الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

حول عقيدة المعاد

رغبتم أن يكون حديثي إليكم عن المعاد في الإسلام . . عن هذه العقيدة التي ربطها القران في عديد من آياته الكريمة بعقيدة المبدأ . . . .بعقيدة الأيمان بالله ( عز و جل ) .

وهذان الأصلان يشكلان البداية و النهاية من خط الحياة المستقيم ، كما هما المبدأ والمنتهى من منهج الإسلام العظيم .
وأمر العقيدة أمر بالغ الخطورة ، شديد الأثر في تلوين هذه الحياة ، وما بعد هذه الحياة ، وهو كذلك أمر تتعلق عليه النجاة من مخاوف ومعاطب منتظرة ، فلا بد للإنسان أن يقف فيها موقفاً حازماً ، يرضي العقل ، ويرضي القلب ، ويرضي الوجدان ، ولا يسوغ له أن يجعل النظر فيها من نوافل الأمور ، ومن ترف العقل الذي لا يضر جهله ، ولا يجب الإمعان فيه . . إنها مسألة هلكة ونجاة ، ولا يجوز التسامح فيها بوجه من الوجوه :
قـال المنجم و الطبيب كلاهما *** لا تبعث الأجساد قلت : إليكما
إن صح قولكما فلست بهالـك *** أو صح قولي فالخسار عليـكما

السؤال عن المبدأ و النهاية

يفتح الإنسان بصره على نفسه ـ لأول عهده بالإدراك ، ولأول قدرته على التفكير ـ يفتح بصره على نفسه على جسده : لحمه ودمه وعروقه وعصبه وقصبه وأجهزته وأنسجته . وعلى روحه : حياته وعقله وحواسّه ومشاعره وغرائزه وقواه وطاقاته ، وما يستطيع أن يعدده من من شيائه و أجزائه . .
. . يفتح بصره على نفسه و على إتقان الصنعة فيها ، فيتحدث إلى نفسه : لقد وجدت و كنت معدوماً ولا ريب ، فمن الذي أوجدني ؟ و إلى أي شيء تكون نهايتي ؟ .
ثم يعمم نظرته فيقول : و الكون الذي يحيط بي من إنسان و حيوان و نبات ، و السماء التي تظلّنا والأرض التي تقلّنا ، و الأكوان الأخرى . والعوالم الفسيحة التي لا يزال العلم يكشف عنها ، و يأتي في كل يوم بأمر جديد . . إنها موجودة . . فمن الذي أوجدها ؟ . و إلى أي شيء تكون نهايتها ؟
وهكذا يرتبط في شعوره السؤال عن المبدأ بالسؤال عن النهاية .
و أول شيء يسترعي الانتباه والملاحظة في هذا التساؤل ، هي الطريقة التي يحدث بها ، فهو يأتي بصورة حتمية . تفرض على الإنسان فرضاً من داخل أعماقه ، ولا يستطيع التخلص منها و لا يستطيع التغافل ، وإن بذل الجهد أن لا يلتفت وأن يتغافل .
ومن أجل ذلك كان هذا التساؤل عن بداية الكون عاماً لا يفلت منه أحد مهما كانت ثقافته ، و مهما كانت فطنته . . من أول متمدين إلى أبسط بدائي في مجاهل الغابات ، و من أعظم فيلسوف مفكر إلى أصغر تلميذ متعلم .
ومن اجل ذلك كان التساؤل ملحّاً ملحّاً ، يقضّ على الإنسان مضجعه ، و يضايقه في أغلب حالاته ، حتى يحصل على الجواب المقنع الذي يطمئن إليه ، خطا كان الجواب أم صواباً ، وحقاً كان التحليل أم باطلاً .
و هذا التساؤل . . التساؤل عن العلة الأولى لهذا الكون ، هي الفكرة الوحيدة التي تأتي بهذه الطريقة الحتميّة ، و لا يشبهها فيها شيء من الفِكَر أبداً ، فمن طبيعة الفكرة ـ أية فكرة كانت ـ أن يكون الذهن خالياً منها ، غافلاً عنها ، حتى يلفته إليها لافت و يثيرها مثير ، ثم لا تضايق الإنسان بأكثر مما يطلبه العلم ، أما هذه الفكرة على الخصوص فمثيرها ذاتي ينبع من داخل الإنسان ، فلابدّ من التوجّه ، ولابد من الالتفات ، ثم لا هدوء و لا قرار إلا بالإجابة المقنعة كما قدّمنا .
و هذه الطريقة الحتميّة الملحّة التي يحدث بها هذا التساؤل هي الركيزة الأولى للجواب . إنها تشعر الإنسان شعوراً تلقائياً بحاجته الذاتية إلى علة كبرى مسيطرة .
نعم وهذه العلة الكبرى المسيطرة هي التي تفرض عليه بقوّتها ، وبنفوذ سلطانها أن يعلم فلا يجهل ، و ان يلتفت فلا يغفل .
وقلت في بعض أحاديثي عن الإسلام و عن أدلة الفطرة على الله :
ـ ( في أعمق الأعماق من نفس الإنسان يوجد الدليل على الله . بل و الدليل الأول على توحيده ، وتنزيهه ، والحافز الذاتي للإنسان على التوجّه إليه .
ـ ( في أعم الأعماق من نفس هذا المخلوق المفكّر ، حتى لو أنه أطبق عينيه عن عجائب الكون ، وصرف فكره عن التأمل فيها والتدبّر في قوانينها .
ـ ( في فطرته حين يدع لها الحكم و يسند إليها الرأي ) .
ـ ( في فقرة الذاتي و هو يشير إلى غنيّ مطلق يأمل منه الغذى ، وفي نقصه الطبيعي و هو يوّجّه إلى كامل أعلى يرجو منه الكمال . وفي ضعفه الشديد وهو يتعلق بقويّ غالب يستمد منه القوة ، وفي عجزه المتناهي وهو يلجأ إلى قادر قاهر يبتغي منه القدرة والنصرة ، و بكلمة جامعة : في قصوره الذاتي من كل ناحية ، وهو يتوجّه إلى قوة عليا كاملة من كل ناحية ، متعالية عن الحدود مرتفعة عن الحاجة تفيض الخير وتكفي السوء .
ـ ( بلى ، و كل إنسان له ساعات لا يخادع فيها نفسه ، أو هو لا يستطيع أن يخادعها . . ساعات تتعرى له فيها الحقائق ، فيؤمن انه لا يملك شيئاً مما في يديه ، وإن بك أغنى الأغنياء ، أو أقوى الأقوياء في مقاييس الناس ) 1 .
و الفطرة ـ أيها الأعزاء ـ لا تخادع في حكم ، ولا تُلبّس حقاً بباطل في هتاف و لا نداء .
أرأيتم الفطرة لَبّست حقاً بباطل في يوم من الأيام ، أو خادعت أحداً في حكمها ، وهي تشعره بالجوع أو العطش أو الحر أو البرد أو إحدى الضرورات الطبيعية الأخرى ؟
كلا ، كلا ، أنه نداء الضرورات ، إنه نداء الواقع . .إنه نداء الحق ، لا مرية فيه و لا لبس ، ومن أجل ذلك لم يشك في تصديقها عقل .
والشعور بالقوة العليا المدبّرة ، ضرورة طبيعية ذاتية كذلك ، وشعور الفطرة بها أعمق و أوكدمن شعورها بالضرورة الأخرى .
و حكم الفطرة يكون أشد وضوحاً ، وأكثر جلاءً حين تلتحم على الإنسان شدائد تقطع رجاءه من سائر الأسباب ، وتفصله عن التفكير فيها . هنا يشعر شعوراً واضحاً بسبب واحد قوي يشدّه إلى أعلى . . إلى القوة الغيبيّة العظمى التي يوقن أن بيدها تقدير الأمور ، وبأمرها تفريج الكُرب الشداد .
و قد أرشد القرآن الإنسان في عديد من آيه إلى هذا الشعور الذي لا يكذب ، قال ( تعالى ) : ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ 2.
و قد جلى معنى الفطرة تجلية كاملة ، و ذكر لزومها للإنسان في كل حالاته ، فلا تدعه يغفل عن دعوتها و لا يشغل ، فقال :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 3.
أسمعتم ؟ ، إن الله ( تعالى ) جعل الفطرة لابن آدم ليشهد بها على نفسه ، ليقيم عليه بها الحجة ، و ليدفع به إلى اليقين ، فلا يعتذر بغفلة ، أو بعدم بلوغ دعوة ، أو بعدم اتضاح سبيل .
﴿ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ 4.

دليل الفطرة

و جاء دور العقل الواعي ليتمم دعوة الفطرة ، ويجلو حكمها ، ونظر في آيات التكوين . . في نفسه و فيما بين يديه . . فيما قرُب منه و ما بَعُد . . في عجائب النفس وعجائب الكون ، وما في كل شيء إلا عجيبة تُدهش العقول ، وتذهل الالباب :
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ 5.
و نظرَ و فكّر ، و قلّب و قدّر ، و حكم بحكمه القاطع الذي لا يقبل التشكيك : ان كل شيء يمكن وجوده و يمكن عدمه فمن المحال أن يكون موجوداً دون سبب ، و قرّره قانوناً لا يختلف ولا يختلف ، و لا يعرف الإنتقاض ابداً ، ولا الإستثناء ، وسمّاه ( قانون السببية ) .
و اذن ، فكل هذه الأمور التي يراها ، و الاخرى التي لا يراها ، أمور معلولة لابدّ لها من سبب أعلى ينتهي إليه كل سبب ، لأن هذه الأمور كلّها أشياء يمكن وجودها ويمكن عدمها ، ولما وجدت علمنا يقيناً ان لها سبباً آتاها الوجود ، لأن نسبة الوجود و العدم إليها ـ لولا ذلك السبب ـ على سواء . و إذن ، فلابد لهذا الكون من سبب أعلى هو موجود بذاته لا بعلّة سواه ، لأن الدور والتسلسل من المحال .
إن الدور يعني أن يتقدم الشيء على نفسه في الوجود ، لأنه يكون علّة لما هو علة لوجوده ، وهذا يعني أن الشيء متقدم في الوجود في حال يكون هو بذاته متأخراً فيها ، متقدّم بما هو علة ومتأخر بما هو معلول وهو محال .
وان التسلسل يعني أن تذهب الممكنات متسلسلة إلى ما لا نهاية له ، وهو كذلك محال ، لأن مجموع السلسلة كلّها ـ بما فيها من حلقات مترابطة سابقة ولاحقةـ ، مجموع هذه السلسلة شيء يمكن وجوده ويمكن عدمه فمن المحال أن يكون موجوداً بدون علة اخرى من غير هذه السلسلة ، لقانون السببية المتقدم .
ولاستحالة التسلسل براهين عديدة حسبنا ان نكتفي بهذا الواحد منها .
وقد ذكر القرآن قانون السببية ، و حاكم الإنسان إليه ، فقال :
﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ 6.
و اعترف العلم بقانون السببية ، و ربط به كل كشوفاته وكل معلوماته و سار على وفقه في جميع خطواته .
و تقدّم العلم خطوة كبرى في هذا السبيل ، فأنكر أزلية المادة ، للقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية ، فقال : إن المادة ـ بمقتضى هذا القانون ـ تسير نحو الفناء ، نحو الصفر المطلق وهذا يعني أنها محدودة الآخر ، و إذا كانت المادة محدودة الآخر ، فهي محدودة الأول كذلك لأنها لو كانت أزلية غير محدودة الأول لكان مقتضى ذلك القانون انها قد استوعبت طاقتها وفنيت منذ أمد بعيد . و قد اعترف بهذه الحقيقة كثير من علماء الطبيعة الراسخين 7 و شرح هذا القانون ، و إيضاح النتيجة المذكورة التي توصل إليها العلم لا يسعهما هذا الموقف .

من الذي أوجد الله ؟

و يفكر بعض الناس تفكيراً ساذجاً ليردّ القول بالقول ـ على ما يزعم ـ .
يقول : إن قانون السببية الذي ذكرتموه يفيد : أن كل شيء موجود فمن المحال أن يكون موجوداً دون سبب ، و اذن فلنا ان نسأل عمن أوجد الله ، لأنه موجود ، فيحتاج إلى سبب ، بمقتضى قانون السببية .
و هذا قِصَرٌ في النظرة ، و عدم استيعاب لمعنى قانون السببية ، الذي لم يختلف فيه العقلاء من الناس .
إن العقل يقرر أن كل شيء يمكن وجوده و يمكن عدمه ، فمن المحال أن يوجد دون سبب ، لأن نسبة الوجود و العدم إلى ذلك الشيء سواء بسواء ، فلا يمكن أن يوجد دون علّة ، هذا هو قانون السببية ، و هذا هو مجاله .

و هذا يعني أن الأشياء على نحوين

شيء يمكن وجود و يمكن عدمه ، و هذا هو مجال قانون السببية .
و شيء يجب وجوده و يستحيل عدمه ، و هذا يستغني بذاته عن العلة ، لأنا فرضناه واجب الوجود مستحيل العدم ، فكيف يعقل أن يكون غير موجود ؟ و كيف يعقل أن يفتقر إلى علة ؟ كما أن لنا أن نتصور شيئاً يجب عدمه و يستحيل وجوده ، و هذا هو الممتنع الذي يستحيل له الوجود وتستحيل له العلة .
و إله الكون واجب الوجود ، مستحيل العدم فهو غنيّ بذاته عن العلة ، و كلّ هذا واضح أتم الوضوح .
وهكذا يتآزر الدين و العلم ، و العقل والفطرة على اثبات حقيقة الحقائق ، على إثبات وجود الله ، منزل الدين ، وملهم العلم ، وفاطر العقل والفطرة وهي تتآزر جميعاً على توحيده وتنزيهه .
﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ 8

و النهاية . . ؟

و مسألة النهاية ترتبط ارتباطاً ذاتياً قوياً بمسألة البداية .
فاذا كان مبدأ الكون هو الله ( تعالى ) فان مآبه ـ دون شك ـ إليه .
فان حكم الفطرة الذي أشعرنا بالقوّة العليا المدبّرة المسيطرة ، و قانون السببية الذي دلّنا على وجود إله الكون و انفراده بالتدبير ، و براهين العقل التي أثبتت لنا توحيده وقدرته ، و تنزّهه عن الشريك و المثيل .
كل هذه تدلنا على أن بيده الختام ، كما أن بيده الابتداء ، و بأمره السكون ، كما أن بأمره الحركة .
﴿ ... أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ 9.
وان الإبداع الذي صمّم عليه جميع أجزاء الكون ، والحكمة التي تجلّت في كل صغيرة وكبيرة منه ، و الغرضية التي ظهرت في كل خلية يشتمل عليها الكائن الحيّ ، من حيوان ونبات ، وفي كل ذرة يحتويها الموجود من حيّ وجامد ، ومتحرك وساكن ، تدلّنا دلالة قطعيّة على أن هذه الحكمة لا يمكن ان تنتهي بالموت ، وأن تتحدد بالفناء .
والمسألة مسألة قدرة و حكمة ، فاذا استبنّا قدرة الله التي لاتحدّ ، وحكمته التي لا تتناهى ، انفسح أمامنا الطريق ، وزالت العقبات .

ضرورة الدين

والمسألة ـ مع كل أولئك ـ مسألة عقيدة يقوم عليها دين .
فالإيمان بالله ـ سبحانه ـ يستتبع الإيمان بأن له ديناً يهتدي إليه البشر أو يضلون . . بأن له شريعة يطيعها البشر أو يعصون .
إن الله حين خلق الأشياء جعل لكل شيء منها منهجاً و سنّة ، يلتزمها ذلك الشيء فيصل بها إلى منزلته من التكامل .
و الإنسان بعض مخلوقاته ، و قد كرّمه فمنحه الفكر الذي يُسيطر به على قوى الطبيعة ، و يسخّر لإرادته الأشياء ، ويستخدم لمصالحه ومنافعه قوانينها ، ومن الممتنع ـ بعد ذلك ـ أن يدعه يتخبّط في متاهة عمياء ، دون هداية ، ودون منهاج ، ودون رادع أو وازع . إن ذلك تحدٍّ للحكمة التي تجلّت في جميع اجزاء الكون ، وفي خلق الإنسان على الخصوص .و انه مسخٌ للابداع الذي بانت مظاهره في كل الأشياء وفي تصوير الإنسان على الخصوص .
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ 10.
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ 11.
و الحقّ الذي وسع السماوات و الأرض أعظم من أن تضيق سعته عند الإنسان وحده .
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 12.
ان الإيمان بالله يستتبع الإيمان بأن ديناً يهتدي إليه البشر أو يضلّون . . بأن له شريعة يطيعها البشر أو يعصون ، و كل ذلك واضح من مسيرة الكون .
و إذا كان لله دين وهداية ، انقسم الناس ـ دون شك ـ إلى مطيعين و عاصين ، ومهتدين وغاوين ، واحتاج القانون إلى الجزاء ، واحتاج إلى موعد يتعين فيه المطيع ويتعيّن جزاؤه ، ويتعيّن فيه العاصي ويتعيّن جزاؤه ، وينفّذ الحكم على الفريقين .احتاج إلى كل أولئك وإلا كان عبثاً من العبث ، أو خيالاً من الخيال ، وتنزَّه عنهما ذو الجلال .

الحاجة إلى اليوم الآخر

وهذه الحياة ليست داراً للجزاء ـ و لا ريب ـ .فطالما تمادى المعتدي ، و أكبّ الآثم ، و مضى الزمان ولم ينالا شيئاً من الجزاء . وطالما أوفى المحسن ، وأخلص المطيع ، و مضى العمر ولم ينالا شيئاً من الجزاء ، و إذن فالجزاء في غير هذه الدّار ، و الاّ حالت الحكمة ، واستحالت النتيجة .
و المسألة مسألة قدرة وحكمة ـ كما قلت ـ ، فإذا استبنّا قدرة الله التي لاتحدّ ، وحكمته التي لا تتناهى ، أنفسح أمامنا الطريق و زالت العقبات .
و العقل اذا آمن بالله ، وآمن بدينه ، وصدّق بقدرته وحكمته ، صدّق باليوم الآخر ، و أيقن بالجزاء فيه .
و الجزاء ضرورة لابد منها للقانون وفرض احترامه . و قد قلت في بعض أحاديثي عن المعاد : ( ما أبعد القوانين من غاياتها اذا لم تكلأها عين حارسة على التنفيذ ، وعقوبة محذورة على المخالفة!
( ما أبعد القوانين عن غاياتها إذا لم تكن لها تلك الرقابة الحازمة من بين يديها ، وهذه القوة المرهوبة من خلفها!! ، إن أحكامها ـ لولا هاتانـ ستنقلب نصائح خاوية ، وإن حكمتها ستتحول فلسفة صامتة ، وكم في العالمين من يؤمن بالمثالية للمثالية ، ومن يحذر الاسفاف لأنه اسفاف ؟ .
( نعم ، لابد لاحترام القانون من الجزاء . .
( ولابد للحثّ على عمل الصالحات من المكافأة . .
( ثم لامحيص من يوم للدينونة تقاس فيه الأعمال ، وتُنال فيه الغايات ، و تستوفى فيه التبعات ) .
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ 13.

من أدلة المعاد في القرآن

و قد استعمل القرآن في الاستدلال على هذه العقيدة عدة طرائق :
1 . فمنها دليل الغاية . .الغاية التي بها يفترق الفعل الحكيم عن الفعل العابث .
وخلاصة هذا الدليل : أن الإنسان ينظر في أشياء هذا الكون . . كلها . . الكبير منها والصغير ، فلا يرى الا شيئاً يتوجّه في سبيل معين إلى غاية .
﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ... 14.
وليس من الممكن ان يستثنى الإنسان وحده من هذه القاعدة .
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ 11.
﴿ ... إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ 15.
2 . و منها دليل القدرة المسيطرة التي خضعت لها الكائنات ، و التي تعالت على الحدود والأزمنة والأمكنة ، والجهات والحيثيات .
و ليس من الممكن مطلقاً أن تعجز هذه القدرة المهيمنة عن إعادة بعد ابتداء ، وعن حياة بعد موت .
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ 16.
3 . و منها دليل النشأة الأولى .
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ 17.
خلية ملقحة موحّدة تنقسم و تتكثر و تتصنّف ، وينصرف كل صنف منها لعمله الذي يخصّه ، و غرضه الذي يهمّه ، وتتوزع بناء الهيكل وبناء الأجهزة ، ويتّم التصميم ، وتتنقل في أطوارها و أدوارها ، تصرّفها القدرة ويلهمها العلم وتوجّهها الحكمة ، و يستقيم الهيكل ، ويتّم البناء ، وتنفخ الروح ، ويخرج انساناً سويّاً كامل الموائز والغرائز والمواهب و الطاقات .
إن أمر الابتداء أعظم من أمر الإعادة ، فهل يستكثر على المهندس أن يعيد ما بناه إذا استهدم ؟
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ 18
4 . و منها إعادة الأرض حية بعد الهمود و الجمود .
إن الأرض تموت كما يموت الإنسان ، وتهمد كما يهمد . . فلا حركة ، و لا نبتة ، و لا زهرة ، و لا ثمرة . ثم يجدّ العطاء ، وتجدّ الروح ، وتنتعش الأرض بعد الموت . أليس هذا من البعث بعد الموت ؟
﴿ ... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 19.
إلى طرائق كثيرة استعملها القرآن للتدليل على هذه العقيدة ، و كلّها عطاء وكلها إشراق وكلها إيضاح .

مواقف بلهاء و معاندة

و اتخذ بعض الناس من هذه العقيدة موقف الأبله الذي لايعي ما يقال . و اتخذ بعضهم موقف المعاند الذي لا يلذّ له إلا أن ينكر ، و دليله على ما يقول هو الاستبعاد ﴿ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... 20.
﴿ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 21.

﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 22. بهذا الاحتجاج الأبله ، و بهذا التفكير الساذج يستقبل هؤلاء هذه العقيدة الخطرة ، وتلك الاستدلالات المشرقة من القرآن الكريم ، و الإنسان غريب الأطوار والأحوال .

القرآن و التذكير بيوم الجزاء

وقد أطال القرآن في تذكير الإنسان بيوم الجزاء ، وفي عرض مشاهده ، و وصف شدائده وتفصيل أحواله . و إنّ التالي لكتاب الله ، المتبيّن لمرامي آياته ، يجد انه قد ربط تعاليمه كافة بهذه العقيدة . حتى أوشك أن لا يغفل ذكرها عند حكم ، وأن لا يدع التصريح بها أو التلميح إليها في توجيه أو وصيّة أو إرشاد .وهو يحذّر الإنسان أهوال يوم البعث ، ويُنذره فزعه ، و يخوّفه عدله 23 و قوله تعالى : ﴿ وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا 24.. و قد سّماه بأسماء كثيرة تستحضر معنى الهول و الشدة 25 .

و هو يصّور المواقف المرعبة ليوم الفصل ، و يعرض المشاهد المخيفة التي تنتظر الإنسان فيه ، والنهايات المسعدة أو المخزية التي تعقبه 26 و يقول في سورة إبراهيم ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ 27. . . ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ 28.

و هو يهزّ المشاعر المختلفة ، و يكشف للبصيرة ما ينتظرها من عاقبة مسّرة ، أو مغبّة مُحزنة . ويحذّره الغفلة ويخوّفه النكسة ، وما يكون له أن يغفل ، وما يكون له أن يهزل ، وما يكون له أن ينتكس ، و قد عرف أسباب ذلك و عواقبه ، وما يكون له أن يتردّى ، فكل عمل عليه رقابة ، وكل عمل عليه جزاء .
﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ﴾ 29.
﴿ ... كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ 30.
وحتى ما تنطوي عليه الجوارح عليه رقيب لا يجهل و لا يغفل ، و حسيب لا يضّل و لا ينسى و مُجازٍ لا يحيف و لا يُخادع .
﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 31.
و بعد كل هذا ، فعون الله و رحمته و رأفته و مغفرته تقيل العاثر ، وتقبل النادم ، وتجيب المضطر وتؤمن الخائف ، وتقوّي الضعيف ، وتؤنس المستوحش .
هكذا يشد القرآن أزر المسلم ، ويُمسك بعَضُده ، ويسدّد خطاه ، ويقيه المزالق . فلا يدع للغفلة عليه سبيلاً ، و لا يترك للضعف و لا لليأس على إرادته دليلاً ، وهذه بعض مرامي الأدلة الغفيرة التي حثّت على تلاوة الكتاب والتدبّر في آياته .
إن المسلم لن يغفل ، ولن يجهل ، ولن يخور ، ولن يذل ، فكتاب الله قائده ، وسائقه . يُرشده في كل خطوة ، ويسدّده عن أي كبوة .
ومن الله أتمنى لكم ولي التوفيق لأن نجعل من أنفسنا مثال المسلم الصحيح .
قل في أطوارها وأدوارها ، تصرّفها القدرة ويلهمها العلم وتوجّهها الحكمة ، ويستقيم الهيكل ، ويتّم البناء ، وتنفخ الروح ، ويخرج إنسانا سويّاً كامل الموائز والغرائز و المواهب و الطاقات .
إن أمر الابتداء أعظم من أمر الإعادة ، فهل يستكثر على المهندس أن يعيد ما بناه إذا استهدم ؟
﴿ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ 32