الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نماذج من انحرافات الأمم السابقة في القرآن الحكيم

ذكر القرآن الكريم مرارا وتكرارا قصص الأنبياء والرسل السابقين لعلم الله تعالى بما سيجري في هذه الأمة كما جرى في الأمم السالفة وأكد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ذلك بحديثه الصحيح « لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : فمن! ».
وعندما تتجول عزيزي القارئ في ربوع الآيات الكريمة وهي تقص عليك قصص السالفين ستجدها تتحدث في إطارين رئيسيين :
الاطار الأول : ـ تثبيت أن سنة الصراع بين الحق والباطل مستمرة ما دامت السماوات والأرض. ومما لا يخفى على الجميع خصوصا أولئك الذين استناروا ببصائر الوحي من القرآن الحكيم أن هنالك حقا وباطلا فلا يوجد حق نسبي ولا باطل نسبي .. إما حق أو باطل وما بينهما مساحة للباطل ﴿ ... فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ 1 خصوصا وأن الصراعات التي تدور تكون بعد تبيين الحق ، وكما سنرى فإن القرآن بدقته وبلاغته يبين لنا هذه الحقائق. وإليك بعض الآيات الواردة في هذا الشأن :
﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ 2 .

تتحدث الآية الكريمة عن عدة أمور :

1ـ عن الرسل والرسالات عموما :

إن كلمة رسول ورسل عندما تأتي في سياق الآيات المباركة غالبا ما يدور حديثها حول أمر يرتبط بالرسالة ، والاقتتال الذي يحدث بعد الرسل بين قومهم إنما هو انقلاب على الرسالة ، وظلال كلمة الرسول في مثل هذه الآية توحي بأن ظاهر الاختلاف ليس حول شخص الرسول إنما في رسالته يقول تعالى ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ... 3 وبما أن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله و سلم يدخل ضمن دائرة الرسل فإن الآية التي يدور الحديث حولها تشمل سيدنا محمدا صلى الله عليه و آله و سلم. خاصة وأن الآية السابقة تؤكد على صفة الرسالية وأنه صلى الله عليه و آله و سلم مرسل كما كان غيره مرسلين ﴿ ... وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ 4 ويقول تعالى حاكيا عن لسان حبيبه محمد صلى الله عليه و آله و سلم ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ... 5 وبتقريب أكثر فإن السنن التي كانت في السابقين لن تتوقف عند أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم.
2 ـ وعن التفضيل بين الرسل حتى لا يدعي مدع بأن الأفضلية لها دور في حماية الناس من الاختلاف بعد أفضل الأنبياء والمرسلين ، وكثيرا ما أسمع من البعض أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم خاتم الأنبياء وأفضلهم فكيف تختلف أمته من بعده.
صحيح أن نبينا الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم هو أفضل الأنبياء وأكملهم ولكن ذلك لا يجعل أمته خارج دائرة السنن الإلهية وهذا ما أكد عليه القرآن يقول تعالى ﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ 6 ويقول ﴿ ... فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا 7.
إن حدوث الاختلاف من بعده لا يقدح في أفضليته ، إنه كغيره من الرسل الذين جاؤوا لأقوامهم حتى يخرجوهم من الظلمات إلى النور ولكن كل قوم كذبوا رسولهم وانقلبوا على رسالته من بعده وهو صلى الله عليه و آله و سلم ليس بدعا من الرسل كما أوضحنا بل إن نبينا صلى الله عليه و آله و سلم ، أوذي أكثر من غيره كما جاء عنه صلى الله عليه و آله و سلم ، فلماذا لا يكون الاختلاف من بعده أكبر وأخطر من الاختلاف الذي كان في أقوام الرسل السابقين.
يقول ابن كثير (وقال هاهنا تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله) يعني موسى (ع) ومحمد صلى الله عليه و آله و سلم 8 وبناء على قوله هذا يكون الاختلاف بعد الرسل يشمل أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم.
من خلال الآية الكريمة نرى أن الاختلاف دائما ما يكون بعد أن تأتيهم البينات ويعرفوا الحق ويتبينوا الأمر بواسطة الرسول ، ومعنى ذلك أنه لا يجدي التمسك بشماعة التبرير المعروفة باسم « الاجتهاد ». والواقع العملي في أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم يرينا أن الاختلاف وقع فيها كالأمم السابقة وبعد أن بين لهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم معالم الصراط المستقيم ونصحهم وهو القائل « ما منشيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وأمرتكم به ». يقول سيد قطب في تفسير الآية (ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم ووحدة الرسالة التي جاؤوا بها كلهم لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف أتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف) 9.
3 ـ وأن نتيجة هذا الاختلاف أن فريقا تمسك بالحق فآمن وآخر كفر ، وذلك يعني أنهم ليسوا في مرتبة واحدة أو أنهم جميعا على الحق.

لكن لماذا يكون الاختلاف بعد البينات؟ هذا ما تكفلت بالإجابة عليه مجموعة من الآيات التي تكررت في القرآن الكريم ليؤكد الله سبحانه وتعالى استمرار السنن في الأرض ويبين طبيعة الإنسان الظلمانية التي تنجذب دائما لرغباته وأهوائه وجهله ..
يقول تعالى : ﴿ ... وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ... 10 ، ﴿ ... وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ... 11 ، ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ... 12 ، ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ... 13.
نجد أن الآيات القرآنية تربط دائما بين الاختلاف والبغي ، و (معناه) في اللغة كما جاء في لسان العرب لابن منظور : التعدي ، وبغى الرجل علينا بغيا : عدل عن الحق واستطال ومعان أخرى تدل على سوء النية وهي كما لا يخفى مغايرة لمعنى الاجتهاد الذي أصبح صكا يعصم كل المنحرفين عن المسألة والمحاسبة.

4 ـ كما نجد في هذه الآيات :
أن الاختلاف يكون بين الذين أوتوا الكتاب أي أنهم عالمون بالحق ويدركون جهته ولكنه البغي فتأمل أيها المؤمن وتدبر ، تلك آيات الله ﴿ ... وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 11.
الاطار الثاني : كثيرا ما يضع الفرد منا مباني يبني عليها طريقة تفكيره وتقييمه للأحداث وفي الغالب يكون نقاشنا لأي قضية من زاوية عاطفية أو بمنطق موروث مقدس لا يعطي للآخرين فرصة للحوار والنقاش ، ومثال ذلك الحديث الذي يدور حول الصحابة الذين عاشوا مع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وبقوا حتى وفاته وامتدت أعمار بعضهم إلى أمد طويل هل يمكن وضعهم في ميزان العدالة لتصنيفهم أم أنه لا يجوز لنا ذلك باعتبارهم عاشوا مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأخذوا منه الدين ولا يمكن نقدهم؟! لا أريد مناقشة نظرية عدالة الصحابة عند أهل السنة والجماعة الآن إنما ذلك متروك للأبواب الآتية التي سنناقش فيها ما حدث منهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أما الآن فنحن بصدد أخذ بصائر من القرآن الكريم تفيدنا في بحثنا هذا ونستدل بقصتين تفصيليتين من الأمم السابقة ذكرتا في القرآن ثم نحاول أن نتدبر فيهما لنخرج بقاعدة كلية تعيننا في مسيرتنا هذه.
القصة الأولى: قصة بلعم بن باعوراء مع نبيه موسى (ع)
القصة الثانية: قصة السامري وهارون مع بني إسرائيل
وفي ختام هذا الفصل (أعرض عليك عزيزي القارئ سببين رئيسيين يذكرهما القرآن لأنهما يمنعان الإنسان من الاهتداء إلى الحق ، أو الالتزام به بعد معرفته ، وهذان السببان يعترضان أي إنسان في أي مكان وأي زمان.
أولاً :
تقديس ما توارثناه عن آبائنا وأجدادنا وهي مشكلة كبيرة ذمها القرآن باعتبارها عائقا وحائط صد منيع يجب تجاوزه خصوصا في مسألة الاعتقاد والتي نسأل عنها باعتبارها تكليفا عينيا بعيدا عن الانتماءات الأسرية والاجتماعية وغيرها ...
يقول تعالى : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ 14.
﴿ وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 15.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ 16.
وغيرها من الآيات التي تتحدث حول هذا الموضوع.
ثانياً :
الاستكبار بعد معرفة الصواب وهذه المشكلة كانت السبب الرئيسي في عدم اتباع الأمم لرسلهم وهي التي أخرجت إبليس من رحمة الله تعالى ...
يقول تعالى :
﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 17.
﴿ ... أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ 18.
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ 19.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴾ 20.
هذه بعض العوائق التي تقف حائلا بيننا وبين معرفة الحق واتباعه ... والبحث الآتي بين طيات هذا الكتاب يحتاج لإزاحة مثل هذه الحجب وغيرها حتى يرى الإنسان الحقيقة كرؤيته للشمس في واضحة النهار والله المستعان  21.