الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مقدمة کتاب ما نزل من القرآن في شأن فاطمة عليها السلام

تعد الآيات النازلة في شأن فاطمة الزهراء (عليها السلام) مظهرا آخر تتجلى فيه قدسيتها الإلهية، فضلا عما حث عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيان عظمتها من خلال ما قدمه من صيغ التعظيم والتبجيل الذي يرتبط أمره بشأن السماء، إذ أكد في أكثر من مناسبة قوله " فاطمة بضعتي من آذاها فقد آذاني " وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " رضا فاطمة رضاي وغضبها غضبي " ومعلوم ما لهذه العلاقة الإلهية في هذين الحديثين من شأن إلهي سبغه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على تلك السيدة بأمر السماء.
ولا يخفى أن ما نزل في شأنهم (عليهم السلام) كان إما بهم خاصة كما في قوله تعالى:﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ 1 أو كما في آية التطهير ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 2 أو كان من باب انطباق الكلي على أكمل أفراده وأتم مصاديقه كما في قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... 3 فأولت أن العدل أمير المؤمنين (عليه السلام) والاحسان فاطمة (عليها السلام) وذا القربى الحسن والحسين (عليهما السلام)، ونهت عن الفحشاء والمنكر وهم أعداؤهم ومخالفوهم إذ هم أصل كل خير وعدوهم أصل كل شر، وقد تكفل ببيان القسم الثاني من الآيات علم التأويل، إذ الآيات القرآنية تفسرها ظهوراتها فضلا عن روايات آل البيت (عليهم السلام) حيث التفسير يقصد منه المراد من الكلام، أما التأويل فالمقصود منه - على ما ذهب إليه المتأخرون - هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ، وعلمه مقصور على الله تعالى وعلى الراسخين في العلم، قال تعالى:﴿ ... وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... 4 قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله.

على أن الإيمان بالتأويل ضرورة من ضرورات الدين، إذ به يحل كثير من المتشابه القرآني، بل الجمود على الظواهر قد يؤدي إلى مخالفة الواقع، فتأويل الوجه واليدين والعين إلى غير ذلك من الآيات لا يمكن الاقتصار على ظواهرها ما لم نستعن بالتأويل فقوله تعالى:
﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ 5 على أن المجئ لا ينطبق على الذات المقدسة فلا بد من تأويلها بمعنى الأمر، أي جاء أمر ربك، وقوله تعالى:﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ 6 فلا يمكن الإبقاء على المعنى الظاهري للوجه إذن. وقوله تعالى:﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... 7، وقوله تعالى:﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ... 8 فالاقتصار على ظواهرها مؤدى مذاهب أهل التجسيم الذين استدلوا على مذاهبهم بالجمود على ظواهر هذه الآيات وأمثالها، على أن الاقتصار على التأويل فقط دون الإقرار بالظاهر مؤدى مذاهب أهل الباطن كالخطابية وغيرهم الذين استدلوا على مذاهبهم الفاسدة بالأخذ بالباطن دون الظاهر، والإمامية أخذوا بالطريقة الوسطى وهو الأخذ بالظاهر والباطن معا معتمدين في ذلك على ما وصلهم من روايات أئمتهم (عليهم السلام) في تفسير ظواهر الآيات وبواطنها دليلهم قوله تعالى:﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ 9 ففي ظواهره تفسيرا " قرآنا عربيا " وفي بواطنه تأويلا " في أم الكتاب "، ﴿ ... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ ... 4 وأم الكتاب هو المقصود منه قوله تعالى:

﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ 10 فكيف بعد ذلك تناله عقولنا دون الاستعانة بتأويله تعالى، وما علمه للراسخين في العلم وهم الأئمة (عليهم السلام) كما ورد عنهم؟

ولعل عدم الأخذ بالتأويل جر البعض إلى القول بالتجسيم اعتمادا على ظواهر القرآن فقط، فضلا عما جرهم من اتهامهم للإمامية بأنهم أهل الباطن، مشنعين عليهم أخذهم بتأويلات الآيات التي هي في أم الكتاب والذي هو اللوح المحفوظ بعد ذلك، ووصفهم بالمذهب الباطني دون التفاتهم إلى دقة منهجية الأخذ الإمامي بكلا وجهيه، الظاهري والباطني، إذ كلام الله تعالى أسمى من أن يقتصر على ظواهر الآي، أو موارد النزول، فهو يعم جميع المصاديق والأفراد، فالأخذ بالباطن فضلا عن الأخذ بالظاهر توسعة للدائرة القرآنية العظمى التي تدخل في حدودها كثيرا من المعارف الإلهية الكبرى استعانة بما ورد عن آل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو سر انفتاح المدرسة الإمامية على عوالم المعارف الإلهية والتي خفيت على المدارس الإسلامية الأخرى لانغلاقها على الظاهر دون الباطن أو تعاميها عن الباطن دون الظاهر، مما أودى بها إلى مزالق فكرية كبيرة، إذن فالأخذ بتأويل الآيات فضلا عن ظواهرها إحدى الضرورات الملحة التي يقتضيها السير القرآني للوصول إلى أعماقه البعيدة، فضلا عما يقدمه التأويل من حل للمشكلات التجسيمية والتعطيلية في حقه تعالى.
على أن محاولتنا هذه في استقصاء ما نزل من القرآن في شأن فاطمة (عليها السلام)، هي إحدى المحاولات التي بحثها القدماء فضلا عن المتأخرين في استقصاء ما نزل من القرآن في علي (عليه السلام) أو ما نزل من القرآن في أهل البيت (عليهم السلام)، ولعل السر في اهتمامهم بهذه المشاريع - وإن تكررت - هو التحقيق في ثنائية المعادلة الإلهية التي أرسى معالمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ أكد في أكثر من مناسبة أن كتاب الله وعترته لا يفترقان، إذ التمسك بهما معا سبب للسعادة والنجاة، والابتعاد عنهما سبب للشقاوة والضلال، فقال: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما "11 مما يعني أن هذه المعادلة لا تتم إلا بالأخذ بكلا الطرفين، والأخذ بطرف واحد فقط يوجب الإخلال بالتكليف إذ أحدهما متمم الآخر، فأهل البيت (عليهم السلام) هم المفسرون للقرآن وأحكامه، والقرآن مظهر من مظاهر تجلياته تعالى التي يمثلها آل البيت (عليهم السلام) كونهم القرآن الناطق.

وما محاولتنا هذه إلا إحدى حلقات تلك السلسلة الدراسية التي عنى بها الأقدمون وأكدها المتأخرون، إلا أنها كانت بعنوانها الأخص، إذ اقتصرت على ما نزل من القرآن في شأن فاطمة (عليها السلام) اعتمادا على ما ورد من النصوص المأثورة عن آل البيت (عليهم السلام) ولم تدخل الآيات النازلة في أهل البيت بل اقتصارها على فاطمة (عليها السلام) فقط تحاشيا من التكرار - وإن كان نافعا في هذا المجال إلا أنه في حدوده المحدودة - ومن ثم اظهارا لعظمة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام).

ولا أدعي أن ذلك استقصاء تاما بل هو استقصاء ناقص في حدود تتبعي، ومن جهة أخرى ارتأيت أن أثبت الآيات المؤيدة بروايات آل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم، ذات الظهورات الواضحة أو التي لها ظهور لأدنى تأمل يبذله المنصف، مذيلا تلك الروايات التي بحاجة إلى توضيح ببيان مقتضب يعد إشارة خاطفة إلى مطالب الروايات، مكررا عدم إدخال ما ورد من الآيات المذيلة بروايات تشير إلى أنها نزلت في أهل البيت (عليهم السلام) مع شمولها للسيدة فاطمة (عليها السلام)، إلا أني أقررت روايات النزول بفاطمة (عليها السلام) فقط، لإفرادي عنوانا أخص مما اعتاده الأقدمون 12.
محمد علي السيد يحيى الحلو 17 ربيع الثاني 1421 ه‌