مجموع الأصوات: 11
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 770

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

هل يتجدد الفكر بدون تقدم العلم؟

يبدو أن هذا السؤال من الأسئلة التي لم يفكر فيها كثيراً، ولم تطرح على نطاق واسع في المجال الفكري العربي والإسلامي، ولعله من الأسئلة التي ما زالت مهملة، وبعيدة عن المجال التداولي، ولا أتذكر جيداً فيما إذا كان قد مر عليّ من قبل أم لا، في حدود مطالعاتي الفكرية، وبهذا النمط من الربط والصياغة.
ولاشك في أهمية وقيمة هذا السؤال، وهو بحاجة إلى مزيد من النظر والتحليل، والتفكيك والتركيب المعرفي والمنهجي، النظري والتاريخي، وذلك بالعودة إلى التجربة الفكرية التاريخية في المجال الإسلامي، وإلى التجارب الفكرية التاريخية في المجال الإنساني، لتحليل هذه العلاقة، والتثبت منها، وتكوين المعرفة بأبعادها وخلفياتها، وتفسير طبيعتها، والكشف عن بنيتها، والتعرف على العناصر والمكونات المؤثرة فيها، وما يحيط ويتصل بها من جوانب أخرى.
والذي قادني إلى هذا السؤال مقولة اشتهرت عند المفكرين الغربيين، تقول (لولا نيوتن لما وجد كانت)، أي لولا التقدم العلمي العظيم الذي حققه إسحاق نيوتن في عصره، لما توصل إيمانويل كانت إلى فلسفته في العقلانية النقدية، والتي لولاها لما عرف واشتهر في الفكر الفلسفي الأوروبي والعالمي، وهي الفلسفة التي أسسها كانت، وشيد بنيانها، وأقام قواعدها كلها على أساس فيزياء نيوتن وكشوفاته وفتوحاته العلمية.
وهذا القدر لم يكن كافياً للبرهنة والاستدلال على صحة وصوابية فرضية السؤال المذكور، وهي فرضية شديدة العمق، فتمهلت بعض الوقت قبل الإقدام والخوض في بحثها ودراستها، وبقيت عالقة وحاضرة في ذهني، ولا تكاد تفارقني، إلى أن طالعت كتاب (تكوين العقل العربي) للدكتور محمد عابد الجابري، فوجدته يستند على هذه الفرضية في خاتمة الكتاب، وهو يبحث عن لماذا لم تتطور أدوات المعرفة في الثقافة العربية خلال نهضتها في القرون الوسطى، إلى ما يجعلها قادرة على إنجاز نهضة فكرية وعلمية مطردة التقدم على غرار ما حدث في أوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر؟
وعند ئذ بدأت تنضج هذه الفرضية، وتتكشف بالشكل الذي يجعل من الممكن الخوض والولوج فيها، وتحليلها على أساس البحث الفكري والتاريخي، ومن خلال معطيات وحقائق تفيد قدراً لازماً من الاطمئنان النفسي والذهني.
وقد ارتقت هذه الفرضية عند الدكتور الجابري إلى درجة الجزم واليقين، وعبر عن ذلك بقوله (وإذن فتقدم الفكر كأداة ومحتوى، كان ولا يزال مرهونا بتقدم العلم). واستند الجابري على هذا الجزم بالعودة إلى التجربتين الفكريتين اليونانية في العصر القديم، والأوروبية في العصر الحديث، فالحق عنده كما يقول أن الفلسفة اليونانية قد ارتبطت في نشأتها وتطورها بالعلم أكثر من ارتباطها بشيء آخر، وهذا الارتباط في تقديره هو من نوع الارتباط السببي، بحيث يمكن القول إن التقدم في الفلسفة عند اليونان كان مرتبطاً بالتقدم في العلم ارتباط معلول بعلة.
ويتمم الجابري كلامه بالقول وليس طاليس وحده هو الذي أسس خطابه الفلسفي على التقدم العلمي الحاصل في عصره، بل إن الفلسفة اليونانية كانت كلها عبارة عن مدارس فكرية متزامنة أو متعاقبة تتميز كل واحدة منها بنوع من الموضوع العلمي الذي تبني عليه خطابها الفلسفي.
ومن طاليس إلى فيثاغورس خطت المدارس الفلسفية اليونانية خطوات واسعة، وفي جميع خطواتها كان التقدم العلمي هو المؤسس والدافع والحافز، بما في ذلك الخطوة الهائلة التي خطاها أفلاطون بالفلسفة اليونانية، الخطوة التي ما كانت لتتحقق لولا ما سبقها ورافقها من تقدم في الرياضيات1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 15034.