مجموع الأصوات: 42
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 2889

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

أدلة العصمة من القرآن

1 ـ قال تعالى:﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ 1.

(دلّت الآية ـ كما قال القرطبي ـ على انّ الله عزَّ وجلَّ لا يُخلي الدنيا في وقت من الاوقات من داع يدعو إلى الحق)2.

وقال الجبائي: (هذه الآية تدلُّ على أنّه لا يخلو زمان ألبتّة عمّن يقوم بالحق، ويعمل به، ويهدي إليه، وانّهم لا يجتمعون في شيء من الازمنة على الباطل...)3.

فعليه يمكن ان يقال بأنّ هذه الاُمّة آخر الاُمم، وانّه لابدّ ان يبقى منها من يقوم بأوامر الله، حتى يأتي أمر الله.

وقال السيد الطباطبائي في «ميزانه»:(تدل على انّ النوع الانساني يتضمن طائفة قليلة أو كثيرة مهتدية حقيقة، إذ الكلام في الاهتداء والضلال الحقيقيين المستندين إلى صنع الله ومن يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فاولئك هم الخاسرون، والاهتداء الحقيقي لا يكون الا عن هداية حقيقية، وهي التي لله سبحانه، وقد تقدم في قوله تعالى:﴿ ... فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ 4 ، وغيره. ان الهداية الحقيقية الالهية لا تتخلف عن مقتضاها بوجه، وتوجب العصمة من الضلال، كما ان الترديد الواقع في قوله تعالى:﴿ ... أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ... 5. يدل على انّ من يهدي إلى الحقّ يجب ان لا يكون مهتدياً بغيره إلاّ بالله.

وعلى هذا فإسناد الهداية إلى هذه الاُمّة لا يخلو عن الدلالة على مصونيتهم من الضلال، واعتصامهم بالله من الزيغ إمّا بكون جميع هؤلاء المشار إليهم بقوله:﴿ ... أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ... 1 متصفين بهذه العصمة والصيانة كالانبياء والاوصياء، وإما تكون بعض هذه الاُمّة كذلك، وتوصيف الكل بوصف البعض نظير قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... 6، وقوله تعالى: ﴿ ... وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ... 7، وقوله:﴿ ... لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ... 8 وانّما المتصف بهذه المزايا بعضهم دون الجميع)9.

وبناءً على كلِّ ما تقدّم نستخلص وجود من يهدي إلى الحقّ ولايجتمع مع الباطل أصلاً في جميع الازمنة، ولا يمكن بناءً على هذا ان يظهر المصداق لهذه الآية المباركة إلاّ على ما نقول به من وجود الاِمام المعصوم في كلِّ وقت.

فالذي يهدي بالحق وبه يعدل لابدّ ان يكون معصوماً كما تقدم، إمّا اشارة إلى امة معصومة بالذات، أو إلى الاُمّة المرحومة جميعاً بالاضافة إلى وجود المعصوم فيها في كلِّ وقت.

2 ـ﴿ ... وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ 10.

فالضلال منفي عنه، والغواية منفية عنه. ومن معاني الضلال التي أشار إليها القرآن الكريم: النسيان، قال تعالى:﴿ ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ... 11. (يريد لئلاّ تنسى إحداهما فسمّى النسيان ضلالاً، وذلك معروف في اللغة)12.

وقال تعالى:﴿ ... وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ 13. فسمى سبحانه المعصية هنا غواية. والغواية تأتي في اللغة بمعنى الخيبة، وهنا اطلقت لخيبة آدم من ثواب كان مقدّراً له.
قال الشاعر:

ومن يلق خيراً يحمد الناس أمرهُ ومن يغو لا يُـعدم على الـغي
فحينئذ لو أدركنا انّ من معاني الضلال النسيان وان من معاني الغواية المعصية والخيبة نرى أنَّ الباري عزَّ وجلّ قد نفى النسيان والمعصية والخيبة عن نبيه الكريم باطلاق قوله سبحانه:﴿ ... وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ 10.
3 ـ وآيات الاتّباع والاسوة لابدّ ان تكون دالة على العصمة وإلاّ لاُمرنا باتّباعه والتأسي به حتى عند خطئه وسهوه وهو كما ترى.

مثل قوله تعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ... 14.

وقوله تعالى:﴿ ... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... 15 (ورحمتي وسعت كلَّ شيء فساكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذّين يتّبعون الرسول النبيَّ الاُمي)(3) .

وقوله تعالى:﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... 16.

وقوله تعالى:﴿ ... فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 17.
وكذلك آيات الاطاعة الكثيرة سواء كانت مقرونة مع طاعة الله تعالى أو منفصلة بل انّ لسانها كلها ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ... 18، فيجب ان يكون معصوماً مطلقاً كما هو واضحٌ بلا مزيد بيان.

4 ـ وقوله تعالى:﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ 19.

(دلّت على ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق إلاّ عن وحي، فيستحيل ان يُسَلِّم في الصلاة في غير محلّه، ثمّ يتكلم قبل تمام صلاته، ثمّ يُكذِّب ذا الشمالين، وهو صادق على قولكم، ثمّ يعترف بخطئه، وكلّ ذلك ينافي مدلول الآية)20.

وقد دلّ السياق للآيات المباركة مع ورود النطق وقد ورد عليه حرف النفي انّ النطق مطلقاً منفي منه الهوى لا خصوص القرآن الكريم، فلا قرينة هناك مخصّصة لا مقامية كما مال إليه بعضهم، ولا مقالية، فتأمل.

فدلّ على نفي الهوى عن نُطقه مطلقاً، وان مطلق نطقه وحيٌّ يوحى، إلاّ إذا قام الدليل على خلافه، والاَدلة الاُخرى تعضده، فحينئذٍ توجد قرائن خارجية كثيرة تفيد ذلك فكيف تصرفها عن الظاهر ونقول من انّها في مقام بيان انّ القرآن من الوحي ؟ !!

5 ـ ويمكن ان يستشف من قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ 21.

(الاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر، وهو افتعال من الصفوة، وهذا من أحسن البيان الذي يُمثَّل به المعلوم بالمرئي.

وذلك انّ الصافي هو النقي من شوائب الكدر فيما يشاهد، فمثَّل الله خلوص هؤلاء القوم من الفساد ظاهراً وباطناً بخلوص الصافي من شوائب الادناس)22.

وبقرينة الآية المباركة:﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ 23 وتكرارها في مواضع عدّة من كتابه بهذه الصيغة نستدلُّ على انّ العالمين جمع عالم، وهو كل ما خلقه الله تعالى فيشمل، عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الاِنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الجماد، أو أي عوالم أُخرى يمكن تصورها.

والملائكة كما نعلم من المعصومين على أصحّ الاقوال ﴿ ... لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ 24.

ومن هذه الآية نستدل على انّ الاَنبياء والاَئمة عليهم السلام أفضل حتى من

الملائكة؛ (لاَنّ العالمين يعم الملائكة وغيرهم من المخلوقات، والله سميع لما تقوله الذرية، عليم بما يضمرونه فلذلك فضلّهم على غيرهم لما في معلومه من استقامتهم في أفعالهم وأقوالهم)25.
بل من هذا السياق نستدل على ان نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء رحمة ليس للناس فقط بل حتى للجماد والحيوان والجن والانس بل حتى للملائكة، فهو رحمة لكلِّ ما خلق الله ويخلق بدليل قوله تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ 26، ومن كانت هذه صفاته بالخصوص، ومن كانت تلك صفاتهم بالعموم مع تفضلهم على خلق الله تعالى ومن جملتهم المعصومين الذين هم الملائكة الذين منهم سُجّدٌ لا يركعون، ورُكّعٌ لا يسجدون قد مُلئت السموات والاَرض منهم وعن العبادة لا يفترون..

كيف يتصوّر ان يكون (الرحمة) لهم غافلاً عن ذكر الله، أو فاتراً عنه، ولو للحظة واحدة، حتى ولو كان سهواً، وهذا الدليل الاخير بالخصوص مختصٌ بنبينا وآله عليهم السلام.

ألا نستشف من ذلك عصمتهم بالاضافة إلى نكاتٍ اُخرى لا تخفى على اللبيب ؟

6 ـ قوله تعالى:﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَىٰ ﴾ 27.

(وهي عامة، فانّ المفعول لا يتعين تقديره بالقراءة، ولا قائل بالفرق بين ماقبل نزول الآية، وقبل القراءة، وما بعدها، فالفارق خارقٌ بالاجماع)28. وهذه «اللاّ» ليست ناهية، بدليل عدم حذف حرف العلة، فهي إذن نافية فيثبت المطلوب.

7 ـ قوله تعالى:﴿ ... وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ 29.

روى الطبرسي وغيره من طرق العامّة والخاصّة انّها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام، وانه قال: «ما سمعتُ شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنسيتُه»30.

وهذا عام مطلقٌ في التبليغ وغيره، فيستحيل النسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الاَولوية 20.

8 ـ قوله تعالى:﴿ ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 31.

قال صاحب الميزان: والآية مع الغضّ عن السياق عامّة تشمل كلَّ ماآتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حكم فأمر به، أو نهى عنه. وقوله:﴿ ... وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 31 تحذير لهم عن مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأكيداً لقوله:﴿ ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ... 31 32.

بل ورد (في الكافي باسناده عن زرارة انّه سمع أبا جعفر وأبا عبدالله عليهما السلام يقولان: «إنّ الله عزَّ وجلَّ فوّض إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أمر خلقه، لينظر كيف طاعتهم، ثم تلى هذه الآية ﴿ ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... 31 »، والروايات عنهم عليهم السلام في هذا المعنى كثيرة، والمراد بتفويضه أمر خلقه كما يظهر من الروايات امضاؤه تعالى ما شرّعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وافتراض طاعته في ذلك، وولايته أمر الناس)33.

9 ـ قال تعالى:﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 34.

يمكن البحث في دلالة هذه الآية المباركة كما يلي:

المحور الاَول:

في معنى الظلم والظالمين نجد في القرآن الكريم إضافة إلى هذه الآية موارد كثيرة: قال تعالى:﴿ ... وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ 35، وقال تعالى:﴿ فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ 36، وقال تعالى:﴿ ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 37، وقال تعالى:﴿ ... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 38، وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 39، ويمكن ان يكون الاِنسان ظالماً لنفسه، قال تعالى:﴿ ... فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ... 40، وقال تعالى:﴿ ... وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ 41، وقد بيّن كيفية ظلم الاِنسان لنفسه بقوله تعالى:﴿ ... وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ... 42، وقال تعالى:﴿ ... وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 43.

مؤدى الآيتين الكريمتين الاخيرتين يجب ألاّ يراد التعدي لحدود الله مطلقاً، أي سواء كان التعدي عن عمدٍ أم سهو، لاَنّه اذا تعدى حدود الله تعالى عمداً فواضح، وإذا تعدى سهواً، فهو متعدٍ ظالم لنفسه، إلاّ انه معذور فالعقوبة ترتفع إلاّ أنّ الظلم يبقى حتى وإن كان معذوراً.

وبه يظهر ان الاِمام يجب ألا يكون مخطئاً أصلاً، وإلاّ لكان ظالماً في ذلك المصداق بالذات، فيشمله انه من الظالمين، فلا يمكن ان يناله عهد الله تعالى، فيجب ان يكون معصوماً مطلقاً.

المحور الثاني:

قال تعالى:﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ 44.

فهذه الآية تُظهر لنا انَّ الظالم في جهة، وفي الجهة الاُخرى يكون الرسول، فعليه لا يمكن ان يكونا في مصداقٍ واحد جزماً. ومنه نستشف انَّ الرسول يجب الا يكون ظالماً أصلاً، ولو نوقش في هذا، فالمحور الثالث ينجلي فيه الامر أكثر وأنصع.

المحور الثالث:

قال إبراهيم عليه السلام:﴿ ... وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ... 45 طلب هذا الاَمر الجليل لبعض ذريته، ولابدّ وان يكون مقصوده الذي يكون منهم مؤمناً، فحاشاه ان يطلب هذا الاَمر الجليل لغير المؤمن كما هو واضح، ولاَنّه خاطب أباه آزر من قبل فقال له: ﴿ ... أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 46، فكيف يطلب هذا الامر لضال ؟ !

وقد قال كذلك عند البيت الحرام:﴿ ... رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... 47 فهو يدعو بالرزق للذين آمنوا خاصة، فكيف يطلب الاِمامة لغيرهم ؟ !! هذا أولاً.

وثانياً: لابدّ وان يكون ذلك مؤمناً في حال كونه غير فاسق، لاَنّه يعلم انّ المتلبِّس بالفسق لا يمكن ان يكون إماماً للمؤمنين، إذ إنّه هو عليه السلام لم يحز هذا المنصب إلاّ بعد التسليم المطلق لله تعالى، وبعد الرسالة، والخلّة.

وهذه المعاني لابدّ وان تكون موجودة في ذهنه المنار بالايمان لدرجة التسليم.
فإذا كان كذلك، فما معنى قول الباري عزَّ وجلَّ بعد ذلك:﴿ ... لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 34 إذا استثنينا الكافر والفاسق الفعلي الذي يظهر منه انّه قد أخبر بذلك، لرفع ما ليس متبادراً ومتداعياً في ذهن الخليل عليه وعلى نبينا وآله السلام، فبيّن له الباري عزّ وجلّ من انّ العهد لا ينال من ليس مؤمناً فحسب بل حتّى المؤمنين الخواص، وانّ ذلك المقام لابدّ وان يكون للذي لم يرتكب، ولن يرتكب ظلماً أبداً، سواء كان متلبساً بالظلم، أم لا، مستغفراً وتائباً من ذنبه لله تعالى أم لا، صغيراً كان أو كبيراً، كما يُشعر بذلك، قوله سبحانه:﴿ ... لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 34 ويريد ان يبين نكتة اُخرى، بإنَّ الظلم لا يفارق طبيعة الذرية، والذرية مجموع، فعليه أتى بالجمع وقال تعالى:﴿ ... لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 34 ولم يقل لاينال عهدي الظالم، هذا أولاً.

وثانياً: ليبين انّ هناك بعده باشارة لطيفة أئمة وليس إماماً واحداً، وفي ذريته بالخصوص وإن كان هذا المعنى أبعد غوراً من ذاك.

10 ـ قال تعالى:﴿ ... أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... 48.

نستفيد من هذه الآية المباركة استفادات عديدة، منها:

الاستفادة الاُولى:

اطاعة الله سبحانه جاءت في الآية المباركة خالية من أيّ قيدٍ، وبما انّ طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاءت كذلك وعطفت على اطاعته تعالى، إذاً يجب ان تكون مطابقة لها كما هو الظاهر.

الاستفادة الثانية:

بما انّ الله سبحانه منبعُ العصمة، إذاً يجب ان يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً، وإلاّ لاختلّت الاطاعة الثانية ولما عُطِفَت على الاطاعة الاُولى كما هو ظاهر.

الاستفادة الثالثة:

قوله تعالى في نهاية هذه الآية المباركة:﴿ ... فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا 48.

يظهر وجوب كون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً وإلاّ لطلب منهم ان يردّوه إلى الله فقط، لئلا يحدث الخطأ بخطأ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما قال في نهاية الآية ﴿ ... ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا 48 لاَنّه ان لم يكن معصوماً لاَغرانا الله بالباطل سبحانه وأدلانا به، هذا أولاً.

وثانياً: إنّ الارجاع الى الله غير واضح على ما هو عليه، لاَنّ الله غير ملموس ولا محسوس فالارجاع إليه ارجاع إلى حكمه، وحكمه مستفاد من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي يمثله 49.

فقوله تعالى ﴿ ... فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ ... 48 كافٍ، أو إلى الرسول كذلك على هذا، إلاّ انّه لم يكتف بذلك بل قال فردّوه إلى الله والرسول، ليبين لنا ان الردَّ إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الردّ إلى الله، وما بينه الرسول بمنزلة ما بيّنه الله سواءً أظهر هذا الرسول وقال هذا حكم الله، أم لم يظهر ذلك، حتى وان قال هذا حكمي كما هو بيّن في أي أمرٍ صدر منه، وما هذا الامرُ إلاّ العصمة.
ولعلّه لما ذكرنا لم يتكرر حرف الجر، بل عطف الرسول على الله بدونه، ليدلنا على عدم الاثنينية في ذلك، بعد ان كرر لفظ الاطاعة ليؤكدها وليركزها في أذهان الذين آمنوا.

الاستفادة الرابعة:

عطف أولي الاَمر على الرسول واطاعتهما على اطاعة الله يقتضي عصمتهم لما قدّمناه في عصمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

بل نقول أكثر ببركة ورود أمر واحد بالاطاعة للرسول ولأولي الاَمر فاطاعتهما واحدة، ولذا لم يذكر أولي الاَمر مرة اخرى في نهاية الآية لاندكاكهم في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وللبيان والتوضيح اتى بهم أولاً، وللاختصار ولبيان وحدتهم بعد أن جعل لهما اطاعة واحدة لم يذكر الا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أخيراً وهو واضحٌ بحمد الله وبركته.

ولو جوّزنا الاّ تكون اطاعة أولي الاَمر مطلقة كما كانت اطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للزِمَ ان يكون استعمال اللفظ امّا من باب استعمال المشترك في أكثر من معنى، وهذا ما لا يجوّزه أكثر أصحاب التحقيق ان لم يكن كلّهم.

أو من باب المجاز، وهو خلاف الظاهر، فضلاً من ان السياق لا يساعد عليه بعد قوله تعالى:﴿ ... فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ... 48 ولم يذكر أولي الاَمر لما ذكرناه، وبعد قوله ختاماً:﴿ ... ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا 48 ، وقد «وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الاَمر لم يطع الله ورسوله»50.
وقد أقرّ الرازي بدلالة هذه الآية على العصمة 51 ولكنّه لحاجةٍ في نفسه أوّل أولي الاَمر بأهل الاجماع بلا دليل يرتكز عليه. وقد ردّهُ الشيخ محمد حسن المظفر قدس سره في دلائل الصدق 52، وفيه انَّ المنصرف من أولي الاَمر من لهُ الزعامة وهذا خلاف أهل الاجماع، وهذا الرد نوافق عليه.

إنّ ظاهر الآية إفادة عصمة كلّ واحدٍ منهم لا مجموعهم، لاَنّ ظاهرها ايجاب اطاعة كلّ واحدٍ منهم، وهذا غير واضح من الآية المباركة، ولذا يستطيع ان يدعي خلافه، على ان العمل بمقتضى الاجماع ليس من باب الطاعة لهم، لاَنّ الاجماع من قبيل الخبر الحاكي. وهذا ليس محلّ ذلك ففيه ما فيه.

فلم يبق إلاّ ان التمسك بانّ تأويله لاَولي الاَمر بأهل الاجماع خلاف الظاهر أصلاً ويحتاج إلى دليلٍ واضح، لا سبيل له، ولا دلالة للآية المباركة عليهم لا من قريب ولا من بعيد، مع الانصراف المذكور أولاً فيتعين من له الزعامة والاِمامة، وهو الاِمام بزعمنا لا غير.

وقد أشكل الرازي 53 على انّ المراد بهم الاَئمة عليهم السلام بوجوه مشوّهة:

الوجه الاَول منها:

إنّ الطاعة لهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم واذا قلنا انه يجب علينا ذلك، إذ صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار مشروطاً وهو مطلق.

وفيه:

أ ـ النقض: بطاعة الله ورسوله وطاعة أهل الاجماع على رأيه.

ب ـ الحل: فالطاعة ليست مشروطة بمعرفتهم وبقدرة الوصول إليهم، بل مطلقاً كما هي طاعة الله ورسوله... فيجب تحصيل المعرفة بهم، كما في معرفة الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلاّ لو التزمنا بما ذكر في أولي الامر لوجب ذلك أيضاً في الله والرسول وهو كما ترى.

الوجه الثاني:

إنّ أولي الاَمر جمعٌ وعندهم لا يكون في الزمان إلاّ امامٌ واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.

وفيه أنّ المراد هو الجمع ولكن بلحاظ التوزيع في الازمنة، ولا منافاة فيه للظاهر بل نقول أكثر من ذلك وهو وجوب طاعتهم كلّهم على حدٍّ سواء، وان كان الاِمام واحداً في كلِّ عصر، وهذان مقامان مختلفان وهو واضحٌ لمن تدبّر.

الوجه الثالث:

﴿ ... فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ... 48، ولو كان المراد بأولي الاَمر الاِمام المعصوم لوجب ان يقول فان تنازعتم في شيء فردّوه إلى الاِمام.

وفيه: إنّ الردّ إلى أولي الاَمر أيضاً مأمورٌ به، لكن اكتفى عن ذكرهم في آخر الآية بما ذكره في أولها من مساواة طاعتهم بطاعة الله ورسوله)54، بل نقول أكثر من ذلك من انّ المصدر الرئيس للتشريع هو الله سبحانه، ولا يجب اطاعة أي مخلوق، فهو الاساس في الاطاعة، واطاعة المخلوقين تأتي وتترشح من الباري عزَّ وجل، فذكر تفصيلاً من تجب طاعته ابتداءً وفصَّل، ثم أخيراً بين الطرفين الاَساسيين في عملية الاطاعة وهي المرسِل والمرسَل، لاَنّ الاَساس اطاعة الله ثم بواسطة المرسلين تترشح هذه الاطاعة كما انه بالمعاجز يثبتها.

وثبوت الاِمامة وولاية الاَمر متوقفة على الرسول لبيانها وتوضيحها، فولاية الاَمر مستفادة من الله ورسوله.

فولاية الاَمر هي كذلك من الامور التي يمكن ان يقع التنازع فيها كما وقع، وهذا الارجاع إرجاع كلي، ولو أُرجع إليهم أيضاً للزم الدور كما هو واضح، فلذا لم يذكر الرد إلاّ إلى الله والرسول. وكما ذكرنا أولاً ولاية الاَمر مندكّة في المرسل لا تفترق عنه فهو المصدر لها ومبينها، ولهذا وذاك ذكر الارجاع إليه مكتفياً به كما هو واضح لمن ألقى السمع وهو بصير 55.

ومن نافلة القول صرف الوجه لاشكالٍ ربّما راود بعضهم هذه الاَيام مفاده: إنّ الاطاعة هنا شأن الاطاعة للعلماء بلا فرق في ذلك أصلاً، فكيف أطلقتم هنا ولم تطلقوا هناك ؟ !

وإذا كانت هناك محدّدة فهنا كذلك. والاطاعة للعلماء لا تدل على عصمتهم. فالاطاعة لاولياء الاَمر أو للنبي المرسل صلى الله عليه وآله وسلم لا تدل على العصمة، كذلك.

والجواب:

إنّ بين الاطاعتين فرقاً، وبين الموردين فرقاً آخر. فهل يقول صاحب هذا الاشكال في العلماء ومنهم الصحابة بأنّ أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم حجّة، كما هو الاَمر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

إن قال بحجيتها خرج عن مسلك العلماء وطريقتهم. وان قال بعدم حجيتها ظهر الفرق، وذلك لاَنّ الصحابي أو العالم إذا فعل فعلاً مثلاً، نحمل فعله على محمل الصحة، وانّه لا يخالف الشرع بتصرفه بدواً، كأي مسلم، إلاّ أننا نحتمل فيه:

1 ـ التأويل الخاطئ لقول المعصوم.

2 ـ النسيان.

3 ـ السهو والغفلة.

4 ـ عدم وصول الحكم اليه، فعمل على ما ارتكز في ذهنه من اعتقادات سابقة، الله أعلم بمنشئها.

5 ـ والاحتمال الاخير، وان كان ضعيفاً إلاّ انّه يبقى كاحتمال وارد وان كانت نسبته ضئيلة بالقياس إلى تلك الاحتمالات، وهو الاحتمال القائل، بالمخالفة العمدية للشارع المقدّس، لكونه غير معصوم فيحتمل فيه الفسق.

فبناءً على هذه الاحتمالات لا يُعدُّ فعله حجّة لنا، ولا علينا، وان كنّا نُصحّحُ فعله الذي فعله، بحمل عمل المسلم على الصحة، لكن بما هو عمل شخصي له لا يمكن استنباط حكم شرعي منه.

فتنفع الاصول العقلائية من اصالة عدم الخطأ، واصالة عدم السهو أو الغفلة في ذلك فقط، لا غير.

فإذا كان كذلك لا يمكن ان يُقاس النبي بهذا أبداً، وذلك لاَنَّ فعله ليس خاصاً به حتّى نحمله على تلك المحامل، هذا أولاً.

وثانياً: إذا أخطأ العالم الحكم الواقعي لا يقدح بالاحكام الالهية أي شيء. وينتهي هذا الحكم الظاهري بانتهاء عمل هذا العالم.

وأمّا إذا أخطأ المبلِّغ المباشر عن الله تعالى فالحكم الالهي سيتغير، ويتبدّل، ولا تشفع لنا الاصالات كلها في ردّه لاصله، فيكون النبي قد أصدر حكمين أو ثلاثة لواقعة واحدة فتتغير أحكام الله تعالى ولاتظهر أبداً.

وبتعبير آخر المبلغ المباشر عن الله تعالى مثل النبي يكون مصدراً ومظهراً للحكم الالهي، فلابدّ ان يكون مظهراً له على حقيقته وواقعه. وهذه الاصول اجراؤها يكون لمجرد تمشية الامور الظاهرية في وقت معين ولشخص أو أشخاص معيّنين.

فلا يمكن تطبيقها على مسلك الرسول أو الاِمام وذلك لاَنّهما مظهران لاحكام الله الواقعية والحقيقية، وإلاّ لانتفت فائدة بعثة الرسول كما هو ظاهر لكلِّ عين، فبناءً على هذا الاطاعة تكون مطلقة بالنسبة للنبي والاِمام كما هي للباري عزّ وجلّ.

أما الاطاعة للصحابي ومثله للعالم فهي مقيدة بقيود كثيرة، قد يظهر بعضها في هذه الرواية المباركة:

عن الاِمام الحسن العسكري عليه السلام: «قال رجل للاِمام الصادق عليه السلام فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم، لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمّهم الله بتقليدهم والقبول من علمائهم وهل عوام اليهود الاّ كعوامنا يقلدون علماءهم ؟ !

فقال عليه السلام: بين عوامنا وعلمائنا، وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة، وتسوية من جهة.

أمّا من حيث استووا فإنّ الله قد ذمّ عوامنا بتقليدهم علمائهم، كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علمائهم.

وأمّا من حيث افترقوا فلا.

قال: بيّن لي يا بن رسول الله.

قال عليه السلام: إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وبأكل الحرام والرشاء، وتغيير الاحكام عن وجهها، بالشفاعات، والعنايات، والمصانعات، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وانهم اذا تعصّبوا، أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه، واعطوا مالايستحقه من تعصّبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم مقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى انّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز ان يصدُق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله. فلذلك ذمّهم لما قلدوا من قد عرفوا، ومن علموا انّه لايجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه اليهم، عمّن لم يشاهدونه. ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا كانت دلائله أوضح من ان تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوام أمتنا، إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا، وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه، وان كان لاصلاح أمره مستحقاً، وبالترفرف بالبر والاحسان على من تعصّبوا له، وان كان للاذلال والاهانة مستحقاً. فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم.

فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لاَمر مولاه، فللعوام ان يقلدوه، وذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة لاجميعهم.

فأنّه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلاتقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة.

وإنّما كثر التخليط فيما يتحمل عنّا أهل البيت لذلك.

لاَنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الاشياء على غير وجوهها، لقلة معرفتهم.

وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.

ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا، فيتعلمون بعض علومنا الصحيحة، فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصّابنا، ثمّ يضيفون اليه اضعافه، واضعاف اضعافه من الاَكاذيب علينا التي نحن براء منها، فيتقبله المستسلمون من شيعتنا على انّه من علومنا.

فضلّوا وأضلّوا. وهم أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي عليهما السلام وأصحابه»56.

من هذه يتضح الفرق، فليس كل فقيه يجب اتّباعه، وليس كلّ عالم، فإذا اختلت الكلية، يكون المصدَّق منهم التّابع لشرع الله تعالى، فتدور طاعته مدار اتّباعه للشرع، بينما في المعصوم يدور الشرع مداره، فهذا هو الفرق بين المقامين، فهنا تجب الطاعة مطلقاً، بينما في الفقيه أو العالم لاتجب مطلقاً، بل ضمن حدود ما رسمه الشارع المقدّس لنا.

وهناك فرقٌ آخر: إنّ العالم العادل لا طريق إلى معرفة عدالته، إلاّ الاِسلام، وعدم ظهور الفسق، وحسن الظاهر. وبذا صرَّح كلٌّ من الشهيد الاَول 57، والمحقق الكركي 58، وصاحب الجواهر 59، والشيخ الاعظم الانصاري 60.

فإذا أخلّ بشيء من الواجبات، أو ارتكب المحرمات تختلُّ عدالته.

أمّا الاِمام: فلا يمكن ان يُقال بحقه ذلك. وذلك لاَنّ طريق معرفة عصمته ليس الاِسلام، وعدم ظهور الفسق، وحسن الظاهر. بل الطريق إليها إمّا النصّ كما قلنا، أو المعجزة، فإذا كان كذلك: فما يقوم به هو الاسلام بعينه. فإذا أمر ذاك لا تجب اطاعته إلاّ ضمن حدود الاِسلام، وعدم ظهور الفسق، وحسن الظاهر. وإذا أمر هذا تجب اطاعته على كلّ حال. فظهر الفرق.
فاذن اطاعة الاِمام عليه السلام، ليست مثل اطاعة أيّ شخصٍ آخر.

وبتعبير علمي دقيق: إنّ كل حجة لا تنتهي إلى العلم فهي ليست بحجة، لاَنّ القطع هو الحجة الوحيدة التي لا تحتاج إلى جعل، وبها ينقطع التسلسل ويرتفع الدور.

وهذه الاصول العقلائية التي يفزع إليها الناس في سلوكهم مع بعضهم لا تحدث علماً بمدلولها، ولا تكشف عنه أصلاً لا كشفاً واقعياً ولا تعبدياً.

أما نفي الكشف الواقعي عنها فواضح لعدم التلازم بين إجراء أصالة عدم الخطأ في سلوك شخص ما، وبين اصابة الواقع والعلم به، ولو كان بينهما تلازم عقلي لاَمكن إجراء هذا الاصل مثلاً في حق أي شخص واعتبار ما يصدر عنه من السنة، ولا خصوصية للنبي في ذلك.

وأما نفي الكشف التعبدي عنها فلاَنه مما يحتاج إلى جعل من قبل الشارع، ومجرد بناء العقلاء لا يعطيه هذه الصفة ما لم يتم امضاؤه من قبله، وشأنه في ذلك شأن جميع ما يصدرون عنه من عادات وتقاليد وأعراف.

والسر في ذلك ان القطع بصحة الاحتجاج به على الشارع لا يتم إلاّ اذا تم تبنيه من قبله وعلم ذلك منه.

وكل حجة لا تنتهي إلى القطع بصحة الاحتجاج بها فهي ليست بحجة 61.

11 ـ وقال تعالى:﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ 62.

فهنا لدينا عدَّة من العناوين:

1 ـ الذين يأتيهم الامر ويذيعون به.

2 ـ الذين يردّون الامور إلى الرسول وإلى أولي الاَمر.

3 ـ الرسول.

4 ـ أولو الاَمر.

وفي قوله تعالى:﴿ ... لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... 62 عنوان خامس المستنبطون للحكم.

ومن الآية الكريمة يظهر انّ العنوان الثاني داخل في ظل العنوان الاَول بل هو جزء منه لا بالجزئية الحقيقية، بل بمعنى انّ هؤلاء المذيعين لو ردّوا الامور قبل ذلك إلى من ذكر في الآية لعلموا الحق في الاَمر، فهم منهم من هذه الجهة كما لا يخفى.
أولاً:

وقبل كلّ شيء نقول انّ الظاهر من تعدد العنوان تعدد المعنون إلى ان يثبت ان العناوين لواحد، وخاصة اذا وردت في كلام واحد، يساعد ظاهره على ذلك، ثم سياق الآية كما نرى يدل على المغايرة.

ثانياً:

نتساءل ما المقصود بـ ﴿ ... وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ... 48 هنا ؟

هناك دعويان يطفحان هذه الايام في الخارج ولا ثالث لهما.

1 ـ ان يكونوا هم الحكام.

2 ـ ان يكونوا الاَئمة المخصوصين الذين نعتقد امامتهم.

فإن كان الاَول لزم منه عدم صدق ذلك؛ وذلك لاَنّ أغلب هؤلاء كما يعلم المطلعون على التاريخ الاسلامي من بدايته إلى الآن يعلمون علم اليقين بانّ أغلبهم إن لم نقل كلهم لا علم لهم باحكام الله، فكيف يرجع الله تعالى المؤمنين اليهم لمعرفة احكامه منهم، وهذا ما لا يفعله جاهل فضلاً عن رب العزة سبحانه، هذا أولاً وأما ثانياً فنقول بما ان الحكام كذلك إلاّ نفراً أو نفرين فلا يمكن ان يُصب العموم فيهما، لانه نادر الوقوع وقليله، فلا يفعل ذلك مبتدئ في اللغة فضلاً عمّن أعجز كتابه من هذه الجهة بالخصوص ومن جهات أخر البشر قاطبة.

ثم نقول
ثالثاً:

إذا تم الرجوع الى أولي الاَمر هؤلاء فما فائدة وجود الذين يستنبطونه منهم، بعد ان سمعوا الحكم ورأوا ما يفعله الحاكم، ولا تخلو بلاد منهم لاَنه اذا قلنا بانها تشمل الرأس الاكبر في الحكم فهي تشمل كل رأس كذلك في كل منطقة ولو صغيرة، فما أدخل ذاك أدخل هذا، ولا فرق، فلا تبقى فائدة للمستنبطين، وأما على قولنا فالفائدة مستمرة سواء بحضور الاِمام أم بغيبته كما هو ظاهر.

ورابعاً:

ان قيل ان الظرف الذي يلي أولي الامر يقتضي ان يكون أولو الاَمر من اولئك الذين أذاعوا، فنقول: بالاضافة إلى ما قدّمناه، واستبعاد ان يكون أولو الاَمر منهم بالخصوص، إن الظرف راجع إلى الرسول وإلى أولي الاَمر كليهما. ولا يقدح شيء في ذلك بعد قوله تعالى:﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ... 63. وبعد قوله تعالى:﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ... 64. ولم يكن هو منهم بشيء من الضلالة التي كانوا فيها، فالظاهر كونه ظرفاً مستقراً أي أولو الاَمر الكائنون منكم، هذا أولاً.

وثانياً: إذا كان أولو الاَمر ممّن اذاع ذلك الاَمر من الاَمن أو الخوف كيف يُردُّ إليهم ما صدر منهم ليقوَّم، ولايمكن ان يكون الرسول كذلك فعطف اولئك عليه يعلم منه انهم كذلك لا يمكن صدور تلك الاذاعة منهم لذا يجب ان يكونوا غيرهم.

وأخيراً من حقنا ان نسأل: هل ان الحكام الذين رأينا فضلاً عمّن سمعنا عنهم وقرأنا، هل من المعقول ان الله سبحانه يجعل هؤلاء بمنزلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويُرجع احكامه اليهم ؟ !! فما اتعسنا وأشقانا.. فكم حلّلوا حراماً وحرّموا حلالا حتى وصل الجهل ببعضهم بان ضرب كتاب الله عرض الحائط وتمسكوا بما قاله الناقص!!
ولا يمكن ان يكونوا كما قيل 65أولي الاَمر منهم مع جمع وطرح حوالي تسعة أقوال 2 : 176.:

أ ـ الخلفاء.

ب ـ اُمراء السرايا.

جـ ـ العلماء، أو حتى غيرهم.

لكلِّ ما قلناه وذكرناه أو لبعضه كما لا يخفى على من تدبّر وتفكّر في المقام.

ونقول من جهة اخرى انّه لا يمكن ان يكون المستنبطون هم الرسول وأولي الاَمر، وذلك:

1 ـ لاَنّ الرسول لا يمكن ان نُثبِتَ في حقّه الاستنباط، بل انه ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ 19. والاستنباط للحكم غير تلقيه وإلقائه للناس بنفسه.

2 ـ ولا يمكن ان يكون أولو الاَمر كذلك لاَنّهم قد عُطفوا على الرسول في الارجاع إليه وإليهم، ولو كانوا مستنبطين أيضاً لما أرجع اليهم مع الرسول.

3 ـ ولمّا كان ثمّة فائدة في ذكرهم معه لاَنّ المستنبط أعم مطلقاً من ولي الاَمر على بعض الآراء، وبينهما عموم وخصوص مطلق على الباقي، فلا فائدة في الارجاع على الشق الاَول اذا كان أولو الاَمر ليس فيهم مستنبط أصلاً، فلا علم حينئذٍ.

وكذا على الشق الثاني في المصاديق المختلفة كما هو ظاهر، أمّا على قول الاختلاف فالارجاع فائدته ظاهرة وبيّنة، لاَنّ من أساس التشريع الرسول وأولي الاَمر، فالارجاع إليهم في الاستنباط عملية مطلوبة على كل حال. خاصة مع اعتضاد ما ذكرنا بورود بيان أولي الاَمر بالمعصومين عليهم السلام على ما روى صاحب مجمع البيان الشيخ الطبرسي قدس سره عن أبي جعفر عليه السلام، كما روى عنه وعن أبي عبدالله عليه السلام: «أنّ فضل الله ورحمته: النبي وعلي».

وعن جعفر بن محمد عليهما السلام في قول الله عزَّ وجلّ:﴿ ... وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ... 62، قال: «نحن أولو الاَمر الذين أمر الله عزَّ وجلّ بالردِّ إلينا»66.

من هذا يظهر بانّه لا وجه لما قاله قدس سره ان ضمير (منهم) في قوله تعالى:﴿ ... لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... 62 يعود إلى أولي الاَمر على الاظهر 67.
12 ـ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68.

لعلَّ المراد بأهل البيت في هذه الآية المباركة الذي يجب أن يلتفت إليه علمياً هو:

1 ـ نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، لورود الآية المباركة في جملة خطابات متعلقة بهن.

2 ـ نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

3 ـ خصوص هؤلاء الخمسة عليهم السلام.

وقد قال القرطبي: (والذي يظهر من الآية انّها عامّة في جميع أهل البيت من الازواج وغيرهم، وإنّما قال «ويطهركم» لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غُلِّبَ المذكر)69 ووافقه الفخر الرازي على ذلك 70.

إلاّ أننا الآن نحاول ان نستقرئ الآية المباركة لنشاهد مدى دلالة ألفاظها ومعانيها على هذا الذي قالوه، وهذا الظهور الذي ادّعوه.
إنّما:

معنى إنّما اثبات لما يُذكر بعدها، ونفي لما سواه، والنفي والاثبات من أتقن وأشد موارد الكلام، في دلالته على المعنى، ولذا وردت عليه كلمة التوحيد.

فآية التطهير (تدل على حصر الارادة في اذهاب الرجس، والتطهير).

وكلمة أهل البيت سواء كان لمجرّد الاختصاص أو مدحاً، أو نداءً، يدلُّ على اختصاص إذهاب الرجس، والتطهير بالمخاطبين بقوله: «عنكم».

ففي الآية في الحقيقة قصران: قصر الارادة في اذهاب الرجس، والتطهير. وقصر إذهاب الرجس والتطهير في أهل البيت 71.

التطهير:

التنزيه عن الاثم، وعن كلِّ قبيح 72.

الرجس:

أمّا ان تكون هذه اللاّم للعهد أو ان تكون للجنس، أمّا كونها عهدية فليست كذلك، لاَنّهُ ما عُهِدَ رجسٌ في الكلام السابق حتى ترجع إليه.

فتبقى هذه علامة للجنس، وبما ان معنى الجملة نفي، إذ انّ الباري يريد إذهاب الرجس ونفيه عنهم، فهو يعمّ لاَنّه لو تحقق مصداق ما للرجس وثبت، ما صدق الكلام.

الرِّجس: لنتابع هذه الكلمة قرآنياً، قال تعالى:﴿ ... وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ 73. وقال تعالى:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ 74. وقال تعالى:﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ... 75.

من هنا يتبين ان الرجس يطلق ويراد به القذارة المعنوية اذا صحَّ التعبير بكلِّ أنواعها، كما هو ظاهر الآيتين الاوليتين.

وأما ظاهر الآية الثالثة فإنّ الرجس يُراد به القذارة المادية، فبناء على ذلك: تكون كلا القذارتين ذاهبتين عن هؤلاء بالخصوص. فيعمّ اذهاب جميع الآثام وكلّ القبائح المادية والمعنوية عنهم.

ولذا قالوا: (فمن المتعين حمل اذهاب الرجس في الآية على العصمة، ويكون المراد بالتطهير في قوله:﴿ ... وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68  وقد أكّد بالمصدر ازالة أثر الرجس بايراد ما يقابله، بعد اذهاب أصله).

والمعنى: (انّ الله سبحانه تستمر ارادته ان يخصكم بموهبة العصمة باذهاب الاعتقاد الباطل، وأثر العمل السيء عنكم أهل البيت، وايراد مايزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة).
ولا بأس بنقل تتمة كلام السيد الطباطبائي قدس سره فيما لو شملت الآية المباركة غير هؤلاء الخمسة أياً كان هذا الغير: (ليس المراد بأهل البيت نساء النبي خاصة لمكان الخطاب الذي في قوله: «عنكم»، ولم يقل: عنكنّ.

فإمّا أن يكون الخطاب لهنّ ولغيرهنّ.

أو يكون الخطاب لغيرهنَّ أياً كان هذا الغير.

وعلى أي حال فالمراد باذهاب الرجس والتطهير مجرّد التقوى الديني بالاجتناب عن النواهي، وامتثال الاوامر.

فيكون المعنى: إنّ الله لا ينتفع بتوجيه هذه التكاليف اليكم، إنّما يريد اذهاب الرجس عنكم وتطهيركم، على حدِّ قوله:﴿ ... يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ... 76.

وهذا المعنى لا يلائم شيئاً من معاني أهل البيت لمنافاته البيّنة للاختصاص المفهوم من أهل البـيت، لعمومه لعامّة المسلمين المكلّفين باحكام الـدين.

وان كان المراد باذهاب الرجس والتطهير التقوى الشديدة البالغة، ويكون المعنى:
إنّ هذا التشديد في التكاليف المتوجهة اليكن أزواج النبي وتضعيف الثواب والعقاب ليس لينتفع الله سبحانه به، بل ليذهب عنكم الرجس ويطهركم.

ويكون من تعميم الخطاب لهن ولغيرهنّ بعد تخصيصه بهنَّ، فهذا المعنى لا يلائم كون الخطاب خاصاً بغيرهنّ وهو ظاهر، ولا عموم الخطاب لهن ولغيرهنّ، فانّ الغير لا يشاركهن في تشديد التكليف، وتضعيف الثواب والعقاب.

وان كان المراد اذهاب الرجس والتطهير بارادته تعالى ذلك مطلقاً لابتوجيه التكليف، ولا بتوجيه التكليف الشديد، بل ارادة مطلقة لاذهاب الرجس والتطهير لاهل البيت خاصة بما هم أهل البيت، كان هذا المعنى منافياً لتقييد كرامتهن بالتقوى.

وبهذا الذي تقدّم يتأيد ما ورد في أسباب النزول ان الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسنين عليهم السلام خاصّة لا يشاركهم فيها غيرهم.

وهي روايات جمّة تزيد على سبعين حديثاً، ما ورد منها من طرق أهل السُنّة يزيد على ما ورد فيها من طرق الشيعة.

فقد روتها أهل السنة بطرق كثيرة عن: أم سلمة، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وسعد، وواثلة بن الاسقع، وأبي الحمراء، وابن عباس، وثوبان مولى النبي، وعبدالله بن جعفر، وعلي، والحسن بن علي عليهما السلام، في قريب من أربعين طريقاً.
وروتها الشيعة عن علي، والسجاد، والباقر، والصادق، والرضا عليهم السلام، وأم سلمة، وأبي ذر، وأبي ليلى، وأبي الاسود الدؤلي، وعمرو بن ميمون الاودي، وسعد بن أبي وقاص، في بضع وثلاثين طريقاً 77.

قال تعالى:﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68، عن شداد بن عبدالله أبي عمار عن واثلة بن الاسقع انّه حدثه قال: أتيت فاطمة (رض) أسألها عن علي، قالت: توجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،... حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه علي وحسن وحسين عليهم السلام آخذ كل واحد منهما بيده، حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه، ثم تلا:﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68 وقال : «اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي»78.

ورواه عبدالجبار بن العباس الشّبامي عن عمار الدهني عن عمرة بنت أفعى عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: نزلت هذه الآية في بيتي ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68 وفي البيت سبعة جبرئيل وميكائيل عليهما السلام، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام، وأنا على باب البيت، فقلت: يا رسول الله ألستُ من أهل البيت ؟ !

قال: «أنتِ على خير، إنّك من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم»، وما قال: انك من أهل البيت 79 80.

بناءً على هاتين الروايتين وغيرهما الواردة في هذا المقام بالذات حصر أهل البيت في هؤلاء الخمسة فعملية الاخبار تكفي، إلاّ انّه لم يكتف بذلك بل أجلس علياً عن يساره، وفاطمة عن يمينه، والحسن والحسين بين يديه، ليخبر السامع والناظر بأنّ هؤلاء هم أهل بيته بالخصوص، وهم المعنيون بالآية المباركة، إذ بعد ان اجلسهم قرأ ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68. وكأنّه يريد أن يزيد بياناً في انّ هذا العنوان لا يشمل إلاّ هؤلاء بالقول والفعل ليرسخ المعنى أكثر.

وقال: اللهمّ انّ هؤلاء أهلي.

والرواية الثانية الظهور فيها أشد، فأم سلمة من الازواج، ودعوى شموليتها لها موجودة ومحققّة، إلاّ انّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صرَّح بعدم دخولها في هذا الموطن بالذات بهذا العنوان، فما بعد ذلك إلاّ العناد.

وإذا صحّ التعبير إنّ هذا وضعٌ شرعي من قبل المشرّع نفسه وليس وضعاً مُتشرعاً، فحتى لو كان يشمل غيره فهنا قد خصصه الواضع، فكيف ندعي الشمولية ؟

وهناك قرائن اُخرى، تفيد الاختصاص نذكرها تباعاً، قرائن داخلية، وقرائن خارجية، بالاضافة إلى ما مرَّ.

القرينة الاُولى:

إنّه بعد النزول والتحديد بالرداء والكساء، والحصر بالفعل بعد ان جاء الحصر بالقول كان صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد هذا الحصر بهؤلاء عند خروجه للصلاة فيأتي باب الزهراء البتول فاطمة عليها السلام وينادي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68 كل يوم خمس مرات لمدة تسعة أشهر أو سبعة أشهر أو ستة أشهر على اختلاف الروايات 81 راجع بذلك كل من الطبري وابن كثير والسيوطي في تفاسيرهم.

وقد قال ابن حجر (وإنّ أكثر المفسرين على انّها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين)82.

وتواتر النص بذلك من جماعة من الصحابة والتابعين، وانهاه ابن جرير الطبري في تفسيره ـ جامع البيان ـ إلى خمسة عشر طريقاً، والسيوطي في تفسيره ـ الدر المنثور ـ عند تفسير هذه الآية من سورة الاحزاب إلى عشرين طريقاً.

القرينة الثانية:

إنّ الآل والاَهل تدلاّن على النسب دون السبب 83، بل جاء بالاثر عن زيد بن أرقم عندما سُئل من أهل بيته، نساؤه ؟ !

قال: لا، وايم الله، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلّقها، فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حُرموا الصدقة بعده 84.

القرينة الثالثة:

قال تعالى:﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ 85، وقد أطبق المفسرون، واتفقت الرواية، وأيّده التاريخ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر للمباهلة، ولم يحضر معه إلاّ علي وفاطمة والحسنان عليهم السلام)86.

وقد خصّهم الله تعالى قبل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم باسم الاَنفس والنساء والاَبناء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة، وبلفظ أنفسنا علي، بل المراد انّه صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يأتِ في مقام الامتثال إلاّ به وبها، كشف ذلك انها هي المصداق الفرد لنسائنا، وإنّه هو المصداق الوحيد لاَنفسنا، وإنّهما مصداق أبنائنا.

وكان المراد بالاَبناء والنساء والاَنفس في الآية هو الاَهل، فهم أهل بيت رسول الله وخاصته، كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر اتيانه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي»87، فإنّ معنى الجملة: إنّي لم أجد من أدعوه غير هؤلاء 88.

فإذا كان كذلك عُلِمَ دخولهم في أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا ريب ولاشك، وقد استقصى صاحب كتاب خصائص الوحي المبين المصادر والطرق لرواية انّها نزلت في الخمسة من مسند أحمد لغيره، وأضاف محقق الكتاب الشيخ محمد باقر المحمودي مصادر كثيرة اخرى في تعليقته على هذا الكتاب 89 فيسقط بهذا القول الاَول، كما سيأتي وجه آخر لاِسقاطه.

القرينة الرابعة:

كثرة الروايات في ذلك 90.

القرينة الخامسة:

ونزيد ذلك بياناً بتساؤل مؤدّاه: ما للخطاب عندما يبدأ بالارشاد والامر يبدأ بالنون، وبه يختم ؟ ! فإذا وصل إلى هذا المقطع من الآية المباركة انقلبت النون منكفئة، وظهر بدلها ميم للجمع تصرخ بملء فيها انني غير تلك فلاحظوا.

ثم إذا تمّت النعمة واكتمل الامر لكل ذي لب، رجعت النون تزهو في محلّها بخطابٍ لطيفٍ لنساء كان قدرهنَّ ان يكنَّ أمهاتٍ للمؤمنين، بأن يذكرن ما يُتلى في بيوتهنَّ من آيات الله والحكمة.

ففي الواقع ان الخطاب لهنّ بالاوامر الالهية قد انتهى بقوله تعالى:﴿ ... وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... 68 ثم ابتدأ بعد ذلك المقطع ثانياً بتذكيرهنَّ بان يذكرن ما يُتلى في بيوتهنّ من آيات الله والحكمة، ومن جملة ذلك، ذلك المقطع بعينه بالخصوص.

فيتردد ذو اللب بين أمرين:

فإمّا أن يكون خطاباً لهنَّ مع غيرهنَّ من رجالٍ لم يُذكروا أصلاً، وإمّا أن يكون خطاباً لغيرهنَّ.

ونقول: هل يصلح الاَمر اذا كان الخطاب لمجموعة من النساء أولاً: (من يأت منكنّ بفاحشةٍ مبيِّنة يُضاعفُ لها العذاب ضعفين) ، ثم يقول المخاطب الحكيم:﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68 فأي اذهاب للرجس هذا، وأي تطهير ؟ ! فلاحظ.

ثم ألم يلاحظ من يدّعي انّ هذا المقطع لنساء النبي خاصة أو بالاضافة لمجموعة اُخرى، سينقلب الامرُ عليه وهو مصرٌّ على ذلك ولا يدري، وذلك لانّه قال تعالى:﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ... 68.

فالاستقرار في البيت أولاً وعدم التبرّج ثانياً يكون على مبناه من حيث يدري أو لا يدري شرطاً في اذهاب الرجس والتطهير، واذا باحداهنّ قد خرجت ولم تستقر في بيتها وهي ـ عائشة ـ فعلى هذا ما ذهب الرجس عنها ولم تطهر أصلا، فإذا وافق بالمقدّم فليوافق في النتيجة واذا رفض النتيجة فالمقدّم مثله باطل فتكون بهذا خارجة من خطاب التطهير واذهاب الرجس، وهو الامر الذي يصرُّ عليه الحكيم.

وقرينة اُخرى: تبقى قضية السياق ـ وهو مع الاَسف ـ غير قابل للدلالة لملاحظات عدّة: وذلك لاتفاق الكلّ حتّى القائل باختصاصها بالنساء وهو القول الشاذ جدّاً، لا يقول بانّها نزلت سويّة، بل الكل يعلم بانّ هذا المقطع من الآية المباركة نزل لوحده، وهذه الاَحاديث الكثيرة تنصّ على ذلك، ولم ترد ولا رواية واحدة وان كانت ضعيفة جدّاً تذكر انها نزلت بالاضافة إلى بقية الآيات.

القرينة السادسة:

بل هذا السياق سيكون مشكلة للذي يتمسّك به، فاننا إذا اردنا استيعاب الاَمر بصورة جيّدة، علينا ان نجعل الآيات المباركات نصب أعيننا للنظر فنرى..

قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا 91، ثم بعد ذلك يذكر المسلمين والمسلمات.. ويبيّن ما أعدّ لهم من مغفرة وأجر عظيم فلاحظ، والله قد وصف نفسه باللّطف وبكونه خبيرا.. فهو يعلم خائنة الاَعين وما تخفي الصدور، وهو يعلم الغيب واسراره ودقائقه... فلاحظ وركّز على شيء مهم وهو قوله تعالى:﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68، فجعلَ الاَهل مضافاً للبيت، الذي هو مفرد وهو معرفة، ولاحظ بعد ذلك قوله جلَّ ذكره: (واذكرن ما يُتلى في بيوتكُنّ من آيات الله والحكمة) ، فهل تشاهد الفرق البيّن، والكلام اللطيف.. فقد عبّر في «بيوتكنَّ» وهو جمع ولم يكن مفرداً كما كان في آية التطهير ولم تكن لهذه معرفة إلاّ بالاضافة لهنّ بالخصوص، وما اضفن إلى البيت الطاهر فأين ذهب التعريف والتشخيص ؟ !!

فهل أصبح البيت بيوتاً أم يريد أن يبيّن ان تلك البيوت ليست بذلك البيت ؟

وإن كان ذاك إشارة إلى بيت النبوة وهذه إلى البيوت الطينية إلاّ أنّ في الفرق لعبرة.

لذا قال السيد عبدالحسين شرف الدين رحمه الله: (وقد أجمعت كلمة أهل القبلة، من أهل المذاهب الاِسلامية كلّها على انّه صلى الله عليه وآله وسلم لمّا نزل الوحي بها ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68 عليه ضمَّ سبطيه وأباهما وأمهما إليه، ثمّ غشّاهم ونفسه بذلك الكساء، تمييزاً لهم على سائر الاَبناء والانفس والنساء.

فلمّا انفردوا تحته عن كافّة اسرته، واحتجبوا به عن بقيّة أُمّته بلّغهم الآية، وهم على تلك الحال، حرصاً على ان لا يطمع بمشاركتهم فيها أحد من الصحابة والآل، فقال مخاطباً لهم، وهم في معزل عن كافة الناس:﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68 فازاح صلى الله عليه وآله وسلم بحجبهم في كسائه حينئذٍ حُجُبَ الريب، وهتك سرف الشبهات، فبرح الخفاء بحكمته البالغة، وسطعت أشعة الظهور ببلاغه المبين، والحمد لله رب العالمين)92.

فإذا تمَّ هذا، وهو تام، فلا يبقى مجال لمغمز غامز، ولا لاشارة مؤشر ولا لحركة متحرّك أن يغيّر ما أراد الله تعالى ورسوله، إلاّ أن يكون قد غيّر الله عقله فطاش سهمه، فأصاب مقاتل علمه ونفسه، وبذلك جنت على نفسها براقش، فلا يبقى للسياق، وكونها في آيات النساء ـ بعد ان علمنا سبب نزولها، بل واختصاصها بهم عليهم السلام دون غيرهم من الذكور والاناث ـ أي مجال للدلالة على دخولهنّ فيها، فتسقط بهذا حجيّة السياق أصلاً، فضلاً على ان السياق بنفسه ليس حجة مطلقاً.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى لعلّ وجودها في هذا المكان بالذات لثلاث نكات لطيفة ظهرت لنا وهي:

إنّ هذه الخطابات، والاعتناء بهذه النسوة بالذات لا لكرامتهنّ عند الله تعالى بما هُنّ نساء مسلمات، وإلاّ لشمل النداء غيرهنّ من نساء المهاجرين والانصار والنساء المسلمات قاطبة.

بل اختصّ النداء بهنّ لاَجل نكتة مفادها كرامة أهل البيت عليهم السلام عنده، وعلو مرتبتهم وطهارتهم.

فهذه النسوة بما انهنّ قد حُسبنَ على هذا البيت الطاهر فعليه تكليفهن يكون أشد وثوابهنّ يكون أكثر.

فيريد أن يقول لهنّ انتنّ قد اصبحتن محسوبات على هذا البيت الطاهر فيجب عليكنَّ الالتزام الاَشد.
قال الشيخ المظفر في «دلائل الصدق»: (إنّ هذا التمييز انما هو للاتصال بالنبي وآله عليهم السلام، لا لذواتهنّ فهنّ في محل، وأهل البيت في محل آخر، فليست الآية الكريمة إلاّ كقول القائل: يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعففي، وتستري، وأطيعي الله تعالى، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد الله حفظهم من الادناس، وصونهم من النقائص)93، هذا أولاً.

وثانياً: إنّ النداء وان كان للنساء المحسوبات على هذا البيت وهنّ مع شرفهنّ لكرامة هذا البيت، إلاّ انّه ربّما يصدر عنهنَّ ما يصدر، كما صدر عن بعضهنّ، إلاّ انّ هذا لا يغير من مقام أهل البيت، وسموّه فيبقى على طهارته ونقائه، كما في قوله تعالى:﴿ ... لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ... 94 فأنتم يا أهل البيت مطهرون بتطهير الله تعالى ولا يؤثّر عليكم من حُسِب عليكم بأيّ حالٍ من الاحوال.

وأخيراً يريد أن يبين كرامة أهل البيت عنده، فعندما تعرَّض للنساء الملتصقات بذلك البيت الطاهر، وخاطبهن بذلك الخطاب الذي فيه تأديب وتهديد ووعد ووعيد، اراد أن يرفع كلّ ما التصق من الخطاب، فيلاطف أهل البيت عليهم السلام ويبيّن كرامتهم عنده، والاّ يكون هذا الخطاب ماسّاً لهم بشيء، فصرف وجهه عن النساء وخاطبهم بألطف خطاب وأرقّه، ثمّ رجع تارة اُخرى للنساء فأكمل خطابه معهنّ.

وهذا من ألطف البيان وأخصره فهو بجملة اعتراضية أراد أن يوضّح كلّ هذا بأتم بيان وأكمله.

فبناءً على هذا نرى أن ما ذكره بعضهم من أنّ هذا الانتقال لوجهٍ أول مفاده (تعريفهنّ على جماعة بلغوا في التورّع والتقى الذروة العليا، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ القمة، وبذلك استحقوا ان يكونوا اسوة في الحياة، وقدوة في مجال العمل فيلزم عليهنّ ان يقتدين بهم، ويستضيئن بضوءهم)95-96.

هذا لا تساعد عليه الدقة العربية في التعبير، لا بلاغة ولا فصاحة، فالكلام قد ورد على وجه الحصر الشديد، والخطاب لاَهل البيت عليهم السلام أنفسهم فأين كلُّ ذلك الكلام الذي ورد. نعم نوافقه بالوجه الثاني وقد ذكر هنا كوجهٍ أول.

وعلى هذا: (قد ثبتت عصمة أهل البيت عليهم السلام بالوحي العزيز المُتّفق على روايته من الخاص والعام، وما كان كذلك صحّ التمسك به، والاستدلال يوضّح ذلك، ويزيده إيضاحاً وبياناً ما ذكره أحمد بن فارس اللغوي في كتاب ـ المجمل في اللغة ـ قال: الطهر خلاف الدنس، والتطهير هو التنزّه عن الاِثم وعن كلّ قبيح.

وهذا معنى العصمة، لاَنّ المعصوم هو الذي لا يواقع اثماً ولا قبيحاً، وليس ذلك إلاّ مع تطهير الله عزَّ وجلّ له، واذهاب الرجس عنه بارادته تعالى، لا بارادة غيره جلّ وعلا.

ومن ثبت تطهيره بالوحي العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد، وبالصحاح من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إجماع الشيعة والسُنّة، ثبتت عصمته)97.

القرينة السابعة والأخيرة:

ونرفع أيدينا عن المطلب حامدين وسائلين القوم، هل تجدون ياعلماءنا، ويا أهل الفكر والثقافة تناسباً أصلا بين قوله تعالى:﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 68 والآية فيها: إنّما وهي تفيد الحصر، والتحقيق والاثبات، والمحصور هو الارادة الالهية، وهذا من العجيب فعندما تقول إنّما الشاعر زيد تريد حصر الشاعرية في زيد دون غيره، وان كان غيره شاعراً، وهنا وان كان لله ارادات وارادات إلاّ ان ارادته قد حُصرت في شيء ولا يمكن ان يخلو ذلك الشيء من هذه الارادة.

والارادة متعلقة باذهاب أمر معيّن عن جماعة مخصوصين وفوق استعمال الحصر ليؤكد مطلبه جاء بلام التوكيد وادخلها على الفعل المضارع ليكون هذا ثابتاً دائماً وفي كل زمن تقرأ فيه الآية الكريمة، لاَنّ الفعل المضارع يستعمل في الزمن الحاضر والملابس له من جهة المستقبل، فتكون هذه الارادة بالاذهاب دائماً مستمرة، ومؤكدة بلام التوكيد وهذا من ألطف البيان وأدقه.

ثم وكأنّه يلامس مشاعر اولئك واحاسيسهم بأرق تعبير فجاء بالاهل مضافاً للبيت الذي هو معرفة إما لكونه بيت الله الحرام فجعلهم أهله، أو بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بيت الوحي، وهذا من عجيب التعبير.

ويزداد التعبير دقة بالخطاب المباشر لهم في هذه اللحظات الرومانسية إذا صحَّ التعبير، ثمّ يؤكد هذا الاذهاب أكثر من ذلك فيقول: ويطهركم تطهيرا، فيعطف التطهير على الاذهاب ويؤكده بالمصدر، فهنا توكيد الحصر، وتوكيد اللاّم، والاعتناء، والاتيان بضمير الجمع لزيادة الاعتناء، ثمَّ يكمل ذلك باظهار الاسم دون الضمير، ويضيفهم إلى البيت الذي لايخلو ان يكون بيت الله أو رسوله أو الوحي ثُمَّ يؤكد ذلك كلّه بالمصدر.

فأيّ اعتناء من الباري عزَّ وجلَّ بهؤلاء، وأي مقام لهم وأي علو درجة.

فيا أيُّها العلماء، والادباء، والمفكرون، والمثقفون ويامن درستم لغة الضاد، بل يا من لديه إلمام بسيط بكلام العرب، وبلغة القرآن..

أيتناسب ويجتمع كلُّ هذا مع قوله تعالى:﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ 98، أو مع الآية الاُخرى:﴿ عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ... 99 ، أو ان يضرب لهن أخيراً مثلاً ويعرِّض بهنّ تعريضاً شديداً:﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ 100، هذا أولاً.

وثانياً: الا تجدون ذلك متناغماً مع آيات اُخرى قالوا بأنّها نزلت في اولئك المعنيين منها:﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا 101 .

ومنها: عندما خرج للمباهلة مع النصارى اخرجهم معه ولم يخرج غيرهم لمقامهم السامي عند الله كما ذكرنا ذلك فيما تقدم:﴿ ... فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ... 85.

ومنها: ما أوجب مودتهم على كل المسلمين اجراً للرسالة ﴿ ... قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ... 102.

ومنها:﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ 103، إلى غير ذلك من الآيات، بل الروايات الواردة في علوّ مقام هؤلاء.. فلماذا وضع الرؤوس في الرمال ؟ !

وهم آل بيت نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم وصيّة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.ولو قال قائل منهم عناداً أو جهلاً كما قيل من انّ الفعل المضارع الذي هو (يريد)، و(يذهب)، و(يطهر) لا ينبئ عن الوقوع، بل لا يدل على المستقبل.

قلنا: أولاً الفعل المضارع يفيد الزمن الحاضر والمستقبل المتصل بالزمن المقال به الكلام، لا الزمن المستقبل على الحقيقة، وللدلالة على هذا الاَخير يضاف على الفعل المضارع السين أو سوف حسب بعد الزمن وقربه.

ولذا قالوا: (ويصلح المضارع لوقتين لما أنتَ فيه، ولما لم يقع كما يقول المبرّد أي للحال والاستقبال)104.

مع انّ الفعل المضارع كثيراً ما يستعمل حتى في الماضي فضلاً عن الحال، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ ... 105، وقال تعالى :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... 106، وقال تعالى:﴿ ... يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ... 107.

ومما جعلوا فيه المستقبل في موضع الماضي قول الصلتان العبدي يرثي المغيرة بن المهلّب:

وانضخ جوانب قبره بدمائها فلقد تكون أخا دمٍ وذبائحِ والبيت يستشهد به النحويون على انّ المضارع، وهو يكون، مؤوّل بالماضي، أي ولقد كان، لاَنّه في مرثية ميت، وهو إخبار عن شيء وقع، ومضى، لا اخبار عمّا سيقع لاَنّه غير ممكن.

قال ابن الشجري في أماليه، قال أبو الفتح عثمان بن جني، قال لي أبو علي سألت يوماً أبا بكر بن السراج عن الاَفعال، فقال: يقع بعضها موقع بعض.

وقال: كان ينبغي للافعال كلها ان تكون مثالاً واحداً، لاَنّها لمعنىً واحد، ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان، فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ، أو حال، جاز وقوع بعضها موقع بعض 108.

وقال ابن عقيل في ألفية ابن مالك عند تعرّضه لتوكيد الفعل بالنون: (مايجوز تأكيده أحياناً، ولا يجوز تأكيده أحياناً اُخرى وهو المضارع، والاحيان التي يجوز فيها تأكيده هي: وذكر ثلاثة أحيان، وسنذكرها إلاّ انّ المعلّق قد علّق على هذه العبارة بـ (الجامع لهذه المسائل كلها دلالته على الاستقبال فيها، وإنّما يقصد العلماء ببيانها تفصيل مواضع دلالته على الاستقبال، لاَنّه لا يستطيع معرفتها كل أحد)109.

والاَماكن هي:

1 ـ أن يقع شرطاً بعد «ان» الشرطية المدغمة في «ما» الزائدة المؤكدة، كقوله تعالى:﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ... 110 111.

2 ـ أن يكون واقعاً بعد اداة طلب، نحو لتجتهدنَّ، لاتغفلنَّ، وكقوله تعالى:﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ... 112.

3 ـ أن يكون منفيّاً بلا، كقوله تعالى:﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ... 113، وله حالة رابعة يجب فيها التوكيد اذا كان مثبتاً، جواباً لقسم غير مفصول من لامه بفاصل، ويجب ان يكون دالاً على المستقبل أيضاً، كقوله تعالى:﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ... 114، فإذا كان كذلك علمنا انّه اذا خلا الفعل المضارع من هذه أي من أن الشرطية، ومن الطلب، ومن النفي، أو كما في القسم الرابع فحينئذٍ الفعل المضارع يدلّ على الحال، ولعلّه لذا جاء التوكيد في الآية المباركة باداة الحصر وباللام وبالمصدر دون نون التوكيد بقسميها لرفع هذا الالتباس.

وأخيراً ختاماً لكلِّ ما تقدّم نقول بانَّ:

الجملة الفعلية: هي التي تتألف من فعلٍ وفاعل أو نائبه، وللفعل مدلولان: الحدث والزمان.

ولمّا كان الزمان غير ثابتٍ ولا قارٍّ بالحدث لو أخذنا الحدث بما هو حدث، اذن يكون الفعل مع دلالته على الزمان بصيغته الماضوية أو المضارعية أو المستقبلية على فردٍ من الاَزمنة الثلاثة إلاّ انّه يفيد التجدّد.

ولذا قالوا ان الجملة الفعلية (موضوعة لافادة التجدد والحدوث).

وأما الجملة الاسمية: (فتفيد بأصل وضعها ثبوت شيء لشيء ليس غير بدون نظر إلى تجدد ولا استمرار)115.

وبهذا نعلم السر في مجيء هذه الآية المباركة بالفعل دون الاسم للدلالة على تجدد الارادة والاذهاب للرجس والتطهير تطهيراً مؤكداً دائماً ومستمرّاً.

13 ـ قال الله سبحانه على لسان نبيه يوسف عليه السلام مخاطباً لصاحبيه في السجن:﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ 116.

لو تمعّنا قليلاً في هذه الآية المباركة لرأينا انّه اقرار من قبل نبي من أنبياء الله سبحانه بصفة معيّنة، قد نقلها الباري عزَّ وجل واقرّها بكتابه العظيم المنزل على أعظم انبيائه، واقرار هذا النبي المبارك، مفاده امتناع صدور الشرك منه بفضل الله تعالى، وليس هذا فقط بل امتناع صدور الشرك من آبائه وأجداده.

والشرك بالمصطلح القرآني له عدّة معان حتى ان بعضها قد ذكر في

نفس هذه السورة بالذات:﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ 117.

والايمان بالله والشرك به وحقيقتهما تعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبة وتعلّق القلب بغيره تعالى، مما لا يملك شيئاً إلاّ باذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة والاضافة، فانّ من الجائز ان يتعلّق الاِنسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة، وينسى مع ذلك كلّ حق وحقيقة، ومن الجائز ان ينقطع عن كلِّ ما يصدّ النفس ويشغلها عن الله سبحانه، ويتوجّه بكلّه اليه، ويذكره ولا يغفل عنه، فلا يركن في ذاته وصفاته إلاّ اليه، ولا يريد إلاّ ما يريده، كالمخلصين من أوليائه تعالى.

وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه، وهي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع 118.

فإذا كان كذلك علمنا انّه خالص من ذلك كلّه، وانّه محض اطاعة له سبحانه، ولا يمكن له ان يتبع هواه بأي حال من الاحوال.

ومن هذه الآية المباركة بالذات نستطيع ان نستكشف معنى الهمّ الذي همّ به يوسف عليه السلام مقابل هم امرأة العزيز.

فإنّ عدم إشراكه بالله طرفة عين يقتضي عدم تعلقه بشيء سوى الله تعالى ومرضاته، وهذا هو الذي قد كان من فضل الله عليه بالخصوص وعلى الناس بالعموم ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون.

وكفى به دليلاً على العصمة له ولابائه ولبقية انبياء الله ورسله عليهم السلام مطلقاً، لاَنّ امكان تعلّقه بشيءٍ منافٍ للتوحيد الخالص ولو طرفة عين سينقل الاَمر إلى التبعيض ولا قائل بالتبعيض، كما ان منطوق الآية ينفيه 119.