الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا

أصحاب الرسالات الحية لا يموتون

قال لي رجل رآني أعدّ حديثاً لمثل هذه الذكرى : أذكرى مولد بعد موت وليده بعديد من القرون ؟!
فابتسمت لمحدثي ثم قلت : لقد التويت يا صاحبي في وجه القياس ؛ إن أصحاب الرسالات الحيّة لا يموتون . وكيف ينالهم موتٌ وعلى مبادئهم تقوم دعائم الحياة ؟؟
لم يمت علي ( عليه السلام ) ما دام مبدؤه يعمر مئات الملايين من نفوس المسلمين ، ولم يمت محمد ( صلى الله عليه و آله ) ما دامت حياته مصدراً يشعّ الحياة للخمس من هذه البشرية ، تنبض بها قلوبهم ، وتتدفّق بها دماؤهم ، و تحيا وتتنفس بها أرواحهم ، وتتكيّف وتنبعث بتوجيهها أشواقهم وأعمالهم .
لم يمت محمد ولم يمت علي ما داما قِبلة للبشرية ، تتجه إليها في كل سلوك حقّ ، وفي كل خُلُق سام ، وفي كل عقيدة صواب ، وفي كل تشريع حكيم ، وما داما قِبلة للبشرية كلها ، نعم ، كلها . . من عرف محمداً وعلياً من أبنائها ومن جهلهما .
أليس كل بشري يتجه بطبيعته وجهة الحق والخير والجمل ؟
أو ليست هذه المعاني هي ذات محمد أو ذات علي حين تتجسد في شخص ؟!
أو ليست هذه المعاني هي مبدأ محمد وعلي حين تتمثل في مبدأ ؟
نعم يا صاحبي ، وستدرك البشرية رشدها يوم تعي هذه الحقيقة ، فتسير كلها في ركابهما ، و تحيا بحياتهما و تتفيأ ظلالهما .

العلم و العقل مؤمنان لا محالة

ستدرك البشرية رشدها ، وستنال هداها يومها ذاك وما هو منها ببعيد .
لقد سار الركب مع العلم وسار مع العقل ، والعلم والعقل مؤمنان لا محالة وان طال بهما الطريق . وأقول : هما مؤمنان لا محالة ، وأريد بذلك إيمانهما العلني الصريح . فانّ العلم والعقل لم يزالا مؤمنين منذ يومهما الأول ، ولن يزالا مؤمنين كذلك حتى يومهما الأخير . .
لقد سار الركب مع العلم ، وسار العلم مع التجربة ومع المشاهدة ، ومع الملاحظة الدقيقة العميقة ، ولم تبق إلا لفتة واحدة يدرك بها حقيقة الحقائق ، ونتيجة النتائج .
أجل ، لقد سار العلم ، وتقدّمت تجاربه ، ومُنحت فقال البسطاء من الناس : لقد تباعد العلم والدين ، وقال الحقائق : لقد تقاربا جداً ، وسيلتقيان ، وسيعلن الواقع كلمته الحاسمة في يوم جدّ قريب .
أما قولة الله في ذلك فقد أنزلها قبل ألف و مئات من السنين :
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ 1.
ما أروع الذكرى تقام في الأفئدة .
ما أروع الذكرى تقام في الأفئدة قبل أن تقام في الأندية ، وتعقد مجالسها للقدوة قبل أن تُعقد للثناء .
ذكرى الإسلام بذكرى بطله الثاني ، و إذا عرفنا الإسلام ما هو فقد عرفنا من هو بطله وما هي ذكراه .
ما أروع الذكرى تقام في ضمير كل فرد مسلم ليعرف قيمته في هذا الدين ، ويعرف حدوده في المجتمع المسلم ، ويعرف واجباته التي ترتفع له بتلك القيمة وتصون له تلك الحدود .
وتقام في حفل الجماعة لتعرف الرباط الذي يجعل منها وحدة لن تفلّ ، والمدد الذي يكون لها قوة لن تذل .
لتعرف الإسلام ، وإذا عرفت الإسلام فقد عرفت وجودها وحياتها وقوتها وحضارتها ، وأمجادها الماضية ، وذخيرتها الباقية ، و مدارج رقيّها في الحياة ، ومراقي سعادتها فيما بعد الحياة . . إذا عرفت الإسلام فقد عرفت عن ذلك كل شيء . .
إن هذا الرباط المقدّس الذي يشدّ المسلم إلى كُبراء الدعوة في الإسلام ، ثم إلى كل فردٍ من حَمَلة العقيدة وأتباع الهدى . . هذا الولاء الوثيق العميق الذي يخفق به القلب المسلم حين تعنّ له هذه الذكرى ، هو الذي يعرّف المسلم قيمته ويوضّح له حدوده ، ويعيّن له واجباته . ما أروع الذكرى تعقد للاقتباس من العلم ، وللاقتداء في العمل ، أجل لقد تعالى علي ( عليه السلام ) وتمجدت ذكراه عن أن تكون لفظاً يزوّق ، وحديثاً ينسّق ، ثم لا يمكث له أثر ولا ظل عدى ما يعقب الأدب من هزة في الروح ، وما يترك الحديث من متعة في النفس .
قيمة المسلم في سوق الحقائق .
يقول علي ( عليه السلام ) وليد الكعبة ، وربيّ محمد ( صلى الله عليه و آله ) وسمير القرآن ، ونصير الإسلام ، يقول المسلم الأول ليعرّف المسلم الصحيح قيمته في سوق الحقائق :
( لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً ) .
هذه الدنيا كلها بما فيها من عرض ومتاع ، ومِن نامٍ وجامدٍ ، ومن خزائن ودفائن ، لن تتطاول لأن تكون ثمناً لنفس هذا الكائن إذا هو اعتقد الحق ، و راض نفسه به ، ووقفها عند حدوده ، وسار بها على نهجه ، فإن هو رضي بالدنيا عن نفسه ثمناً فقد اتّجر بئس المتجر ، كذا يقول سيد نقدة الحقائق .
أجل ، إنما تكون له هذه القيمة إذا هو اعتقد الحق ، ووقف عند حدوده ، وما هذا الكائن لولا هذا السر . . لو لا هذه الروح ؟ .
حثوة من تراب هذه الأرض لا تختلف عن سائر ترابها في عنصر ، وخفته من ذرّات هذا الفضاء لا تفضل باقي ذراته في جزيئات ولا تركيب . . ولكنه السرّ ، ولكنه الروح ، ولكنّه المعنى الذي يرتفع بالجوهر فيعليه عن الحصى ، والمعدن فيه هو المعدن ، والعنصر هو العنصر .
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 2.
إجمع ما في هذا الكون الرحيب من معنى للعدل ، ومن مسمّى للصدق ومن مدلول للرحمة ، ومن مفهوم للإخلاص ، ومن حدِّ للعزة والكرامة ، ومن مغزى للشجاعة والبطولة ، ومن رسم لكل صغة رضيّة وسَمْتٍ كريم .
إجمع كل هذه المعاني العظيمة النبيلة في إطار ، ثم اطو كل هذه المفاهيم في مفهوم ، فإنك لن ترى لفظاً يحكيه ـ أصدق الحكاية ـ غير لفظ ( الإسلام ) ، ولن تلقي مظهراً يطابقه ـ أتم المطابقة ـ غير ( الفرد المسلم ) ولن تجد قلباً تنطبع فيه كل هذه الحالات ، وترسم فيه كل هذه الظلال غير ( القلب المسلم ) .
أفتطمع الدنيا ـ إذن ـ أن تكون لنفسه ثمناً ؟
وما ذا في الدنيا بعد هذا الاستثناء من غناء ؟
هذا هو المسلم الحق وهذه حدوده وغاياته في كلمة قصيرة من كلمات المسلم الأول .
وهذا هو الإسلام بروحه و معناه ، وبمجمله الذي يغني عن التفصيل . . لفظ يجمع كل فضيلة ، وطبّ يُصلح كل دخيلة . .
أما بعد هذا وذاك فاطمح ببصرك جيداً . . إلى فوق . . إلى القمة من هذا البناء الشامخ الرفيع . .
إلى البطولة التي تضمّ البطولات . . والعبقريّة التي تضمّ العبقريّات . .
إلى الإسلام في صورته الصادقة الناطقة . .
فإنك سترى محمداً ( صلى الله عليه و آله ) يتلو قرآنه . . و علياً ( عليه السلام ) يلقي نهج بلاغته 3 .