة ابن خلدون : 500 ـ 501 .
  • 31. و هي دوائر وهمية يرسمها العقل لكلّ نقطة دائرة ترسيماً في فرض لا في واقع الأمر . نعم ذهب جمع من الأقدمين إلى فرض الأفلاك أجراماً شاعرة ذوات عقول و نفوس . و لها شأن في تدبير العوالم السفلى تدبيراً عن علمٍ و إرادة ، و من ثمّ جاز تسخيرها في جهة مقاصد السوء !!
  • 32. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 175 و 176 ، الصفحة : 173 .
  • 33. راجع : جامع البيان : 9 / 82 ـ 84 .
  • 34. a. b. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 121 ، الصفحة : 143 .
  • 35. القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 42 ، الصفحة : 264 .
  • 36. القران الكريم : سورة طه ( 20 ) ، الآية : 69 ، الصفحة : 316 .
  • 37. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 77 ، الصفحة : 217 .
  • 38. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآيات : 117 - 119 ، الصفحة : 164 .
  • 39. a. b. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 118 ، الصفحة : 164 .
  • 40. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 119 ، الصفحة : 164 .
  • 41. في ظلال القرآن، المجلّد 3 / 604 ، ج 9 / 38 .
  • 42. a. b. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 112 ، الصفحة : 142 .
  • 43. القران الكريم : سورة الناس ( 114 ) ، الآيات : 1 - 6 ، الصفحة : 604 .
  • 44. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 102 ، الصفحة : 16 .
  • 45. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 235 ، الصفحة : 38 .
  • 46. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 237 ، الصفحة : 38 .
  • 47. القران الكريم : سورة المسد ( 111 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 603 .
  • 48. القران الكريم : سورة الفلق ( 113 ) ، الآية : 3 ، الصفحة : 604 .
  • 49. القران الكريم : سورة الفلق ( 113 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 604 .
  • 50. في ظلال القرآن : 6 / 709 ، ج 30 ، ص 291 . و قد نقلنا تمام كلامه آنفاً .
  • 51. a. b. القران الكريم : سورة الفرقان ( 25 ) ، الآية : 8 ، الصفحة : 360 .
  • 52. تفسير التبيان : 10 / 434 ؛ و في سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 47 :﴿ ... وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 47 ، الصفحة : 286 .
  • 53. مجمع البيان : 10 / 568 .
  • 54. ملحّض كلامه على ما جاء في تفسير المراغي : 10 / 268 ؛ و راجع: تفسير جزء عمّ لمحمّد عبده : 181 ـ 183 .
  • 55. في ظلال القرآن : 8 / 710 ، ج 30 ، ص 292 .
  • 56. في الجزء الاول من التمهيد .
  • 57. راجع في ذلك كلّه : الإنسان روحٌ لا جسد ، للاُستاذ رؤوف عبيد ، في ثلاث مجلّدات ضخام ، و غيره ممّن كتبوا في هذا الشأن و هي كثيرة جدّاً .
  • 58. شبهات وردود حول القرآن الكريم : 202 ـ 229 ، تحقيق : مؤسسة التمهيد ، الطبعة الثانية / سنة : 1424 هـ 2003 م ، منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة / الجمهورية الاسلامية الإيرانية .

تعليق واحد