ما المقصود بعلم الغيب ؟

لكي تكون إجابتنا على هذا السؤال إجابة دقيقة لا بُدَّ و أن نتعرَّف على المعنى اللغوي و الإصطلاحي للغيب أولاً ثم نُتابع دراستنا لموضوع الغيب من زوايا مختلفة .

الغيب في اللغة

يجد الباحثُ لدى مراجعته لكتب اللغة أن الغَيْبَ يُطْلَقُ على كُلِّ ما غاب عن الحواس و كان مستوراً و محجوباً عنها .

و إنما تُسَمَّى الغَابَةُ غابةً لأنها تُغَيِّبُ ما فيها و تَسْتُرُها عن الأنظار لكثافة أشجارها .
قال الخليل الفراهيدي : و كل شي‏ء غَيَّبَ عنك شيئاً فهو غَيَابَة .
و قال أيضاً : و أغابت المرأة فهي مغيبة ، إذا غاب زوجها 1 .
أما إبن منظور فقد قال : الغَيْبُ : كلُّ ما غاب عنك .
و قال أيضاً نقلاً عن شمر : و يُقال : سمعتُ صوتاً من وراءِ الغَيْب ، أَي من موضع لا أَراه 2 .
و قال الطُريحيُ : قوله تعالى : ﴿ قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ 3 ـ بفتح الغين ـ أي في قَعره ، سُمِّيَ به لغيبوبته عن أعين الناظرين ، و كل شي‏ء غَيَّبَ عنك شيئاً فهو غَيَابَة 4 .

تعريفنا للغيب

و بعد الإطلاع على آراء اللغويين من خلال مراجعة مجموع كلماتهم المختلفة التي ذكروها في كتبهم و قواميسهم حول الغيب يمكننا صياغة تعريف أدق للغيب كالتالي :
الغَيْبُ : ما غَابَ عن الحواس و خَفي عليها .
فما غاب عن حواسنا و خرج عن دائرتها و حدودها فهو غيب بالنسبة إلينا .

الغيب في المصطلح القرآني

أما الغيبُ في المصطلح القرآني فهو ضِد الشهود و الحضور ، و قد تكرر إستعمال لفظ " الغيب " و بعض مشتقاته في القرآن الكريم أربعاً و خمسين مرة بالمعنى المذكور ، و من تلك الآيات :
1. قال الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ ... عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 5 .
2. قال تعالى : ﴿ ... ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 6 .
3. قال جَلَّ و عَلا : ﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 7 .

اقسام الغيب

ينقسم الغَيبُ إلى قسمين :
الغيب المطلق : و هو الغيب الذي يستحيل الإطلاع عليه بواسطة الحواس أبداً ، و يمتنع إدراكه بالآلات و الأدوات المادية كذات الله سبحانه و تعالى و صفاته و غيرهما .
الغيب النسبي : و هو الغيب الذي يتفاوت إمكان الإطلاع عليه بحسب الظروف و الأفراد و الأزمان ، فقد يكون غيباً بالنسبة لإنسان و لا يكون كذلك لإنسان آخر ، أو يكون غيباً في زمان دون زمان ، و لا يستحيل الإطلاع على هذا القسم من الغيب إذا توفرت الأسباب و الأدوات اللازمة لذلك فيصبح محسوساً بعد أن كان غيباً .
و من أمثلة ذلك أن أذن الإنسان غير قادرة على إلتقاط الأصوات التي تقل عدد ذبذباتها ( اهتزازاتها ) عن 20 اهتزازة في الثانية ( دون سمعية ) و لا تلك التي تزيد اهتزازتها عن 25000 إهتزازة في الثانية ( فوق سمعية ) في حين تستطيع كثير من الحيوانات سماع معظم تلك الأصوات و تمييزها ، فتكون هذه الأصوات بالنسبة إلى الإنسان غيباً و لا تكون بالنسبة إلى تلك الحيوانات غيباً كما هو واضح .
قال العلامة الطباطبائي ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) : " الأشياء المجهولة ـ أي غير الواقعة تحت الحواس ـ غيب ، و من الحَري أن نسمّيها عندئذ غيباً نسيباً ، لأنّ هذا الوصف الطارئ عليها ، وصف نسبي يختلف بالنسب و الإضافات ، كما أنّ ما في الدار ـ مثلاً ـ من الشهادة بالنسبة إلى من فيها ، و من قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها ، و كذا الأضواء و الأكوان المحسوسة بحاسّة البصر ، من الشهادة بالنسبة إلى البصر ، و من الغيب بالنسبة إلى حاسّة السمع ، و المسموعات التي ينالها السمع ، شهادة بالنسبة إلى الإنسان الذي يملكهما في بدنه و من الغيب بالنسبة إلى غيره من الاناسي " 8 .
و قال العلامة المُحقق آية الله الشيخ جعفر السبحاني ( حفظه الله ) بعد ذكره لكلام العلامة الطباطبائي : " ما أسميناه غيباً بحتاً فإنما هو مجرد إصطلاح ليحصل الفرق بين القسمين ، و إلا فإنما هو غيب بحت بالنسبة إلى العالم المادي ، و أما بالنسبة إلى نفسه أو ما يسانخه من الموجودات أو الواجب سبحانه فليس غيباً أصلاً " 9 .

نسبية الغيب

و لا بُدَّ من التنبيه هنا على أن مقصودنا من الغيب النسبي ، نسبيته بالنسبة إلى الإنسان ، أما بالنسبة إلى الله عَزَّ و جَلَّ فالأشياء كلها حاضرة لديه ، و الماضي و الحال و المستقبل عنده سواسيه .
قال الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا 10 .
و قال تعالى : ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ 11 .
و قال سبحانه : ﴿ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا 12 .
و قال عَزَّ من قائل : ﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ 13 .
و قال جَلَّ جَلالُه : ﴿ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 14 .

  • 1. العين : 4 / 454 ، للخليل بن أحمد الفراهيدي البصري ، المولود سنة : 100 هجرية بالبصرة ، الطبعة الثانية ، سنة : 1410 هجرية ، دار الهجرة ، قم / إيران .
  • 2. لسان العرب : 1 / 654 ، لجمال الدين أبو الفضل ، المُشتهر بإبن منظور المصري ، المولود سنة : 630 هجرية بمصر ، و المتوفى بها سنة : 717 هجرية ، الطبعة الثالثة ، سنة : 1414 هجرية ، دار صادر ، بيروت / لبنان .
  • 3. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 236 .
  • 4. مجمع البحرين : 2 / 134 ، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي ، المولود سنة : 979 هجرية بالنجف الأشرف / العراق ، و المتوفى سنة : 1087 هجرية بالرماحية ، و المدفون بالنجف الأشرف / العراق ، الطبعة الثانية سنة : 1365 شمسية ، مكتبة المرتضوي ، طهران / إيران .
  • 5. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 73 ، الصفحة : 136 .
  • 6. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 94 ، الصفحة : 202 .
  • 7. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 105 ، الصفحة : 203 .
  • 8. يراجع : تفسير الميزان : 7 / 128 ، للمُفسِّر الكبير العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) .
  • 9. مفاهيم القرآن : 3 / 352 ( الهامش ) ، للعلامة المُحقق آية الله الشيخ جعفر السبحاني ( حفظه الله ) ، الطبعة الرابعة ، سنة : 1413 هجرية ، قم / إيران .
  • 10. القران الكريم : سورة الطلاق ( 65 ) ، الآية : 12 ، الصفحة : 559 .
  • 11. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 61 ، الصفحة : 215 .
  • 12. القران الكريم : سورة النساء ( 4 ) ، الآية : 126 ، الصفحة : 98 .
  • 13. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 59 ، الصفحة : 134 .
  • 14. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 123 ، الصفحة : 235 .