الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

إثبات ولاية الأمر للفقيه على أساس الأدلّة اللفظيّة لوجوب إقامة الحكم

الأساس الثاني لمبدأ ولاية الفقيه هو الأدلّة اللفظيّة الدالّة على أنّه يجب على الناس خلق السلطة الإسلاميّة عند عدمها، وهذا أيضاً يكون بحاجة إلى نفس المتمّم الذي ذكرناه في الأساس الأوّل، أعني ضمّ أدلّة اشتراط الفقاهة في من يلي أُمور المسلمين أو ضمّ قاعدة الاقتصار ـ في مقابل أصالة عدم الولاية ـ على القدر المتيقّن، وهو الفقيه.

وهذا المتمّم قد عرفت حاله فلا حاجة إلى تكرار الحديث عنه، وقد عرفت أن التمسّك بفكرة القدر المتيقّن أمر صحيح في الحالات الاعتيادية.

فالذي يبقى هناك للبحث هو أننا هل نمتلك حقاً أدلّة لفظية تدلّ على وجوب خلق السلطة الإسلامية عند عدمها لدى الإمكان، أو لا؟ ولنفترض كما قلناعدم استلزام ذلك لإراقة الدماء، كي لا يتوقّف هذا البحث على قبول نتيجةالبحث السابق.

ولعلّ من خير ما يمكن جعله دليلا لفظياً على وجوب إقامة السلطة والحكم آيات الخلافة من قبيل قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... 1. بناء على أنّ المقصود من هذه الآية خلافة البشر لا خلافة شخص آدم (عليه السلام) ولو بقرينة تخوّف الملائكة الذي هو تخوّف من جنس البشر لامن شخص آدم (عليه السلام)، وقوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ... 2، وقوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ... 3، وقوله تعالى:﴿ ... وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ... 4، وقوله تعالى:﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ... 5. والظاهر أن المراد بالخلافة في هذه الآيات هو خلافة اللّه، وهي تقتضي الحكم والإدارة، أما حملها على الخلافة بمعنى كونهم خَلَفاً لمن قبلهم، وحمل الآية الأُولى على أنه قبل آدم كان ناس آخرون في الأرض فأخبر اللّه تعالى الملائكة بأنه سيجعل في الأرض خلفاء لأُولئك الناس فهو بعيد جداً لأمرين:

الأوّل: أنّ المتكلم لو قال: جعلت فلاناً خليفة ولم يذكر المستخلف عنه فظاهر ذلك أنه يقصد جعله خليفة عن نفس المتكلم، فإنّ فرض مستخلف عنه آخرغير المتكلّم تعتبر فيه مؤونة زائدة تحتاج إلى الذكر، فالمتكلّم نفسه له نوعحضور في كلامه يستغني بذلك عن ذكره، لكن لو قصد الاستخلاف عن شخص آخر فالمناسب ذكره في سياق الكلام، وبهذا يتّضح الفرق بين هذه الآياتوآيات أُخرى من قبيل قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 6، وقوله تعالى:﴿ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ... 7، وقوله تعالى:﴿ ... وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ... 8، وقوله تعالى:﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ... 9.

ففي هذه الآيات قد جاء ذكر قوم بادوا واستخلاف قوم آخرين، فيحتمل كون المقصود استخلافهم عن الذين بادوا، بخلاف تلك الآيات، ففي أكبر الظنّ أنّ المقصود بها هي الخلافة عن اللّه من قبيل الخلافة في قوله تعالى:﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ... 10 الواضح في إرادة الخلافة عن اللّه بقرينة تفريع الحكم بالحقّ عليها، إلاّ أنّ المقصود في هذهالآية هي الخلافة الشخصيّة لداود (عليه السلام) والمقصود في تلك الآيات هي الخلافة النوعية لجنس البشرية.

والثاني: أنه لا توجد أيّة نكتة بلاغيّة في التركيز على كون جماعة خلفاً لجماعة آخرين، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنه كان المقصود إلفات النظر إلى نكتة تعرف بالملازمة وبالواسطة. بيانها أن يقال: إذا كنتم خلفاء للذين رحلوا وبادوا فاعلموا أنكم أيضاً ستصيرون إلى نفس المصير، فعليكم إذن الالتزام بطاعة اللّه قبل أنْ تهلكوا كما هلك الذين كانوا من قبلكم، وهذا بخلاف ما إذا حملت الخلافة على الخلافة عن اللّه تعالى بمعنى الوكالة عنه، ففي ذلك إشارة بليغة إلى أنه يجب عليكم الالتزام بتطبيق أوامر اللّه في الأرض؛ لأنكم لستم المُلاّك الحقيقيين في الأرض، وإنما أنتم الخلفاء والوكلاء عن اللّه تعالى، فلابدّ من التزامكم بتعاليم المستخلف عنه والموكّل، على الخصوص في الآية الأخيرة التي ربطت بين الإنفاق والاستخلاف بقوله تعالى:﴿ ... وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ... 4، فأيّ علاقة مقبولة تراها بين الإنفاق والاستخلاف لو قصد به الاستخلاف عن قوم سابقين؟! اللهمّ إلاّ أن يقال أيضاً: إن كونكم خلفاء للذين بادوا مؤشر على أنكم أيضاً ستبيدون، إذن فأنفقوا في سبيل اللّه قبل أن تبيدوا. في حين أنه لو حمل الاستخلاف على الاستخلاف عن اللّه تعالى فالمناسبة البليغة بين الإنفاق والاستخلاف واضحة، والمعنى عندئذ ـ واللّه العالم ـ أنكم لستم ملاّكاً لهذه الأموال وإنما أنتم مستخلفون عن المالك ـ وهو اللّه تعالى ـ إذن لابدّ لكم من امتثال أمره بالإنفاق.

فإذا ثبت أنّ المقصود بالخلافة في هذه الآيات الخلافة عن اللّه تعالى أمكن إثبات اشتمال ذلك على ضرورة إقامة سلطة الحقّ بأحد تقريبات ثلاثة:

التقريب الأول:

أن يقال: إنّ الحاكم على بلد لو قال: جعلتُ فلاناً خليفة في ذاك البلد يفهم منه جعل فلان حاكماً في ذاك البلد وفق تعاليمه هو، واللّه تعالى حاكم على العالمين وفي السماوات والأرض، فحينما يقول: إن البشرية خليفتي في الأرض يكون معنى ذلك أنّ البشرية حاكمة في الأرض نيابةً عن اللّه تعالى، فعليها أن تحكم وفق تعاليمه وأوامره ونواهيه ـ جلّ وعلا ـ وبما أنه لا يمكن أن يكون كلّ فرد فرد حاكماً مستقلا على وجه الأرض، فالمقصود إذن أن يكون كلّ فرد مساهماً بقدره في الحكم، وذلك بتأسيس الحكم على أساس الانتخاب والتصويت، فمن حق كلّ أحد أن يدلي بصوته ويكون بهذا المقدار سهيماً في الحكم.

فالأصل في الحكم أن يكون انتخابيّاً إلاّ حينما يرى اللّه سبحانه تعيين الحاكم بالنصّ النازل من السماء لعدم صلاحيّة الناس مثلا للقيام بحمل العبء.

التقريب الثاني:

أنّ ما للّه تعالى على العوالم ـ ومنها عالم الأرض ـهو الحاكميّة بتوابعها المقصودة للّه تعالى من عمران البلاد وإشاعة العدل،ونشر أحكام اللّه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما إلى ذلك، ومعنىخلافة البشريّة عن اللّه في الأرض إيكال كلّ هذه الأُمور إلى نوع البشريّة،وليس من الضروري أن يكون ذلك بإسهام كلّ فرد في الحكم عن طريق الانتخاب، بل على كلّ فرد أن يحمّل جزءاً من هذا العبء الواسع، فمنهممن يساهم في تعمير البلاد، ومنهم من يساهم في تهيئة الأرزاق أو سائر الضرورات للعباد، ومنهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومنهم منيقيم الحكم الإسلامي في العباد، فلا ينافي ذلك فرض كون الحاكم معيّناً بنصّمن السماء لا بالانتخاب، ولكن حين فقدان حاكم ظاهر منصوص لابدّ منتحقيق ذلك أيضاً من قبل البشريّة بوجه من الوجوه تكميلا لمعنى الخلافة منقبل اللّه تعالى.

وهذا الاحتمال إن لم يكن أظهر من الاحتمال الأوّل فالاحتمال الأوّل ليس أظهر منه، ومن هنا لا نرى آيات الخلافة دليلا على الانتخاب.

التقريب الثالث:

لو فرضنا أنّ خلافة اللّه لا تدلّ على أكثر من ضرورة تطبيق الأحكام الإلهيّة على وجه الأرض فقد يقال: إنّ كون إقامة السلطان على وجه الأرض من أحكام اللّه على الناس أوّل الكلام، فالتمسّك لإثباتها بالآية مصادرة على المطلوب.

ولكن الجواب على ذلك: أنّه من الواضح أنّ تطبيق الأحكام الإلهيّة كاملة على وجه الأرض يتوقّف على إقامة السلطان، فإيجاب ذلك يدلّ بالملازمة على إيجاب إقامة السلطان من قبلهم حينما لا يكون السلطان معيّناً بنصّ من السماء.

والفرق العملي بين هذا التقريب والتقريبين الأوّلين أنّ هذا التقريب سوفلن يفيدنا بأكثر من دليل الحسبة؛ أي أنّه لا يثبت به كون الولاية في الكماليّات أيضاً بيد السلطان؛ لأنّها ليست داخلة في المقدّمة التي يتوقّف عليها تطبيق الأحكام الإلهيّة ويسري إليها الوجوب لأجل الضرورة؛ إذ لا ضرورة فيها.

وممّا يمكن الاستدلال به على المقصود أيضاً قوله تعالى:﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا 11 بناء على أنّ الأمانة التي يمكن أن توصف بأنّها أثقل منأن تحملها السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان لا تكون إلاّ عبارةعن منصب خلافة اللّه. أمّا ما ورد في عديد من الروايات من تفسير الآية بأنّاللّه عرض على السماوات والأرض والجبال ولاية عليّ (عليه السلام) فأبين أن يغصبنها، وغصبها الإنسان الظالم 12 فهو ممّا لا ينسجم مع بلاغة القرآن وسموّه، وتنزيلٌله إلى ما هو أحطّ من كلام الإنسان الاعتيادي، ومعه لا يحتمل صدق هذه الروايات.

وقوله تعالى:﴿ ... إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا 13 يمكن أن يفسّر بمعنىً لا يكون تعليلا لحمل الإنسان للأمانة بأن يكون المقصود به استئناف الحديث بأنّ الإنسان لظلمه وجهله خان كثيرٌ من أفراده هذه الأمانة، وميّز اللّه تعالى ـ بتحميله الإنسان لهذه الأمانة ـ بين المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الخائنين للأمانة ليعذّبهم وبين المؤمنين والمؤمنات الذين أدّوا الأمانة حقّها، وإن أخطؤوا فقد أخطؤوا أخطاء جانبية يغفرها اللّه لهم ويتوب عليهم.

ويمكن أن يفسّر بمعنى التعليل لحمل الإنسان للأمانة بأن يقال: إنّ الذي يخون الأمانة كان المفروض به أن لا يحملها منذ البدء كي لا يُبتلى بخيانتها، لكن ظلمه وجهله حمله على قبول الأمانة.

ومما يمكن أن يستدلّ به على المقصود الأوامر المتوجّهة إلى المجتمع التي يتوقف امتثالها غالباً على فرض وجود الحكومة والاستعانة بها، فيفهم عرفاً من ذلك أننا مأمورون بإقامة الحكومة التي تحقّق هذه الأُمور إن لم تكن معيّنة من قبل اللّه تعالى، وبالالتفاف حولها، ووضعها في محلها إن كانت معيّنة من قبل اللّه تعالى.

وذلك من قبيل الأوامر بإجراء الحدود، أو الأوامر بتوحيد الكلمة والاعتصام بحبل اللّه وعدم التفرّق.

إلاّ أنّ هذا الوجه لا يزيد في النتيجة على وجه التمسّك بالحسبة، أي أنه لا يُنتج لنا إطلاقاً لفظياً نتمسّك به لإثبات ولاية الدولة في أوامرها في الشؤون الكمالية التي لم يكن من الضروري إصدارها.

وهناك وجوه أُخرى من الأدلّة اللفظية على المقصود ذكرت في كتاب دراسات في ولاية الفقيه حذفنا بحثها ومناقشتها اختصاراً للكلام 14.