إن تلك الكلمة تشبه الكلمة التي قالها معاوية خداعا للناس عندما قتل عمار بن ياسر ، وكانوا قد عرفوا حديث رسول الله ( تقتله الفئة الباغية ) فقال معاوية : ما قتلناه إنما قتله من أخرجه. يعني علي بن أبي طالب عليه السلام .( .. فدفع عمرو صدر فرسه ثم جذب معاوية إليه فقال يا معاوية أما تسمع ما يقول عبد الله ( بن عمرو بن العاص ) ؟ قال : وما يقول ؟ فأخبره الخبر. فقال معاوية : إنك شيخ أخرق ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك ! أو نحن قتلنا عمارا ؟ إنما قتل عمارا من جاء به ! فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون : إنما قتل عمارا من جاء به ..قال الطبري : فلا أدرى من كان أعجب هو أو هم ؟
الناظر إلى حياة المعصومين ( عليهم السلام ) يرى أنهم قد اتخذوا موقفا واحدا فيما يرتبط بالطعام و الشراب ، و ذلك الموقف هو مضادة التوجه إلى الشبع و الإكثار منهما . ذلك أن ابرز صورة لتوجه الزهد و ترك الدنيا هو الموقف من متطلبات البطن و ضغوطه . و الفرق بين البحث السابق و ما وصلنا إليه من أن الأصل هناك كان التجمل و إظهار نعمة الله ، و بين بحثنا هذا و الذي نفترض فيه العكس ، الفرق هو أن اللباس و ما يتصل به من تطيب و تأنق هو مظهر اجتماعي قبل أن يكون أمراً ذاتيا ، باعتبار حضور المعصومين ( عليهم السلام ) في الساحة الاجتماعية ، و لعله لو كان أمراً شخصياً لكان الموقف يختلف كما ذكرنا في الصفحات السابقة . بينما قضايا الطعام و الشراب عادة شخصية ، و أدعياء الزهد و التقشف كانوا يعكسون المسائل فيجعلون مظهرهم الخارجي دالا على زهدهم بينما في واقعهم الذاتي يطلقون في الدنيا نهمهم .
﴿ ... وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴾ 1 . يحرص القرآن الكريم في إيراده لقصص الأقوام على التركيز على عواقب الأمور ، فيؤكد دائما أن ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ 2 ، ولكي لا يعمي الواقع الراهن أبصار الناس بزخارف أصحاب المال ومظاهر قوة ذوي السلطان ، فإنه يأمر الناس بأن يسيروا في الأرض فينظروا لا إلى الآثار وإنما إلى العاقبة والنهايات ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ 3 . ذلك أن المشكلة التي تعترض الكثير من الناس هو أنهم يريدون أن يروا النتائج عاجلة ، فييأسوا مع تأخرها من نصر الله ، بينما ينصحهم القرآن بأن ينظروا إلى سنن الله في الذين خلوا من قبل ، وهذه السنة لن تخطئ من يعاصرونهم من الظالمين والمجرمين . وفي قضية كربلاء شاهد صدق على سنة الله في الظالمين , وبرهان حق على أن ﴿ ... وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ 4 . انظر إلى تأريخ القتلة والمشاركين في الظلم ، لم يمر عقد من الزمان إلا وقد تنشبت بهم أنياب أعمالهم فأصبحوا في وهق خطاياهم السابقة . وهلكوا غير مأسوف عليهم من أحد .
مع أنه قد احتمل بعض العلماء كما نقل عنهم الفاضل الدربندي 1 رحمه الله في كتابه أسرار الشهادة ، ذلك الأمر إلا أنه لا يمكن قبوله ، فقد اتفقت كلمة المؤرخين قاطبة ، والروايات الواردة من طريق أهل البيت عليهم السلام ، على أن المعركة بدأت بصباح اليوم العاشر من شهر المحرم لعام 61 هـ وانتهت قبل غروب ذلك اليوم ، بشهادةالإمام الحسين عليه السلام وقبله أصحابه وأهل بيته .
بعد رحلة متعبة ومجهدة إلى الكوفة ثم إلى الشام ، استمرت قرابة أربعين يوما ، عاد الركب الحسيني محملا بأثقال الألم ، إلى جانب أكاليل النصر و تحقيق هدف النهضة الحسينية ( وهل كانت ولادة الأهداف السامية من غير ألم ؟ ) ، واتجه إلى كربلاء .. حيث موطن الذكريات .
ما هو الاصل المتبع فيما يرتبط بسيرة اهل البيت في مسألة الملابس ، كوجه من وجوه الاختلاط الاجتماعي ؟! . هل الاصل هو التجمل و التزين ، إلا لاستثناءات تفرضها ظروف معينة تقتضي التقشف و اظهار الزهد ؟! أم أن الأصل عندهم هو الزهد و اظهاره و احاديث التجمل تحمل على الاستثناء ؟! لا شك أن هناك مجموعتين من الروايات التي تصف سيرتهم ، و قد نجد روايات تصف المنهجين في حياة بعضهم ، فتارة يروى عن الرسول ( صلى الله عليه و أله و سلم ) انه يلبس الثياب المتواضعة و اخرى تأتي الرواية انه كان يحب التجمل ، سواء في اللباس أو في الهيئة الشخصية ، و كذا الحال بالنسبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) . . فما هو الاصل في المسألة ، و أي الروايات على الاخرى حاكمة ؟!
إن من أصول عقائد أهل البيت عليهم السلام عقيدة الاختيار ، وأن الإنسان مسؤول عن عمله بمقدار ما يكون مالكا لقراره ولاختياره . ولهذا يكون محاسبا عليه .. وهم يعتقدون بذلك خلافا لما روجته المدارس الفكرية الأخرى التي تذهب إلى أن الانسان مجبر على عمله ، ومضطر إليه ، ولا يعمل شيئا إلا وهو مساق إليه.
بالرغم من أن هذا البحث طويل الذيل ، وفيه بعض الجوانب التخصصية ، إلا أننا سوف نسعى بمقدار ما يمكن لتبسيط الجواب ، وذكر أهم أجوبة العلماء في المسألة ثم نركز على الجواب الأسلم بينها : فقد سئل الشيخ المفيد رضوان الله عليه عن ذلك وأجاب بما يلي :
تارة يتم الحديث عن الخدم و الموالي في حياة أهل البيت ( عليهم السلام ) من منطلق أساسي في مدى فائدة هذا الأمر ، و أخرى في طريقة التعامل بينهم و بين خدمهم . .
خطان يمكن للباحث أن يلحظهما في التعامل مع المعصومين عليهم السلام ، بالرغم من كونهما على طرفي نقيض إلا انهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة ، هي إخراج الناس من محيط الاتباع و الاقتداء .