الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تعدد زوجات النبي

نص الشبهة: 

هناك مسألة أُخرى ناسَب التعّرض لها ، فيما رَخَّص النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) لنفسه اختيار تعدّد الزوجات فَوق الأربع ، الأمر الذي لم يُرخِّصه لأُمّته ، وقد أُثير حولها عَجاجٌ عارِمٌ ؛ مُحاوَلَةً للنَيل مِن قَداسة مَقامهِ الكريم ، لقد قام المُستشرِقون وقعدوا وصاحوا صيحاتِهم قصداً إلى تشويه سُمعة صاحب الرسالة ليُصوِّروه رجلَ شَهوة مُنهمِكاً في غرامه للنساء انهماك المُلوك المُترفين ، وقد حاكوا أقاصيص حول تزويج النبيّ بعدّة زوجات ـ بعد تَجاوزه العقد الخامس مِن عُمُره الكريم ، السنّ التي تَفتر بعدها رغبةُ الرجال في النساء ـ وجعل يُكرِّرها ويردِّدها ( موْيِرْ ) و ( إرْفِنْجْ ) و( سْبِرِنَجَز ) و ( فَيْلْ ) و ( دِرْمِنْجِمْ ) و ( لاَمَنْسْ ) (راجع : حياة لمُحمّد حسين هيكل : ص293 .) وغيرهم ممّن ، تناولوا كتابةَ حياة مُحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) لكنّها شهوة التبشير المكشوف تارةً ، والتبشير باسم العِلم أُخرى . والخُصومة القديمة للإسلام خُصومة تأصّلت في النفوس منذ الحروب الصليبيّة التي تُملي على هؤلاء جميعاً ما يكتبون ويُسطّرون ، وتَجعلهم في أمر زواج النبي ( صلّى اللّه عليه وآله ) فيمَن تزوّج ، يتجنّون على التأريخ ويحاولون قلب الحقيقة مِن واقعها الناصع النزيه إلى ظاهرةٍ مُشوّهة كريهة .

الجواب: 

أمّا الحقيقة فهي تَشهد بوضوح أنّ مُحمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله ) لم يكن رجلاً يَأخذ بعقلِهِ الهوى ، وهو لم يتزوّج مَن تزوّج مِن نسائه بدافع مِن شهوةٍ فائضة أو غرامٍ عارم ، وإذا كان بعض الكُتّاب المسلمين في بعض العصور قد أباحوا لأنفسهم أنْ يقولوا هذا القول وأنْ يُقدّموا لخُصوم الإسلام ـ عن حسن نيّة ـ هذه الحُجّة فذلك ؛ لأنّهم انحدر بهم التقليد إلى المادّية ، فأرادوا أنْ يُصوّروا مُحمّداً عظيماً في كلّ شيء ، عظيماً حتّى في شهوات الدنيا ، وهذا تَصوّر خاطئ يُنكره تأريخ حياته الكريمة أشدّ إنكار ، وتأبى مشيتُه النزيهة ـ التي عاشها في ذلك الجوّ الحالك ـ أنْ تُقرّه وتَشهد به .
فهو قد تزوّج مِن خديجة ـ وهي أكبر منه بسنين ـ وهو في الثالثة والعشرين مِن عُمُره ، وهو في شَرخِ الصِّبا ورَيعان الفُتوَّة ووَسَامة الطَّلعة وجَمال القَسَمات وكمال الرجوليّة ، مع ذلك ظلّت خديجة وحدَها ثمانياً وعشرين عاماً حتّى تخطّى الخمسين ، هذا على حين كان تعدّد الزوجات أمراً شائعاً بين العرب ذلك الحين ، وعلى حين كان لمُحمّدٍ مَندوحة في التزويج على خديجة ؛ أنْ لم يَعِشْ لَه منها ذَكر ، في وقتٍ كانت تُوأَدُ فيه البنات وقد ظلّ مُحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) مع خديجة ( عليها السلام ) سبع عشرة قبل بعثته وإحدى عشرة سنة بعدها ، وهو لا يُفكِّر قطّ في أنْ يُشرك معها غيرَها في فراشه ، كما لم يُعرف عنه في حياة خديجة ولم يُعرف عنه زواجه منها أنّه كان ممّن تُغريهم مَفاتِن النساء في وقتٍ لم يكن فيه على النساء حجاب ، وكانت النساء مُتبرّجات ، يُبدِينَ مِن زينتَهُنّ ما حرّمهُ الإسلام مِن بعدُ .
فمن غير الطبيعي أنْ نراه ـ وقد تخطّى الخمسين ـ يَنقلب فجأةً هذا الانقلاب الذي يَجعله ما يكاد يَرى بنت جحش وعنده نساء خمس حتّى يُفْتَن بها وتَأخذ تفكيرَه ليله ونهاره حسبَما سطّروه .
ومِن غير الطبيعي أنْ نراه ـ وقد تخطّى الخمسين ـ يَجمع في خمس سنوات أكثر مِن سبع زوجات ، وفي سبع سنوات تسع زوجات ، وذلك كلّه بدافع مِن الشهوة المُلِحّة والرغبة العارمة في النساء ـ والعياذ باللّه ـ رَغبةً صوّرها بعض الكُتّاب المسلمين وحذا الافرنج حذوهم تصويراً لا يَليق في ضِعته برجل مادّي ، بل هو الرجل العظيم الذي استطاعت رسالتُه أنْ تَنقل العالم ، وأنْ تُغيّر مجرى التأريخ وما تزال على استعداد لأنْ تَنقل العالم مرّةً أُخرى وتغيّر مجرى التاريخ طوراً جديداً ، وهو على وَشَك التحقّق ونحن على طلائعه بحوله تعالى وقوّته إنْ شاء اللّه .
وإذا كان هذا عجيباً وكان غير طبيعي فمن العجيب كذلك أنْ نرى مُحمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله ) تَلِد له خديجة ما وَلَدت وهو ما قبل الخمسين ، وأنّ مارية تَلِد له إبراهيم وهو حوالي الستّين ، ثُمّ لا تَلِد له نساؤه غير هاتَينِ ، وهُنّ بين شابّة في مُقتَبل العُمر وبين مَن كَمُلت أُنوثتها بين الثلاثين والأربعين وبعضهنّ كُنّ ذوات وِلد مِن قبل ، فكيف تُفسّر هذه الظاهرة الغريبة في حياة النبيّ ؟ هذه الظاهرة التي لا تَخضع للقوانين الطبيعيّة في تسع نِسوة جميعاً ! هذا وقد كان مُحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) قد كانت نفسه كإنسان تَهفو مِن غير رَيب إلى أنْ يكون له وَلَد !
ثُمّ إنّ التأريخ ومَنطق حوادثِه أصدق شاهد يُكذّب مَزعومة المُبشّرين والمُستشرقين في شأن تعدّد زواج النبيّ ، فهو لم يُشرك مع خديجة امرأةً مَدى ثمان و عشرين عاماً عاش معها ، فلمّا تُوفّيت لسنتين قبل الهجرة تزوّج سَوْدَة بنت زَمْعَة وكانت قد تُوفّي عنها زوجها بعد الرجوع مِن هجرة الحَبشة الثانية ، ولمْ يروِ راوٍ أنّها كانت ذات جمال أو ثَروة أو مَكانة بما يَجعل لمَطمع الدنيا أثراً في هذا الزواج ، وإنّما كان زوجها مِن الرجال السابقين الأوّلين الذين احتملوا الأذى في سبيل الإسلام ، وكان ممّن هاجر إلى الحَبشة بأمر النبيّ عِبر البحر إليها ، وكانت سَوْدَة هاجرت معه وعانت مِن المَشاقّ ما عانى ولَقيَتْ مِن الأذى ما لقيَ .
فإذن تَزوّجها النبيّ بعد ذلك ؛ ليَعولها وليَرتفع بمَكانتها إلى أُمومة المؤمنين ، وكان زواجه مع عائشة بعد شهر وهي لم تَبلغ مَبلغ النساء 1 ، وبَقيت سنتين قَبل أنْ يبنيَ بها ، فليس مِن العقل أو يَرضاه المنطق أنْ يكون قد عَلِق قلبُه بها وهي في هذه السنّ الصغيرة .
قال الأُستاذ هيكل 2 : يُؤيّد ذلك زواجه مع حفصة بنت عمر ـ بعد وفاة زوجها خنيس ببدر ـ في غير حُبّ ، بشهادة أبيها عمر ، قال لها ، عندما آذت هي وعائشة رسول اللّه : واللّه لقد علمتِ أنّ رسول اللّه لا يُحبّكِ : ولولا أنا لطَلّقكِ 3 .
قال : أفرأيتَ إذن أنّ مُحمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله ) لم يتزوّج مِن عائشة ولم يتزوّج مِن حفصة لحبٍّ أو لرغبة ؛ وإنّما تزوّج منهما لِتُمَتِّنّ أواصر هذه الجماعة الإسلاميّة الناشئة ، كما تزوّج مِن سَوْدَة ؛ ليَعلم المجاهدون مِن المسلمين أنّهم إذا استشهدوا في سبيل اللّه فلن يَتركوا وراءهم نِسوةً وذرّية ضِعافاً يخافون عليهم عَيْلةً ، وهكذا في زواجه مِن زينب بنت خُزيمة ومِن أُمّ سلمة .
فقد كانت زينب زوجاً لعبيدة بن الحارث الذي اُستشهد يوم بدر ولم تكن ذات جَمالٍ ، وإنّما عُرفت بطيبتها وإحسانها حتّى لقّبت أُمّ المساكين ، وكانت قد تَخطّت الشباب ، فلم تكُ إلاّ سنة أو سنتين ثُمّ قَبَضَها اللّه ، أمّا أُمّ سَلَمة فكانت زوجاً لأبي سَلَمة وكان لها منه أبناء عدّة ، فلمّا تُوفّي زوجُها على أثر جِراحة أصابته في اُحد فنَغِرت عليه ، وَلحِقِ بجوار ربّه ، وبعد أربعة أشهر وعشرٍ من وفاته طلب النبيّ إلى أُمّ سَلَمة يدها فاعتذرت بكَثرة العيال وبأنّها تخطّت الشباب ، فما زال بها حتّى تزوّج منها وحتّى أخذ نفسَه بالعناية لها وتنشِئة أولادها .
أَفيَزعم المُبشّرون والمُستشرقون بعد ذلك أنّ أُمّ سَلَمة كانت ذات جمال وهو الذي دعا مُحمّداً إلى التزوّج منها ؟! إن يكن ذلك فقد كانت غيرها مِن بنات المهاجرين والأنصار مَن تفوقها جمالاً وشباباً وثروةً ونضرة ، ومَن لا يُبهِظُه عبء عيالها ؛ لكنّه إنّما تزوّج منها لهذا الاعتبار السامي الذي دعاه ليتزوّج زينب بنت خزيمة 4 نظير الذي دعاه للتزوّج من حفصة بنت عمر حسبما عرفت .
ماذا يَستنبط المُمَحِص التأريخي النزيه من ذلك ؟ يستنبط أنّ محمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله ) نَصح بالزوجة الواحدة في الحياة العادية ، وقد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضَرَبه في حياته الزوجيّة مع خديجة ، وبه نزل القرآن الكريم ﴿ ... فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ... 5، ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ... 6، ولقد نزلت هذه الآيات في أُخريات السَّنة الثامنة للهجرة بعد أنْ كان قد بنى بأزواجه جميعاً ، ونزلت لتُحدّد عدد الزوجات بأربع وقد كان إلى حين نزولها لا حدّ له ، ممّا يَسقط قول القائلين : إنّ محمّداً أباح لنفسه ما حرّم على الناس !
على أنّه رأى في ظروف حياة الجماعة الاستثنائيّة إمكان الحاجة للتعدّد إلى أربع على شرط العّدل ، وهو قد دعا إلى ذلك بمثله الذي ضرب أيّام غزوات المسلمين واستشهاد مَن استشهد منهم .
ولعمرك هل تستطيع أن تقطع بأنّ الاقتصار على الزوجة الواحدة حين تحصد الحروب أو الأوبئة أو الثورات أُلوف الرجال وملايينها ، خير من هذا التعدّد الذي أُبيح على طريق الاستثناء ؟ 7 .

أمّا قّصة زينب بنت جحش ـ وما أضفى بعض الرواة وأضفى المُستشرقون والمبشِّرون عليها من أستار الخيال حتّى جعلوها قصّة غرامٍ وَوَلَه ـ . فالتأريخ الصحيح يحكم بأنّها مِن مفاخر نبيّ الإسلام ومواقفه الحاسمة في مكافحة رسوم جاهليّة بائدة ، وأنّه ـ وهو المَثَل الأعلى للإيمان ـ قد طبّق فيها حديثه الذي معناه : لا يَكمل إيمان المرء حتّى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه ، وقد جعل نفسه أَوّل مَن يَضرب المثل ؛ لِما يَضع من تشريع يمحو به تقاليد الجاهليّة وعاداتها ، ويقرّ به النظام الجديد الذي أنزله اللّه هدىً ورحمةً للعالمين .
ويكفي لهدم كلّ القصّة ـ حسبَما سطّروها ـ أنْ تعلم أنّ زينب بنت جحش هذه هي ابنة أُمَّيمة بنت عبد المطّلب عمّة رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) وأنّها تربَّت بعينه وعنايته ، وكان يَعرفها ويَعرف أهي ذات محاسن أم لا قبل أنْ تتزّوج بزيد ، وأنّه هو الذي خَطَبها على زيد مولاه ، وكان أخوها يأبى مِن أنْ تتزوّج قرشيّة هاشميّة مِن عبدٍ رقٍّ اشترته خديجة وأعتقته لرسول اللّه ، فكان يرى في ذلك عاراً على زينب أُخته ، كما هو عارٌ عند العرب .
لكنّ النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) يريد أن تَزول مثل هذه الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبيّة الجاهليّة ، وأنْ لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاّ بالتقوى ، وهو يرى أنْ يُضحِّي مِن قبيله في كسر شوكةٍ جاهليّة ، فلتكن زينب بنت عمّته ـ وهي امرأة صالحة مُطيعة لربّها خاضعة لصالح الإسلام ـ هي التي تَحتمل هذا الخروج على تقاليد العرب وهذا الهدم لعاداتها الجاهلة ، مُضحّية في ذلك بما يقول الناس عنها ممّا تخشى سماعه .
فاستسلمت هي لمّا فاتَحَها الرسول بشأنِ مُكافَحةٍ عمليّةٍ ، ابتغاءَ مرضاة اللّه ، وفي ذلك نزلت الآية : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ 8، لم يبقَ أمام عبد اللّه وأُخته زينب بعد نزول هذه الآية إلاّ الإذعان والاستسلام ، فقالا : رَضِينا يا رسول اللّه ، فلمّا سارت زينب إلى زوجها لم يَتلاءم خُلُقها مع زيد ؛ ولعلّه لأسبابٍ ترجع إلى أعرافٍ شبّ عليها كلّ منهما وعادات ورِثاها من أصل نشأتهما . وربّما كانت تَفخر عليه أو تَحتقره حسب فطرتها ، فلم يكن زيد يتحمّلها ، واشتكى إلى النبيّ غير مرّة من سوء معاملتها إيّاه واستأذنه غير مرّة في تطليقها ، فكان النبيّ يُجيبه : ﴿ ... أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ... 9، ولعلّه أيضاً كان يُسيء إليها في معاشرته معها غير المُتناسبة لشأنها ، الأمر الذي يُسيء إليه الأمر بتقوى اللّه ، لكنّ زيداً لم يُطق الصبر معها ، حيث بَعُدت الشُقّة بين خُلقهما ، فطلّقها .
وكان النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) وأنّ وراءها حكمة أُخرى يَجب تنفيذها لإبطال عادة جاهليّة أُخرى كان عليها العرب ، كانوا يُدينون بشأن الأدعياء أنّ لهم اتّصالاً بالأنساب مِن إعطائهم جميع حقوق الأبناء ، وإجراء أحكامهم عليهم حتّى في الميراث ، وحرمة النسب ، أمّا الإسلام فلم يكن يَرى للمتبنّي واللصيق سِوى حقّ المولى والأخ في الدِّين لا أكثر ﴿ ... وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ 10﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ... 11.

فهنا يأتي دور إبطال هذه العادة الجاهليّة إبطالاً عمليّاً ، والمُترشِّح لهذه التَفدية أو التضحية هو نفس النبيّ الكريم عليه وعلى آله أفضل صلوات المُصلّين ؛ إذ لم يكن من العرب مَن يستطيع أن يقوم بهذه التضحية وينقض بها تقاليد الأجيال السالفة ! سِوى مُحمّدٍ نفسه ، الذي كان على قوّةِ عزيمةٍ وعميقِ إدراكٍ لحكمة اللّه .
هذا ما كان النبيّ يَعرِفُه بقوّةِ فطنته ، وأنْ سَيؤول إلى ذلك ، ولكن كان كلّما يُراجعه زيد بشأن تطليق زينب يُوصيه بالإمساك بزوجه ، وهو يدري في قرارة نفسه أنّه يُطلّقها لا محالة ، وأنْ سوف يُؤمر بالتزوّج منها ، وكان يُخفي ذلك في نفسه وما كان يُبديه ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ... 9 أي سوف يَبدو أنّ وراء هذه التطليقة حِكمة أُخرى يجب إجراؤها ﴿ ... وَتَخْشَى النَّاسَ ... 9، في إبداء ما يكنّه صدرك مِن معرفة حِكمة اللّه ، ﴿ ... وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا 9والآيات التالية لها تُوضّح مِن هذه الحِكمة أكثر توضيحاً :
﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 12.

ونُلفِت النظر هنا نُكتتان

الأُولى : أنّ الذي كان يُخفيه النبيّ في نفسه وأبداه اللّه ، كان عِلمُه ( صلّى اللّه عليه وآله ) بمآل الأمر ـ وأنّ هذا الزواج سينتهي إلى الفِراق ـ تمهيداً لتحقيق حِكمة أُخرى دبّرها اللّه تعالى في تحكيم شريعته في الأرض .
والنكتة الثانية : كانت خشيتُه ( صلّى اللّه عليه وآله ) هي خوف أنْ تثور ثائرة الجاهليّة الأُولى ، فلا تتحمّل العرب نقض عاداتها الموروثة واحدةً تلو أُخرى ، وكانت ضربةً قاضيةً على عاداتها التي جرت عليها آباؤهم الأَوّلون ؛ ومِن ثَمَّ طمأَنه تعالى ووعده بظهور دينه وهيمنته على كلّ طريقة أو عادة تكاد تُعرقل سبيله إلى شريعة اللّه﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ 13 14 ، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ 15 ، ﴿ ... وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ 16،  ﴿ ... يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... 1718 .