الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

شبهة مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب

هل كان ابن عباس يراجع أهل الكتاب في فهم معاني القرآن ؟

سؤال أجيب عليه بصورتين : إحداهما مبالغ فيها ، و الأخرى معتدلة إلى حد ما ، كانت مراجعته لأهل الكتاب ـ كمراجعة سائر الأصحاب ـ في دائرة ضيقة النطاق ، في أمورلم يتعرض لها القرآن ، و لا جاءت في بيان النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، حيث لم تَعُد حاجة ملحة إلى معرفتها ، و لا فائدة كبيرة في العلم بها كعدد أصحاب الكهف ، و البعض الذي ضرب به موسى من البقرة ، و مقدار سفينة نوح ، و ما كان خشبها ، و اسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ، و نحو ذلك مما لا طريق إلى معرفة الصحيح منه . فهذا يجوز أخذه من أهل الكتاب ، و التحدث عنهم ولا حرج ، كما ورد " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " ، المحمول على مثل هذه الأمور .
قال ابن تيمية : و في بعض الأحيان يُنقل عنهم ( عن بعض الصحابة مثل ابن مسعود و ابن عباس و كثير من التابعين ) ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، حيث قال : " بلغا عني و لو آيةً ، و حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " . رواه البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص ، و لهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين ( أي ملفتين ) من كتب أهل الكتاب ، فكان يحدث منهما ، بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك . و لكن هذه الأحاديث الإسرائيلية إنما تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنها من الأمور المسكوت عنها ، ولم نعلم صدقها و لا كذبها مما بأيدينا ، فلا نؤمن به و لا نكذبه ، و تجوز حكايته ، و غالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ، و قد أبهمه الله في القرآن ، لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم و لا دينهم .
و وافقه على هذا الرأي الأستاذ الذهبي ، قال : كان ابن عباس يرجع إلى أهل الكتاب و يأخذ عنهم ، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة و الإنجيل ، في كثير من المواضع التي أُجملت في القرآن و فُصلت في كتب العهدين . و لكن في دائرة محدودة ضيقة ، تتفق مع القرآن و تشهد له . أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن و لا يتفق مع الشريعة ، فكان لا يقبله و لا يأخذ به .
قال : فابن عباس و غيره من الصحابة ، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام فيما لا يمس العقيدة أو يتصل بأصول الدين و فروعه ، كبعض القصص و الأخبار الماضية .
قال : و بهذا المسلك يكون الصحابة قد جمعوا بين قوله ( صلى الله عليه و آله ) : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " ، و قوله : " لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم " . فإن الأول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث و الأخبار ، لما فيها من العظة والاعتبار ، بدليل قوله بعد ذلك : " فإن فيهم أعاجيب " . والثاني محمول على ما إذا كان المخبر به من قبلهم كان المخبر به من قبلهم محتملاً ، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه . قال : كما أفاده ابن حجر ، و نبه عليه الشافعي .
و أما المستشرقون فقد ذهبوا في ذلك مذاهب بعيدة ، بالغوا فيها إلى حد ترفضه شريعة النقد و التمحيص . يقول العلامة المستشرق إجنتس جولد تسهير :
" و ترى الرواية الإسلامية أن ابن عباس تلقى بنفسه ـ في اتصاله الوثيق بالرسول ـ وجوه التفسير التي يوثق بها وحدها . و قد أغفلت هذه الرواية بسهولة ـ كما في أحوال أخرى مشابهة ـ أن ابن عباس عند وفاة الرسول كان أقصى ما بلغ من السن ( 10 ـ 13 ) سنة " .
" و أجدر من ذلك بالتصديق ، الأخبار التي تفيد أن ابن عباس كان لا يرى غضاضةً أن يرجع ، في الأحوال التي يخامره فيها الشك ، إلى مَن يرجو عنده علمها . وكثيراً ما ذُكر أنه كان يرجع ـ كتابةً ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى مَن يُدعى ( أبا الجلد ) و الظاهر أنه ( غيلان بن فروة الأزدي ) الذي كان يُثنى عليه بأنه قرأ الكتب " .
" و كثيراً ما نجد بين مصادر العلم المفضلة لدى ابن عباس ، اليهوديين اللذين اعتنقا الإسلام : كعب الأحبار ، و عبد الله بن سلام ، كما نجد أهل الكتاب على وجه العموم ، أي رجالاً من طوائف ورد التحذير من أخبارها ـ عدا ذلك ـ في أقوال تنسب إلى ابن عباس نفسه . و من الحق أن اعتناقهم للإسلام قد سما بهم على مظنة الكذب ، و رفعهم إلى مرتبة مصادر العلم التي لا تثير ارتياباً " .
" ولم يعدّ ابن عباس أولئك الكتابيين الذين دخلوا في الإسلام ، حججاً فقط في الإسرائيليات وأخبار الكتب السابقة ، التي ذكر كثيراً عنها الفوائد ، بل كان يَسأل أيضاً كعب الأحبار مثلاً عن التفسير الصحيح للتعبيرين القرآنيين : ( أم الكتاب ) و ( المرجان ) .
" كان يُفترض عند هؤلاء الأحبار اليهود ، فهم أدق للمدارك الدينية العامة الواردة في القرآن وفي أقوال الرسول ، و كان يُرجَع إلى أخبارهم في مثل هذه المسائل ، على الرغم من ضروب التحذير الصادرة من جوانب كثيرة فيهم " .
هذه هي عبارة ( جولد تسيهر ) البادي عليها غلوه المفرط بشأن مُسلمة اليهود ، و دورهم في التلاعب بمقدرات المسلمين ، الأمر الذي لا يكاد يصدق في أجواء كانت السيطرة مع الصحابة النبهاء ، إنما كان ذلك في عهد طغى سطو أمية على البلاد و قد أكثروا فيها الفساد .
و قد تابعه على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين ، قال : ولم يتحرج كبار الصحابة مثل ابن عباس من أخذ قولهم . روي أن النبي ( صلى الله عليه و آله ) قال : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم و لا تكذبوهم " . و لكن العمل كان على غير ذلك ، و أنهم كانوا يصدقونهم و ينقلون عنهم ! و إن شئت مثلاً لذلك فاقرأ ما حكاه الطبري و غيره عند تفسير قوله تعالى : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ ... 1 .
و عقبه بقوله : و قد رأيت ابن عباس كان يجالس كعب الأحبار و يأخذ عنه ، إشارة إلى ما سبق من قوله : و أما كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهودي من اليمن ، و أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين ، أسلم في خلافة أبي بكر أو عمر ـ على خلاف في ذلك ـ و انتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثم إلى الشام . و قد أخذ عنه إثنان ، هما أكبر مَن نشر علمه : ابن عباس ـ و هذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ و أبو هريرة .

نقد و تمحيص

و إنا لنأسف كثيراً أن يغتر كتابنا النقاد ـ أمثال الأستاذ أحمد أمين و الأستاذ الذهبي ـ بتخرصات لفقها أوهام مستوردة ، فلنترك المستشرقين في ريبهم يترددون ، و لكن ما لنا ـ نحن معاشر المسلمين ـ أن نحذو حذوهم و نواكبهم في مسيرة الوهم و الخيال ؟!
لا شك أن نبهاء الصحابة أمثال ابن عباس كانوا يتحاشون مراجعة أهل الكتاب و يستقذرون ما لديهم من أساطير و قصص و أوهام ، و إنما تسربت الإسرائيليات إلى حوزة الإسلام ، بعد انقضاء عهد الصحابة ، و عندما تسيطر الحكم الأموي على البلاد لغرض العيث في الأرض و شمول الفساد ، الأمر الذي أحوجهم إلى مراجعة الأنذال من مسلمة اليهود و مَن تبعهم من سفلة الأوغاد .
إن مبدأ نشر الإسرائيليات بين المسلمين كان في هذا العهد المظلم بالخصوص ، حاشا الصحابة و حاشا ابن عباس بالذات أن يراجع ذوي الأحقاد من اليهود ، ويترك الخلص من علماء الإسلام أمثال الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وكان سفط العلم و لديه علم الأولين و الآخرين ، علماً ورثه من رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) في شمول و عموم .
إن ابن عباس كان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة بغية العثور على أطراف العلم الموروث من الرسول الأكرم ( صلى الله عليه و آله ) ، و قد سئل : أنى أدركت هذا العلم ؟ فقال : بلسان سؤول و قلب عقول .
و إليك من تصريحات ابن عباس نفسه ، يحذر مراجعة أهل الكتاب بالذات ، فكيف يا ترى ، ينهى عن شيء ثم يرتكبه ؟!
التحذير عن مراجعة أهل الكتاب :
أخرج البخاري بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ، قال : " يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب ، و كتابكم الذي أُنزل على نبيه ( صلى الله عليه و آله ) أحدث الأخبار بالله تقرءونه لم يشب ( أي لم يخلطه شيء من غير القرآن ) ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله و غيروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا : هو من عند اله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم منن العلم عن مساءلتهم ، و لا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم" .
و أخرج عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية و يفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : " لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم ، ﴿ ... وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ... 2 .
و أخرج عبد الرزاق من طريق حريث بن ظهير ، قال : قال عبد الله بن عباس : " لا تسألوا أهل الكتاب ، فإنهم لن يهدوكم و قد أضلوا أنفسهم ، فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل" .
و هذا الحديث وضح من كلام النبي ( صلى الله عليه و آله ) في عدم تصديقهم و لا تكذيبهم ، لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل ، فلا يمكن تصديقهم ، لأنه ربما كان تصديقاً لباطل ، و لا تكذيبهم ، لأنه ربما كان تكذيباً لحق ، فالمعنى : أن لا يُعتبر من كلامهم شيء و لا يترتب على ما يقولونه شيء . فلا حجية لكلامهم و لا اعتبار لأقوالهم على الإطلاق ، إذن فلا ينبغي مراجعتهم و لا الأخذ عنهم في وجه من الوجوه .
و أخرج أحمد و ابن أبي شيبة و البزاز من حديث جابر ، أن عمر أتى النبي ( صلى الله عليه و آله ) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فغضب النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، و قال : " لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء ، فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو باطل فتصدقوا به ، و الذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني". وفي رواية أخرى : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء . . . " .
تلك مناهي الرسول ( صلى الله عليه و آله ) الصريحة في المنع عن مراجعة أهل الكتاب إطلاقاً ، لا في كبير و لا صغير ، فهل يا ترى أحداً من صحابته الأخيار خالف أوامره و راجعهم في شيء من مسائل الدين و القرآن ؟! كما حسبه الأستاذ أحمد أمين ، زعم أن العمل كان على ذلك ، و أنهم كانوا يصدقون أهل الكتاب و ينقلون عنهم !
و أما الذي استشهدوا به على مراجعة مثل ابن عباس لليهود ، فكله باطل و زور ، لم يثبت منه شيء .
أما الذي جاء به الأستاذ مثلاً من قوله تعالى : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ... 1 قال : فاقرأ ما حكاه الطبري و غيره عند تفسير الآية .
فقد راجعنا تفسير الطبري و الدر المنثور و ابن كثير و غيرها من أمهات كتب التفسير بالنقل المأثور ، فلم نجد فيها ذكراً لكعب و لا مساءلته من قبل أحد من الأصحاب ، أو غيرهم من التابعين أيضاً . ولم ندر من أين أخذ الأستاذ هذا المثال ، و من الذي عرفه ذلك ، فأوقعه في هذا الوهم الفاضح .
و أما قوله : كان ابن عباس يجالس كعب الأحبار ، و كان أكثر من نشر علمه . . . ، فكلام أشد وهماً و أكثر جفاءً على مثل ابن عباس الصحابي الجليل ، إذ لم نجد و لا رواية واحدة تتضمن نقلاً لابن عباس عن أحد من اليهود ، فضلاً عن مثل كعب الأحبار الساقط الشخصية .
نعم ، أشار المستشرق جولد تسيهر إلى موارد ، زعم فيها مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب ، و لعلها كانت مستند الأستاذ أحمد أمين تقليداً من غير تحقيق . و لكنا راجعنا تلك الموارد ، فلم نجدها شيئاً ، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً .
منها : أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن تفسير تعبيرين قرآنيين : أم الكتاب ، و المرجان .
روى الطبري بإسناده إلى عبد الله بن ميسرة الحراني : أن شيخاً بمكة من أهل الشام سمع كعب الأحبار يُسأل عن المرجان ( سورة الرحمان / 22 ) 3 فقال : هو البسذ .
لكن من أين علم جولد تسيهر أن الذي سأل كعباً هو شيخ مكة و زعيمها ابن عباس ؟!
و كذا رُوي عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن شيبان ، أن ابن عباس سأل كعباً عن أم الكتاب ( سورة الرعد / 39 ) 4 فقال : علم الله ما هو خالق و ما خلقه عاملن ، فقال لعلمه : كن كتاباً ، فكان كتاباً .
غير أن شيبان هذا ـ هو ابن عبدالرحمان التميمي مولاهم ، النحوي أبو معاوية البصري المؤدب ، سكن الكوفة ثم انتقل إلى بغداد ـ مات في خلافة المهد سنة ( 164 ) و كان من الطبقة السابعة ، و عليه فلم يدرك ابن عباس المتوفى سنة ( 68 ) و لا كعب الأحبار الذي هلك في خلافة عثمان سنة ( 32 ) . فالرواية مرسلة لم يعرف الواسطة ، فكانت ساقطة عن الاعتبار .
و أيضاً رُوي عن إسحاق بن عبد الله بن الحرث عن أبيه ، أن ابن عباس سأل كعباً عن قوله تعالى : ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ 5 و ﴿ ... يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ 6 فقال : هل يؤودك طرفك ؟ هل يؤودك نفسك ؟ قال : لا ، قال : فإنهم ألهموا التسبيح ، كما ألهمتم الطرف و النفس .
و عبد الله هذا هو ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب ، ولد على عهد رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) بالمدينة و أصبح من فقهائها ، و تحول إلى البصرة و رضيته العامة ، واصطلحوا عليه حين هلك يزيد بن معاوية . توفي سنة ( 84 ) بالأبواء و دفن بها ، و كان خرج إليها هارباً من الحجاج .
غير أن الطبري روى بإسناده إلى حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحرث ، أنه هو الذي سأل كعباً عن ذلك ، قال : قلت لكعب الأحبار : ﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ 7 أما يشغلهم رسالة أو عمل ؟ قال : يا ابن أخي ، إنهم جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس ، ألست تأكل و تشرب وتقوم وتقعد وتجيء وتذهب وأنت تتنفس ؟ قلت : بلى ! قال : فكذلك جعل لهم التسبيح .
قلت : يا ترى ، هل كان هو الذي سأل كعباً أو أنه سمع ابن عباس يسأل كعباً ؟ في حين أنه لا يقول : سمعت ابن عباس يسأله ، بل مجرد أن ابن عباس سأله ، الأمر الذي لا يوثق بكون الرواية منتهيه إلى سماع ، و الظاهر أنه إرسال .
على أنه من المحتمل القريب أن السائل هو بالذات ، لكن ابنه إسحاق كره نسبة السؤال من مثل كعب إلى أبيه ، فذكر الحديث عن أبيه مع إقحام واسطة إرسالاً من غير إسناد . و يؤيد ذلك أنه لم تأت رواية غير هذه تنسب إلى ابن عباس أنه سال مثل كعب ، فالأرجح في النظر أنه مفتعل عليه لا محالة .
و استند جولد تسيهر ـ في مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب ـ أيضاً إلى ما رواه الطبري بإسناده إلى أبي جهضم موسى بن سالم مولى ابن عباس ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي جلد ( غيلان بن فروة الأزدي ، كان قرأ الكتب ، و كان يختم القرآن كل سبعة أيام و يختم التوراة كل ثمانية أيام ) يسأله عن " البرق " في قوله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ 8 فقال : البرق : الماء .
لكن في طبقات ابن سعد أن أبا الجلد الجوني ـ حي من الأزد ـ اسمه جيلان بن فروة ، كان يقرأ الكتب . و زعمت ابنته ميمونة : أن أباها كان يقرأ القرآن في كل سبعة أيام ، و يختم التوراة في ستة ، يقرأها نظراً ، فإذا كان يوم يختمها حُشد لذلك ناس .
لا شك أنها مغالاة من ابنته . يقول جولد تسيهر : و لا يتضح حقاً من هذا الخبر الغامض ، الذي زادته مغالاةُ ابنته عموضاً ، أي نسخة من التوراة كان يستخدمها في دراسته .
لأن التوراة المعهودة اليوم و هي تشتمل على ( 39 ) كتاباً تكون في حجم كبير ، ثم هي قصة حياة إسرائيل طول عشرين قرناً ، و فيها تاريخ حياة أنبياء بني إسرائيل و ملوكهم و رحلاتهم و حروبهم طول التاريخ ، و هي بكتب التاريخ أشبه منها بكتب الوحي . فهل كان يقرأ ذلك كله في ستة أيام ؟ و ما هي الفائدة في ذلك التكرار ؟!
على أن راوي الخبر ـ و هو موسى بن سالم أبو جهضم ـ لم يلق ابن عباس ولا أدركه ، لأنه مولى آل العباس ، وليس مولىً لابن عباس . ففي نسخة الطبري المطبوعة خطأ قطعاً . قال ابن حجر : موسى بن سالم أبو جهضم مولى آل العباس ، أرسل عن ابن عباس . وهو من رواة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) .
و أخيراً ، فإن الموارد التي ذكروا مراجعة ابن عباس فيها لأهل الكتاب لا تعدو معاني لغوية بحتة ، لا تمس قضايا سالفة عن أمم خلت كما زعموا ، و لا سيما السؤال عن " البرق" ، و هو لفظ عربي خالص ، لا موجب للرجوع فيه إلى رجال أجانب عن اللغة . كيف يا ترى يرجع مثل ابن عباس ـ و هو عربي صميم و عارف بمواضع لغته أكثر من غيره ـ إلى اليهود الأجانب ؟! و هل يخفى على مثله ما للفظ البرق مفهوم ؟ ثم كيف اقتنع بتفسيره بالماء ؟ اللهم إن هذا إلا اختلاق !
الأمر الذي يقضي بالعجب ، كيف يحكم هذا العلامة المستشرق حكمه البات ، بأن كثيراً ما ذُكر أنه كان يرجع ـ كتابةً ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى من يُدعى أبا الجلد ؟! و يجعل مستنده هذه المراجعة المفتعلة قطعاً ، إذ كيف يُعقل أن يراجع ، مثله في مثل هذه المعاني ؟!
و أسخف من الجميع تبرير ما نسب إلى ابن عباس من أقاصيص أسطورية جاءت عنه ، بأنه من جراء رجوعه إلى أهل الكتاب في هكذا أمور بعيدة عن صميم الدين . قال الأستاذ أمين : و هذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات . قال ذلك بعد قوله : و كان ابن عباس و أبو هريرة أكبر مَن نشر علم كعب الأحبار .
و قال الدكتور مصطفى الصاوي : و كثيراً ما ترد عن ابن عباس روايات في بدء الخليقة و قصص القرآن ، مما لا يمكن أن يكون قد رجع فيها إلا إلى أهل الكتاب ، حيث يرد هذا القصص مفصلاً ، مثال هذا تفسيره للآية : ﴿ ... قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ... 9 قال : لكنه حين يرجع إليهم مستفسراً ، فإنما يرجع رجع العالم الذي يعير سمعه لما يقال ، ثم يعمل فكره و عقله فيما يسمع ، ثم ينخله مُبعداً عنه الزيف .
قلت : إن كانت فيما رُوي عنه في ذلك و أمثاله غرابة أو غضاضة ، فإن العتب إنما يرجع إلى الذي نسبه إلى ابن عباس ، ترويجاً لأكذوبته ، و لا لوم على ابن عباس في كثرة الوضع عليه . نعم و لعل هذه الكثرة في الوضع عليه آية على تقدير له و إكبار من الوُضاع ، لكنه في نفس الوقت ، رغبة منهم في أن تنفق بضاعتهم ، موسومةً بمن في اسمه الرواج العلمي . و قد اعترف بذلك الدكتور الصاوي ، فلماذا حكم عليه ذلك الحكم القاسي ؟!
فالصحيح : أن ابن عباس كان في غنى عن مراجعة أهل الكتاب ، و عنده الرصيد الأوفى بالعلوم والمعارف والتاريخ واللغة ، و لا سيما في مثل تلكم الأساطير السخيفة التي كانت كل ما يملكه اليهود من بضاعة مزجاة كاسدة ، بل إن موقف ابن عباس من أهل الكتاب عموماً ، و من كعب الأحبار خصوصاً ، ما يصوره معتزاً بدينه كريماً على نفسه و ثقافته .
يُروى أن رجلاً أتى ابن عباس يبلغه زعم كعب الأحبار : أنه يُجاء بالشمس و القمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيُقذفان في النارّ فغضب ابن عباس و قال : كذب كعب الأحبار ، كذب كعب الأحبار ، كذب كعب الأحبار ، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام .
يقال : لما بلغ ذلك كعباً ، اعتذر له بعدُ و تعلل .
و ربما كان كعب يجالس ابن عباس يحاول مراودته العلم فيما زعم ، فكان ابن عباس يجابهه بما يحط من قيمته . روي أنه ذكر الظلم في مجلس ابن عباس ، فقال كعب : إني لا أجد في كتاب الله المنزل ( يريد التوراة ) أن الظلم يخرب الديار ، فقال ابن عباس : أنا أوجدكه في القرآن ، قال الله عزوجل : ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 10 .
هذه حقيقة موقف ابن عباس من اليهود كما ترى ، و هو إذ كان يدعو إلى تجنب الرجوع إلى أهل الكتاب ، لما يدخل بسبب ذلك من فساد على العقول و تشويه على العامة ، فكيف يا تُرى أنه اكن يرجع إليهم رغم نهيه و تحذيره ! و هل لا طرق سمعه ، و هو الحافظ لكلام الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ 11 ، فحاشا ابن عباس أن يُراجع أهل الكتاب ، و حاشاه حاشاه !! 12