مجموع الأصوات: 26
نشر قبل 5 سنوات
القراءات: 6904

حقول مرتبطة: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التغيير المجتمعي مراحله ومعالمه و ادبياته مطالعة في ضوء القرآن الكريم

تمهيد

تقوم هذه الكلمات التي سأكتبها الآن إن شاء الله تعالى ـ مقدّمةً لهذه السلسلة من الأسئلة والأجوبة الفكرية والدينية والثقافية ـ على مصادرة رمزية تقول بأنّ كل حركة دعوة وتغيير وإصلاح وإيمان تمرّ بمرحلتين، وهاتان المرحلتان سأستعير تسميتهما من التجربة النبوية المحمّدية، وهما: المرحلة المكية؛ والمرحلة المدنية.

الميزة العامة في المرحلة المكيّة هي ضعف الحركة الإيمانية، وعدم امتلاكها مواقع القوّة، أو عدم قدرتها ـ لسبب أو لآخر ـ على توظيف كلّ عناصر القوّة التي تملكها، فهي مقهورة مظلومة مقصاة، يمارس ضدّها الإرهاب، وهي قلّة في العدد والعدّة، وهي وحشة ووحدة..
أما الميزة العامة في المرحلة المدنية فهي القوّة والرهبة والصرامة والمواجهة..
الرمزية هنا في إسقاط التجربة التاريخية النبوية على الواقع ـ كلّ واقع ـ الدعوي والتغييري والإصلاحي والتقدّمي، لأخذ الحِكَم القرآنية في تلك التجربة؛ بهدف جعلها نماذج مثالية يراد لسائر التجارب أن تأخذها.
ولأجل هذه الرمزية من الممكن أن لا تصدق الأمور دوماً، ومن الممكن أن تكون هناك خصوصيات في التجربة الرمز (النبوية)، أو في التجربة التي يُراد نحت رمز لها تهتدي بهديه.
كما يهمّني أن أشير أيضاً إلى أننا سنأخذ بعض التوجيهات القرآنية؛ لأنّ المجال يضيق ولا يسع، وإلا فهذا البحث يصلح بسطه ليصبح تحت عنوان «التغيير المجتمعي في القرآن الكريم». كما لا تعني الآيات التي سنأخذها للمرحلة المكية مثلاً أنها آيات مكية، فنحن هنا نستخدم الترميز أكثر من البحث التاريخي.

أولاً: المرحلة المكيّة في المشروع التغييري، توجيهات قرآنيّة

سأبدأ هنا بالمرحلة المكية؛ تبعاً لتقدّمها زمناً وطبيعةً على المرحلة المدنية.
من أبرز التوجهات القرآنية للمرحلة المكية لأية دعوة صالحة ما يلي:

1ـ عدم الغرور بقوّة الآخرين ولا الذهول أمامهم

فقد يواجه الإنسان الداعية إلى الله أو الجماعة العاملة ذهولاً يسيطر على أنفسهم من قوّة الآخرين التي يملكونها في المجتمع. إنّ الآخر يملك المال والقوّة والنفوذ والرجال والصوت العالي (وسائل الإعلام) وغير ذلك فيما حركة التغيير الإيماني لا تملك سوى حفنة قليلة من الرجال والنساء المستضعفين الذين لا يملكون الإمكانات المالية اللازمة، ولا عناصر القوّة والنفوذ. إنه شعور يتملَّك المؤمن العامل في سبيل الله، فيحبطه ويكسر عنفوانه... وفي هذا السياق جاء القرآن الكريم ليصنع الفعل التربوي فقال: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ 1.
هنا تحلّ في روح المؤمن صورة أخرى للمشهد. إن هذا التقلّب ليس هو الصورة الكاملة، بل إذا وضعنا الآخرة أمامه لن يظهر سوى نفوذ بسيط لحركة الكفر أو الانحراف بقدر حجم الدنيا أمام حجم الآخرة. إن الآية ـ كما هي القاعدة في التربية القرآنية ـ تبعث على الأمل؛ بتصحيحها المشهد عبر إدخال جزء هامّ من اللوحة، ألا وهو الآخرة، هناك سيرى المؤمن أنّ الحدث الدنيوي ليس هو نهاية المطاف وخاتمة الطريق، بل هناك مساحات أخرى تقف لصالحه عند الله تعالى.
المؤمن لا يخاف من ضجيج الآخرين، ولا يسكته رعب أصواتهم، إنه يريد أن يغيّر مجتمعه نحو الصلاح، ولا يهمّه حجم القوّة المنافسة في المبدأ، وإن كان الحجم مهمّاً في تفاصيل إدارة المعركة، وأكبر خلل يحدث عندما تتحوّل قواعد التفاصيل إلى أصول العمل الاستراتيجي، فتنقلب المعايير وتتقلّب.

2ـ الامتحان والاختبار

إنّ المرحلة المكيّة ليست ضرورة موضوعية لتحقيق التغيير فحسب، بل هي ضرورة ذاتية أيضاً؛ لأنّ الدخول في هذه المرحلة هو الذي سيولّد النفوس الصافية التي تستطيع أن تنجح في الامتحان.
قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ 2.
وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ 3.
وقال سبحانه: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ 4.
فهذا الاختبار سيكون قاسياً جداً في هذه المرحلة، فهناك الذين سيمارسون العذاب ضدّ المؤمنين بالسجن أو القتل أو التعذيب البدني، فيعاني المؤمنون من الخوف، ويلزمهم حينئذٍ الصبر.
وهناك من يصادر أموال المؤمنين، أو يضيّق عليهم في معيشتهم، فيقطع رواتبهم مثلاً، أو يمنع عنهم حقهم في الأموال العامة؛ بحجّة أن بيده التصرّف فيها، مستخدماً منطق «الولاءات قبل الكفاءات»، وهنا أيضاً يجب عليهم أن يصبروا ويتحمّلوا المعاناة.
وهناك من سيضيّق عليهم في مكانتهم الاجتماعية، فلا يسمح لهم بالوصول إلى ما يستحقون من مناصب اجتماعية في الدولة أو العشيرة أو الحزب أو الجماعة أو النقابة أو الجامعة أو المدرسة أو.. ويحرمهم من حقّهم الطبيعي في أن يأخذوا ما يستحقون، وما يتناسب مع إمكاناتهم، وهنا أيضاً عليهم أن يصبروا.
وهناك أيضاً من سيشوّه صورتهم، ويفتري عليهم الكذب، ويقوّلهم ما لم يقولوا، أو يفعّلهم ما لم يفعلوا؛ ليسقط احترامهم بين الناس. وقد ينطلق الخصم هذه المرة من دوافع دنيوية في فعله هذا، وقد يغلّف فعله هذا ـ معتقداً بجدّ أو هازئاً بنفسه ـ بأغلفة عقدية، كمحاربة أهل البدع والضلالة الذين يجوز غيبتهم وبهتانهم على إطلاق ذلك كما يدّعي، هنا لن يكون اغتيالٌ جسدي، بل سيكون اغتيالاً اجتماعياً وسياسياً حينئذٍ.
ولا تقف أشكال الامتحان الذي يجب الصبر أمامه ـ وسنوضح أشكال الصبر ومعانيه هنا قريباً إن شاء الله ـ عند هذه الحدود، بل تتعدّاها إلى الاستهزاء الذي تحدّث عنه القرآن الكريم مراراً، فهذه الحركة التغييرية المؤمنة ستتعرض للسخرية والاستهزاء بأشكالهما. قد يكون ذلك بالضحك، لكنه قد يكون بممارسة مواقف لا تعبّر في مدلولها الاجتماعي إلا عن استهزاء بالآخر، وتحقير له وتجاهل. سيروج الكلام حول سخافة الفكر التغييري للمؤمنين وضحالته وضعفه. سيكون هناك استهزاء بالجهود المبذولة عند هذا الفريق. سيقال: هي كلمات صحافة، لا كلمات فكر وعلم. لن يسمح لهؤلاء أن يتصوّرهم أحد بوصفهم علماء أساساً وأصحاب وجهة نظر. هنا أيضاً يجب الصبر أمام هذه الفتنة، وسعة الصدر، والتحمّل، والترحيب بالمعاناة.
ومن مظاهر الامتحان أيضاً الحجر الاجتماعي، فقد يواجه المؤمنون الصادقون قطيعةً اجتماعية شديدة، قد لا يلقى عليهم السلام، وقد لا يجاب سلامهم، قد لا يزارون في بيوتهم وأماكن عملهم، قد لا يتم التواصل معهم والتعاون لغرضٍ أو لآخر، وقد لا يدعون إلى المجالس العامة في مدنهم وقراهم؛ رغبةً في استبعادهم، رغم أن إمكاناتهم قد تعود بالخير الوفير على الآخرين لو أشركوا في قضايا مجتمعهم. وهنا أيضاً يجب الصبر، لا بل يجب مؤاخاة الصبر ومصاهرته والزواج منه وكلّ أشكال العلاقات الوطيدة.
هذه الظواهر أو المؤثرات الخارجية جميعاً ستكون بالنسبة للداعية المؤمن فرصاً تتوفّر له لتربية نفسه وإثبات مدى قدرته على تحمّل المصاعب ومديات صدقه في ما يعتقد به، فبعض الناس قد يشتركون في التصديق بشيء والإيمان به لكنّ درجة التفاعل الروحي والعاطفي مع هذا الشيء قد يختلف بينهم، فترى بعضهم مستعّداً للتضحية في سبيل المبدأ الذي يؤمن به، فيما نجد بعضهم الآخر ـ رغم إيمانه الحقيقي بذلك المبدأ السامي ـ غير مستعدّ للاحتراق في سبيله أو التضحية أو جعله في الأولويات الأساسية في حياته.
إنّ المصاعب والمشاكل التي تواجه العامل المؤمن تستطيع صقل نفسه ورفع درجة إيمانه بمبادئه، أي بتعبير آخر: اختبار هذه المبادئ في وجودها النفسي عنده.. إنّ هذا الاختبار تطهيرٌ للذات وتسامٍ بها وتفانٍ؛ لهذا قلنا إنّ الاختبار والامتحان في المرحلة المكيّة لهما دور ذاتيّ أيضاً في تكوين الجماعة الصالحة، وصنع عناصرها الروحية الصادقة والمخلصة.
لكن ليس المهم ما يفعله الآخرون، بل المهم ما هي ردود أفعال المؤمنين على ما يفعله الآخرون؟

3ـ الصبر

إنه ردّة الفعل هنا في هذه المرحلة. إنه قيمة عظيمة في مواجهة البلاء، قال تعالى: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ 5.
فهذه الآية تخبرنا أنّ المؤمنين سيبتلون في المال، حيث قد تصادر أموالهم، أو قد يضيّق عليهم في وظائفهم ورواتبهم، أو قد تمنع عنهم الأموال العامة التي تشملهم بطبيعتها، وسيبتلون في الأنفس، فقد يقتلون في سبيل قضيتهم، وقد يتساقط بعضهم في الهاوية فيخضع للطرف الآخر فيقلّ عدد نفوس المؤمنين بالمشروع التغييري الإيماني، وقد يكون ابتلاؤهم بأنفسهم باغتيالها اجتماعياً وسياسياً ونحو ذلك.
إنّ هؤلاء المؤمنين الصادقين سيسمعون الكثير من الأذى، حتّى من بعض أتباع الدين (أهل الكتاب)، سيفترى عليهم ويكذب، سيظلمون بغيبتهم وبهتانهم وتتبع عثراتهم وتناسي حسناتهم وتشويه صورتهم وتضخيم سلبياتهم وتقزيم إيجابياتهم وغير ذلك. إن الأذى ليس بقليل، إنه أذى كثير كما وصفته الآية، لكن ما هو المفترض فعله؟ إنه خطوتان هامتان هنا، هما:
الصبر والتحمّل إلى جانب التقوى، كما قالت الآية المتقدّمة، وعدم الانفعال والخروج عن قواعد الهدوء والسكينة اللتين يتصف بهما المؤمن التقيّ.
لقد علّم الله سبحانه رسوله أن لا يستدرج ويستخفّ في هذه المواقع، قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ 6.
لماذا الصبر؟ كي لا تكون أفعال الآخرين وتصرّفاتهم السلبية تجاه الدعوة الدينية استفزازاً يخرج الإنسان عن حالته الطبيعية، فيصيّره خفيفاً لا وزن له، فينفعل ويضطرب ويغضب، وتصدر منه التصرّفات المشينة، فيفقد التقوى، فيكون الحقّ معه ثم ينقلب عليه.
فيا محمد، انتبه من أن يجعلك هؤلاء في تصرفاتهم الصبيانية والسفهية خفيفاً لا تزن كلماتك أو أفعالك. فهذه هي قيمة الصبر هنا، في أنه لا يسقط حركة التغيير في الانفعال الذي يشوّه صورتها، ويهبط بها إلى مستوى خصومها التافهين من مشركي قريش وأنصارهم.
ومن هنا أيضاً نفهم معنى قوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ 7، فإنّ هذا الجواب (السلام) تعبير آخر عن ردّة الفعل الهادئة والمتعالية في الوقت عينه عن نمطهم السفهي في مواجهة الآخرين، وذلك أنّ واحدةً من أخطر مظاهر العداء مع الآخر هي أن يتأثر الإنسان بخصمه، فيجرّه خصمه لكي يفعل أفعاله وينزل إلى منزلته، فيستخف العدوّ عقلنا بخفّة عقله، ويفقدنا اتزاننا بفوضويته وعبثيته، هنا لابدّ أن يكون الجواب (سلام)، أي لا حرب بيننا بالمعنى الذي تريده أنت، بل نحن من يصنع قواعد الحرب بصبرنا.
لكن كيف يكون الصبر؟ هل هو المذلّة عينها؟ كيف يمكن تحصيله في هذه الحالات؟ وكيف يمكن إدارة تطبيقه؟ وكيف يمكن للإنسان أن يبني شخصيته العصامية المؤمنة وسط كلّ هذا الظلم والجور والإجحاف والاستهزاء؟
للجواب عن هذه الأسئلة، وعن كيفيّة الصبر في المرحلة المكّيّة، يجب أن نستذكر أنّ الصبر يملك في حدّ نفسه قيمةً، وأنّه مُعينٌ للإنسان، وليس يُستعان له فقط.
ففي المراحل الأولى يحتاج الإنسان إلى ما يدفعه للصبر، ويحقِّق الصبرَ في حياته، لكنّ التربية الروحيّة والنفسيّة تجعله يأخذ الصبر معيناً له، لا مُعاناً عليه. ولعلّ هذا بعض أوجه قوله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ 8.
فالصبر معينٌ للإنسان على مواجهة شدائد الأمور. وهذا معناه أنّ الإنسان غير الصابر في المرحلة المكّيّة لن يتمكَّن من مواجهة عظائم المصائب والبلايا، بل سيسقط في الاستعجال والتهوُّر تارةً، أو في الانسحاب والتراجع أخرى. وهذا معنى أنّ الصبر يساعدنا على تحقيق ما نصبو إليه، ونأمل تحقيقه.
لكنْ كيف يمكن أنْ نمتلك مَلَكة الصبر في مواقعه؟
إنّ القرآن الكريم يشير لنا إلى بعض المتنفَّسات الروحيّة التي تفرِّغ الضغط الناجم عن مواجهة الواقع القاسي من حولنا. فالله تعالى لاحظ أنّ الرسول الأكرم قد ضاق صدره ممّا فعله الكافرون معه، وممّا ظلموه به، وأراد أن يضع له الحلول الروحيّة التي تخفِّف عنه ضغط الواقع المرّ، فقال: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 9.
إنّ ضيق الصدر تعبيرٌ آخر عن شعور الإنسان بالضغط والإشراف على عدم التحمُّل. والله هنا يعلِّم نبيَّه وكلَّ العاملين في خطّه بأنّكم إذا واجهتم كلّ الظلم والاعتداء والتهمة من الآخرين، وضاق صدركم من قولهم ومن كذبهم وافترائهم، فإنّ الحلّ لضيق الصدر يكمن في اللجوء الروحيّ إلى الله تعالى. إنّه التسبيح بحمد الله واستذكار نِعَمه وفضله وعلوّ مقامه وجلاله؛ إنّه السجود لله في ما يعبِّر السجود عن التسليم لله ومنحه السلطنة المطلقة على حياتنا في ما يريد أن يضعنا أو أن يقسم لنا في الرزق بأنواعه.
إنّه السجود في ما يعنيه من أرفع درجات التعبُّد لله واللجوء إليه، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ 10. فليس هناك في روح المؤمن إلاّ الله ملجأً يلجأ إليه، ويميل إليه، ويستجير به.
واللجوء إلى الله ليس فقط بدعوته في لحظات الشدّة؛ لكي يدفع الله عنه ويدافع، كما يفعل الطبع البشريّ في العادة، بل هو اللجوء الروحيّ إليه، والدخول في كهفه، والعيش معه. هنا يتداخل البعد الروحيّ في حياة الإنسان مع البعد العمليّ، ويصبح اللجوء إلى الله هو نفس عيش القرب له سبحانه، فيكون الله ملجأً من الغير، يدفع عن المؤمن شرَّهم وأذيَّتهم: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ 11، وهو في الوقت عينه ملجأٌ من النفس، يحميها من الانحراف والزيغ في لحظات العسرة التي قد تفقد الإنسان ضبطه لقواعد الإيمان في الروح.
وهذا لونٌ آخر ممّا قلناه سابقاً من أنّ المرحلة المكّيّة لها جانبها الذاتيّ في بناء الشخصيّة الصالحة.
ولهذا تستمرّ الآية الكريمة المشار إليها بالمطالبة بالعبادة حتّى الموت (اليقين)؛ لأنّ هذه العلاقة مع الله سبحانه، والتي أريد لها أن ترفع ضغط الواقع عن الإنسان الصالح، لا تنتهي بارتفاع هذا الواقع؛ لأنّها علاقة غير نفعيّة بشكلٍ آنيّ، وإنّما هي المبدأ والأصل في حياة الإنسان المؤمن، فلم يطلب الله من المؤمنين اللجوء الروحيّ إليه لتنفيس الاحتقان إلاّ بقدر ما أراد أن يجعل هذا اللجوء بهذا الغرض ترسيخاً للعلاقة معه سبحانه إلى ما هو أبعد من هذه الدائرة.
لقد عرفنا كيفيّة الصبر ومنشأه في هذه المرحلة، لكنْ ألا يكون الصبر ذُلاًّ وجبناً وتخاذُلاً هنا؟!
لقد واجه المسلمون الأوائل هذه الظاهرة، فطالب الكثيرون منهم بالحرب والجهاد في العصر المكّيّ وبدايات العصر المدنيّ. كما واجه أنصار الإمام عليّ في عصره وبعده هذه الظاهرة أيضاً، فكان بعضهم يهدف التصعيد على الدوام في مواجهة الطرف الآخر في الداخل الإسلاميّ. وقد أدّى هذا الأمر إلى اتّهامهم الإمام الحسن باتّهامات قاسية (مذلّ المؤمنين).
بل هناك مَنْ يستصعب سكوت الإمام عليّ عن بعض التصرُّفات التي صدرت ضدّه وأهل بيته، وهو المعروف بالشجاعة والجرأة. وهذه ظاهرةٌ غير خاصّة بالمناخ الدينيّ.
هذا نوعٌ آخر من البلاء الذي يواجهه المؤمنون في المرحلة المكّيّة. ولعلّه من أصعب الأنواع. وحلُّه يكون بالصبر؛ فإنّ الصبر كما ذكر علماء الأخلاق على أنواع، وأحد أنواعه هو ما تقدَّم من الصبر على ظلم الآخرين وأذاهم، لكنّ نوعه الآخر هو الصبر على مطالب النفس. فالنفس قد تدفع بالإنسان لينفعل، ليأخذ بثأره أو ليحصل على حقّه، فيما الصالح العامّ يتطلَّب منه أن يسكت حيناً عن حقّه المهضوم، أو يكتفي ببعض أنواع الاحتجاج حيناً آخر.
وهنا يمكن أن نفهم سكوت عليّ والحسن وغيرهما من أئمّة أهل البيت، ويمكن أن نفهم مدى تأثير حرص المصلحين في المصلحة العامّة على رغبتهم الذاتية البشريّة الطبيعيّة في القيام بردّ فعل. فالصبر على النفس كالصبر على الغير كلاهما يحتاج إلى الارتباط بالله سبحانه لتعميق العلاقة وتهدئة الروح، ليواجه به الشعور بالعجلة المجبول عليها الإنسان بشكل أو بآخر، قال سبحانه: ﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ 12.
فقبل الحصول على الحقّ المسلوب قد تمرّ أوقاتٌ وأوقات، وتطول المدد أحياناً، ليُتْعِبَ امتدادُها الطويل هذا الكثيرَ من المؤمنين، قال سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ 3. فالرسول نفسه هنا ـ وهو الذي عاش الطمأنينة مع الله سبحانه ـ ينادي: متى نصرُ الله؟ أي إنّ المرحلة بلغت من الصعوبة والضغط مبلغاً عظيماً.

4 ـ الإعراض

وأقصد به أنّ المرحلة المكّيّة تستدعي في بعض الأحيان أن يقوم العاملون في سبيل الله بالتركيز على البناء الذاتيّ، والإعراض عن الآخرين، وعدم الاهتمام بهم والتأثُّر بما عندهم، قال تعالى:﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ﴾ 13.

ففي بعض الأحيان نحن نحتاج إلى قَدْرٍ من الإعراض؛ إمّا لغاية عدم التأثُّر بالآخر؛ أو لغاية الاشتغال على الذات وترك الآخر وما يقول وما يفعل؛ لأنّ البقاء في أَسْر الآخر أحياناً ـ أخذاً وردّاً ـ قد يضعف الوعي العامّ، تبعاً لضعف وعي الآخر الذي قد يفرض التنزُّل له.
فلابدّ للعاملين في الخطّ الإسلامي من أن يشتغلوا على بناء الذات، وليس على محاربة الآخر فقط. فبناء الذات ـ علميّاً وعمليّاً ـ هدفٌ أصيل، كما أنّه شكلٌ من أشكال مواجهة الآخر، الذي قد لا يريد لنا أن نبني ذواتنا، ونصنع من أنفسنا أنموذجاً صالحاً في العلم والعمل. ولعلّه يناسبه أحياناً أن نُستهلَك في مواجهته، ولا سيّما أنّ بعض الخصوم لا يظهرون إلاّ في حالات التنافس السلبيّ هذه، أمّا في الحالات الهادئة فإنّك لا تجد لهم رصيداً. فالدخول معهم في مواجهةٍ قد يؤدّي إلى منحهم فرصةَ وجود، وفقدان حركة الوعي فرصةَ بناءٍ وتكوين.
إنّ أمام العاملين الكثير من المسؤوليّات. ولا تقف هذه المسؤوليّات في مواجهةٍ هنا أو هناك، بل تتنوَّع. ففي العصر الحاضر تواجه حركةُ الوعي حركةَ الخرافة والتهريج. وهذه المواجهة جيّدة ما دامت منضبطةً للقواعد الشرعيّة والأخلاقيّة، لكنّ استنزاف حركة الوعي نفسها في هذا الموضوع، وكأنّه لا يوجد بديلٌ عنه أو ملفٌّ آخر ضروريّ يجب الاشتغال عليه، هو خطأٌ فاضح. فلابدّ من توزيع الأدوار والنشاطات؛ ليواجه الخرافة فريقٌ؛ فيما يشتغل فرقاء آخرون على سائر الملفّات؛ لتقديم حلولٍ لمشاكل الشباب اليوم، لقضايا الأسرة والتفكُّك الاجتماعيّ والأزمات التي خلقتها ثورة المعلوماتيّة في العلاقات، وقضايا الجنس والعلاقات الخاصّة، لمشاكل الشباب في الجامعات، لقضايا الاغتراب، لقضايا الصدق والأمانة، للقضايا الماليّة، لقضايا الصداقة وبناء اللحمة، لبناء صروحٍ فلسفيّة ومعرفيّة للفكر الإسلاميّ، ولمواجهة سيول النقد ضدّ الدين كلِّه مع حركة الإلحاد الجديدة التي ظهرت في الغرب بعد الحادي عشر من سبتامبر 2001م، وبدأت بالانتشار في العالم العربيّ مؤخَّراً، لقضايا العنف والإرهاب والمواطنة، ولمواجهة الكثير الكثير من القضايا الأخرى.
أمّا لو استنزفت الحركة التوعويّة نفسها في ملفٍّ واحد لأدّى ذلك إلى ضعفها وتلاشيها، وإلى استيقاظها بعد فترةٍ على خواء وفراغ.
هذا هو معنى الإعراض، أي أن لا تعيش الحركةُ الواعية في مدار ردّة الفعل على ما يأتي به الآخر، بل تسعى لكي تصنع الواقع بأسباب الصنع التي خلقها الله تعالى في الحياة، وأن تصبر وتصبر؛ لأنّ هذه الأمور قد تحتاج إلى أجيال كي تكتمل، وليس دائماً يستطيع المنطق الثوريّ الراديكاليّ أن يغيِّر الأمور في لحظاتٍ قصيرة.
وإذا ما عاشت أمّتنا الإسلاميّة منذ قرنٍ على ثقافة الثورات فإنّ وعيَها بات يقول لها بأنّ الأمور تتغيَّر بسرعة، فيما كثيرٌ من الأمور تحتاج إلى زمنٍ طويل حتّى تكتمل، وليس يمكن القيام بثورةٍ في كلّ لحظة؛ فللحياة منطقها الخاصّ الذي لا يحمل شكلاً واحداً من العمل والأداء.
أكتفي بهذا القدر من الإشارة السريعة إلى بعض خصائص المرحلة المكّيّة (عدم الغرور بقوّة الآخرين ولا الذهول أمامهم، الامتحان والاختبار، الصبر والتحمُّل مع التقوى، الإعراض).
ويمكننا أن نستخلص شخصيّة الداعية المسلم في هذه المرحلة بأنّها:
أـ شخصيّة قويّة لا تخاف الآخر، ولا يهمّها ما يملكه من مال وعدّة وعتاد، ولا يغيِّر من قناعاتها قوّته وتهديده وتوعُّده ووعيده. وهذا هو عنصر الشخصيّة القويّة الشجاعة.
ب ـ الاستعداد للدخول في مرحلة الاختبارات والامتحانات، عبر التهيُّؤ النفسيّ لذلك، ليكون هذا تربيةً روحيّةً للفرد والجماعة. وهذا هو عنصر البناء الروحيّ.
ج ـ ثنائيّ الصبر والتقوى، وحمل النَفَس الطويل إزاء مواجهة المصاعب والأحداث. وهذا هو عنصر القدرة على الاستمرار بشكلٍ سليم.
د ـ الإعراض، بأنْ لا يستهلك نفسه في المساجلة والخوض في ما يخوضون فيه، بل يصنع الواقع بنفسه عبر أسبابه المتعدِّدة. وهذا هو عنصر البناء الذاتيّ، والانتقال من ردّة الفعل إلى الفعل.

ثانياً: المرحلة المدنيّة في المشروع التغييري، تعاليم فرقانيّة

بعد أن تحدّثنا عن بعض ميزات المرحلة المكية نعّرج بنحو الاختصار أيضاً على المرحلة المدنيّة. ولها ميزاتها وخصائصها، وأبرزها:

1ـ فرض منطق القوّة وإيجاد التوازن

فعندما ينتقل المؤمنون إلى المرحلة المدنيّة في التغيير فإنّ عليهم أن يفرضوا قواعد جديدة للعبة، وهي القائمة على منطق توازن القوى.
إنّ القوّة معيارٌ رئيس هنا. فالحقّ لا ينتصر بحقّيّته فقط، بل يحتاج إلى القوّة كي تشكّل ضماناً له وحماية، وإلا انهار تحت أقدام الآخرين، ومن هنا فُرض في الإسلام الجهاد تعبيراً عن منطق فرض التوازن وحماية الجماعة، وجاءت الأوامر بالغِلْظة مع الكافرين؛ لأنّ الكافرين هم رمز الاعتداء والعدوان على الدعوة الإسلامية؛ حيث حاصروها منذ انطلاقتها، وأعملوا كلّ وسائل القتل والتشريد، ومصادرة الأموال، وتسقيط الأشخاص، وتأليب الناس على الداعين إلى الله تعالى.
إنّ الكفر في المنطق المدنيّ تعبيرٌ عن الآخر الذي يقف في المواجهة، وليس فقط تعبيراً عن اعتقاد أو وجهة نظر، وهذا هو واقع الكافرين في المرحلة المدنيّة. والانحراف الفكريّ عندما يحارب حركة الهداية والرشاد يصبح معادياً، ويخرج عن كونه مجرّد وجهة نظر، فيحتاج إلى القوّة التي تردعه، وليس فقط إلى الحوار الفكريّ الذي يقنعه.
من هنا، نجد قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... 14، والشدّة على الكفّار تعني الشدّة على كفّار المواجهة والحرب، وإلاّ فإنّ الله يقول: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ... 15. فإنّ البرّ هنا ضرب من الرحمة.
ولا تنافي بين الآيتين الكريمتين، حتّى يُدَّعى نسخ الثانية، كما قال بعض المفسّرين وعلماء القرآنيات؛ لأنّ الكافر في جملة من النصوص القرآنية هو ما أسمّيه (كافر المواجهة)، وليس (كافر المعتقد). ولا أريد أن أدخل في ثنايا البحث التفسيري والقرآني هنا، وإنما أكتفي بإيجاز وجهة نظري هذه.
(فكافر المواجهة) يستحقّ الغِلْظة، ولا يستحقّ الرحمة، ولهذا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ 16. فالغلظة ضرورةٌ ضدّ مَنْ يستخدمها ضدّك؛ حتّى يقف عند حدّه، وكذلك الشدّة والحزم.
ومن هنا ذهبت الآيات القرآنية إلى تأسيس منطق القوّة؛ بهدف إيجاد التوازن والردع والمنع، المعبّر عنه في القرآن الكريم بإيجاد الرهبة، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... 17.
إنّ منطق القوّة هو منطق أن يخشاك الآخر، فلا يعتدي عليك، ولا يفكّر في التطاول على دينك ومقدّساتك وذاتك وأمّتك. ومن هنا يلتقي (مبدأ الإعداد والاستعداد)، وهو أحد مبادئ المرحلة المدنيّة، بمبدأ (القوّة)، الذي هو مبدأ آخر؛ ليكون الأوّل محقِّقاً للثاني، وليكون هدفهما مبدأ ثالثاً، هو مبدأ (التوازن وحماية الجماعة المؤمنة من العدوان، وحفظ الدين، وتأمين مسيرته).

2ـ مبدأ (حبّ الجهاد والمواجهة) أو مبدأ (حبّ التضحية)

وهما من أعظم المبادئ في الفترة المدنية؛ لأنّ حركة الدعوة والهداية في هذه المرحلة لا يكفي فيها أن تجاهد ولو بالإلزام، بل المطلوب صناعة حالة الحبّ والعشق للتضحية ونكران الذات.
إنّ هذا جزءٌ من عقيدة المواجهة في منطق القوّة الإسلامي، قال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ 18.
فالجهاد والمواجهة ناتجان في التربية الدينيّة عن عشق الله وحبّه وحبّ رسوله، وعن عشق التضحية في سبيلهما، وليسا ناتجين عن مصالح أخرى، فكلّ المصالح الدنيويّة عند الإصلاحيّ والتغييريّ تصبح لا شيء في سبيل مصلحة القِيَم والمبادئ التي يؤمن بها.
ولهذا ركّزت نصوص القرآن الكريم على خطورة أن يتحوّل الجهاد في عالم مقاصده من ساحةٍ للعشق الإلهيّ وتفضيل الآخرة على الدنيا إلى ساحة لطلب الدنيا نفسها، فيحصل تحوُّل في المفهوم والظاهرة، قال تعالى: ﴿ ... لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا * فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ... 19.
إنّ هذه الآية الكريمة تريد أن تحصر القتال تقريباً بأولئك الذين يبيعون الدنيا مقابل أن يحظَوْا بالآخرة، هؤلاء هم الذين ينبغي أن يقاتلوا، لا أولئك الذين إنما يقاتلون لأجل الغنائم وتحصيل المكاسب الدنيوية.
وهكذا تجد في حركة الإصلاح والتغيير بعض الأشخاص الوصوليّين الانتهازيّين الذين يريدون أن ينضمّوا إلى المسيرة بهدف تحقيق بعض المكاسب التي يجدونها عند هذا الفريق، ولا سيّما عندما يلاحظون تقدُّم هذا الفريق في مواقع القوّة وتحقيقه بعض المنجزات.
ولهذا لم يساوِ القرآن الكريم بين أنواع المقاتلين أنفسهم، فضلاً عن عدم مساواته بين القاعدين والمجاهدين، فقال عزَّ من قائل: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ 20.
هذه الآية الكريمة تؤكّد أنّ المقام الأسمى يكون لأولئك الذين واجهوا وتحمّلوا في مواقع الشدّة؛ لأنّ هذا العنصر يكشف عن درجةٍ إيمانيّة عالية عندهم وجهادٍ حقيقيّ مخلص، حيث لم يكن يرجو صاحبه شيئاً وهم القلّة الضعيفة، أما بعد الفتح فإنّ الإسلام صار قويّاً، وصار الانضمام إليه شأن المخلص وغيره، وشأن المؤمنين على اختلاف درجات الإيمان، ويشوبه حينئذٍ تمازج المصالح الدنيويّة والأخرويّة.
إن الاختبارات والامتحانات جهازٌ لتصفية المقاصد وكشف الأغراض والغايات، ومَنْ يقف معك في موقع الشدّة يختلف عمَّنْ يقف معك في موقع الضعف، حيث سيكلِّفه الوقوف معك كثيراً.
ونحن نرى كيف أنه داخل الأوساط الدينيّة يحكم هذا المنطق أيضاً. فكم من أشخاص يصدق عليهم ما صدق في حقّ كثير من الناس زمن الإمام الحسين(عليه السلام) «قلوبهم معك، وسيوفهم عليك». فأنتَ ترى الكثيرين يتفاعلون مع حركة الوعي والبصيرة والهداية مقابل حركة الغلوّ والخرافة والتهريج من جهةٍ، وحركة التمييع والتقزيم والمحاربة للدين من جهةٍ ثانية، لكنْ عندما تتطلَّب الأمور منهم موقفاً فإنّك لا تجد أحداً، ولا ترى نفسك إلاّ شبيهاً ـ في الصورة ـ لمشهد مسلم بن عقيل، فإذا قوي عودك سمعتَ ثناءهم ومدحهم وإطراءهم.
هنا أهمّيّة الحفر في المقاصد؛ لتكون مقاصد سليمة وصحيحة، فيناضل الإنسان لأجل الله تعالى، ويستعدّ للتضحية، فإذا بني هذا القصد في الروح الإنسانيّة فسوف تجد مع مسلم بن عقيل الكثيرين.

3ـ مبدأ الوحدة والتعاضد

فعندما تدخل حركة الدعوة والتغيير مرحلة القوّة المدنية تظهر الانقسامات الناتجة عن الإحساس بطمأنينة الأقلّية عند قوّتها النسبية على الأكثرية. إنّ الإحساس بالقوّة والمنعة، والخروج من مرحلة الضعف إلى مرحلة العزّة والكرامة، يمكن أن يدفع العاملين إلى الاشتغال بقضاياهم الداخلية، بعد شعورهم براحةٍ نسبيّة إزاء الخطر الخارجي.
وهنا قد تبرز التمايزات بينهم في الطبائع والسليقة والمزاج وطريقة العمل، فيحدث الاختلاف بينهم. فإذا لم يكونوا ليستشعروا الخطر الخارجي ولم يديروا ويتفهَّموا منطقية هذا الاختلاف، فسوف تحدث تيّارات متعارضة فيما بينها. وهنا يشتدّ التأكيد على منطق الوحدة والتعاضد، قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ 21. فقد يختلفون، حتّى في أسلوب مواجهة الكفر والطغيان، ولا ينبغي لهذا الاختلاف أن يفضي إلى عكس المطلوب، وهو الضعف أمام الكفر والطغيان، وأمام حركة الجهل والخرافة، وأمام منطق الاستغلال والتسلُّط أيضاً.
إنّ الوحدة هذه المرّة هي وحدة المجاهدين الذين يجاهدون العدوّ الخارجي، أو أولئك الذين يجاهدون الرجعيّة والتخلُّف والاستبداد في الأمّة. إنّ خروجهم أفراداً وجماعات ممزّقة يمكنه أن يضيِّع قوّتهم، ويُذهب هيبتهم، أمام الخطر الخارجي والداخلي.
وقد بتنا نرى أنّ حركة الوعي صار حالها كهذه الحال. فكلُّ واحدٍ يعمل لحسابه الشخصي، أو لحساب جماعةٍ معيّنة داخل الإطار الكبير. وهذا ما أضعف هذه الحركة، وأوقع ألوان التحاسد حتّى داخل رجالاتها ورموزها.
إنّني أدعو إلى يقظةٍ أخلاقيّة داخل حركة الوعي، تزيد من الضخّ الروحي لصالح نجاح المنجزات المتوقَّعة، وكلّما ابتعدنا عن هذا الزخم الإيماني والأخلاقي والروحي صارت هناك إمكانية لتفريغ الحركة التوعوية من أهدافها السامية؛ كي لا نكون أمام اُحُد جديدة، تتساقط فيها منجزات بدرٍ أمام المصالح الشخصيّة والفئويّة للمجاهدين أنفسهم.

4ـ الصبر وحساب المعادلات الإلهيّة

عندما تخرج حركة الوعي والتغيير من مكّيتها، لتعلن المواجهة، وتدافع بقوّة عن قناعاتها، فمن الطبيعي أن يقوم الآخرون بردّ فعل أشدّ شراسة ممّا كانوا يفعلون؛ ظنّاً منهم أنّ إعلان هذه الحركة عن نفسها، وانطلاقها في عنفوانها، سوف يوفِّر الظروف للقضاء نهائيّاً عليها وهي في مهدها.
هنا من الطبيعي أن يكون المؤمنون قلّةً نسبيّة. وهنا تقع معركة بدر. هنا تبدأ طبول الحرب تُعلَن من كلّ مكان، ويشهد الواقع مزيجاً من بدرٍ والأحزاب.. تهويلٌ، وتسقيط، وهجوم من جميع الجهات، وتآمر بين المتناقضات ضدّ حركة الإيمان، وسقوط كلّ المقدَّسات والحُرُمات، وتحشيد مدهش ضدّ الحركة التوعويّة الإيمانيّة يريد إنهاء وضعها تماماً.
وهنا يكون المظهر الثاني للصبر والتحمُّل، لكنّه ليس صبر سكوت، إنّه صبر مواجهة؛ ليُعلم مَنْ سيصرخ أوّلاً. قد يرتفع الغبار والضجيج في البداية حتّى عنان السماء، ويفرّ من حول المشروع بعض الضعفاء؛ هرباً بنفسه ليحيا كما يراها، ويسلّي نفسه بعناوين وهميّة كاذبة وخادعة.
في هذه اللحظة، أعني بها لحظة الانطلاق القويّ للمشروع؛ واستعداداً للمواجهة، تحتاج الحركة إلى قِيَم ومفاهيم إيمانيّة تساعدها على الاستمرار. إنّ الضربة الأولى في المرحلة المدنيّة مهمّة؛ لأنها إذا كسرت الظهر أجهضت المشروع، لكنّها إذا لم تكسِرْه قوَّتْ الحركة كلَّها، وأطلقتها نحو الأمام بطريقة عجيبة. هنا يأتي القرآن الكريم ليؤكّد مجموعة مفاهيم:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 22. فقادة المشروع وروّاده ومُطلِقوه عليهم أن يعلموا أنّ ما يكفيهم هو الله الكافي، ومَنْ معهم ممَّنْ تبقّى من المؤمنين والمخلصين. فالعدد القليل من المؤمنين كافٍ، ولا تهمّ الكثرة، التي لطالما عشقها الإنسان ومشى خلفها؛ لتمنحه الطمأنينة والسكون.
نعم، إذا ضعفت ثقة القادة بالقاعدة المؤمنة وقعت المشكلة الكبيرة، وإذا فقد الجميع الثقة بالله سبحانه تلاشت القوّة الإيمانية، التي تمثِّل حاجةً بالغة الأهميّة دوماً، ولا سيّما في مثل هذه اللحظات الحرجة، كما سنوضِّح ذلك إن شاء الله تعالى.
إنّ نقطة الانطلاق هي الثقة بالله، والإيمان العميق بأنّه الكافي، قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ 23. إنّ الشعور بكفاية الله هو إيمانٌ عميق وضروريٌّ جدّاً لمواجهة غزوة بدر والأحزاب، وإلاّ ففقدانُ الثقة بالله وبالقلّة المؤمنة لا يجرّ إلاّ إلى الخسارة والتراجع. وسيجد الإنسان الكثيرين ممَّنْ يعملون على التخويف، لكنَّ قوّة الإيمان والثقة بالله تعالى تجهض عناصر التخويف هذه، وتفشل مؤثِّريتها وفاعليّتها، لأنّ المؤمن بثقته بالله سبحانه ـ مع اعتماده الأسباب ـ يرى أنّ وظيفته قد أنجزت، وأنّ الأمور لو قُدِّر لها أن تسير إلى مكانٍ غير محمود فإنّه يكون قد أراح ضميره أمام نفسه وأمام الأمّة والتاريخ، والأهمّ أمام الله سبحانه.
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ 24؛ إذ القوّة المادّية تعادل نسبة الواحد إلى العشرة، لكنّ القوّة الإيمانية يمكن أن تضاعف من القوة المادّية، ليساوي الواحدُ العشرةَ. وهذا رقمٌ كبير جدّاً في حساب المعادلة. فلو كان الآخر أقوى منّي بعشرة أضعاف فإنّ الإيمان يمكنه أن يبلغ بي قدرة التساوي معه.
ولكنْ لمّا كانت هذه الحالة ـ رغم إمكانيّتها ـ بالغة الصعوبة، وتحتاج إلى إيمان عميق واستثنائي جدّاً، فإنّ النص القرآني يحاول التخفيف، فيقول: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ 25.
وهذا كلُّه يعني أنّ القوّة الإيمانية والصبر عنصران ضروريّان لتحقيق التوازن المفقود على المستوى المادّي، فلا يصحّ قصر النظر على العنصر المادّي، وإغفال العناصر المعنويّة الأخرى، والتي يطلق على بعضها اليوم اسم: «عقيدة الجيش». تماماً كما لا يصحّ حساب العنصر المعنوي دون العنصر المادي. فباجتماعهما يكون الصحيحُ من الحساب، والسليمُ من التفكير.
وفي هذا الإطار أيضاً تأتي النصوص القرآنيّة التي تتحدَّث عن تأييد المجاهدين بالملائكة، ليكون ذلك: ﴿ ... بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ ... 26. إنّ هذا الأمر باعثٌ على الطمأنينة، التي تجعل العاملين في موقع الفعل والتأثير والإمساك بالأمور.

5ـ عدم الغرور بالقوّة المادّية

فقد يحقِّق المؤمنون نجاحات، وتكون لهم القوّة الاجتماعية أو السياسية أو المالية أو الفكرية والثقافية أو غيرها من عناصر القوّة في المجتمع والحياة. وعندما تأتي القوّة فإنّه يُخشى أن تحلّ بديلاً عن الله سبحانه؛ لأنّ الإنسان يشعر بها عَوْناً له، ويرى أنّ الجمهور الواسع الذي يملكه مع المال والسلاح أو غير ذلك هو عَوْنه على تحقيق مطالبه، متناسياً ـ في غمرة المادّيات ـ أنّ الله تعالى هو الذي يجب الاتّكال عليه دوماً.
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ 27. إنّ الاغترار بالعَدَد والعُدّة، والمديح والثناء، وحاجة الخلق لنا.. عناصرُ خَطِرةٌ جدّاً، قد تفكّ علاقتنا بالله سبحانه، لتحلّ محلّها، فيقع السقوط المدوّي والفشل الذريع. وقد لا يكون فشلاً مادّياً، بل يكون عبارة عن فراغ المشروع والحركة من البُعْد القِيَمي والفكري والرسالي، لتتحوَّل إلى مجرَّد نشاطٍ فارغ سلطوي مصلحي توازني، لا أكثر ولا أقلّ.
نعم، قد تحصل هفواتٌ وأخطاء لا تدعو إلى الإحساس بالفشل، والتخلّي عن المشروع. فبعدما حصل للمؤمنين في حنين ما حصل قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ 28. فالله دائماً يغفر مثل هذه السقطات عندما لا تتحوَّل إلى ثقافة مهيمنة (والثقافة المهيمنة تعني مفهوماً قريباً من فكرة الإصرار على الصغائر أو الكبائر)، فتحرف المسيرة كلَّها عن الهدف.

6ـ حذر التعملق والعدوانيّة

وقد تتحقَّق النجاحات المتتالية، وإذا بالضعيف يصبح قويّاً، وبالحقير يصبح عظيماً، وبالصغير يصبح كبيراً و... هنا أكبر الأخطار، وهي أنّه عندما كنّا ضعافاً فنحن أصحاب أخلاق ورؤية ودين، أمّا عندما تقوى حركة الوعي والتغيير فهي تتخلَّى عن ذلك كلّه، إلاّ لحسابات مصلحيّة دعائيّة فقط. وكأنَّ الدين والأخلاق والفكر وسائل لبلوغ السلطة، فإذا بُلِغَت فلا قيمة لهذه الوسائل، وإنّما نستثورها عادةً وقت الحاجة.
فعندما نجاهد ونصارع للحقّ فلا يبرِّر لنا ذلك العدوان على الآخرين؛ بحجّة أنّني أصارع الباطل، أو لديَّ مشروعٌ صحيح وشرعي، قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ 29.
ليس لأنّك في معركةٍ كبرى يجوز لك أذيّة وظلم الآخرين؛ فإنّ الظلم عندما يتراكم يغيِّر الصورة كاملةً. وليس لأنّك تحمل الهمّ الإسلامي أو التغييري يجوز لك الاعتداء على الآخرين، والتضحية بحرماتهم وحقوقهم!! هذا أكبر الخطأ، أعني خطأ الشعور بدونيّة الآخرين أمام عظمة أهدافي ومشروعي وعملي (وعظمة الأنا).
إنّنا أمام تحدٍّ كبير واختبار عظيم. وقد قال النبيّ موسى عليه السلام لقومه ـ كما حدَّثنا القرآن الكريم ـ كلاماً رائعاً، قال سبحانه: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ 30. إنّ الجملة الأخيرة هي مركز التحدّي. فأنتم البديل، وسيرى الله ما تقدِّمون. فهل لديكم الجديد أم ستعيدون إجراء تجربة الماضي وأخطاءه، فتفعلون ـ بوجهٍ آخر ـ نفس جرائم مَنْ سبقكم وأنتم تشعرون أو لا تشعرون؟! إنّ الخروج من الضعف إلى القوّة، ومن المعارضة إلى السلطة، هي بداية الطريق، وليست نهايته.
أكتفي بهذا القدر من الإثارات، و نسأل الله لنا جميعاً الاستمرارَ في حركة الوعي والتغيير في الأمّة نحو الأفضل، بهَدْيِه ومَنِّه، إنّه على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير31.