الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الحاجة إلى اصطناع المعروف و آدابه و قواعده

يروى عن الإمام الجواد عليه السلام قوله «أَهْلُ الْمَعْرُوفِ إِلَى اصْطِنَاعِهِ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ لَهُمْ أَجْرَهُ وَفَخْرَهُ وَذِكْرَهُ، فَمَهْمَا اصْطَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ مَعْرُوفٍ فَإِنَّمَا يَبْدَأُ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّ شُكْرَ مَا صَنَعَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ»1.

و المعروف هو الصنيعة التي يسديها المرء إِلى غيره، من جميل، أو إحسان، أو صدقة، أو مساعدة، أو عطاء أو غيره.
و أهل المعروف أو صاحب المعروف هو المعطي أو المحسن و المتصدق أو الذي يقوم بالإحسان و العطاء.
و أهل الحاجة أو صاحب الحاجة هو المحسن إليه أو المتصدق عليه، و من تُسدى و تُمنح إليه الصنيعة.
و المعنى إنّ الإنسان المحسن أو المعطي الذي يحسن للغير أو الذي يتصدق على الغير هو أحوج إلى إعطاء الفقير، من أخذ الفقير هذه الحاجة، و بالتالي إذا قصدك أحد لحاجة ما فتذكر أنّك أنت الأحوج من صاحب الحاجة لهذه الحاجة أو هذه الصدقة أو الاحسان، لأنك إذا أعطيته فإنك تنفع نفسك ابتداء، و أنت المستفيد أولا، لأن لك الأجر  و الفخر و الذكر الحسن.
أجر و ثواب و جزاء هذا الاحسان من الله سبحانه إلى صاحب المعروف، و هو ذخيرة مخزونة في صحيفته و في حكمة أمير المؤمنين (ع) «اَلْمَعْرُوفُ ذَخِيرَةُ اَلْأَبَدِ»2.
و الفخر و الافتخار و الاعتزاز بسبب هذا الإحسان ينسب إلى صاحب المعروف.
و الذكر الحسن و المدح و الإشادة و التمجيد بسبب هذا الاحسان إلى صاحب يتوجه إلى صاحب المعروف و الإحسان.

وقد يسري الذكر الحسن و الثناء الجميل إلى أولاد المحسن و صاحب المعروف و ذريته جيل بعد جيل، و كذا الفخر و الاعتزاز لأبناء و أحفاد المحسن خاصة مع عظيم الصنيعة و المعروف.
فالمعروف كنز و ذخيرة لصاحبه في الآخرة و الدّنيا، روي عن أمير المؤمنين (ع) قوله: «الْمَعْرُوفُ أَنْمَى زَرْعٍ وَ أَفْضَلُ كَنْزٍ»3.
فالذي يعمل المعروف يعمله لنفسه و هو المستفيد الرابح من المعروف و له النفع الأكبر، فلا يطلب الشكر من غيره ما لنفسه فائدته و منفعته.

الأجر والفخر و الذكر الحسن لصاحب المعروف، و صاحب المعروف يكسب رضا الله سبحانه تعالى، و المعروف لها آثار كبيرة في الدّنيا و الآخرة، فهو يقي مصارع السوء، و أول من يدخل الجنّة أهل المعروف، و في الرواية عن النبي صلى الله عليه و آله « صَنَائِعُ اَلْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ اَلسَّوْءِ، وَ اَلصَّدَقَةُ خَفِيّاً تُطْفِئُ غَضَبَ اَلرَّبِّ، وَ صِلَةُ اَلرَّحِمِ زِيَادَةٌ فِي اَلْعُمُرِ، وَ كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَ أَهْلُ اَلْمَعْرُوفِ فِي اَلدُّنْيَا أَهْلُ اَلْمَعْرُوفِ فِي اَلْآخِرَةِ، وَ أَهْلُ اَلْمُنْكَرِ فِي اَلدُّنْيَا أَهْلُ اَلْمُنْكَرِ فِي اَلْآخِرَةِ، وَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ أَهْلُ اَلْمَعْرُوفِ»4.

و هذه النظرة الراقية في القيّم و الأخلاق أساسها الإيمان بالله و الآخرة و بعظيم الثواب فيها من الله سبحانه وتعالى، فإذا اعتقد و تيقن و أحسن الإنسان فإنّ الله سبحانه و تعالى يفتح لها أبوابا من الخير، منها ما يشعر به الإنسان و يدركه و منها ما لا يدركه.

و المعروف يفتح أبواب الرزق و يوفق لغفران ذنوبه و ذكرت عدد من الروايات عنهم عليهم السلام هذا المعنى ففي الضيافة رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام، قال الراوي: «ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) أَصْحَابَنَا فَقَالَ: كَيْفَ صَنِيعُكَ بِهِمْ، فَقُلْتُ: وَ اَللَّهِ مَا أَتَغَدَّى وَ لاَ أَتَعَشَّى إِلاَّ وَ مَعِيَ مِنْهُمُ اِثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ، فَقَالَ: فَضْلُهُمْ عَلَيْكَ - يَا أَبَا مُحَمَّدٍ - أَكْثَرُ مِنْ فَضْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ كَيْفَ ذَلِكَ، وَ أَنَا أُطْعِمُهُمْ طَعَامِي، وَ أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مَالِي، وَ أُخْدِمُهُمْ خَادِمِي، فَقَالَ: إِذَا دَخَلُوا دَخَلُوا بِالرِّزْقِ اَلْكَثِيرِ، وَ إِذَا خَرَجُوا خَرَجُوا بِالْمَغْفِرَةِ لَكَ»5.

و عن الإمام الصادق عليه السلام:
قال الراوي: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، اَلْأَخُ لِي أَدْخُلُهُ مَنْزِلِي فَأُطْعِمُهُ طَعَامِي، وَ أَخْدُمُهُ بِنَفْسِي، وَ يَخْدُمُهُ أَهْلِي وَ خَادِمِي، أَيُّنَا أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَى صَاحِبِهِ؟ قَالَ هُوَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَّةً، قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ أُدْخِلُهُ مَنْزِلِي وَ أُطْعِمُهُ طَعَامِي وَ أَخْدُمُهُ بِنَفْسِي وَ يَخْدُمُهُ أَهْلِي وَ خَادِمِي وَ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنَّةً عَلَيَّ مِنِّي عَلَيْهِ! قَالَ نَعَمْ لِأَنَّهُ يَسُوقُ إِلَيْكَ اَلرِّزْقَ وَ يَحْمِلُ عَنْكَ اَلذُّنُوبَ»6.

و في الروايات عنهم عليهم السلام آداب و قواعد للإحسان و المعروف، و منها:
اصطناع و عمل المعروف إلى مطلق النّاس ممن يستحقون و ممّا لا يستحقون، و في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: «اِصْطَنِعِ اَلْخَيْرَ إِلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ وَ إِلَى مَنْ هُوَ غَيْرُ أَهْلِهِ، فَإِنْ لَمْ تُصِبْ مَنْ هُوَ أَهْلُهُ فَأَنْتَ أَهْلُهُ»7.

و منها اصطناع المعروف و إن كان قليلا مع الاستطاعة، فالمعروف و الإحسان ليس مختصا بالأغنياء في المال مثلا، و إنّ آثاره عظيمة و إن قلّ، ففي الرواية عن الإمام الصادق(ع) عن أمير المؤمنين(ع) قال: «اِصْطَنِعُوا اَلْمَعْرُوفَ بِمَا قَدَرْتُمْ عَلَى اِصْطِنَاعِهِ فَإِنَّهُ يَقِي مَصَارِعَ اَلسَّوْءِ»8.

و عن الإمام الصادق(ع) عن أمير المؤمنين(ع)، قال: «لاَ تَسْتَصْغِرْ شَيْئاً مِنَ اَلْمَعْرُوفِ قَدَرْتَ عَلَى اِصْطِنَاعِهِ إِيثَاراً لِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ فَإِنَّ اَلْيَسِيرَ فِي حَالِ اَلْحَاجَةِ إِلَيْهِ أَنْفَعُ لِأَهْلِهِ مِنْ ذَلِكَ اَلْكَثِيرِ فِي حَالِ اَلْغَنَاءِ عَنْهُ وَ اِعْمَلْ لِكُلِّ يَوْمٍ بِمَا فِيهِ تَرْشُدْ»9.

و منها عدم الأذى و المنّ عند اصطناع المعروف من إنفاق و تصدق لأهل الحاجة و أنّ الكلام الحسن لأهل الحاجة و الصفح عن أذاهم إن صدر أفضل من الصدقة يتبعها أذى، قال تعالى:﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ 10، و المنّ و تعداد الفضل و الإحسان يفسد و يبطل المعروف كما روي عن أمير المؤمنين (ع) «مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ أَفْسَدَهُ»11.

و منها عمل المعروف دون انتظار شكر أو ثناء من أهل المعروف أو الحاجة أو من غيرهم، و لا يغيّر من نية المحسن و أهل المعروف من لا يشكرهم على معروفهم، و روي عن (ع) قوله «لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ لَكَ فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَمْتِعُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهُ، وَ قَدْ تُدْرِكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ، وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»12

و منها الشروع ابتداء في الصدقة مع علمك لأهل الحاجة مع استطاعتك دون سؤاله أو سؤالهم لك، و اغتنم تلك اللحظة في إعطائه و أكثر فإنّه زاد ستوافيه في آخرتك، و من وصية أمير المؤمنين (ع) لابنه الإمام الحسن (ع) قال: «وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ»13، و كان الإمام زين العابدين (ع) «إِذَا أَتَاهُ اَلسَّائِلُ يَقُولُ مَرْحَباً بِمَنْ يَحْمِلُ لِي زَادِي إِلَى اَلْآخِرَةِ»14.

و منها إنّ عمل المعروف توفيق و سعادة لا تتوفر لكثير من النّاس، و يحتاج إلى نية و عزم و قدرة إلى حصوله، و روي عن الإمام الصادق (ع) «وَ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَصْنَعَ اَلْمَعْرُوفَ إِلَى اَلنَّاسِ يَصْنَعُهُ، وَ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَرْغَبُ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَ لاَ كُلُّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا اِجْتَمَعَتِ اَلرَّغْبَةُ وَ اَلْقُدْرَةُ وَ اَلْإِذْنُ فَهُنَالِكَ تَمَّتِ اَلسَّعَادَةُ لِلطَّالِبِ وَ اَلْمَطْلُوبِ إِلَيْهِ»15.

و من آداب عمل المعروف تعجيله و ستره و تصغيره بل في رواية الإمام الصادق (ع) أنّه لا يتم إلا بهذه الخصال، قال (ع): «إِنِّي رَأَيْتُ اَلْمَعْرُوفَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِثَلاَثٍ: تَعْجِيلِهِ، وَ سَتْرِهِ، وَ تَصْغِيرِهِ، فَإِنَّكَ إِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّأْتَهُ، وَ إِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ، وَ إِذَا صَغَّرْتَهُ عَظُمَ عِنْدَ مَنْ تُسْدِيهِ إِلَيْهِ»16. و في حكم نهج البلاغة، «لَا يَسْتَقِيمُ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ إِلَّا بِثَلَاثٍ بِاسْتِصْغَارِهَا لِتَعْظُمَ وَ بِاسْتِكْتَامِهَا لِتَظْهَرَ وَ بِتَعْجِيلِهَا لِتَهْنُؤَ»17.

و في الصلوات الواردة في كلّ يوم من شهر شعبان و في ليلة النصف منه، «اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ، وَ اُعْمُرْ قَلْبِي بِطَاعَتِكَ، وَ لاَ تُخْزِهِ بِمَعْصِيَتِكَ، وَ اُرْزُقْنِي مُوَاسَاةَ مَنْ قَتَّرْتَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقِكَ مِمَّا وَسَّعْتَ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ»18.

  • 1. عوالم العلوم، ج23، ص275، و الرواية عن الإمام الجواد عن جده أمير المؤمنين عليه السلام.
  • 2. غرر الحكم،ص54.
  • 3. غرر الحکم، ص71.
  • 4. الأمالي (للطوسی)، ص 603.
  • 5. الأمالي (للطوسی)، ص 237.
  • 6. المحاسن، ج2، ص390.
  • 7. عيون الأخبار،ج2،ص35.
  • 8. الخصال، ج2، ص610.
  • 9. الأشعثیات، ص233.
  • 10. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 263، الصفحة: 44.
  • 11. من لا یحضره الفقیه، ج4، ص384.
  • 12. نهج البلاغة، حكمة 204.
  • 13. نهج البلاغة، وصية 31
  • 14. كشف الغمة، ج2، ص76.
  • 15. الکافي، ج4، ص 26، الأمالي (للطوسی)، ص 479.
  • 16. الأمالي (للطوسی)، ص 479.
  • 17. حكمة 101.
  • 18. مصباح المتهجد، ص 361.