الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المرأة في مجال الشهادة

نص الشبهة: 

قال تعالى: ﴿ ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ... .

كانت شهادةُ رجلٍ واحدٍ تعادل شهادة امرأتين، ولماذا؟

الجواب: 

وجاء التعليل في الآية بأنّ إحداهما قد تَضِلّ فيما تَحمّلته حين الأداء، فكانت الأُخرى هي التي تذكِّرُها ما غاب عنها، فكانت شهادة المرأتين بتذكّر إحداهما للأُخرى، بمَنزلة شهادةِ رجلٍ واحد.

وذلك أنّ المرأة أكثر عُرضَةٍ للنسيان فيما لا يعود إلى إلى شؤون نفسها بالذات ممّا لا يُهمُّها في حياتها الأُنوثيّة، فربّما لا تضبط تفاصيل ما تحمّلته بجميع خصوصيّاته وجزئيّاته ولا سيّما إذا بَعُد عهد الأداء عن عهد التحمّل، فكانت كلّ واحدةٍ منهما تُذَكِّر الأُخرى ما ضلَّ عنها، وبذلك تَكمُل شهادتُهما معاً كشهادةٍ واحدة بتلفيقِ بعضها مع بعض وضمِّ بعضِها إلى بعض، بتفاعل الذاكِرَتَينِ وتعاملِهما بعضاً إلى بعض، الأمر الذي لا يجوز في شهادة الرجال، فلو اختلفت الشهادات ولو في بعض الخصوصيّات فَقَدت اعتبارُها ؛ ومِن ثَمّ جاز التفريق في شهادة الشهود لغرض الاستيثاق.
قال الشيخ مُحمّد عَبدَه: إنّ اللّه تعالى جَعَلَ شهادة المرأتين شهادةً واحدة، فإذا تَرَكَت إحداهما شيئاً مِن الشهادة كأن نَسَيتْه أو ضلَّ عنها تُذَكِّرُها الأُخرى وتَتمّ شهادتُها، وللقاضي بلْ عليه أنْ يسأل إحداهما بحضور الأُخرى ويعتدّ بجُزءِ الشهادة مِن إحداهما وبباقيها مِن الأُخرى، قال: هذا هو الواجب وإنْ كان القُضاة لا يَعمَلون بِه جَهلاً منهم.
وأمّا الرجال فلا يجوز له أنْ يُعامِلَهم بذلك، بل عليه أنْ يُفرّق بينهم، فإن قصّر أحد الشاهِدَينِ أو نسيَ فليس للآخر أنْ يُذكِّره، وإذا ترك شيئاً تكون الشهادة باطلة، يعني إذا تَرك شيئاً ممّا يُبيِّن الحقَّ فكانت شهادته وحده غير كافية لبيانه فإنّه لا يعتدّ بها ولا بشهادة الآخر وإنْ بُيّنت 1.
وقالوا في سبب ذلك: إنّ المرأة ليس من شأنها الاهتمام بالأُمور الماليّة ونحوها مِن المُعاوضَات؛ فلذلك تكون ذاكرتُها فيها ضعيفةً، ولا تكون كذلك في الأُمور المنزليّة التي هي شُغلُها فإنّها فيها أقوى ذاكِرةً مِن الرجُل، يعني أنّ مِن طَبْعِ البشر ـ ذُكراناً وإناثاً ـ أنْ يَقوى تذكّرُهم للأُمور التي تُهمّهم ويَكثُر اشتغالهم بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال الماليّة، فإنّه قليل لا يعوَّل عليه، والأحكام العامّة إنّما تُناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها 2.
نعم، المرأة إنّما تَهتمّ اهتمامها البالغ بما يَعود إلى ذات نفسها وإلى ما يرتبط وشؤونها الأُنوثيّة وزبارج الحياة، ولا تُعير بشؤون خارج حياتها الأُنوثيّة الزُخرفيّة ذلك الاهتمام، وتبعاً لذلك يكون عَمَلُ ذاكِرتِها ـ على غِرار سائر قُواها العقلانيّة والجسمانيّة ـ في هذا الجانب ينمو ويشتد، وبنفس النسبة يأخذ في الضَعف والوَهن في الجانب الآخر.
وفي دراسة عميقة بشأن حالة المرأة النفسيّة جاءت في آية أُخرى: ﴿ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ 3، وهو مِن أدقِّ التعابير في معرفة النفس بشأن المرأة: إنّما تَرى كمالَها في جمالِها، وترى جمالَها في زبارج حُليِّها مِن ذهبٍ وفضةٍ وأحجارٍ كريمةٍ، ومِن ثَمّ في مظطلمات الحياة ومُصطَدَماتها تظلّ حائرةً، وربّما تضيق عليها الحال فلا يمكنها الإعراب عمّا في ضميرها أو تَتَلجلجُ ويَضطرِبُ لها المَقال.
ولذلك نَرى الشريعة قد أفسحت لها المجال واكتفت بشهادتِهنّ لوحدِهنّ في أُمور تخصُّ شؤون النساء ـ في مثل الولادة والحَمل والحيض وما شابه ـ ممّا ليس للرجال فيها شأن.

* * *
وهكذا ذَكَر سيّد قطب في تفسير الآية، قال: إنّما دعا الرجال؛ لأنّهم هم الذين يُزاوِلون الأعمال عادةً في المجتمع المسلم السويّ الذي لا تحتاج المرأة فيه أنْ تَعمل لتعيش، وتهدر جانب أُمومتِها وأُنوثتِها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانيّة ـ وهي الطُفولة الناشِئة المُمثِّلة لجيل المستقبل ـ في مقابل لقُيمات أو دُرَيهِمَات تنالها مِن العملِ، كما تَضطرُّ إلى ذلك المرأةُ في المجتمع النَّكِد المُنحَرِف الذي نعيش فيه اليوم !
ولكن لماذا امرأتان ؟ إنّ النصّ لا يَدَعَنا نَحدِس، ففي مجال التشريع يكون النصّ محدَّداً واضحاً مُعلَّلاً ﴿ ... أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ... 4، والضَّلال هنا يَنشأ مِن أسباب كثيرة، فقد ينشأ مِن قلّةِ خُبرة المرأة بموضوع التعاقد، ممّا يجعلها لا تستوعب كلّ دقائقه وملابساته بحيث تؤدي عنه شهادتَها دقيقة عند الاقتضاء، فتُذكِّرها الأُخرى بالتعاون معاً على تَذَكُّر ملابسات الموضوع كلّه، وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعاليّة، فإنّها بوظيفتها الأُموميّة شديدةُ الاستجابة الوجدانيّة الانفعاليّة لتلبية مطالب طفلها بسرعةٍ وحيويّةٍ لا تَرجع فيهما إلى تفكير بطيء، وهذه الطبيعة لا تتجزّأ، فالمرأة شخصيّة موحَّدة، هذا طابعها حين تكون امرأة سَويّة، بينما الشهادة على التعاقد بحاجة إلى تجرّد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثّر ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضَمانة أنْ تُذكِّر أحداهما الأُخرى ـ إذا جَرَفها الانفعال ـ فتتذكّر وتفي إلى الوقائع المجرّدة 5.
ويعود السرّ في ذلك كلّه، إلى نقص الضبط فيهنّ، لأسبابٍ تَرجع إلى طبيعتها الأُنوثيّة، قال الطبرسي: لأنّ النسيان يَغلب على النساء أكثر ممّا يَغلب على الرجال 6، أي في مثل الأُمور التي لا تَمسّ شؤونها البيتيّة وتربية الأولاد.

نكتة أدبيّة في الآية

أمّا لماذا تكرّرت لفظة (إحداهما) ؟ أَما كان يكفي أن يقول: (أنْ تَضِلَّ إحداهما فتذكّرها الأُخرى) ؟
لكن نظراً لفَحوى الآية كان هذا التعبير غير وافٍ بمفادها؛ إذ هذا التعبير إنّما يعني: أنّ إحداهما إذا نسيت شيئاً ممّا تحمّلته فإنّ الأُخرى تُذكِّرها، وهذا ليس مقصود الآية، بل المقصود: أنّ كلتيهما عُرضةٌ للخطأ والنسيان، فتقوم كلّ واحدة منهما بتَتميم أو تكميل ما نَقُص مِن شهادة صاحبتها، فهذا التعامل والتفاعل في شهادتِهما، وتكامل شهادة كلّ منهما بشهادة الأُخرى تُعدّ شهادةً واحدةً كاملةً في مقابل شهادة الرجل الكاملة بوحدتها.
ومِن ثَمَّ وَجَب إعادة (إحداهما) ـ بلفظه لا بضميره ـ لإفادة هذا المعنى 7.
وذكر الطبرسي وجهاً آخر نقله عن الوزير الأديب الحسين بن علي المغربي وهو أنّ المعنى: أنْ تضِلَّ إحدى الشهادَتَين عن إحدى المرأتين فتُذكِّرها بها المرأة الأُخرى، فجعل (إحدى الأُولى للشهادة والثانية للمرأة، قال: معناه أنْ تضِلَّ إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان، فتذكّر إحدى المرأتين الأُخرى)، وبذلك لم يتكرّر اللفظ.
وأيّده الطبرسي بأنّ نسيان الشهادة لا يُسمّى ضَلالاً، ولا يُسمّى ناسي الشهادة ضالاًّ ؛ لأنّ الضَّلال معناه الضَّياع، والمرأة لا تضيع، ويقال للشهادة ضَلّت إذا ضاعت، كما قال سبحانه: ﴿ ... قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ... 8 أي ضاعوا منّا 9، ومثله ﴿ ... لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى 10 11.
لكن الزمخشري فسرّ الآية على ظاهرها، قال: ﴿ ... أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ... 4 أنْ لا تهتدي إحداهما للشهادة بأنْ تنساها، مِن قولهم: ضلّ الطريقَ، إذا لم يهتد إليه 12، فيكون الضَّلال هنا بمعنى عدم الاهتداء.
وقوله تعالى: ﴿ ... ضَلُّوا عَنَّا ... 8 أي ذهبوا عنّا وافتقدناهم، فلا يَقْدِرون على الدفع عنّا وبَطَلت عبادتنا إيّاهم 13، وقوله: أي لا يذهب عليه شيء 14، بمعنى: لا يَفقده ولا يَغيب عنه.
وقد فسّر الراغب (الضَّلال) في الآية بمعنى النسيان 15.

المرأة في مجال القضاء

القضاء باعتباره مَنصِباً رسميّاً لفصل الخصومات في النظام الإسلامي الحاكم وهو مَنصِب خطير وذو مسؤوليّة جسيمة فإنّه لا يَصلح للمرأة ـ وهي ذات نفسيّة مُرهَفة ـ أنْ تتصدّى له، على غِرار سائر المسؤوليّات الخطيرة ممّا هو مِن شؤون الولاية العامّة، الخاصّة بوليّ أمر المسلمين.
وبذلك اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ القضاء مِن شؤون الولاية الكبرى الخاصّة بإمام المسلمين 16، وكلّ شان مِن شؤون الولاية الكبرى في الحُكم الإسلامي لا يجوز إيكالُه إلى امرأة ولا تَصلح لحمل عِبئِه الثقيل، وقد أَنكر النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) على قومٍ (يُريد بهم الفُرس يومذاك) 17 وَلّوا أمرَهم امرأةً وأنذرهم بعدم الفَلاح، قال: (لن يُفلِح قومٌ وَلّوا أمرَهم امرأةً) 18.
وقد أوصى النبيُّ إلى علي (عليهما السلام) ومِن جملتها ما جاء بشأن النساء: (ولا تُوَلّى القضاء) 19، وفي حديث عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (ولا تُوَلّى المرأةُ القضاء ولا تُوَلّى الإمارة) 20، والعُمدة إجماع الفقهاء على ذلك لم يخالف فيه أحد 21.
وعُلِّل ذلك بما ورد في القرآن في وَصفِ شأنهنّ بأنّهنّ مُرهَفات الحال، رقيقات البال، فاقِدات تلك الصَّلابة التي تتناسب ومَنصِب القضاء، قال تعالى: ﴿ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ 22 ؛ إنّها لنُعومَة بالِها ورقّة خاطرها سريعةُ الانفعال، تحنّ إلى العطف والحنان أكثر ممّا تحنّ إلى الحزم والعقل الرشيد ؛ ولذلك قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما كَتَبه إلى ابنه الحسن (عليه السلام): (ولا تُمَلِّكِ المرأةَ مِن أمرِها ما جَاوَز نفسها، فإنّ المرأة ريحانة وليست بقَهرمانة) 23، إشارة إلى ما جاء في الآية الكريمة مِن نُعومة حال المرأة بما يُفقِدُها صلاحيّة التصَلّب أمام فَصل الخُصومات.
وللبحث هنا جوانب حقّقناها في دراساتنا الفقهيّة بشكلٍ مُستَوعَب، فليراجع هناك 24.

  • 1. تفسير المنار، ج3، ص125.
  • 2. المصدر: ص124.
  • 3. القران الكريم: سورة الزخرف (43)، الآية: 18، الصفحة: 490.
  • 4. a. b. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 282، الصفحة: 48.
  • 5. راجع: في ظِلال القرآن لسيّد قطب، المجلّد الأوّل، ص493 مع اختزالٍ يسير.
  • 6. راجع: مجمع البيان، ج1، ص398، وتفسير القاسمي، ج1، ص635.
  • 7. راجع: تفسير المنار لمُحمّد عبده، ج3، ص123.
  • 8. a. b. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 37، الصفحة: 154.
  • 9. مجمع البيان، ج2، ص398.
  • 10. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 52، الصفحة: 315.
  • 11. والآية ذَكرها الشيخ مُحمّد عبده تأييداً للطبرسي حسب الظاهر.
  • 12. الكشّاف، ج1، ص326.
  • 13. مجمع البيان، ج4، 416.
  • 14. المصدر: ج7، ص13.
  • 15. أي في قوله تعالى: البقرة 2: 282.
  • 16. قال الشهيد السعيد أبو عبد اللّه مُحمّد بن مكي العاملي: وهو (القضاء) ولاية شرعيّة على الحُكم في المصالح العامّة مِن قِبل الإمام، الدروس الشرعيّة، ص168.
  • 17. حيث وَلّوا أمرَهم حينذاك امرأةً (بوراندخت) هي ابنة خسرو برويز.
  • 18. سُنَن البيهقي، ج10، ص118، ومسند أحمد بن حنبل، ج5، ص38 و43 و47 و51 بألفاظ وتعابير متقاربة.
  • 19. مَن لا يحضره الفقيه للصدوق، ج4، ص263.
  • 20. بحار الأنوار، ج100، باب جوامع أحكام النساء، ص254، رقم 1.
  • 21. لذلك شرح طويل عرضناه في مجال الفقه.
  • 22. القران الكريم: سورة الزخرف (43)، الآية: 18، الصفحة: 490.
  • 23. نهج البلاغة، كتاب رقم 31، ص405.
  • 24. شُبُهَات و ردود حول القرآن الكريم، تأليف: الأُستاذ محمّد هادي معرفة، تحقيق: مؤسّسة التمهيد ـ قم المقدّسة، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ص 133 ـ 137.